کتابخانه تفاسیر
تيسير الكريم الرحمن، ص: 850
ظلمه، بكفره و شركه. قال: وَ بارَكْنا عَلَيْهِ وَ عَلى إِسْحاقَ اقتضى ذلك البركة في ذريتهما، و أن من تمام البركة، أن تكون الذرية كلهم محسنين. فأخبر اللّه تعالى أن منهم محسنا، و ظالما. و اللّه أعلم.
[114- 118] يذكر تعالى منّته على عبديه، و رسوليه، موسى، و هارون ابني عمران، بالنبوة و الرسالة، و الدعوة إلى اللّه تعالى، و نجاتهما و قومهما من عدوهما فرعون، و نصرهما عليه، حتى أغرقه اللّه و هم ينظرون، و إنزال اللّه عليهما الكتاب المستبين، و هو التوراة التي فيها الأحكام، و المواعظ، و تفصيل كل شيء، و أن اللّه هداهما الصراط المستقيم، بأن شرع لهما دينا، ذا أحكام و شرائع مستقيمة، موصلة إلى اللّه. و منّ عليهما بسلوكه.
[119- 122] وَ تَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَ هارُونَ (120) أي: أبقى عليهما، ثناء حسنا، و تحية في الآخرين، و من باب أولى و أحرى في الأولين إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122).
[123- 126] يمدح تعالى، عبده و رسوله، إلياس عليه الصلاة و السلام، بالنبوة و الرسالة، و الدعوة إلى اللّه. و أنه أمر قومه بالتقوى، و عبادة اللّه وحده، و نهاهم عن عبادتهم صنما لهم يقال له «بعل» و تركهم عبادة اللّه، الذي خلق الخلق، و أحسن خلقهم، و رباهم فأحسن تربيتهم، و أدرّ عليهم النّعم الظاهرة و الباطنة. و أنكم كيف تركتم عبادة من هذا شأنه، إلى عبادة صنم، لا يضر، و لا ينفع، و لا يخلق، و لا يرزق، بل لا يأكل و لا يتكلم؟ و هل هذا إلا من أعظم الضلال، و السفه، و الغي؟
[127] فَكَذَّبُوهُ فيما دعاهم إليه فلم ينقادوا له، قال اللّه متوعدا له فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ أي: يوم القيامة في العذاب و لم يذكر لهم عقوبة دنيوية.
[128] إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أي: الذين أخلصهم اللّه، و منّ عليهم باتباع نبيهم، فإنهم غير محضرين في العذاب، و إنما لهم من اللّه جزيل الثواب.
[129] وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ أي: على إلياس فِي الْآخِرِينَ ثناء حسنا.
[130] سَلامٌ عَلى إِلْياسِينَ (130) أي: تحية من اللّه، و من عباده عليه.
[131- 132] إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) فأثنى اللّه عليه كما أثنى على إخوانه صلوات اللّه و سلامه عليهم أجمعين.
[133- 134] و هذا ثناء منه تعالى على عبده و رسوله لوط، بالنبوة و الرسالة، و دعوته إلى اللّه قومه، و نهيهم عن الشرك، و فعل الفاحشة. فلما لم ينتهوا، نجاه اللّه و أهله أجمعين، فسروا ليلا فنجوا.
[135] إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) أي: الباقين المعذبين، و هي زوجة لوط لم تكن على دينه.
[136] ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) بأن قلبنا عليهم ديارهم ف جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَ أَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) حتى همدوا و خمدوا.
[137- 138] وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ أي: على ديار قوم لوط مُصْبِحِينَ وَ بِاللَّيْلِ أي: في هذه الأوقات، يكثر ترددكم إليها و مروركم بها، فلم تقبل الشك و المرية أَ فَلا تَعْقِلُونَ الآيات و العبر، و تنزجرون عمّا يوجب الهلاك؟
[139] و هذا ثناء منه تعالى، على عبده و رسوله، يونس بن متى، كما أثنى على إخوانه المرسلين، بالنبوة و الرسالة، و الدعوة إلى اللّه.
[140] و ذكر تعالى عنه، أنه عاقبه عقوبة دنيوية، أنجاه منها، بسبب إيمانه و أعماله
تيسير الكريم الرحمن، ص: 851
الصالحة، فقال: إِذْ أَبَقَ أي: من ربه مغاضبا له ظانا أنه لا يقدر عليه، و يحبسه في بطن الحوت. و لم يذكر اللّه ما غاضب عليه، و لا ذنبه الذي ارتكبه، لعدم فائدتنا بذكره.
و إنما فائدتنا بما ذكر لنا عنه، أنه أذنب، و عاقبه اللّه مع كونه من الرسل الكرام، و أنه نجاه بعد ذلك، و أزال عنه الملام، و قيّض له ما هو سبب صلاحه. فلما أبق لجأ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ بالركاب و الأمتعة، فلما ركب مع غيره، و الفلك شاحن، ثقلت السفينة فاحتاجوا إلى إلقاء بعض الركاب، و أنهم لم يجدوا لأحد مزية في ذلك، فاقترعوا على أن من قرع و غلب، ألقي في البحر عدلا من أهل السفينة، و إذا أراد اللّه أمرا هيأ أسبابه.
[141- 142] فلما اقترعوا أصابت القرعة يونس فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ أي: المغلوبين، فألقي في البحر فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَ هُوَ وقت التقامه مُلِيمٌ أي: فاعل ما يلام عليه، و هو مغاضبته لربه.
[143] فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) أي: في وقته السابق بكثرة عبادته لربه، و تسبيحه، و تحميده، و في بطن الحوت حيث قال: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ .
[144] لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) أي: لكانت مقبرته، و لكن بسبب تسبيحه و عبادته للّه، نجّاه اللّه تعالى. و كذلك ينجي اللّه المؤمنين، عند وقوعهم في الشدائد.
[145] فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ بأن: قذفه الحوت من بطنه بالعراء، و هي الأرض الخالية العارية من كل أحد، بل ربما كانت عارية من الأشجار و الظلال وَ هُوَ سَقِيمٌ أي: قد سقم و مرض، بسبب حبسه في بطن الحوت، حتى صار مثل الفرخ الممعوط من البيضة.
[146] وَ أَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) تظله بظلها الظليل، لأنها باردة الظلال، و لا يسقط عليها ذباب، و هذا من لطفه به و بره.
[147] ثم لطف به لطفا آخر، و امتنّ عليه منّة عظمى، و هو أنه أرسله إِلى مِائَةِ أَلْفٍ من الناس أَوْ يَزِيدُونَ عنها.
و المعنى أنهم إن لم يزيدوا عنها، لم ينقصوا، فدعاهم إلى اللّه تعالى:
[148] فَآمَنُوا فصاروا في موازينه، لأنه الداعي لهم. فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ بأن صرف اللّه عنهم العذاب، بعد ما انعقدت أسبابه. قال تعالى: فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98).
[149] يقول تعالى لنبيه محمد صلى اللّه عليه و سلم: فَاسْتَفْتِهِمْ أي: اسأل المشركين باللّه غيره، الذين عبدوا الملائكة، و زعموا أنها بنات اللّه، فجمعوا بين الشرك باللّه، و وصفه بما لا يليق بجلاله. أَ لِرَبِّكَ الْبَناتُ وَ لَهُمُ الْبَنُونَ أي:
هذه قسمة ضيزى، و قول جائر، من جهة جعلهم الولد للّه تعالى، و من جهة جعلهم أردأ القسمين و أخسهما له و هو البنات اللاتي لا يرضونهن لأنفسهم، كما قال في الآية الأخرى وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَ لَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) و من جهة جعلهم الملائكة بنات اللّه، و حكمهم بذلك.
قال تعالى في بيان كذبهم: أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَ هُمْ شاهِدُونَ (150) خلقهم؟ أي: ليس الأمر كذلك، فإنهم ما شهدوا خلقهم. فدلّ على أنهم قالوا هذا القول، بلا علم، بل افتراء على اللّه، و لهذا قال تعالى: أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ أي: كذبهم الواضح لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (152) «في قولهم ذلك كذبا بينا لا ريب فيه». أَصْطَفَى أي: اختار الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ
تيسير الكريم الرحمن، ص: 852
تَحْكُمُونَ (154) هذا الحكم الجائر أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (155) و تميزون هذا القول الباطل الجائر. فإنكم لو تذكرتم، لم تقولوا هذا القول. أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156) أي: حجة ظاهرة على قولكم، من كتاب، أو رسول. و كل هذا غير واقع و لهذا قال: فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (157). فإن من يقول قولا، لا يقيم عليه حجة شرعية، فإنه كاذب متعمد، أو قائل على اللّه، بلا علم.
[158- 160] أي: جعل هؤلاء المشركون باللّه، بين اللّه و بين الجنة نسبا، حيث زعموا أن الملائكة بنات اللّه، و أن أمهاتهم سروات الجن. و الحال أن الجنة، قد علمت أنهم محضرون بين يدي اللّه، ليجازيهم، فهم عباد أذلاء فلو كان بينهم و بينه نسب لم يكونوا كذلك.
[159] سُبْحانَ اللَّهِ الملك العظيم، و الكامل الحليم عَمَّا يَصِفُونَ به ربهم من كل وصف أوجبه كفرهم و شركهم.
[160] إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فإنه لم ينزه نفسه عمّا وصفوه به، لأنهم لم يصفوه إلا بما يليق بجلاله، و بذلك كانوا مخلصين.
[161- 163] أي: إنكم أيها المشركون، و من عبدتموه مع اللّه، لا تقدرون أن تفتنوا و تضلوا أحدا إلا من قضى اللّه أنه من أهل الجحيم، فنفذ فيه القضاء الإلهي. المقصود من هذا، بيان عجزهم و عجز آلهتهم، عن إضلال أحد، و بيان كمال قدرة اللّه تعالى. أي: فلا تطمعوا بإضلال عباد اللّه المخلصين و حزبه المفلحين.
[164] هذا فيه بيان براءة الملائكة عليهم السلام؛ عمّا قاله فيهم المشركون. و أنهم عباد اللّه، لا يعصونه طرفة عين. فما منهم من أحد إلا و له مقام و تدبير، قد أمر اللّه به لا يتعداه و لا يتجاوزه، و ليس لهم من الأمر شيء.
[165- 166] وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) في طاعة اللّه و خدمته وَ إِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) «أي: و المقدسون للّه سبحانه عن كل ما لا يليق بجناب كبريائه». فكيف- مع هذا- يصلحون أن يكونوا شركاء؟ «تعالى اللّه عن قولهم علوا كبيرا».
[167- 174] يخبر تعالى أن هؤلاء المشركين، يظهرون التمني، و يقولون: لو جاءنا من الذكر و الكتب ما جاء الأولين، لأخلصنا للّه العبادة، بل لكنا المخلصين على الحقيقة. و هم كذبة في ذلك، فقد جاءهم أفضل الكتب، فكفروا به، فعلم أنهم متمردون على الحق فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ العذاب، حين يقع بهم. و لا يحسبوا أيضا أنهم في الدنيا غالبون، بل قد سبقت كلمة اللّه، التي لا مرد لها و لا مخالف لها، لعباده المرسلين، و جنده المفلحين، أنهم الغالبون لغيرهم، المنصورون من ربهم، نصرا عزيزا، يتمكنون فيه من إقامة دينهم. و هذه بشارة عظيمة لمن اتصف بأنه من جند اللّه، بأن كانت أحواله مستقيمة، و قاتل من أمر بقتالهم، أنه غالب منصور.
[175- 179] ثم أمر رسوله بالإعراض عمن عاندوا، و لم يقبلوا الحق، و أنه ما بقي إلا انتظار ما يحل بهم من العذاب، و لهذا قال: وَ أَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) من يحل به النكال، فإنه سيحل بهم. فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ أي: نزل عليهم، و قريبا منهم فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ . لأنه صباح الشر، و العقوبة، و الاستئصال. ثم كرّر الأمر بالتّوليّ عنهم، و تهديدهم بوقوع العذاب.
[180] و لما ذكر في هذه السورة، كثيرا من أقوالهم الشنيعة، التي وصفوه بها، نزه نفسه عنها فقال: سُبْحانَ
تيسير الكريم الرحمن، ص: 853
رَبِّكَ أي: تنزه و تعالى رَبِّ الْعِزَّةِ أي: الذي عز، فقهر كل شيء، و اعتز عن كل سوء يصفونه به.
[181] وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) لسلامتهم من الذنوب و الآفات، و سلامة ما وصفوا به فاطر الأرض و السموات.
[182] وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182) الألف و اللام للاستغراق، فجميع أنواع الحمد، من الصفات الكاملة العظيمة، و الأفعال التي ربى بها العالمين، و أدرّ عليهم فيها النّعم، و صرف عنهم بها النقم، و دبرهم تعالى في حركاتهم و سكونهم، و في جميع أحوالهم، كلها للّه تعالى. فهو المقدس عن النقص، المحمود بكل كمال، المحبوب المعظم. و رسله سالمون مسلم عليهم، و من اتبعهم في ذلك، له السلامة في الدنيا و الآخرة. و أعداؤه لهم الهلاك و العطب، في الدنيا و الآخرة. تم تفسير سورة الصافات.
تفسير سورة ص
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] هذا بيان من اللّه تعالى لحال القرآن، و حال المكذبين به معه، و مع من جاء به فقال: ص وَ الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) أي: ذي القدر العظيم، و الشرف، المذكّر للعباد، كل ما يحتاجون إليه من العلم، بأسماء اللّه و أفعاله، و من العلم، بأحكام اللّه الشرعية، و من العلم بأحكام المعاد و الجزاء. فهو مذكّر لهم، في أصول دينهم و فروعه.
و هنا لا يحتاج إلى ذكر المقسم عليه، فإن حقيقة الأمر، أن المقسم به و عليه شيء واحد، و هو: هذا القرآن، الموصوف بهذا الوصف الجليل. فإذا كان القرآن بهذا الوصف، علم أن ضرورة العباد إليه، فوق كل ضرورة. و كان الواجب عليهم، تلقّيه بالإيمان، و التصديق، و الإقبال على استخراج ما يتذكر به منه.
[2] فهدى اللّه من هدى لهذا، و أبى الكافرون التصديق به، و بمن أنزله، و صار معهم فِي عِزَّةٍ وَ شِقاقٍ عزة و امتناع عن الإيمان به، و استكبار و شقاق له، أي: مشاقة و مخاصمة في رده و إبطاله، و في القدح بمن جاء به.
[3] فتوعدهم بإهلاك القرون الماضية، المكذبة بالرسل، و أنهم حين جاءهم الهلاك، نادوا، و استغاثوا في صرف العذاب عنهم. و لكن لاتَ حِينَ مَناصٍ أي: و ليس الوقت، وقت خلاص، مما وقعوا فيه، و لا فرج لما أصابهم. فليحذر هؤلاء أن يدوموا على عزتهم و شقاقهم، فيصيبهم ما أصابهم.
[4] وَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ أي: عجب هؤلاء المكذبون في أمر ليس محل عجب، أن جاءهم منذر منهم، ليتمكنوا من التلقي عنه، و ليعرفوه حق المعرفة. و لأنه من قومهم، فلا تأخذهم النخوة القومية عن اتباعه. فهذا، مما يوجب الشكر عليهم، و تمام الانقياد له. و لكنهم عكسوا القضية، فتعجبوا تعجب إنكار وَ قالَ الْكافِرُونَ من كفرهم و ظلمهم: هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ . و ذنبه- عندهم- أنه:
[5] أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً أي: كيف ينهى عن اتخاذ الشركاء و الأنداد، و يأمر بإخلاص العبادة للّه وحده. إِنَّ هذا الذي جاء به لَشَيْءٌ عُجابٌ أي: يقضي منه العجب، لبطلانه و فساده عندهم.
[6] وَ انْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ المقبول قولهم، محرضين قومهم على التمسك، بما هم عليه من الشرك. أَنِ امْشُوا وَ اصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ أي: استمروا عليها، و جاهدوا نفوسكم في الصبر عليها، و على عبادتها، و لا يردكم عنها راد، و لا يصدنكم عن عبادتها صاد. إِنَّ هذا الذي جاء به محمد، من النهي عن عبادتها لَشَيْءٌ يُرادُ أي: يقصد، له قصد، و نية غير صالحة في ذلك، و هذه شبهة لا تروج إلا على السفهاء. فإن من دعا إلى قول حق أو غير حق، لا
تيسير الكريم الرحمن، ص: 854
يرد قوله بالقدح في نيته، فنيته و عمله له؛ و إنّما يرد بمقابلته بما يبطله و يفسده، من الحجج و البراهين. و هم قصدهم، أن محمدا، ما دعاكم إلى ما دعاكم، إلا ليرأس فيكم، و يكون معظّما عندكم، و متبوعا.
[7] ما سَمِعْنا بِهذا القول الذي قاله، و الدين الذي دعا إليه فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ أي: في الوقت الأخير، فلا أدركنا عليه آباءنا، و لا آباؤنا أدركوا آباءهم عليه. فامضوا على الذي مضى عليه آباؤكم، فإنه الحقّ. و ما هذا الذي دعا إليه محمد، إلا اختلاق اختلقه، و كذب افتراه. و هذه أيضا شبهة، من جنس شبهتهم الأولى، حيث ردوا الحقّ بما ليس بحجة لرد أدنى قول، و هو أنه قول مخالف لما عليه آباؤهم الضالون. فأين في هذا، ما يدل على بطلانه؟
[8] أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا أي: ما الذي فضّله علينا، حتى ينزّل الذّكر عليه من دوننا، و يخصه اللّه به؟ و هذه أيضا شبهة، أين البرهان فيها على رد ما قاله؟ و هل جميع الرسل إلا بهذا الوصف يمنّ اللّه عليهم برسالته، و يأمرهم بدعوة الخلق إلى اللّه. و لهذا، لما كانت هذه الأقوال الصادرة منهم، لا يصلح شيء منها لرد ما جاء به الرسول، أخبر تعالى من أين صدرت، و أنهم فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي ليس عندهم، علم و لا بينة. فلما وقعوا في الشك، و ارتضوا به، و جاءهم الحقّ الواضح، و كانوا جازمين بإقامتهم على شكهم، قالوا ما قالوا، من تلك الأقوال، لدفع الحقّ لا عن بينة من أمرهم، و إنّما ذلك، من باب الائتفاك منهم. و من المعلوم، أن من هو بهذه الصفة، يتكلم عن شك و عناد؛ فإن قوله، غير مقبول، و لا قادح أدنى قدح في الحقّ، و أنه يتوجه عليه الذم و اللوم، بمجرد كلامه، و لهذا توعدهم بالعذاب فقال: بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ أي: قالوا هذه الأقوال، و تجرؤوا عليها، حيث كانوا ممتعين في الدنيا، لم يصبهم من عذاب اللّه شيء، فلو ذاقوا عذابه لم يتجرؤوا.
[9] أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) فيعطون منها من شاؤوا، و يمنعون منها من شاؤوا حيث قالوا: أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا أي: هذا فضله تعالى و رحمته، و ليس ذلك بأيديهم، حتى يتجرؤوا على اللّه.
[10] أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما بحيث يكونون قادرين على ما يريدون. فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ الموصلة لهم إلى السماء، فيقطعوا الرحمة عن رسول اللّه. فكيف يتكلمون، و هم أعجز خلق اللّه و أضعفهم، بما تكلموا به؟ أم قصدهم التحزب، و التجند، و التعاون على نصر الباطل، و خذلان الحقّ؟ و هو الواقع.
[11] فإن هذا المقصود، لا يتم لهم، بل سعيهم خائب، و جندهم مهزوم و لهذا قال:
جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11) أي: كالأجناد من جنس الأحزاب المتحزبين على الأنبياء قبلك، و أولئك قد قهروا، و أهلكوا، فكذلك نهلك هؤلاء.
[12] يحذرهم تعالى أن يفعل بهم، ما فعل بالأمم من قبلهم، الّذين كانوا أعظم قوة منهم، و تحزبا على الباطل قَوْمُ نُوحٍ وَ عادٌ قوم هود وَ فِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ أي: الجنود العظيمة، و القوة الهائلة.
[13] وَ ثَمُودُ قوم صالح.
وَ قَوْمُ لُوطٍ وَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ أي الأشجار و البساتين الملتفة، و هم قوم شعيب أُولئِكَ الْأَحْزابُ الّذين اجتمعوا بقوتهم، و عددهم و عددهم على رد الحقّ، فلم تغن عهم شيئا.
[14] إِنْ كُلٌ من هؤلاء إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَ
تيسير الكريم الرحمن، ص: 855
عِقابِ اللّه. و هؤلاء ما الذي يطهرهم و يزكيهم، أن لا يصيبهم ما أصاب أولئك.
[15] فلينتظروا وَ ما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (15) أي: من رجوع ورد، تهلكهم و تستأصلهم، إن أقاموا على ما هم عليه.
[16] أي: قال هؤلاء المكذبون، من جهلهم، و معاندتهم الحقّ، مستعجلين للعذاب. رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا أي: قسطنا، و ما قسم لنا من العذاب عاجلا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ و لّجوا في هذا القول، و زعموا أنك يا محمد، إن كنت صادقا فعلامة صدقك، أن تأتيهم بالعذاب. فقال اللّه لرسوله:
[17] اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ كما صبر من قبلك من الرسل، فإن قولهم لا يضر الحقّ شيئا، و لا يضرونك في شيء، و إنّما يضرون أنفسهم. لما أمر اللّه رسوله بالصبر على قومه، أمره أن يستعين على الصبر بالعبادة للّه وحده، و يتذكر حال العابدين، كما قال في الآية الأخرى: فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ غُرُوبِها . و من أعظم العابدين، نبي اللّه داود عليه الصلاة و السّلام ذَا الْأَيْدِ أي: القوة العظيمة على عبادة اللّه تعالى، في بدنه و قلبه. إِنَّهُ أَوَّابٌ أي: رجّاع إلى اللّه في جميع الأمور بالإنابة إليه، بالحب و التأله، و الخوف، و الرجاء، و كثرة التضرع، و الدعاء. رجّاع إليه، عند ما يقع منه بعض الخلل، بالإقلاع و التوبة النصوح.
[18] و من شدة إنابته لربه و عبادته، أن سخّر اللّه الجبال معه، تسبّح معه بحمد ربها بِالْعَشِيِّ وَ الْإِشْراقِ أول النهار و آخره.
[19] وَ سخر الطَّيْرَ مَحْشُورَةً معه مجموعة كُلٌ من الجبال و الطير لَهُ تعالى أَوَّابٌ امتثالا لقوله تعالى: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ الطَّيْرَ فهذه منّة اللّه عليه بالعبادة.
[20] ثمّ ذكر منته عليه بالملك العظيم فقال: وَ شَدَدْنا مُلْكَهُ أي: قويناه بما أعطيناه من الأسباب، و كثرة العدد و العدد الّتي بها قوّى اللّه ملكه. ثمّ ذكر منته عليه بالعلم فقال: وَ آتَيْناهُ الْحِكْمَةَ أي: النبوة و العلم العظيم وَ فَصْلَ الْخِطابِ أي: الخصومات بين الناس.
[21] لما ذكر تعالى أنه آتى نبيه داود الفصل في الخطاب بين الناس، و كان معروفا بذلك، و مقصودا، ذكر تعالى نبأ خصمين اختصما عنده، في قضية جعلها اللّه فتنة لداود، و موعظة لخلل ارتكبه، فتاب اللّه عليه، و غفر له، و قيّض له هذه القضية، فقال لنبيه محمد صلّى اللّه عليه و سلم: وَ هَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ فإنه نبأ عجيب إِذْ تَسَوَّرُوا على داود الْمِحْرابَ أي: محل عبادته من غير إذن و لا استئذان، و لم يدخلوا عليه من باب. فلما دخلوا عليه بهذه الصورة، فزع منهم و خاف فقالوا له:
[22] نحن خَصْمانِ فلا تخف بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ بالظلم فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِ أي: بالعدل، و لا تمل مع أحدنا وَ لا تُشْطِطْ وَ اهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ . و المقصود من هذا، أن الخصمين قد عرف أن قصدهما الحقّ الواضح الصرف و إذا كان ذلك كذلك، فسيقصان عليه نبأهما بالحق، فلم يشمئز نبي اللّه داود من و عظهما له، و لم يؤنبهما.
[23] فقال أحدهما: إِنَّ هذا أَخِي نص على الأخوة في الدين أو النسب، أو الصداقة، لاقتضائها عدم البغي، و أن بغيه الصادر منه، أعظم من غيره. لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً أي: زوجة، و ذلك خير كثير، يوجب عليه القناعة بما آتاه اللّه. وَ لِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فطمع فيها فَقالَ أَكْفِلْنِيها أي: دعها لي، و خلها في كفالتي.
تيسير الكريم الرحمن، ص: 856
وَ عَزَّنِي فِي الْخِطابِ أي: غلبني في القول، فلم يزل بي، حتى أدركها أو كاد.
[24] فقال داود- لما سمع كلامه- و من المعلوم من السياق السابق من كلامهما أن هذا هو الواقع، فلهذا لم يحتج أن يتكلم الآخر، فلا وجه للاعتراض بقوله القائل: «لم حكم داود، قبل أن يسمع كلام الخصم الآخر»؟ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ و هذه عادة الخلطاء و القرناء الكثير منهم. فقال: وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ لأن الظلم من صفة النفوس. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فإن ما معهم من الإيمان و العلم الصالح، يمنعهم من الظلم. وَ قَلِيلٌ ما هُمْ كما قال تعالى: وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ . وَ ظَنَّ داوُدُ حين حكم بينهما أَنَّما فَتَنَّاهُ أي: اختبرناه و دبرنا عليه هذه القضية ليتنبه. فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ لما صدر منه وَ خَرَّ راكِعاً أي: ساجدا وَ أَنابَ للّه تعالى بالتوبة النصوح و العبادة.
[25] فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ الذي صدر منه، و أكرمه اللّه بأنواع الكرامات فقال: وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى أي: منزلة عالية، و قربة منا وَ حُسْنَ مَآبٍ أي: مرجع. و هذا الذنب الذي صدر من داود عليه السّلام، لم يذكره اللّه لعدم الحاجة إلى ذكره، فالتعرض له من باب التكلف. و إنّما الفائدة، ما قصه اللّه علينا، من لطفه به، و توبته، و إنابته، و أنه ارتفع محله، فكان بعد التوبة أحسن منه قبلها.
[26] يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ تنفذ فيها القضايا الدينية و الدنيوية. فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ أي:
العدل. و هذا لا يتمكن منه، إلا بعلم بالواجب، و علم بالواقع، و قدرة على تنفيذ الحقّ. وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى فتميل مع أحد، لقرابة، أو صداقة، أو محبة، أو بغض للآخر فَيُضِلَّكَ الهوى عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ و يخرجك عن الصراط المستقيم. إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ خصوصا المتعمدين منهم. لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ «أي:
بغفلتهم عن يوم الجزاء». فلو ذكروه، و وقع خوفه في قلوبهم، لم يميلوا مع الهوى الفاتن.
[27] يخبر تعالى عن تمام حكمته، في خلقه السموات و الأرض، و أنه لم يخلقهما باطلا، أي: عبثا و لعبا، من غير فائدة و لا مصلحة. ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا بربهم، حيث ظنوا ما لا يليق بجلاله. فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ فإنها الّتي تأخذ الحقّ منهم، و تبلغ منهم كلّ مبلغ. و إنّما خلق اللّه السموات و الأرض بالحق و للحق، فخلقهما ليعلم العباد كمال علمه و قدرته، و سعة سلطانه، و أنه تعالى وحده المعبود، دون من لم يخلق مثقال ذرة من السموات و الأرض، و أن البعث حق، و سيفصل اللّه بين أهل الخير و الشر.
[28] و لا يظن الجاهل بحكمة اللّه، أن يسوي اللّه بينهما في حكمه، و لهذا قال: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) هذا غير لائق بحكمتنا و حكمنا.