کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تيسير الكريم الرحمن

سورة الفاتحة سورة آل عمران سورة المائدة سورة الأنعام تفسير سورة الأعراف تفسير سورة الأنفال تفسير سورة التوبة تفسير سورة يونس تفسير سورة هود تفسير سورة الرعد سورة إبراهيم تفسير سورة الحجر سورة النحل سورة الإسراء سورة الكهف تفسير سورة مريم سورة طه تفسير سورة الأنبياء تفسير سورة الحج تفسير سورة المؤمنون تفسير سورة النور تفسير سورة الفرقان تفسير سورة الشعراء تفسير سورة النمل تفسير سورة العنكبوت تفسير سورة الروم تفسير سورة لقمان تفسير سورة السجدة سورة الأحزاب سورة سبأ تفسير سورة فاطر تفسير سورة يس تفسير سورة الصافات تفسير سورة الزمر تفسير سورة فصلت سورة الشورى سورة الزخرف تفسير سورة الدخان سورة الجاثية سورة الأحقاف سورة محمد تفسير سورة الحجرات تفسير سورة ق سورة الطور تفسير سورة النجم سورة القمر سورة الرحمن سورة الواقعة تفسير سورة الحديد تفسير سورة المجادلة تفسير سورة الحشر تفسير سورة الممتحنة تفسير سورة الصف سورة الجمعة تفسير سورة المنافقون تفسير سورة التغابن تفسير سورة الطلاق تفسير سورة التحريم تفسير سورة الملك تفسير سورة القلم سورة الحاقة سورة المعارج سورة نوح سورة الجن تفسير سورة المزمل سورة المدثر تفسير سورة القيامة سورة الإنسان سورة المرسلات تفسير سورة النبأ سورة النازعات سورة عبس تفسير سورة التكوير سورة الإنفطار سورة المطففين تفسير سورة الإنشقاق سورة البروج سورة الطارق سورة الأعلى تفسير سورة الغاشية تفسير سورة الفجر تفسير سورة البلد سورة الشمس سورة الليل تفسير سورة الضحى سورة الشرح سورة التين تفسير سورة العلق سورة القدر تفسير سورة البينة تفسير سورة الزلزلة تفسير سورة العاديات تفسير سورة القارعة سورة التكاثر سورة العصر تفسير سورة الهمزة سورة الفيل تفسير سورة قريش سورة الماعون سورة الكوثر تفسير سورة الكافرون سورة النصر تفسير سورة المسد تفسير سورة الإخلاص سورة الفلق تفسير سورة الناس محتوى تفسير الإمام السعدي

تيسير الكريم الرحمن


صفحه قبل

تيسير الكريم الرحمن، ص: 961

هو عليه، من إقامة دين اللّه و الدعوة إليه، كالزرع الذي أخرج شطأه، فآزره فاستغلظ. و لهذا قال: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ حين يرون اجتماعهم، و شدتهم على أعداء دينهم، و حين يتصادمون معهم في معارك النزال، و معامع القتال. وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً ، فالصحابة رضي اللّه عنهم، الّذين جمعوا بين الإيمان و العمل الصالح، قد جمع اللّه لهم بين المغفرة، الّتي من لوازمها، وقاية شرور الدنيا و الآخرة، و الأجر العظيم في الدنيا و الآخرة.

و لنسق قصة الحديبية بطولها، كما ساقها الإمام شمس الدين ابن القيم في «الهدي النبوي» فإن فيها إعانة على فهم هذه السورة، و قد تكلم على معانيها و أسرارها.

فصل في قصة الحديبية

قال رحمه اللّه: قال نافع: كانت سنة ست في ذي القعدة، و هذا هو الصحيح، و هو قول الزهري، و قتادة، و موسى بن عقبة، و محمد بن إسحاق و غيرهم. و قال هشام بن عروة، عن أبيه، خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إلى الحديبية في رمضان، و كانت في شوال، و هذا و هم، و إنما كانت غزاة الفتح في رمضان. و في الصحيحين، عن أنس: أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، اعتمر أربع عمر، كلهن في ذي القعدة، فذكر منهن عمرة الحديبية، و كان معه ألف و خمسمائة، و هكذا في الصحيحين، عن جابر، و عنه فيهما: كانوا ألفا و أربعمائة. و فيهما، عن عبد اللّه بن أبي أوفى: كنا ألفا و ثلاثمائة.

قال قتادة: قلت لسعيد بن المسيب: كم كان الجماعة الّذين شهدوا بيعة الرضوان؟ قال: خمس عشرة مائة، قال:

قلت: فإن جابر بن عبد اللّه قال: كانوا أربع عشرة مائة، قال: يرحمه اللّه، و هم، و هو حدثني أنهم كانوا خمس عشرة مائة، قلت: صح عن جابر القولان، و صح عنه أنهم نحروا عام الحديبية، سبعين بدنة، البدنة عن سبعة، فقيل له:

كم كنتم؟ قال: ألفا و أربعمائة، بخيلنا و رجلنا، يعني: فارسهم و راجلهم. و القلب إلى هذا أميل، و هو قول البراء بن عازب، و معقل بن يسار، و سلمة بن الأكوع، في أصح الروايتين، و قول المسيب بن حزن، قال شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه: كنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم تحت الشجرة ألفا و أربعمائة، و غلط غلطا بيّنا من قال:

كانوا سبعمائة. و عذرهم أنهم نحروا يومئذ، سبعين بدنة، و البدنة قد جاء إجزاؤها عن سبعة، أو عشرة، و هذا لا يدل على ما قاله هذا القائل، فإنه قد صرح بأن البدنة، كانت في هذه الغزوة عن سبعة، فلو كانت السبعون عن جميعهم، لكانوا أربعمائة و تسعين رجلا، و قد قال بتمام الحديث بعينه، أنهم كانوا ألفا و أربعمائة.

فصل‏

فلما كان بذي الحليفة، قلد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم الهدي و أشعره، و أحرم بالعمرة، و بعث عينا له بين يديه من خزاعة، يخبره عن قريش، حتى إذا كانوا قريبا عن عسفان، أتاه عينه، فقال: إني قد تركت كعب بن لؤي، قد جمعوا لك الأحابيش، و جمعوا لك جموعا، و هم مقاتلوك، و صادّوك عن البيت. و استشار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أصحابه أن نميل إلى ذراري هؤلاء، الّذين أعانوهم فنصيبهم، فإن قعدوا، قعدوا موتورين محزونين، و إن نجوا، يكن عنق قطعه اللّه، أم ترون أن نؤم البيت؟ فمن صدنا عنه قاتلناه؟ قال أبو بكر: اللّه و رسوله أعلم، إنما جئنا معتمرين، لم نجى‏ء لقتال أحد، و لكن من حال بيننا و بين البيت، قاتلناه، فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلم: «فروحوا إذا». فراحوا، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال النبي صلّى اللّه عليه و سلم: «إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش، فخذوا ذات اليمين»، فو اللّه ما شعر بهم خالد، حتى إذا هو بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيرا لقريش. و سار النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، حتى إذا كان بالثنية، الّتي يهبط عليهم منها، بركت راحلته، فقال الناس: حل حل، فألحت، فقالوا: خلأت القصواء، فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «ما خلأت‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 962

القصواء، و ما ذاك لها بخلق، و لكن حبسها حابس الفيل»، ثمّ قال: «و الذي نفسي بيده، لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات اللّه إلا أعطيتموها»، ثمّ زجرها، فوثبت به، فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية، على ثمد قليل الماء، إنما يتبرضه الناس تبرضا، فلم يلبث الناس أن نزحوه، فشكوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم العطش. فانتزع سهما من كنانته، ثمّ أمرهم أن يجعلوها فيه، قال: فو اللّه ما زال يجيش لهم بالري، حتى صدروا عنها. و فزعت قريش لنزوله عليهم، فأحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أن يبعث إليهم رجلا من أصحابه، فدعا عمر بن الخطاب ليبعثه إليهم، فقال: يا رسول اللّه، ليس بمكة من بني كعب، أحد يغضب لي، إن أوذيت، فأرسل عثمان بن عفان، فإن عشيرته بها، و إنه مبلغ ما أردت. فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عثمان بن عفان، فأرسله إلى قريش، و قال: «أخبرهم أنا لم نأت لقتال، إنما جئنا عمّارا، وادعهم إلى الإسلام». و أمره أن يأتي رجالا بمكة مؤمنين، و نساء مؤمنات، فيدخل عليهم و يبشرهم بالفتح، و يخبرهم أن اللّه عز و جل مظهر دينه بمكة، حتى لا يستخفى فيها بالإيمان، فانطلق عثمان، فمر على قريش ببلدح، فقالوا: أين تريد؟ فقال: بعثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أدعوكم إلى اللّه، و إلى الإسلام، و يخبركم أنا لم نأت لقتال، و إنما جئنا عمّارا، قالوا: قد سمعنا ما تقول، فانفذ لحاجتك. و قام إليه أبان بن سعيد، فرحب به، و أسرج فرسه، فحمل عثمان على الفرس، فأجاره، و أردفه أبان، حتى جاء مكة، و قال المسلمون قبل أن يرجع عثمان: خلص عثمان قبلنا إلى البيت، و طاف به. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «ما أظنه طاف بالبيت و نحن محصورون»، فقالوا: و ما يمنعه يا رسول اللّه و قد خلص؟ قال: «ذاك ظني به أن لا يطوف بالكعبة حتى نطوف معه»، و اختلط المسلمون بالمشركين في أمر الصلح. فرمى رجل من أحد الفريقين رجلا من الفريق الآخر، و كانت معركة، و تراموا بالنبل و الحجارة، و صاح الفريقان كلاهما، و ارتضى كلّ واحد من الفريقين بمن فيهم، و بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أن عثمان قد قتل، فدعا إلى البيعة. فثار المسلمون إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و هو تحت الشجرة، فبايعوه على أن لا يفروا، فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بيد نفسه، و قال: «هذه عن عثمان»، و لما تمت البيعة، رجع عثمان، فقال له المسلمون: اشتفيت يا أبا عبد اللّه، من الطواف بالبيت، فقال: بئسما ظننتم بي، و الذي نفسي بيده، و لو مكثت بها سنة، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم مقيم بالحديبية، ما طفت بها، حتى يطوف بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و لقد دعتني قريش إلى الطواف بالبيت فأبيت، فقال المسلمون: رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، كان أعلمنا باللّه، و أحسننا ظنا. و كان عمر أخذ بيد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم للبيعة تحت الشجرة، فبايعه المسلمون كلهم إلا الجد بن قيس، و كان معقل بن يسار، أخذ بغصنها، يرفعه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و كان أول من بايعه، أبو سنان الأسدي، و بايعه سلمة بن الأكوع، ثلاث مرات، في أول الناس، و أوسطهم، و آخرهم. فبينما هم كذلك، إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي، في نفر من خزاعة، و كانوا عيبة نصح لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤي، و عامر بن لؤي، نزلوا أعداد مياه الحديبية، معهم العوذ المطافيل، و هم مقاتلوك، و صادوك عن البيت. قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «إنا لم نجى‏ء لقتال أحد، و لكن جئنا معتمرين، و إن قريشا قد نهكتهم الحرب، و أضرت بهم، فإن شاؤوا ماددتهم و يخلوا بيني و بين الناس، و إن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس، فعلوا، و إلا فقد جموا، و إن أبوا إلا القتال، فو الذي نفسي بيده، لأقاتلنهم على أمري هذا، حتى تنفرد سالفتي، أو لينفذن اللّه أمره»، قال بديل: سأبلغهم ما تقول. فانطلق حتى أتى قريشا، فقال: إني قد جئتكم من عند هذا الرجل، و سمعته يقول قولا، فإن شئتم عرضته عليكم، فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشي‏ء، و قال ذوو الرأي منهم:

هات ما سمعته، قال: سمعته يقول كذا و كذا، فقال عروة بن مسعود الثقفي: إن هذا قد عرض عليكم خطة رشد، فاقبلوها، و دعوني آته، فقالوا: ائته. فأتاه، فجعل يكلمه، فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم نحوا من قوله لبديل، فقال له عروة عند ذلك: أي محمد، أ رأيت لو استأصلت قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ و إن تكن الأخرى، فو اللّه إني لأرى وجوها و أرى أوباشا من الناس، خليقا أن يفروا، و يدعوك، فقال له أبو بكر: امصص بظر اللات،

تيسير الكريم الرحمن، ص: 963

أ نحن نفر عنه و ندعه؟ قال: من ذا؟ قال: أبو بكر، قال: أما و الذي نفسي بيده، لو لا يد كانت لك عندي، لم أجزك بها، لأجبتك. و جعل يكلم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، و كلما كلمه أخذ بلحيته، و المغيرة بن شعبة على رأس النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، و معه السيف، و عليه المغفر. فكلما أهوى عروة إلى لحية النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، ضرب يده بنعل السيف، و قال: أخّر يدك عن لحية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فرفع عروة رأسه، و قال: من ذا؟ قال: المغيرة بن شعبة، فقال: أي غدر، أو لست أسعى في غدرتك؟ و كان المغيرة صحب قوما، فقتلهم، و أخذ أموالهم، ثمّ جاء فأسلم. فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «أما الإسلام فأقبل، و أما المال، فلست منه في شي‏ء». ثمّ إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فو اللّه ما تنخم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم نخامة، إلا وقعت في كف رجل منهم، فذلك بها جلده و وجهه. و إذا أمرهم ابتدروا إلى أمره، و إذا توضأ، كادوا يقتتلون على وضوئه، و إذا تكلم، خفضوا أصواتهم عنده، و ما يحدّون إليه النظر، تعظيما له. فرجع عروة إلى أصحابه، فقال: أي قوم، و اللّه، لقد وفدت على الملوك: على كسرى، و قيصر، و النجاشي، و اللّه ما رأيت ملكا يعظمه أصحابه، ما يعظم أصحاب محمد محمدا، و اللّه ما تنخم نخامة، إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه و جلده، و إذا أمرهم ابتدروا أمره، و إذا توضأ، كادوا يقتتلون على وضوئه، و إذا تكلم، خفضوا أصواتهم عنده، و ما يحدّون إليه النظر، تعظيما له، و قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها. فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته، فقالوا:

ائته. فلما أشرف على النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «هذا فلان، و هو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له»، فبعثوها فاستقبله القوم يلبون، فلما رأى ذلك، قال: سبحان اللّه، لا ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت. فرجع إلى أصحابه، فقال: رأيت البدن قد قلدت، و أشعرت، و ما أرى يصدون عن البيت. فقام مكرز بن حفص، و قال:

دعوني آته، فقالوا: ائته. فلما أشرف عليهم، قال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «هذا مكرز بن حفص، و هو رجل فاجر». فجعل يكلم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، فبينما هو يكلمه، إذ جاء سهيل بن عمرو، فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «قد سهل لكم من أمركم»، فقال:

هات، اكتب بيننا و بينك كتابا، فدعا الكاتب، فقال: «اكتب: بسم اللّه الرحمن الرحيم»، فقال سهيل: أما الرحمن، فو اللّه ما ندري ما هو، و لكن اكتب: «باسمك اللهم» كما كنت تكتب. فقال المسلمون: و اللّه ما نكتبها إلا بسم اللّه الرحمن الرحيم. فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «اكتب باسمك اللهم». ثمّ قال: «اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد رسول اللّه»، فقال سهيل: فو اللّه لو نعلم أنك رسول اللّه، ما صددناك عن البيت، و لا قاتلناك، و لكن اكتب: محمد بن عبد اللّه، فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «إني رسول اللّه، و إن كذبتموني، اكتب: محمد بن عبد اللّه»، فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «على أن تخلوا بيننا و بين البيت فنطوف به»، فقال سهيل: و اللّه لا تتحدث العرب، أنا أخذنا ضغطة، و لكن من العام المقبل، فكتب.

فقال سهيل: على أن لا يأتيك منا رجل، و إن كان في دينك، إلا رددته علينا. فقال المسلمون: سبحان اللّه، كيف يرد إلى المشركين، و قد جاء مسلما؟ فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل، يرسف في قيوده، قد خرج من أسفل مكة، حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما قاضيتك عليه، أن ترده، فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «إنا لم نقض الكتاب بعد»، فقال: فو اللّه إذا، لا أصالحك على شي‏ء أبدا، فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «فأجزه لي»، فقال: ما أنا بمجيزه، فقال: «بلى فافعل»، قال: ما أنا بفاعل، قال مكرز: قد أجزناه. فقال أبو جندل: يا معشر المسلمين، أرد إلى المشركين، و قد جئت مسلما، أ لا ترون ما لقيت؟ و كان قد عذب في اللّه عذابا شديدا. قال عمر بن الخطاب: و اللّه ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ، فأتيت النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، فقلت: فقلت: يا رسول اللّه أ لست نبي اللّه؟ قال:

«بلى»، قال: قلت: ألسنا على الحقّ، و عدونا على الباطل؟ قال: «بلى»، فقلت: علام نعطي الدنية في ديننا و نرجع و لما يحكم اللّه بيننا و بين أعدائنا؟ فقال: «إني رسول اللّه، و هو ناصري، و لست أعصيه»، قلت: أ و لست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت و نطوف به؟ قال: «بلى، أ فأخبرتك أنك تأتيه العام؟» قلت: لا، قال: «فإنك آتيه و مطوف به».

قال: فأتيت أبا بكر، فقلت له كما قلت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و رد عليه أبو بكر كما رد عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم سواء، و زاد:

تيسير الكريم الرحمن، ص: 964

فاستمسك بغرزه حتى تموت، فو اللّه إنه لعلى الحق، قال عمر: فعملت لذلك أعمالا. فلما فرغ من قضية الكتاب، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «قوموا و انحروا، ثمّ احلقوا»، فو اللّه ما قام منهم رجل حتى قال ثلاث مرات. فلما لم يقم منهم أحد، قام فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت: يا رسول اللّه أ تحب ذلك؟ اخرج، ثمّ لا تكلم أحدا كلمة، حتى تنحر بدنك، و تدعو حالقك، فيحلق لك، فقام فخرج، فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه، و دعا حالقه فحلقه. فلما رأى الناس ذلك، قاموا فنحروا، و جعل بعضهم يحلق بعضا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما. ثمّ جاءت نسوة مؤمنات، فأنزل اللّه عز و جل: إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ‏ حتى بلغ‏ بِعِصَمِ الْكَوافِرِ ، فطلّق عمر يومئذ امرأتين، كانتا عنده في الشرك، فتزوج إحداهما معاوية، و الأخرى صفوان بن أمية، ثمّ رجع إلى المدينة. و في مرجعه أنزل اللّه عليه: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) إلى آخرها، فقال عمر: أفتح هو يا رسول اللّه؟

فقال: «نعم»، فقال الصحابة: هنيئا لك يا رسول اللّه، فما لنا؟ فأنزل اللّه عز و جل: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ‏ الآية. انتهى. و هذا آخر تفسير سورة الفتح و للّه الحمد، و صلّى اللّه على نبينا محمد و على آله و صحبه. نقلته من خط المفسر رحمه اللّه و عفا عنه، و كان الفراغ من كتابته في 13 ذي الحجة سنة 1345 ه، و صلّى اللّه على نبينا محمد و آله و صحبه و سلّم تسليما كثيرا إلى يوم الدين آمين. بقلم الفقير إلى ربه، سليمان بن حمد العبد اللّه البسام، غفر اللّه له و لوالديه و لجميع المسلمين آمين. و صلّى اللّه على محمد و على آله و صحبه أجمعين و سلّم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، و الحمد للّه الذي بنعمته تتم الصالحات.

تفسير سورة الحجرات‏

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

[1] هذا متضمن للأدب مع اللّه تعالى، و مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و التعظيم و الاحترام له، و إكرامه. فأمر اللّه عباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان باللّه و رسوله، من امتثال أوامر اللّه، و اجتناب نواهيه، و أن يكونوا ماشين، خلف أوامر اللّه، متبعين لسنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في جميع أمورهم، و أن لا يتقدموا بين يدي اللّه و رسوله، فلا يقولوا حتى يقول، و لا يأمروا حتى يأمر. فإن هذا حقيقة الأدب الواجب مع اللّه و رسوله، و هو عنوان سعادة العبد و فلاحه، و بفواته تفوته السعادة الأبدية، و النعيم السرمدي. و في هذا، النهي الشديد عن تقديم قول غير الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم على قوله، فإنه متى.

استبانت سنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم وجب اتباعها، و تقديمها على غيرها، كائنا من كان. ثمّ أمر اللّه بتقواه عموما، و هي كما

تيسير الكريم الرحمن، ص: 965

قال طلق بن حبيب: أن تعمل بطاعة اللّه ترجو ثواب اللّه، و أن تترك معصية اللّه على نور اللّه، تخشى عقاب اللّه. و قوله:

إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ‏ ، أي: لجميع الأصوات في جميع الأوقات، في خفي المواضع و الجهات. عَلِيمٌ‏ بالظواهر و البواطن، و السوابق و اللواحق، و الواجبات و المستحيلات و الجائزات.

و في ذكر الاسمين الكريمين- بعد النهي عن التقدم بين يدي اللّه و رسوله، و الأمر بتقواه- حث على امتثال تلك الأوامر الحسنة، و الآداب المستحسنة، و ترهيب عن ضده.

[2] ثمّ قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ‏ ، و هذا أدب مع الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، في خطابه، أي: لا يرفع المخاطب له، صوته معه فوق صوته، و لا يجهر له بالقول، بل يغض الصوت، و يخاطبه بأدب و لين، و تعظيم و تكريم، و إجلال و إعظام. و لا يكون الرسول كأحدهم، بل يميزونه في خطابهم، كما تميز عن غيره في وجوب حقه على الأمة، و وجوب الإيمان به، و الحب الذي لا يتم الإيمان إلا به، فإن في عدم القيام بذلك محذورا، خشية أن يحبط عمل العبد و هو لا يشعر، كما أن الأدب معه من أسباب حصول الثواب، و قبول الأعمال.

[3] ثمّ مدح من غض صوته عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، بأن اللّه امتحن قلوبهم للتقوى، أي: ابتلاها و اختبرها، فظهرت نتيجة ذلك، بأن صلحت قلوبهم للتقوى. ثمّ وعدهم المغفرة لذنوبهم المتضمنة لزوال الشر و المكروه، و حصول الأجر العظيم، الذي لا يعلم وصفه إلا اللّه تعالى، و فيه حصول كلّ محبوب، و في هذا، دليل على أن اللّه يمتحن القلوب، بالأمر و النهي و المحن. فمن لازم أمر اللّه، و اتبع رضاه، و سارع إلى ذلك، و قدمه على هواه، تمحض و تمحص للتقوى، و صار قلبه صالحا، و من لم يكن كذلك، علم أنه لا يصلح للتقوى.

[4] نزلت هذه الآيات الكريمة في ناس من الأعراب، الّذين وصفهم اللّه بالجفاء، و أنهم أجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل اللّه على رسوله، قدموا وافدين على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فوجدوه في بيته و حجرات نسائه، فلم يصبروا و يتأدبوا حتى يخرج، بل نادوه: يا محمد يا محمد، أي: اخرج إلينا. فذمهم اللّه بعدم العقل، حيث لم يعقلوا عن اللّه الأدب مع رسوله و احترامه، كما أن من العقل استعمال الأدب.

[5] فأدب العبد، عنوان عقله، و أن اللّه مريد به الخير، و لهذا قال: وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏ (5)، أي: غفور لما صدر عن عباده من الذنوب، و الإخلال بالآداب، رحيم بهم، حيث لم يعاجلهم بذنوبهم بالعقوبات و المثلات.

[6] و هذا أيضا من الآداب الّتي على أولي الألباب التأدب بها و استعمالها، و هو أنه إذا أخبرهم فاسق بنبإ، أي:

خبر أن يتثبتوا في خبره، و لا يأخذوه مجردا، فإن في ذلك خطرا كبيرا، و وقوعا في الإثم، فإن خبره إذا جعل بمنزلة خبر الصادق العدل، حكم بموجب ذلك و مقتضاه، فحصل من تلف النفوس و الأموال، بغير حق بسبب ذلك الخبر ما يكون سببا للندامة، بل الواجب عند سماع خبر الفاسق، التثبت و التبين. فإن دلت الدلائل و القرائن على صدقه، عمل به و صدّق، و إن دلت على كذبه، كذّب، و لم يعمل به، ففيه دليل على أن خبر الصادق مقبول، و خبر الكاذب مردود، و خبر الفاسق متوقف فيه، و لهذا السبب كان السلف يقبلون روايات كثير من الخوارج المعروفين بالصدق،

تيسير الكريم الرحمن، ص: 966

و لو كانوا فساقا.

[7] أي: و ليكن لديكم معلوما أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بين أظهركم و هو الرسول الكريم، البار، الراشد، الذي يريد بكم الخير، و ينصح لكم، و تريدون لأنفسكم من الشر و المضرة، ما لا يوافقكم الرسول عليه، و لو يطيعكم في كثير من الأمر، لشق عليكم، و أعنتكم و لكن الرسول يرشدكم.

و اللّه تعالى يحبب إليكم الإيمان، و يزينه في قلوبكم، بما أودع في قلوبكم من محبة الحقّ و إيثاره، و بما نصب على الحقّ من الشواهد و الأدلة الدالة على صحته، و قبول القلوب و الفطر له، و بما يفعله تعالى بكم، من توفيقه للإنابة إليه.

و يكره إليكم الكفر و الفسوق، أي: الذنوب الصغار- بما أودع في قلوبكم من كراهة الشر، و عدم إرادة فعله، و بما نصبه من الأدلة و الشواهد على فساده و مضرته، و عدم قبول الفطر له، و بما يجعل اللّه في القلوب من الكراهة له.

أُولئِكَ‏ الّذين زين اللّه الإيمان في قلوبهم، و حببه إليهم، و كره إليهم الكفر و الفسوق و العصيان‏ هُمُ الرَّاشِدُونَ‏ ، أي: الّذين صلحت علومهم و أعمالهم، و استقاموا على الدين القويم، و الصراط المستقيم. و ضدهم الغاوون الّذين حبب إليهم الكفر و الفسوق و العصيان، و كره إليهم الإيمان، و الذنب ذنبهم، فإنهم لما فسقوا طبع اللّه على قلوبهم، فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ‏ ، و لما لم يؤمنوا بالحق لما جاءهم أول مرة، قلب أفئدتهم.

[8] و قوله: فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَ نِعْمَةً ، أي: ذلك الخير الذي حصل لهم، هو بفضل اللّه عليهم و إحسانه، لا بحولهم و قوتهم. وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏ ، أي: عليم بمن يشكر النعمة، فيوفقه لها، ممن لا يشكرها، و لا تليق به، فيضع فضله، حيث تقتضيه حكمته.

[9] هذا متضمن لنهي المؤمنين عن أن يبغي بعضهم على بعض، و يقتل بعضهم بعضا، و أنه إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين، فإن على غيرهم من المؤمنين أن يتلافوا هذا الشر الكبير، بالإصلاح بينهم، و التوسط على أكمل وجه يقع به الصلح، و يسلكوا الطرق الموصلة إلى ذلك، فإن صلحتا فبها و نعمت، فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى‏ فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي‏ءَ إِلى‏ أَمْرِ اللَّهِ‏ . أي: ترجع إلى ما حد اللّه و رسوله، من فعل الخير و ترك الشر، الذي من أعظمه الاقتتال. و قوله: فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ‏ هذا أمر بالصلح، و بالعدل في الصلح، فإن الصلح قد يوجد، و لكن لا يكون بالعدل، بل بالظلم و الحيف على أحد الخصمين، فهذا ليس هو الصلح المأمور به، فيجب أن لا يراعى أحدهما لقرابة، أو وطن، أو غير ذلك من المقاصد و الأغراض، الّتي توجب العدول عن العدل. وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ‏ ، أي: العادلين في حكمهم بين الناس و في جميع الولايات الّتي تولوها، حتى إنه قد يدخل في ذلك عدل الرجل في أهله و عياله في أداء حقوقهم. و في الحديث الصحيح: «المقسطون عند اللّه على منابر من نور:

الّذين يعدلون في حكمهم و أهليهم، و ما ولوا».

[10] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ هذا عقد، عقده اللّه بين المؤمنين، أنه إذا وجد من أي شخص كان في مشرق الأرض و مغربها، الإيمان باللّه، و ملائكته، و كتبه، و رسله، و اليوم الآخر، فإنه أخ للمؤمنين، أخوة توجب أن يحب‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 967

له المؤمنون ما يحبون لأنفسهم، و يكرهوا له ما يكرهون لأنفسهم، و لهذا قال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، آمرا بالأخوة الإيمانية: «لا تحاسدوا، و لا تناجشوا، و لا تباغضوا، و لا تدابروا، و كونوا عباد اللّه إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، و لا يخذله، و لا يكذبه» متفق عليه. و فيهما عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «المؤمن للمؤمن، كالبنيان يشد بعضهم بعضا» و شبك صلّى اللّه عليه و سلّم بين أصابعه. و لقد أمر اللّه و رسوله بالقيام بحقوق المؤمنين بعضهم لبعض، و مما يحصل به التآلف و التوادد، و التواصل بينهم، كل هذا تأييد لحقوق بعضهم على بعض، فمن ذلك، إذا وقع الاقتتال بينهم، الموجب لتفرق القلوب و تباغضها و تدابرها، فليصلح المؤمنون بين إخوانهم، و ليسعوا فيما به يزول شنآنهم. ثمّ أمر بالتقوى عموما، و رتب على القيام بالتقوى و بحقوق المؤمنين، الرحمة، فقال: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏ ، و إذا حصلت الرحمة، حصل خير الدنيا و الآخرة، و دل ذلك على أن عدم القيام بحقوق المؤمنين، من أعظم حواجب الرحمة. و في هاتين الآيتين من الفوائد، غير ما تقدم: أن الاقتتال بين المؤمنين مناف للأخوة الإيمانية، و لهذا كان من أكبر الكبائر، و أن الإيمان و الأخوة الإيمانية لا يزولان مع وجود الاقتتال كغيره من الذنوب الكبائر، الّتي دون الشرك، و على ذلك مذهب أهل السنة و الجماعة. و على وجوب الإصلاح بين المؤمنين بالعدل، و على وجوب قتال البغاة، حتى يرجعوا إلى أمر اللّه، و على أنهم لو رجعوا لغير أمر اللّه، بأن رجعوا على وجه لا يجوز الإقرار عليه و التزامه، أنه لا يجوز ذلك، و أن أموالهم معصومة، لأن اللّه أباح دماءهم وقت استمرارهم على بغيهم خاصة، دون أموالهم.

[11] و هذا أيضا من حقوق المؤمنين بعضهم على بعض، أن‏ لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ‏ بكل كلام، و قول، و فعل دال على تحقير الأخ المسلم، فإن ذلك حرام، لا يجوز، و هو دال على إعجاب الساخر بنفسه. و عسى أن يكون المسخور به خيرا من الساخر، و هو الغالب و الواقع، فإن السخرية لا تقع إلا من قلب ممتلى‏ء من مساوئ الأخلاق، متحلّ بكل خلق ذميم، متخلّ عن كلّ خلق كريم، و لهذا قال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «بحسب امرئ من الشر، أن يحقر أخاه المسلم». ثمّ قال: وَ لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ‏ ، أي: لا يعب بعضكم على بعض، و اللمز بالقول، و الهمز بالفعل، و كلاهما منهيّ عنه حرام، متوعد عليه بالنار، كما قال تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الآية. و سمى الأخ المسلم نفسا لأخيه، لأن المؤمنين ينبغي أن يكون هذا حالهم كالجسد الواحد، و لأنه إذا همز غيره، أوجب للغير أن يهمزه، فيكون هو المتسبب لذلك. وَ لا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ‏ ، أي: لا يعير أحدكم أخاه، و يلقبه بلقب يكره أن يقال فيه، و هذا هو التنابز، و أما الألقاب غير المذمومة، فلا تدخل في هذا. بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ‏ ، أي:

بئسما تبدلتم عن الإيمان و العمل بشرائعه، و ما يقتضيه بالإعراض عن أوامره و نواهيه، باسم الفسوق و العصيان، الذي هو التنابز بالألقاب. وَ مَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ‏ ، و هذا هو الواجب على العبد، أن يتوب إلى اللّه تعالى، و يخرج من حق أخيه المسلم، باستحلاله و الاستغفار، و المدح مقابلة على ذمه. وَ مَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ‏ فالناس قسمان: ظالم لنفسه غير تائب، و تائب مفلح، و لا ثمّ غيرهما.

صفحه بعد