کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تيسير الكريم الرحمن

سورة الفاتحة سورة آل عمران سورة المائدة سورة الأنعام تفسير سورة الأعراف تفسير سورة الأنفال تفسير سورة التوبة تفسير سورة يونس تفسير سورة هود تفسير سورة الرعد سورة إبراهيم تفسير سورة الحجر سورة النحل سورة الإسراء سورة الكهف تفسير سورة مريم سورة طه تفسير سورة الأنبياء تفسير سورة الحج تفسير سورة المؤمنون تفسير سورة النور تفسير سورة الفرقان تفسير سورة الشعراء تفسير سورة النمل تفسير سورة العنكبوت تفسير سورة الروم تفسير سورة لقمان تفسير سورة السجدة سورة الأحزاب سورة سبأ تفسير سورة فاطر تفسير سورة يس تفسير سورة الصافات تفسير سورة الزمر تفسير سورة فصلت سورة الشورى سورة الزخرف تفسير سورة الدخان سورة الجاثية سورة الأحقاف سورة محمد تفسير سورة الحجرات تفسير سورة ق سورة الطور تفسير سورة النجم سورة القمر سورة الرحمن سورة الواقعة تفسير سورة الحديد تفسير سورة المجادلة تفسير سورة الحشر تفسير سورة الممتحنة تفسير سورة الصف سورة الجمعة تفسير سورة المنافقون تفسير سورة التغابن تفسير سورة الطلاق تفسير سورة التحريم تفسير سورة الملك تفسير سورة القلم سورة الحاقة سورة المعارج سورة نوح سورة الجن تفسير سورة المزمل سورة المدثر تفسير سورة القيامة سورة الإنسان سورة المرسلات تفسير سورة النبأ سورة النازعات سورة عبس تفسير سورة التكوير سورة الإنفطار سورة المطففين تفسير سورة الإنشقاق سورة البروج سورة الطارق سورة الأعلى تفسير سورة الغاشية تفسير سورة الفجر تفسير سورة البلد سورة الشمس سورة الليل تفسير سورة الضحى سورة الشرح سورة التين تفسير سورة العلق سورة القدر تفسير سورة البينة تفسير سورة الزلزلة تفسير سورة العاديات تفسير سورة القارعة سورة التكاثر سورة العصر تفسير سورة الهمزة سورة الفيل تفسير سورة قريش سورة الماعون سورة الكوثر تفسير سورة الكافرون سورة النصر تفسير سورة المسد تفسير سورة الإخلاص سورة الفلق تفسير سورة الناس محتوى تفسير الإمام السعدي

تيسير الكريم الرحمن


صفحه قبل

تيسير الكريم الرحمن، ص: 502

وَ امْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ‏ كأن معهم دليلا يدلهم إلى أين يتوجهون.

[66- 75] أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ‏ أي:

سيصبحهم العذاب الذي يجتاحهم و يستأصلهم، وَ جاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ أي: المدينة التي فيها قوم لوط يَسْتَبْشِرُونَ‏ أي: يبشر بعضهم بعضا، بأضياف لوط، و صباحة وجوههم و اقتدارهم عليهم، و ذلك لقصدهم فعل الفاحشة فيهم، فجاؤوا حتى وصلوا إلى بيت لوط، فجعلوا يعالجون لوطا على أضيافه، و لوط يستعيذ منهم و يقول: إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ لا تُخْزُونِ‏ (69) أي: راقبوا اللّه أول ذلك، و إن كان ليس فيكم خوف من اللّه، فلا تفضحون في أضيافي، و تنتهكوا منهم حرمتهم بفعل الأمر الشنيع.

و قالُوا له جوابا عن قوله و لا تخزون فقط: أَ وَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ‏ أن تضيفهم، فنحن قد أنذرناك، و من أنذر فقد أعذر، قالَ‏ لهم لوط من شدة الأمر الذي أصابه: هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ‏ ، فلم يبالوا بقوله، و لهذا قال اللّه لرسوله محمد صلّى اللّه عليه و سلم: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ‏ (72) و هذه السكرة، هي سكرة محبة الفاحشة، التي لا يبالون معها بعذل و لا لوم. فلما بينت له الرسل حالهم، زال عن لوط ما كان يجده من الضيق و الكرب، فامتثل أمر ربه و سرى بأهله ليلا، فنجوا، و أما أهل القرية فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ‏ (73) أي: وقت شروق الشمس، حيث كانت العقوبة عليهم أشد، فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها أي: قلبنا عليهم مدينتهم، وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ‏ ، تتبع فيها من شذ من البلد. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ‏ (75) أي: المتأملين المتفكرين، الّذين لهم فكر و روية و فراسة، يفهمون بها ما أريد بذلك، من أن من تجرأ على معاصي اللّه، خصوصا هذه الفاحشة العظيمة، أن اللّه سيعاقبهم بأشنع العقوبات، كما تجرؤوا على أشنع السيئات.

[76- 77] وَ إِنَّها أي: مدينة قوم لوط لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ‏ للسالكين، يعرفه كل من تردد في تلك الديار إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ‏ (77)، و في هذه القصة من العبر: عنايته تعالى بخليله إبراهيم، فإن لوطا عليه السّلام، من أتباعه، و من آمن به فكأنه تلميذ له، فحين أراد اللّه إهلاك قوم لوط، حين استحقوا ذلك، أمر رسله أن يمروا على إبراهيم عليه السّلام، كي يبشروه بالولد، و يخبروه بما بعثوا له، حتى إنه جادلهم عليه السّلام في إهلاكهم، حتى أقنعوه، فطابت نفسه. و كذلك لوط عليه السّلام، لما كانوا أهل وطنه، فربما أخذته الرقة عليهم و الرأفة بهم، قدّر اللّه من الأسباب، ما به يشتد غيظه و حنقه عليهم، حتى استبطأ إهلاكهم لما قيل له: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَ لَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ‏ ، و منها: إن اللّه تعالى، إذا أراد أن يهلك قرية، زاد شرهم و طغيانهم، فإذا انتهى، أوقع بهم من العقوبات ما يستحقونه.

[78- 79] و هؤلاء قوم شعيب، نعتهم اللّه و أضافهم إلى الأيكة، و هو: البستان كثير الأشجار، ليذكروا نعمته عليهم، و أنهم ما قاموا بها، بل جاءهم نبيهم شعيب، فدعاهم إلى التوحيد، و ترك ظلم الناس في المكاييل و الموازين، و عالجهم على ذلك أشد المعالجة فاستمروا على ظلمهم في حق الخالق، و في حق الخلق، و لهذا، وصفهم هنا

تيسير الكريم الرحمن، ص: 503

بالظلم، فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ‏ فأخذهم عذاب يوم الظلة، إنه كان عذاب يوم عظيم. وَ إِنَّهُما أي: ديار قوم لوط، و أصحاب الأيكة لَبِإِمامٍ مُبِينٍ‏ أي: لبطريق واضح، يمر بهم المسافرون كل وقت، فيبين من آثارهم ما هو مشاهد بالأبصار، فيعتبر بذلك أولو الألباب.

[80] يخبر تعالى عن أهل الحجر، و هم قوم صالح، الّذين كانوا يسكنون الحجر المعروف في أرض الحجاز، أنهم كذبوا المرسلين، أي: كذبوا صالحا، و من كذب رسولا، فقد كذب سائر الرسل، لاتفاق دعوتهم، و ليس تكذيب بعضهم لشخصه، بل لما جاء به من الحقّ الذي اشترك جميع الرسل بالإتيان به.

[81] وَ آتَيْناهُمْ آياتِنا الدالة على صحة ما جاءهم به صالح من الحقّ، و من جملتها: تلك الناقة، هي من آيات اللّه العظيمة. فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ‏ كبرا و تجبرا على اللّه.

[82] وَ كانُوا - من كثرة إنعام اللّه عليهم- يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ‏ من المخاوف مطمئنين في ديارهم، فلو شكروا النعمة، و صدقوا نبيهم صالحا، عليه السّلام، لأدرّ اللّه عليهم الأرزاق، و لأكرمهم بأنواع من الثواب العاجل و الآجل، و لكنهم- لما كذبوا، و عقروا الناقة، و عتوا عن أمر ربهم، و قالوا: يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ‏ الصادقين.

[83] فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ‏ (83)، فتقطعت قلوبهم في أجوافهم، و أصبحوا في دارهم جاثمين هلكى، مع ما يتبع ذلك، من الخزي و اللعنة المستمرة.

[84] فَما أَغْنى‏ عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ‏ (84) لأن أمر اللّه إذا جاء، لا يرده كثرة جنود، و لا قوة أنصار، و لا غزارة أموال.

[85] وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما أي: ما خلقناهما عبثا باطلا، كما يظن أعداء اللّه، بل ما خلقناهما إِلَّا بِالْحَقِ‏ الذي منه، أن تكونا بما فيهما دالتين على كمال خالقهما، و اقتداره، و سعة رحمته، و حكمته، و علمه المحيط، و إنه الذي لا تنبغي العبادة إلا له، وحده لا شريك له، وَ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا ريب فيها، لأن خلق السموات و الأرض ابتداء، أكبر من خلق الناس مرة أخرى‏ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ‏ و هو الصفح، الذي لا أذية فيه، بل قابل إساءة المسي‏ء بالإحسان، و ذنبه بالغفران، لتنال من ربك، جزيل الأجر و الثواب، فإن كل ما هو آت فهو قريب، و قد ظهر لي معنى أحسن مما ذكرت هنا. و هو: أن المأمور به، هو الصفح الجميل، أي: الحسن الذي قد سلم من الحقد، و الأذية القولية و الفعلية، دون الصفح الذي ليس بجميل، و هو: الصفح في غير محله، فلا يصفح، حيث اقتضى المقام العقوبة، كعقوبة المعتدين الظالمين، الّذين لا ينفع فيهم إلا العقوبة، و هذا هو المعنى.

[86] إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ‏ لكل مخلوق‏ الْعَلِيمُ‏ بكل شي‏ء، فلا يعجزه أحد من جميع ما أحاط به علمه، و جرى عليه خلقه، و ذلك: سائر الموجودات.

[87] يقول تعالى ممتنّا على رسوله: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي‏ و هن- على الصحيح- السور السبع الطوال:

تيسير الكريم الرحمن، ص: 504

«البقرة» و «آل عمران» و «النساء» و «المائدة» و «الأنعام» و «الأعراف» و «الأنفال» مع «التوبة». أو أنها فاتحة الكتاب لأنها سبع آيات، فيكون عطف‏ وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ‏ على ذلك، من باب عطف العام على الخاص، لكثرة ما في المثاني من التوحيد، و علوم الغيب، و الأحكام الجليلة، و تثنيتها فيها. و على القول، بأن «الفاتحة» هي السبع المثاني، معناها:

أنها سبع آيات، تثنى في كل ركعة، و إذا كان اللّه قد أعطاه القرآن العظيم مع السبع المثاني، كان قد أعطاه أفضل ما يتنافس فيه المتنافسون، و أعظم ما فرح به المؤمنون، قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ‏ (58)، و لذلك قال بعده:

[88] لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى‏ ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ‏ أي: لا تعجب إعجابا يحملك على إشغال فكرك، بشهوات الدنيا، التي تمتع بها المترفون، و اغترّ بها الجاهلون، و استغن بما آتاك اللّه، من المثاني و القرآن العظيم، وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ‏ فإنهم لا خير فيهم يرجى، و لا نفع يرتقب. فلك في المؤمنين عنهم، أحسن البدل، و أفضل العوض، وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ‏ أي: ألن لهم جانبك، و حسّن لهم خلقك، محبة، و إكراما، و تودّدا.

[89] وَ قُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ‏ (89) أي: قم بما عليك من النذارة، و أداء الرسالة، و التبليغ للقريب و البعيد، و العدو، و الصديق، فإنك إذا فعلت ذلك فليس عليك من حسابهم من شي‏ء، و ما من حسابك عليهم من شي‏ء.

[90] و قوله: كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ‏ (90) أي: كما أنزلنا العقوبة على مدّعي بطلان ما جئت به، الساعين لصد الناس عن سبيل اللّه.

[91] الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ‏ (91) أي: أصنافا، و أعضاء، و أجزاء، يصرفونه بحسب ما يهوونه، فمنهم من يقول: سحر، و منهم من يقول: كهانة و منهم من يقول مفترى إلى غير ذلك من أقوال الكفرة المكذبين به، الّذين جعلوا قدحهم فيه، ليصدوا الناس عن الهدى.

[92- 93] فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ‏ (92) أي: جميع من قدح فيه و عابه، و حرّفه و بدّله‏ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ‏ (93)، و في هذا أعظم ترهيب، و زجر لهم عن الإقامة على ما كانوا يعملون.

[94- 95] ثمّ أمر اللّه رسوله أن لا يبالي بهم، و لا بغيرهم، و أن يصدع بما أمر اللّه، و يعلن بذلك لكل أحد و لا يعوّقنّه عن أمر عائق و لا تصدّه أقوال المتهوكين، وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ‏ أي لا تبال بهم، و اترك مشاتمتهم و مسابتهم، مقبلا على شأنك، إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ‏ (95) بك و بما جئت به، و هذا وعد من اللّه لرسوله، أن لا يضره المستهزءون، و أن يكفيه اللّه إياهم بما شاء من أنواع العقوبة.

[96- 97] و قد فعل تعالى، فإنه ما تظاهر أحد بالاستهزاء برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و بما جاء به، إلا أهلكه اللّه، و قتله شر قتلة، ثمّ ذكر وصفهم و أنهم كما يؤذونك يا رسول اللّه، فإنهم أيضا، يؤذون اللّه‏ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً

تيسير الكريم الرحمن، ص: 505

آخَرَ و هو ربهم و خالقهم، و منه برهم‏ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ‏ غبّ أفعالهم إذا وردوا القيامة. وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ‏ (97) لك من التكذيب و الاستهزاء. فنحن قادرون على استئصالهم بالعذاب، و التعجيل لهم بما يستحقونه، و لكن اللّه يمهلهم و لا يهملهم.

[98] (ف) أنت يا محمد سبح‏ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ كُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ‏ (98) أي: أكثر من ذكر اللّه، و تسبيحه، و تحميده، و الصلاة، فإن ذلك يوسع الصدر، و يشرحه، و يعينك على أمورك.

[99] وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ‏ (99) أي:

الموت، أي: استمر في جميع الأوقات على التقرب إلى اللّه بأنواع العبادات، فامتثل صلّى اللّه عليه و سلّم أمر ربه، فلم يزل دائبا في العبادة، حتى أتاه اليقين من ربه صلّى اللّه عليه و سلّم، تسليما كثيرا.

سورة النحل‏

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

[1] يقول تعالى- مقربا لما وعد به محققا لوقوعه-: أَتى‏ أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ‏ ، فإنه آت، و ما هو آت فإنه قريب، سُبْحانَهُ وَ تَعالى‏ عَمَّا يُشْرِكُونَ‏ من نسبة الشريك، و الولد و الصاحبة، و الكف‏ء، و غير ذلك، مما نسبه إليه المشركون، مما لا يليق بجلاله، أو ينافي كماله، و لما نزه نفسه عما وصفه به أعداؤه، ذكر الوحي الذي ينزله على أنبيائه، مما يجب اتباعه، في ذكر ما ينسب للّه، من صفات الكمال فقال:

[2] يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ‏ أي: بالوحي الذي به حياة الأرواح‏ عَلى‏ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ‏ ممن يعلمه صالحا، لتحمل رسالته. و زبدة دعوة الرسل كلهم و مدارها، على قوله: أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا ، أي: على معرفة اللّه تعالى و توحده، في صفات العظمة، التي هي صفات الألوهية، و عبادته وحده لا شريك له، فهي التي أنزل بها كتبه، و أرسل بها رسله، و جعل الشرائع كلها تدعو إليها، و تحث و تجاهد من حاربها، و قام بضدها، ثم ذكر الأدلة و البراهين على ذلك.

[3- 4] فقال: خَلَقَ السَّماواتِ‏ إلى‏ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ‏ ، هذه السورة، تسمى سورة النعم، فإن اللّه ذكر في أولها، أصول النعم و قواعدها، و في آخرها، متمماتها و مكملاتها، فأخبر أنه خلق السموات و الأرض بالحق، ليستدل بهما العباد على عظمة خالقهما، و ما له من نعوت الكمال، و يعلموا أنه خلقهما سكنا لعباده الذين يعبدونه، بما يأمرهم به، في الشرائع التي أنزلها على ألسنة رسله، و لهذا نزه نفسه عن شرك المشركين به فقال: تَعالى‏ عَمَّا يُشْرِكُونَ‏ أي: تنزه و تعاظم عن شركهم، فإنه الإله حقا، الذي لا تنبغي العبادة، و الحب، و الذل، إلا له تعالى.

[4- 5] و لما ذكر خلق السموات و الأرض، ذكر خلق ما فيهما. و بدأ بأشرف ذلك و هو الإنسان فقال:

خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ لم يزل يدبرها، و يربيها، و ينميها، حتى صارت بشرا تاما، كامل الأعضاء الظاهرة

تيسير الكريم الرحمن، ص: 506

و الباطنة، قد غمره بنعمه الغزيرة، حتى إذا استتم، فخر بنفسه و أعجب بها فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ‏ ، يحتمل أن المراد: فإذا هو خصيم لربه، يكفر به، و يجادل رسله، و يكذب بآياته. و نسي خلقه الأول، و ما أنعم اللّه عليه به، من النعم، فاستعان بها على معاصيه، و يحتمل أن المعنى: أن اللّه أنشأ الآدمي من نطفة، ثم لم يزل ينقله من طور إلى طور، حتى صار عاقلا متكلما، ذا ذهن و رأي، يخاصم و يجادل، فليشكر العبد ربه الذي أوصله إلى هذه الحال، التي ليس في إمكانه القدرة على شي‏ء منها. وَ الْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ‏ أي: لأجلكم، و لأجل منافعكم و مصالحكم، و من جملة منافعها العظيمة لَكُمْ فِيها دِفْ‏ءٌ مما تتخذون من أصوافها و أوبارها، و أشعارها، و جلودها، من الثياب، و الفرش، و البيوت. وَ لكم فيها مَنافِعُ‏ غير ذلك‏ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ‏ .

[6- 7] وَ لَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَ حِينَ تَسْرَحُونَ‏ (6) أي: في وقت رواحها و سكونها، و وقت حركتها و سرحها، و ذلك أن جمالها، لا يعود إليها منه شي‏ء، فإنكم أنتم الذين تتجملون بها، بثيابكم، و أولادكم، و أموالكم، و تعجبون بذلك، وَ تَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ‏ من الأحمال الثقيلة، بل و تحملكم أنتم‏ إِلى‏ بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ‏ و لكن اللّه ذللها لكم. فمنها ما تركبونه، و منها ما تحملون عليه ما تشاؤون، من الأثقال، إلى البلدان البعيدة، و الأقطار الشاسعة، إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ‏ إنه سخر لكم ما تضطرون إليه و تحتاجونه، فله الحمد، كما ينبغي لجلال وجهه، و عظيم سلطانه، و سعة جوده و بره.

[8] وَ الْخَيْلَ وَ الْبِغالَ وَ الْحَمِيرَ سخرناها لكم‏ لِتَرْكَبُوها وَ زِينَةً ، أي: تارة تستعملونها للضرورة في الركوب، و تارة لأجل الجمال و الزينة، و لم يذكر الأكل، لأن البغال و الحمير، محرم أكلها، و الخيل لا تستعمل- في الغالب- للأكل، بل ينهى عن ذبحها لأجل الأكل، خوفا من انقطاعها، و إلا فقد ثبت في الصحيحين، أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، أذن في لحوم الخيل. وَ يَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ‏ مما يكون بعد نزول القرآن من الأشياء، التي يركبها الخلق في البر، و البحر، و الجو، و يستعملونها في منافعهم و مصالحهم فإنه لم يذكرها بأعيانها، لأن اللّه تعالى لم يذكر في كتابه، إلا ما يعرفه العباد، أو يعرفون نظيره. و أما ما ليس له نظير في زمانهم، فإنه لو ذكر لم يعرفوه، و لم يفهموا المراد به. فيذكر أصلا جامعا، يدخل فيه ما يعلمون، و ما لا يعلمون. كما ذكر نعيم الجنة، و سمى منه ما نعلم و نشاهد نظيره، كالنخل و الأعناب و الرمان، و أجمل ما لا نعرف له نظيرا في قوله: فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ‏ (52). فكذلك هنا، ذكر ما نعرفه، من المراكب، كالخيل، و البغال، و الحمير، و الإبل، و السفن، و أجمل الباقي في قوله: وَ يَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ‏ . و لما ذكر تعالى، الطريق الحسنى، و أن اللّه قد جعل للعباد ما يقطعونه به من الإبل و غيرها، ذكر الطريق المعنوي الموصل إليه فقال:

[9] وَ عَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ‏ أي: الصراط المستقيم، الذي هو أقرب الطرق و أخصرها، موصل إلى اللّه، و إلى كرامته. و أما الطريق الجائر في عقائده و أعماله، و هو: كل ما خالف الصراط المستقيم، فهو قاطع عن اللّه، موصل إلى دار الشقاء، فسلك المهتدون الصراط المستقيم بإذن ربهم، و ضل الغاوون عنه، و سلكوا الطرق الجائرة، وَ لَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ‏ و لكنه هدى بعضا، كرما و فضلا، و لم يهد آخرين، حكمة منه و عدلا.

[10- 11] ينبه اللّه تعالى بهذه الآية الإنسان على عظمة قدرته و حثهم على التفكير حيث ختمها بقوله: لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ‏ على كمال قدرة اللّه، الذي أنزل هذا الماء من السحاب الرقيق اللطيف، و رحمته، حيث جعل فيه ماء غزيرا منه يشربون، و تشرب مواشيهم، و يسقون منه حروثهم، فتخرج لهم الثمرات الكثيرة، و النعم الغزيرة.

[12] أي: سخر لكم هذه الأشياء لمنافعكم، و أنواع مصالحكم، بحيث لا تستغنون عنها أبدا، فبالليل تسكنون و تنامون، و تستريحون، و بالنهار تنتشرون في معايشكم و منافع دينكم و دنياكم، و بالشمس و القمر، من الضياء،

تيسير الكريم الرحمن، ص: 507

و النور، و الإشراق، و إصلاح الأشجار و الثمار، و النبات، و تجفيف الرطوبات، و إزالة البرودة الضارة للأرض، و للأبدان، و غير ذلك من الضروريات و الحاجيات، التابعة لوجود الشمس و القمر. و فيهما، و في النجوم، من الزينة للسماء و الهداية، في ظلمات البر و البحر، و معرفة الأوقات، و حساب الأزمنة، ما تتنوع دلالاتها، و تتصرف آياتها، و لهذا جمعها في قوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏ أي: لمن لهم عقول يستعملونها في التدبر و التفكر، فيما هي مهيأة له، مستعدة، تعقل ما تراه، و تسمعه، لا كنظر الغافلين الذين حظهم من النظرة، حظ البهائم، التي لا عقل لها.

[13] أي: فيما ذرأ اللّه و نشر للعباد، من كل ما على وجه الأرض، من حيوان، و أشجار، و نبات، و غير ذلك، مما تختلف ألوانه، و تختلف منافعه آية على كمال قدرة اللّه، و عميم إحسانه، و سعة بره، و أنه الذي لا تنبغي العبادة إلا له، وحده لا شريك له، لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ‏ أي:

يستحضرون في ذاكرتهم، ما ينفعهم من العلم النافع، و يتأملون ما دعاهم اللّه إلى التأمل فيه، حتى يتذكروا بذلك ما هو دليل عليه.

[14] أي: هو وحده لا شريك له‏ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ و هيأه لمنافعكم المتنوعة، لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا هو، السمك، و الحوت، الذي تصطادونه منه، وَ تَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها فتزيدكم جمالا و حسنا إلى حسنكم، وَ تَرَى الْفُلْكَ‏ أي: السفن و المراكب‏ مَواخِرَ فِيهِ‏ أي: تمخر في البحر العجاج الهائل، بمقدمها، حتى تسلك فيه من قطر إلى آخر، تحمل المسافرين و أرزاقهم، و أمتعتهم، و تجاراتهم، التي يطلبون بها الأرزاق و فضل اللّه عليهم. وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏ الذي يسر لكم هذه الأشياء و هيأها، و تثنون على اللّه الذي من بها، فلله تعالى الحمد و الشكر، و الثناء، حيث أعطى العباد من مصالحهم و منافعهم، فوق ما يطلبون، و أعلى ما يتمنون، و آتاهم من كل ما سألوه، لا نحصي ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه.

[15- 16] أي: وَ أَلْقى‏ اللّه تعالى لأجل عباده‏ فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ‏ و هي: الجبال العظام لئلا تميد بهم و تضطرب بالخلق، فيتمكنون من حرث الأرض و البناء، و السير عليها، و من رحمته تعالى أن جعل فيها أنهارا، يسوقها من أرض بعيدة، إلى أرض مضطرة إليها لسقيهم و سقي مواشيهم و حروثهم، أنهارا على وجه الأرض، و أنهارا في بطنها يستخرجونها بحفرها، حتى يصلوا إليها فيستخرجونها بما سخر اللّه لهم من الدوالي و الآلات و نحوها، و من رحمته أن جعل في الأرض سبلا أي: طرقا توصل إلى الديار المتنائية، لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ‏ السبيل إليها حتى إنك تجد أرضا مشتبكة بالجبال، مسلسلة فيها، و قد جعل اللّه فيما بينها منافذ و مسالك للسالكين.

[17] لما ذكر تعالى ما خلقه من المخلوقات العظيمة، و ما أنعم به من النعم العميمة، ذكر أنه لا يشبهه أحد و لا كف‏ء له، و لا ند له، فقال: أَ فَمَنْ يَخْلُقُ‏ جميع المخلوقات، و هو الفعال لما يريد كَمَنْ لا يَخْلُقُ‏ شيئا، لا قليلا، و لا كثيرا، أَ فَلا تَذَكَّرُونَ‏ فتعرفون أن المنفرد بالخلق، أحق بالعبادة كلها، فكما أنه واحد في خلقه و تدبيره، فإنه‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 508

واحد في إلهيته و توحيده، و عبادته. و كما أنه ليس له مشارك، إذ أنشأكم و أنشأ غيركم، فلا تجعلوا له أندادا في عبادته، بل أخلصوا له الدين.

[18] وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ‏ عددا مجردا عن الشكر لا تُحْصُوها فضلا عن كونكم تشكرونها، فإن نعمه الظاهرة و الباطنة على العباد، بعدد الأنفاس و اللحظات، من جميع أصناف النعم، مما يعرف العباد، و مما لا يعرفون، و ما يدفع عنهم من النقم، فأكثر من أن تحصى، إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ‏ يرضى منكم باليسير من الشكر، مع إنعامه الكثير.

[19- 20] و كما أن رحمته واسعة، وجوده عميم، و مغفرته شاملة للعباد، فعلمه محيط بهم، يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَ ما تُعْلِنُونَ‏ بخلاف من عبد من دونه، فإنهم‏ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً قليلا و لا كثيرا وَ هُمْ يُخْلَقُونَ‏ ، فكيف يخلقون شيئا مع افتقارهم في إيجادهم إلى اللّه تعالى؟

[21] و مع هذا، ليس فيهم من أوصاف الكمال شي‏ء، لا علم، و لا غيره، أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ فلا تسمع، و لا تبصر، و لا تعقل شيئا، أ فنتّخذ هذه آلهة من دون رب العالمين؟ فتبّا لعقول المشركين، ما أضلها، و أفسدها، حيث ضلت في أظهر الأشياء فسادا، و سووا بين الناقص من جميع الوجوه فلا أوصاف كمال، و لا شي‏ء من الأفعال، و بين الكامل من جميع الوجوه الذي له كل صفة كمال، و له من تلك الصفة أكملها و أعظمها، فله العلم المحيط بكل الأشياء، و القدرة العامة، و الرحمة الواسعة، التي ملأت جميع العوالم، و الحمد و المجد و الكبرياء و العظمة، التي لا يقدر أحد من الخلق، أن يحيط ببعض أوصافه و لهذا قال:

[22] إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ و هو: اللّه الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد و لم يولد و لم يكن له كفوا أحد. فأهل الإيمان و العقول، أجلته قلوبهم و عظمته، و أحبته حبا عظيما، و صرفوا له كل ما استطاعوا من القربات البدنية و المالية، و أعمال القلوب و أعمال الجوارح، و أثنوا عليه بأسمائه الحسنى، و صفاته، و أفعاله المقدسة، فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ لهذا الأمر العظيم الذي لا ينكره إلا أعظم الخلق، جهلا و عنادا، و هو: توحيد اللّه‏ وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ‏ عن عبادته.

[23] لا جَرَمَ‏ أي: حقا لا بد أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ‏ من الأعمال القبيحة إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ‏ بل يبغضهم أشد البغض، و سيجازيهم من جنس عملهم‏ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ‏ .

صفحه بعد