کتابخانه تفاسیر
تيسير الكريم الرحمن، ص: 502
وَ امْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ كأن معهم دليلا يدلهم إلى أين يتوجهون.
[66- 75] أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ أي:
سيصبحهم العذاب الذي يجتاحهم و يستأصلهم، وَ جاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ أي: المدينة التي فيها قوم لوط يَسْتَبْشِرُونَ أي: يبشر بعضهم بعضا، بأضياف لوط، و صباحة وجوههم و اقتدارهم عليهم، و ذلك لقصدهم فعل الفاحشة فيهم، فجاؤوا حتى وصلوا إلى بيت لوط، فجعلوا يعالجون لوطا على أضيافه، و لوط يستعيذ منهم و يقول: إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ لا تُخْزُونِ (69) أي: راقبوا اللّه أول ذلك، و إن كان ليس فيكم خوف من اللّه، فلا تفضحون في أضيافي، و تنتهكوا منهم حرمتهم بفعل الأمر الشنيع.
و قالُوا له جوابا عن قوله و لا تخزون فقط: أَ وَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ أن تضيفهم، فنحن قد أنذرناك، و من أنذر فقد أعذر، قالَ لهم لوط من شدة الأمر الذي أصابه: هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ ، فلم يبالوا بقوله، و لهذا قال اللّه لرسوله محمد صلّى اللّه عليه و سلم: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) و هذه السكرة، هي سكرة محبة الفاحشة، التي لا يبالون معها بعذل و لا لوم. فلما بينت له الرسل حالهم، زال عن لوط ما كان يجده من الضيق و الكرب، فامتثل أمر ربه و سرى بأهله ليلا، فنجوا، و أما أهل القرية فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) أي: وقت شروق الشمس، حيث كانت العقوبة عليهم أشد، فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها أي: قلبنا عليهم مدينتهم، وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ، تتبع فيها من شذ من البلد. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) أي: المتأملين المتفكرين، الّذين لهم فكر و روية و فراسة، يفهمون بها ما أريد بذلك، من أن من تجرأ على معاصي اللّه، خصوصا هذه الفاحشة العظيمة، أن اللّه سيعاقبهم بأشنع العقوبات، كما تجرؤوا على أشنع السيئات.
[76- 77] وَ إِنَّها أي: مدينة قوم لوط لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ للسالكين، يعرفه كل من تردد في تلك الديار إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)، و في هذه القصة من العبر: عنايته تعالى بخليله إبراهيم، فإن لوطا عليه السّلام، من أتباعه، و من آمن به فكأنه تلميذ له، فحين أراد اللّه إهلاك قوم لوط، حين استحقوا ذلك، أمر رسله أن يمروا على إبراهيم عليه السّلام، كي يبشروه بالولد، و يخبروه بما بعثوا له، حتى إنه جادلهم عليه السّلام في إهلاكهم، حتى أقنعوه، فطابت نفسه. و كذلك لوط عليه السّلام، لما كانوا أهل وطنه، فربما أخذته الرقة عليهم و الرأفة بهم، قدّر اللّه من الأسباب، ما به يشتد غيظه و حنقه عليهم، حتى استبطأ إهلاكهم لما قيل له: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَ لَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ، و منها: إن اللّه تعالى، إذا أراد أن يهلك قرية، زاد شرهم و طغيانهم، فإذا انتهى، أوقع بهم من العقوبات ما يستحقونه.
[78- 79] و هؤلاء قوم شعيب، نعتهم اللّه و أضافهم إلى الأيكة، و هو: البستان كثير الأشجار، ليذكروا نعمته عليهم، و أنهم ما قاموا بها، بل جاءهم نبيهم شعيب، فدعاهم إلى التوحيد، و ترك ظلم الناس في المكاييل و الموازين، و عالجهم على ذلك أشد المعالجة فاستمروا على ظلمهم في حق الخالق، و في حق الخلق، و لهذا، وصفهم هنا
تيسير الكريم الرحمن، ص: 503
بالظلم، فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فأخذهم عذاب يوم الظلة، إنه كان عذاب يوم عظيم. وَ إِنَّهُما أي: ديار قوم لوط، و أصحاب الأيكة لَبِإِمامٍ مُبِينٍ أي: لبطريق واضح، يمر بهم المسافرون كل وقت، فيبين من آثارهم ما هو مشاهد بالأبصار، فيعتبر بذلك أولو الألباب.
[80] يخبر تعالى عن أهل الحجر، و هم قوم صالح، الّذين كانوا يسكنون الحجر المعروف في أرض الحجاز، أنهم كذبوا المرسلين، أي: كذبوا صالحا، و من كذب رسولا، فقد كذب سائر الرسل، لاتفاق دعوتهم، و ليس تكذيب بعضهم لشخصه، بل لما جاء به من الحقّ الذي اشترك جميع الرسل بالإتيان به.
[81] وَ آتَيْناهُمْ آياتِنا الدالة على صحة ما جاءهم به صالح من الحقّ، و من جملتها: تلك الناقة، هي من آيات اللّه العظيمة. فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ كبرا و تجبرا على اللّه.
[82] وَ كانُوا - من كثرة إنعام اللّه عليهم- يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ من المخاوف مطمئنين في ديارهم، فلو شكروا النعمة، و صدقوا نبيهم صالحا، عليه السّلام، لأدرّ اللّه عليهم الأرزاق، و لأكرمهم بأنواع من الثواب العاجل و الآجل، و لكنهم- لما كذبوا، و عقروا الناقة، و عتوا عن أمر ربهم، و قالوا: يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصادقين.
[83] فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83)، فتقطعت قلوبهم في أجوافهم، و أصبحوا في دارهم جاثمين هلكى، مع ما يتبع ذلك، من الخزي و اللعنة المستمرة.
[84] فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (84) لأن أمر اللّه إذا جاء، لا يرده كثرة جنود، و لا قوة أنصار، و لا غزارة أموال.
[85] وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما أي: ما خلقناهما عبثا باطلا، كما يظن أعداء اللّه، بل ما خلقناهما إِلَّا بِالْحَقِ الذي منه، أن تكونا بما فيهما دالتين على كمال خالقهما، و اقتداره، و سعة رحمته، و حكمته، و علمه المحيط، و إنه الذي لا تنبغي العبادة إلا له، وحده لا شريك له، وَ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا ريب فيها، لأن خلق السموات و الأرض ابتداء، أكبر من خلق الناس مرة أخرى فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ و هو الصفح، الذي لا أذية فيه، بل قابل إساءة المسيء بالإحسان، و ذنبه بالغفران، لتنال من ربك، جزيل الأجر و الثواب، فإن كل ما هو آت فهو قريب، و قد ظهر لي معنى أحسن مما ذكرت هنا. و هو: أن المأمور به، هو الصفح الجميل، أي: الحسن الذي قد سلم من الحقد، و الأذية القولية و الفعلية، دون الصفح الذي ليس بجميل، و هو: الصفح في غير محله، فلا يصفح، حيث اقتضى المقام العقوبة، كعقوبة المعتدين الظالمين، الّذين لا ينفع فيهم إلا العقوبة، و هذا هو المعنى.
[86] إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ لكل مخلوق الْعَلِيمُ بكل شيء، فلا يعجزه أحد من جميع ما أحاط به علمه، و جرى عليه خلقه، و ذلك: سائر الموجودات.
[87] يقول تعالى ممتنّا على رسوله: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي و هن- على الصحيح- السور السبع الطوال:
تيسير الكريم الرحمن، ص: 504
«البقرة» و «آل عمران» و «النساء» و «المائدة» و «الأنعام» و «الأعراف» و «الأنفال» مع «التوبة». أو أنها فاتحة الكتاب لأنها سبع آيات، فيكون عطف وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ على ذلك، من باب عطف العام على الخاص، لكثرة ما في المثاني من التوحيد، و علوم الغيب، و الأحكام الجليلة، و تثنيتها فيها. و على القول، بأن «الفاتحة» هي السبع المثاني، معناها:
أنها سبع آيات، تثنى في كل ركعة، و إذا كان اللّه قد أعطاه القرآن العظيم مع السبع المثاني، كان قد أعطاه أفضل ما يتنافس فيه المتنافسون، و أعظم ما فرح به المؤمنون، قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)، و لذلك قال بعده:
[88] لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ أي: لا تعجب إعجابا يحملك على إشغال فكرك، بشهوات الدنيا، التي تمتع بها المترفون، و اغترّ بها الجاهلون، و استغن بما آتاك اللّه، من المثاني و القرآن العظيم، وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ فإنهم لا خير فيهم يرجى، و لا نفع يرتقب. فلك في المؤمنين عنهم، أحسن البدل، و أفضل العوض، وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ أي: ألن لهم جانبك، و حسّن لهم خلقك، محبة، و إكراما، و تودّدا.
[89] وَ قُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) أي: قم بما عليك من النذارة، و أداء الرسالة، و التبليغ للقريب و البعيد، و العدو، و الصديق، فإنك إذا فعلت ذلك فليس عليك من حسابهم من شيء، و ما من حسابك عليهم من شيء.
[90] و قوله: كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) أي: كما أنزلنا العقوبة على مدّعي بطلان ما جئت به، الساعين لصد الناس عن سبيل اللّه.
[91] الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) أي: أصنافا، و أعضاء، و أجزاء، يصرفونه بحسب ما يهوونه، فمنهم من يقول: سحر، و منهم من يقول: كهانة و منهم من يقول مفترى إلى غير ذلك من أقوال الكفرة المكذبين به، الّذين جعلوا قدحهم فيه، ليصدوا الناس عن الهدى.
[92- 93] فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) أي: جميع من قدح فيه و عابه، و حرّفه و بدّله عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93)، و في هذا أعظم ترهيب، و زجر لهم عن الإقامة على ما كانوا يعملون.
[94- 95] ثمّ أمر اللّه رسوله أن لا يبالي بهم، و لا بغيرهم، و أن يصدع بما أمر اللّه، و يعلن بذلك لكل أحد و لا يعوّقنّه عن أمر عائق و لا تصدّه أقوال المتهوكين، وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ أي لا تبال بهم، و اترك مشاتمتهم و مسابتهم، مقبلا على شأنك، إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) بك و بما جئت به، و هذا وعد من اللّه لرسوله، أن لا يضره المستهزءون، و أن يكفيه اللّه إياهم بما شاء من أنواع العقوبة.
[96- 97] و قد فعل تعالى، فإنه ما تظاهر أحد بالاستهزاء برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و بما جاء به، إلا أهلكه اللّه، و قتله شر قتلة، ثمّ ذكر وصفهم و أنهم كما يؤذونك يا رسول اللّه، فإنهم أيضا، يؤذون اللّه الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً
تيسير الكريم الرحمن، ص: 505
آخَرَ و هو ربهم و خالقهم، و منه برهم فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ غبّ أفعالهم إذا وردوا القيامة. وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (97) لك من التكذيب و الاستهزاء. فنحن قادرون على استئصالهم بالعذاب، و التعجيل لهم بما يستحقونه، و لكن اللّه يمهلهم و لا يهملهم.
[98] (ف) أنت يا محمد سبح بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ كُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) أي: أكثر من ذكر اللّه، و تسبيحه، و تحميده، و الصلاة، فإن ذلك يوسع الصدر، و يشرحه، و يعينك على أمورك.
[99] وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) أي:
الموت، أي: استمر في جميع الأوقات على التقرب إلى اللّه بأنواع العبادات، فامتثل صلّى اللّه عليه و سلّم أمر ربه، فلم يزل دائبا في العبادة، حتى أتاه اليقين من ربه صلّى اللّه عليه و سلّم، تسليما كثيرا.
سورة النحل
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] يقول تعالى- مقربا لما وعد به محققا لوقوعه-: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ، فإنه آت، و ما هو آت فإنه قريب، سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ من نسبة الشريك، و الولد و الصاحبة، و الكفء، و غير ذلك، مما نسبه إليه المشركون، مما لا يليق بجلاله، أو ينافي كماله، و لما نزه نفسه عما وصفه به أعداؤه، ذكر الوحي الذي ينزله على أنبيائه، مما يجب اتباعه، في ذكر ما ينسب للّه، من صفات الكمال فقال:
[2] يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ أي: بالوحي الذي به حياة الأرواح عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ممن يعلمه صالحا، لتحمل رسالته. و زبدة دعوة الرسل كلهم و مدارها، على قوله: أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا ، أي: على معرفة اللّه تعالى و توحده، في صفات العظمة، التي هي صفات الألوهية، و عبادته وحده لا شريك له، فهي التي أنزل بها كتبه، و أرسل بها رسله، و جعل الشرائع كلها تدعو إليها، و تحث و تجاهد من حاربها، و قام بضدها، ثم ذكر الأدلة و البراهين على ذلك.
[3- 4] فقال: خَلَقَ السَّماواتِ إلى لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ ، هذه السورة، تسمى سورة النعم، فإن اللّه ذكر في أولها، أصول النعم و قواعدها، و في آخرها، متمماتها و مكملاتها، فأخبر أنه خلق السموات و الأرض بالحق، ليستدل بهما العباد على عظمة خالقهما، و ما له من نعوت الكمال، و يعلموا أنه خلقهما سكنا لعباده الذين يعبدونه، بما يأمرهم به، في الشرائع التي أنزلها على ألسنة رسله، و لهذا نزه نفسه عن شرك المشركين به فقال: تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أي: تنزه و تعاظم عن شركهم، فإنه الإله حقا، الذي لا تنبغي العبادة، و الحب، و الذل، إلا له تعالى.
[4- 5] و لما ذكر خلق السموات و الأرض، ذكر خلق ما فيهما. و بدأ بأشرف ذلك و هو الإنسان فقال:
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ لم يزل يدبرها، و يربيها، و ينميها، حتى صارت بشرا تاما، كامل الأعضاء الظاهرة
تيسير الكريم الرحمن، ص: 506
و الباطنة، قد غمره بنعمه الغزيرة، حتى إذا استتم، فخر بنفسه و أعجب بها فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ، يحتمل أن المراد: فإذا هو خصيم لربه، يكفر به، و يجادل رسله، و يكذب بآياته. و نسي خلقه الأول، و ما أنعم اللّه عليه به، من النعم، فاستعان بها على معاصيه، و يحتمل أن المعنى: أن اللّه أنشأ الآدمي من نطفة، ثم لم يزل ينقله من طور إلى طور، حتى صار عاقلا متكلما، ذا ذهن و رأي، يخاصم و يجادل، فليشكر العبد ربه الذي أوصله إلى هذه الحال، التي ليس في إمكانه القدرة على شيء منها. وَ الْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ أي: لأجلكم، و لأجل منافعكم و مصالحكم، و من جملة منافعها العظيمة لَكُمْ فِيها دِفْءٌ مما تتخذون من أصوافها و أوبارها، و أشعارها، و جلودها، من الثياب، و الفرش، و البيوت. وَ لكم فيها مَنافِعُ غير ذلك وَ مِنْها تَأْكُلُونَ .
[6- 7] وَ لَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَ حِينَ تَسْرَحُونَ (6) أي: في وقت رواحها و سكونها، و وقت حركتها و سرحها، و ذلك أن جمالها، لا يعود إليها منه شيء، فإنكم أنتم الذين تتجملون بها، بثيابكم، و أولادكم، و أموالكم، و تعجبون بذلك، وَ تَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ من الأحمال الثقيلة، بل و تحملكم أنتم إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ و لكن اللّه ذللها لكم. فمنها ما تركبونه، و منها ما تحملون عليه ما تشاؤون، من الأثقال، إلى البلدان البعيدة، و الأقطار الشاسعة، إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ إنه سخر لكم ما تضطرون إليه و تحتاجونه، فله الحمد، كما ينبغي لجلال وجهه، و عظيم سلطانه، و سعة جوده و بره.
[8] وَ الْخَيْلَ وَ الْبِغالَ وَ الْحَمِيرَ سخرناها لكم لِتَرْكَبُوها وَ زِينَةً ، أي: تارة تستعملونها للضرورة في الركوب، و تارة لأجل الجمال و الزينة، و لم يذكر الأكل، لأن البغال و الحمير، محرم أكلها، و الخيل لا تستعمل- في الغالب- للأكل، بل ينهى عن ذبحها لأجل الأكل، خوفا من انقطاعها، و إلا فقد ثبت في الصحيحين، أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، أذن في لحوم الخيل. وَ يَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ مما يكون بعد نزول القرآن من الأشياء، التي يركبها الخلق في البر، و البحر، و الجو، و يستعملونها في منافعهم و مصالحهم فإنه لم يذكرها بأعيانها، لأن اللّه تعالى لم يذكر في كتابه، إلا ما يعرفه العباد، أو يعرفون نظيره. و أما ما ليس له نظير في زمانهم، فإنه لو ذكر لم يعرفوه، و لم يفهموا المراد به. فيذكر أصلا جامعا، يدخل فيه ما يعلمون، و ما لا يعلمون. كما ذكر نعيم الجنة، و سمى منه ما نعلم و نشاهد نظيره، كالنخل و الأعناب و الرمان، و أجمل ما لا نعرف له نظيرا في قوله: فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52). فكذلك هنا، ذكر ما نعرفه، من المراكب، كالخيل، و البغال، و الحمير، و الإبل، و السفن، و أجمل الباقي في قوله: وَ يَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ . و لما ذكر تعالى، الطريق الحسنى، و أن اللّه قد جعل للعباد ما يقطعونه به من الإبل و غيرها، ذكر الطريق المعنوي الموصل إليه فقال:
[9] وَ عَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ أي: الصراط المستقيم، الذي هو أقرب الطرق و أخصرها، موصل إلى اللّه، و إلى كرامته. و أما الطريق الجائر في عقائده و أعماله، و هو: كل ما خالف الصراط المستقيم، فهو قاطع عن اللّه، موصل إلى دار الشقاء، فسلك المهتدون الصراط المستقيم بإذن ربهم، و ضل الغاوون عنه، و سلكوا الطرق الجائرة، وَ لَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ و لكنه هدى بعضا، كرما و فضلا، و لم يهد آخرين، حكمة منه و عدلا.
[10- 11] ينبه اللّه تعالى بهذه الآية الإنسان على عظمة قدرته و حثهم على التفكير حيث ختمها بقوله: لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ على كمال قدرة اللّه، الذي أنزل هذا الماء من السحاب الرقيق اللطيف، و رحمته، حيث جعل فيه ماء غزيرا منه يشربون، و تشرب مواشيهم، و يسقون منه حروثهم، فتخرج لهم الثمرات الكثيرة، و النعم الغزيرة.
[12] أي: سخر لكم هذه الأشياء لمنافعكم، و أنواع مصالحكم، بحيث لا تستغنون عنها أبدا، فبالليل تسكنون و تنامون، و تستريحون، و بالنهار تنتشرون في معايشكم و منافع دينكم و دنياكم، و بالشمس و القمر، من الضياء،
تيسير الكريم الرحمن، ص: 507
و النور، و الإشراق، و إصلاح الأشجار و الثمار، و النبات، و تجفيف الرطوبات، و إزالة البرودة الضارة للأرض، و للأبدان، و غير ذلك من الضروريات و الحاجيات، التابعة لوجود الشمس و القمر. و فيهما، و في النجوم، من الزينة للسماء و الهداية، في ظلمات البر و البحر، و معرفة الأوقات، و حساب الأزمنة، ما تتنوع دلالاتها، و تتصرف آياتها، و لهذا جمعها في قوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي: لمن لهم عقول يستعملونها في التدبر و التفكر، فيما هي مهيأة له، مستعدة، تعقل ما تراه، و تسمعه، لا كنظر الغافلين الذين حظهم من النظرة، حظ البهائم، التي لا عقل لها.
[13] أي: فيما ذرأ اللّه و نشر للعباد، من كل ما على وجه الأرض، من حيوان، و أشجار، و نبات، و غير ذلك، مما تختلف ألوانه، و تختلف منافعه آية على كمال قدرة اللّه، و عميم إحسانه، و سعة بره، و أنه الذي لا تنبغي العبادة إلا له، وحده لا شريك له، لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ أي:
يستحضرون في ذاكرتهم، ما ينفعهم من العلم النافع، و يتأملون ما دعاهم اللّه إلى التأمل فيه، حتى يتذكروا بذلك ما هو دليل عليه.
[14] أي: هو وحده لا شريك له الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ و هيأه لمنافعكم المتنوعة، لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا هو، السمك، و الحوت، الذي تصطادونه منه، وَ تَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها فتزيدكم جمالا و حسنا إلى حسنكم، وَ تَرَى الْفُلْكَ أي: السفن و المراكب مَواخِرَ فِيهِ أي: تمخر في البحر العجاج الهائل، بمقدمها، حتى تسلك فيه من قطر إلى آخر، تحمل المسافرين و أرزاقهم، و أمتعتهم، و تجاراتهم، التي يطلبون بها الأرزاق و فضل اللّه عليهم. وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ الذي يسر لكم هذه الأشياء و هيأها، و تثنون على اللّه الذي من بها، فلله تعالى الحمد و الشكر، و الثناء، حيث أعطى العباد من مصالحهم و منافعهم، فوق ما يطلبون، و أعلى ما يتمنون، و آتاهم من كل ما سألوه، لا نحصي ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه.
[15- 16] أي: وَ أَلْقى اللّه تعالى لأجل عباده فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ و هي: الجبال العظام لئلا تميد بهم و تضطرب بالخلق، فيتمكنون من حرث الأرض و البناء، و السير عليها، و من رحمته تعالى أن جعل فيها أنهارا، يسوقها من أرض بعيدة، إلى أرض مضطرة إليها لسقيهم و سقي مواشيهم و حروثهم، أنهارا على وجه الأرض، و أنهارا في بطنها يستخرجونها بحفرها، حتى يصلوا إليها فيستخرجونها بما سخر اللّه لهم من الدوالي و الآلات و نحوها، و من رحمته أن جعل في الأرض سبلا أي: طرقا توصل إلى الديار المتنائية، لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ السبيل إليها حتى إنك تجد أرضا مشتبكة بالجبال، مسلسلة فيها، و قد جعل اللّه فيما بينها منافذ و مسالك للسالكين.
[17] لما ذكر تعالى ما خلقه من المخلوقات العظيمة، و ما أنعم به من النعم العميمة، ذكر أنه لا يشبهه أحد و لا كفء له، و لا ند له، فقال: أَ فَمَنْ يَخْلُقُ جميع المخلوقات، و هو الفعال لما يريد كَمَنْ لا يَخْلُقُ شيئا، لا قليلا، و لا كثيرا، أَ فَلا تَذَكَّرُونَ فتعرفون أن المنفرد بالخلق، أحق بالعبادة كلها، فكما أنه واحد في خلقه و تدبيره، فإنه
تيسير الكريم الرحمن، ص: 508
واحد في إلهيته و توحيده، و عبادته. و كما أنه ليس له مشارك، إذ أنشأكم و أنشأ غيركم، فلا تجعلوا له أندادا في عبادته، بل أخلصوا له الدين.
[18] وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ عددا مجردا عن الشكر لا تُحْصُوها فضلا عن كونكم تشكرونها، فإن نعمه الظاهرة و الباطنة على العباد، بعدد الأنفاس و اللحظات، من جميع أصناف النعم، مما يعرف العباد، و مما لا يعرفون، و ما يدفع عنهم من النقم، فأكثر من أن تحصى، إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ يرضى منكم باليسير من الشكر، مع إنعامه الكثير.
[19- 20] و كما أن رحمته واسعة، وجوده عميم، و مغفرته شاملة للعباد، فعلمه محيط بهم، يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَ ما تُعْلِنُونَ بخلاف من عبد من دونه، فإنهم لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً قليلا و لا كثيرا وَ هُمْ يُخْلَقُونَ ، فكيف يخلقون شيئا مع افتقارهم في إيجادهم إلى اللّه تعالى؟
[21] و مع هذا، ليس فيهم من أوصاف الكمال شيء، لا علم، و لا غيره، أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ فلا تسمع، و لا تبصر، و لا تعقل شيئا، أ فنتّخذ هذه آلهة من دون رب العالمين؟ فتبّا لعقول المشركين، ما أضلها، و أفسدها، حيث ضلت في أظهر الأشياء فسادا، و سووا بين الناقص من جميع الوجوه فلا أوصاف كمال، و لا شيء من الأفعال، و بين الكامل من جميع الوجوه الذي له كل صفة كمال، و له من تلك الصفة أكملها و أعظمها، فله العلم المحيط بكل الأشياء، و القدرة العامة، و الرحمة الواسعة، التي ملأت جميع العوالم، و الحمد و المجد و الكبرياء و العظمة، التي لا يقدر أحد من الخلق، أن يحيط ببعض أوصافه و لهذا قال:
[22] إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ و هو: اللّه الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد و لم يولد و لم يكن له كفوا أحد. فأهل الإيمان و العقول، أجلته قلوبهم و عظمته، و أحبته حبا عظيما، و صرفوا له كل ما استطاعوا من القربات البدنية و المالية، و أعمال القلوب و أعمال الجوارح، و أثنوا عليه بأسمائه الحسنى، و صفاته، و أفعاله المقدسة، فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ لهذا الأمر العظيم الذي لا ينكره إلا أعظم الخلق، جهلا و عنادا، و هو: توحيد اللّه وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ عن عبادته.
[23] لا جَرَمَ أي: حقا لا بد أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ من الأعمال القبيحة إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ بل يبغضهم أشد البغض، و سيجازيهم من جنس عملهم إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ .