کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تيسير الكريم الرحمن

سورة الفاتحة سورة آل عمران سورة المائدة سورة الأنعام تفسير سورة الأعراف تفسير سورة الأنفال تفسير سورة التوبة تفسير سورة يونس تفسير سورة هود تفسير سورة الرعد سورة إبراهيم تفسير سورة الحجر سورة النحل سورة الإسراء سورة الكهف تفسير سورة مريم سورة طه تفسير سورة الأنبياء تفسير سورة الحج تفسير سورة المؤمنون تفسير سورة النور تفسير سورة الفرقان تفسير سورة الشعراء تفسير سورة النمل تفسير سورة العنكبوت تفسير سورة الروم تفسير سورة لقمان تفسير سورة السجدة سورة الأحزاب سورة سبأ تفسير سورة فاطر تفسير سورة يس تفسير سورة الصافات تفسير سورة الزمر تفسير سورة فصلت سورة الشورى سورة الزخرف تفسير سورة الدخان سورة الجاثية سورة الأحقاف سورة محمد تفسير سورة الحجرات تفسير سورة ق سورة الطور تفسير سورة النجم سورة القمر سورة الرحمن سورة الواقعة تفسير سورة الحديد تفسير سورة المجادلة تفسير سورة الحشر تفسير سورة الممتحنة تفسير سورة الصف سورة الجمعة تفسير سورة المنافقون تفسير سورة التغابن تفسير سورة الطلاق تفسير سورة التحريم تفسير سورة الملك تفسير سورة القلم سورة الحاقة سورة المعارج سورة نوح سورة الجن تفسير سورة المزمل سورة المدثر تفسير سورة القيامة سورة الإنسان سورة المرسلات تفسير سورة النبأ سورة النازعات سورة عبس تفسير سورة التكوير سورة الإنفطار سورة المطففين تفسير سورة الإنشقاق سورة البروج سورة الطارق سورة الأعلى تفسير سورة الغاشية تفسير سورة الفجر تفسير سورة البلد سورة الشمس سورة الليل تفسير سورة الضحى سورة الشرح سورة التين تفسير سورة العلق سورة القدر تفسير سورة البينة تفسير سورة الزلزلة تفسير سورة العاديات تفسير سورة القارعة سورة التكاثر سورة العصر تفسير سورة الهمزة سورة الفيل تفسير سورة قريش سورة الماعون سورة الكوثر تفسير سورة الكافرون سورة النصر تفسير سورة المسد تفسير سورة الإخلاص سورة الفلق تفسير سورة الناس محتوى تفسير الإمام السعدي

تيسير الكريم الرحمن


صفحه قبل

تيسير الكريم الرحمن، ص: 604

إن كان عنده سؤال، و لا يبادر بالسؤال، و قطع كلام ملقي العلم فإنه سبب للحرمان، و كذلك المسئول، ينبغي له أن يستملي سؤال السائل، و يعرف المقصود فيه قبل الجواب، فإن ذلك سبب لإصابة الصواب.

[115] أي: و لقد وصّينا آدم، و أمرناه، و عهدنا إليه عهدا ليقوم به، فالتزمه، و أذعن له، و انقاد، و عزم على القيام به و مع ذلك، نسي ما أمر به، و انتقضت عزيمته المحكمة، فجرى عليه ما جرى، فصار عبرة لذريته، و صارت طبائعهم مثل طبيعة آدم، نسي فنسيت ذريته، و خطى‏ء فخطئوا، و لم يثبت على العزم المؤكد، و هم كذلك، و بادر بالتوبة من خطيئته، و أقرّ بها و اعترف، فغفرت له، و من يشابه أباه فما ظلم.

[116- 117] ثمّ ذكر تفصيل ما أجمله فقال: وَ إِذْ قُلْنا إلى‏ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى‏ . أي: لما أكمل خلق آدم بيده، و علمه الأسماء، و فضله، و كرمه، أمر الملائكة بالسجود له، إكراما، و تعظيما، و إجلالا، فبادروا بالسجود ممتثلين، و كان بينهم إبليس، فاستكبر عن أمر ربه، و امتنع من السجود لآدم و قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ* فتبينت حينئذ، عداوته البليغة لآدم و زوجه، لما كان عدو اللّه، و ظهر من حسده، ما كان سبب العداوة، فحذر اللّه آدم و زوجه منه، و قال: فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى‏ إذا أخرجت منها، فإن لك فيها الرزق الهني و الراحة التامة.

[118- 122] إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَ لا تَعْرى‏ (118) وَ أَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَ لا تَضْحى‏ (119) أي: تصيبك الشمس بحرها، فضمن له، استمرار الطعام و الشراب، و الكسوة، و الماء، و عدم التعب و النصب. و لكنه نهاه عن أكل شجرة معينة فقال: وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ* ، فلم يزل الشيطان يوسوس لهما، و يزين أكل الشجرة، و يقول: هَلْ أَدُلُّكَ عَلى‏ شَجَرَةِ الْخُلْدِ أي: التي من أكل منها خلّد في الجنة. وَ مُلْكٍ لا يَبْلى‏ أي: لا ينقطع، إذا أكلت منها، فأتاه بصورة ناصح، و تلطف له في الكلام، فاغتر به آدم، فأكلا من الشجرة فسقط في أيديهما، و سقطت كسوتهما، و اتضحت معصيتهما، و بدا لكل منهما سوأة الآخر، بعد أن كانا مستورين، و جعلا يخصفان على أنفسهما من ورق أشجار الجنة، ليستترا بذلك، و أصابهما من الخجل، ما اللّه به عليم. وَ عَصى‏ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى‏ فبادرا إلى التوبة و الإنابة، و قالا: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ‏ ، فاجتباه ربه، و اختاره، و يسر له التوبة فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى‏ فكان بعد التوبة، أحسن منه قبلها، و رجع كيد العدو عليه، و بطل مكره، فتمت النعمة عليه، و على ذريته، و وجب عليهم القيام بها، و الاعتراف، و أن يكونوا على حذر من هذا العدو المرابط الملازم لهم، ليلا و نهارا يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ أي: ينزع عنهما لباسهما، ليريهما سوءاتهما، إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ‏ .

[123] يخبر تعالى، أنه أمر آدم و إبليس أن يهبطا إلى الأرض، و أن يتخذ آدم و بنوه الشيطان عدوا لهم، فيأخذوا الحذر منه، و يعدّوا له عدّته و يحاربوه، و أنه سينزل عليهم كتبا، و يرسل إليهم رسلا يبينون لهم الطريق المستقيم‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 605

الموصلة إليه و إلى جنته، و يحذرونهم من هذا العدو المبين، و أنهم أي وقت جاءهم ذلك الهدى، الذي هو: الكتب و الرسل، فإن من اتبعه، اتبع ما أمر به، و اجتنب ما نهى عنه، فإنه لا يضل في الدنيا، و لا في الآخرة، و لا يشقى فيهما، بل قد هدي إلى صراط مستقيم، في الدنيا و الآخرة، و له السعادة و الأمن في الآخرة. و قد نفى عنه الخوف و الحزن في آية أخرى بقوله: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ‏ . و اتباع الهدى، بتصديق الخبر، و عدم معارضته بالشبه، و امتثال الأمر بأن لا يعارضه بشهوة.

[124] وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي‏ أي: كتابي الذي يتذكر به جميع المطالب العالية، و أن يتركه على وجه الإعراض عنه، أو ما هو أعظم من ذلك، بأن يكون على وجه الإنكار له، و الكفر به‏ فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً أي:

فإن جزاءه، أن نجعل معيشته ضيقة مشقة، و لا يكون ذلك إلا عذابا. و فسرت المعيشة الضنك، بعذاب القبر، و أنه يضيق عليه قبره، و يحصر فيه، و يعذب، جزاء لإعراضه عن ذكر ربه، و هذه إحدى الآيات الدالة على عذاب القبر.

و الثانية قوله تعالى: وَ لَوْ تَرى‏ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَ الْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ‏ الآية. و الثالثة قوله: وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى‏ دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ . و الرابعة قوله عن آل فرعون‏ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا الآية.

و الذي أوجب لمن فسرها بعذاب القبر فقط من السلف، و قصرها على ذلك- و اللّه أعلم- آخر الآية، و أن اللّه ذكر في آخرها عذاب يوم القيامة. و بعض المفسرين، يرى أن المعيشة الضنك، عامة في دار الدنيا، بما يصيب المعرض عن ذكر ربه، من الهموم، و الغموم، و الآلام، التي هي عذاب معجل، و في دار البرزخ، و في الدار الآخرة، لإطلاق المعيشة الضنك، و عدم تقييدها. وَ نَحْشُرُهُ‏ أي: هذا المعرض عن ذكر ربه‏ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى‏ البصر على الصحيح، كما قال تعالى: وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى‏ وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَ بُكْماً وَ صُمًّا .

[125] قال على وجه الذل، و المراجعة، و التألم، و الضجر من هذه الحالة رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى‏ وَ قَدْ كُنْتُ‏ في دار الدنيا بَصِيراً فما الذي صيرني إلى هذه الحالة البشعة.

[126] قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها بإعراضك عنها وَ كَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى‏ أي: تترك في العذاب. فأجيب، بأن هذا هو عين عملك، و الجزاء، من جنس العمل، فكما عميت عن ذكر ربك، و غشيت عنه، و نسيته، و نسيت حظك منه، أعمى اللّه بصرك في الآخرة، فحشرت إلى النار أعمى، أصم، أبكم، و أعرض عنك، و نسيك في العذاب.

[127] وَ كَذلِكَ‏ أي: هذا الجزاء نَجْزِي‏ ه‏ مَنْ أَسْرَفَ‏ بأن تعدى الحدود، و ارتكب المحارم و جاوز ما أذن له‏ وَ لَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ‏ الدالة على جميع مطالب الإيمان دلالة واضحة صريحة، فاللّه لم يظلمه و لم يضع العقوبة في غير محلها و إنّما السبب إسرافه و عدم إيمانه. وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ من عذاب الدنيا أضعافا مضاعفة وَ أَبْقى‏ ، لكونه لا ينقطع، بخلاف عذاب الدنيا فإنه منقطع، فالواجب، الخوف و الحذر من عذاب الآخرة.

[128] أي: أ فلم يهد لهؤلاء المكذبين المعرضين، و يدلهم على سلوك طريق الرشاد، و تجنب طريق الغي و الفساد، ما أحل اللّه بالمكذبين قبلهم، من القرون الخالية، و الأمم المتتابعة، الّذين يعرفون قصصهم، و يتناقلون أسمارهم، و ينظرون بأعينهم، مساكنهم من بعدهم، كقوم هود، و صالح، و لوط و غيرهم، و أنهم لما كذبوا رسلنا، و أعرضوا عن كتبنا، أصبناهم بالعذاب الأليم؟ فما الذي يؤمن هؤلاء، أن يحل بهم، ما حل بأولئك؟ أَ كُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44)، لا شي‏ء من هذا كله فليس هؤلاء الكفار، خيرا من أولئك، حتى يدفع عنهم العذاب بخيرهم، بل هم شر منهم، لأنهم كفروا بأشرف الرسل، و خير الكتب، و ليس لهم براءة مزبورة، و عهد عند اللّه، و ليسوا كما يقولون، أن جمعهم ينفعهم، و يدفع عنهم، بل هم أذل و أحقر من ذلك. فإهلاك القرون الماضية بذنوبهم، من أسباب الهداية، لكونها من الآيات الدالة على صحة رسالة الرسل،

تيسير الكريم الرحمن، ص: 606

الّذين جاؤوهم، و بطلان ما هم عليه، و لكن ما كل أحد ينتفع بالآيات، إنّما ينتفع بها، أولو النهى، أي: العقول السليمة، و الفطر المستقيمة، و الألباب التي تزجر أصحابها عما لا ينبغي.

[129] هذه تسلية للرسول، و تصبير له عن المبادرة إلى إهلاك المكذبين، المعرضين، و أن كفرهم و تكذيبهم، سبب صالح، لحلول العذاب بهم، و لزومه لهم، لأن اللّه جعل العقوبات، سببا ناشئا عن الذنوب، ملازما لها. و هؤلاء قد أتوا بالسبب، و لكن الذي أخره عنهم، كلمة ربك، المتضمنة لإمهالهم و تأخيرهم، و ضرب الأجل المسمى، فالأجل المسمى و نفوذ كلمة اللّه، هو الذي أخر عنهم العقوبة إلى إبان وقتها، و لعلهم يراجعون أمر اللّه، فيتوب عليهم، و يرفع عنهم العقوبة، إذا لم تحق عليهم الكلمة.

[130] و لهذا أمر اللّه رسوله، بالصبر على أذيتهم بالقول، و أمره أن يتعوض عن ذلك، و يستعين عليه، بالتسبيح بحمد ربه، في هذه الأوقات الفاضلة، قبل طلوع الشمس، و قبل غروبها، و في أطراف النهار، أوله و آخره، عموم بعد خصوص، و أوقات الليل و ساعاته، و لعلك إن فعلت ذلك، ترضى بما يعطيك ربك من الثواب العاجل و الآجل، و ليطمئن قلبك، و تقر عينك بعبادة ربك، و تتسلى بها عن أذيتهم، فيخف حينئذ عليك الصبر.

[131] أي: و لا تمد عينيك معجبا، و لا تكرر النظر مستحسنا- إلى أحوال الدنيا و الممتعين بها، من المآكل و المشارب اللذيذة، و الملابس الفاخرة، و البيوت المزخرفة، و النساء المجملة. فإن ذلك كله، زهرة الحياة الدنيا، تبتهج بها نفوس المغترين، و تأخذ إعجابا، بأبصار المعرضين، و يتمتع بها- بقطع النظر عن الآخرة- القوم الظالمون.

ثمّ تذهب سريعا، و تمضي جميعا، و تقتل محبيها و عشاقها، فيندمون حيث لا تنفع الندامة، و يعلمون ما هم عليه إذا قدموا يوم القيامة، و إنّما جعلها اللّه فتنة و اختبارا، ليعلم من يقف عندها، و يغتر بها، و من هو أحسن عملا كما قال تعالى: إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَ إِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8). وَ رِزْقُ رَبِّكَ‏ العاجل من العلم و الإيمان، و حقائق الأعمال الصالحة، و الآجل من النعيم المقيم، و العيش السليم في جوار الرب الرحيم‏ خَيْرٌ مما متعنا به أزواجا، في ذاته و صفاته‏ وَ أَبْقى‏ لكونه لا ينقطع أكلها دائم و ظلها كما قال تعالى:

بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ وَ أَبْقى‏ (17). و في هذه الآية، إشارة إلى أن العبد إذا رأى من نفسه، طموحا إلى زينة الدنيا، و إقبالا عليها، أن يذكر ما أمامها من رزق ربه، و أن يوازن بين هذا و هذا.

[132] وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ أي: حث أهلك على الصلاة و أزعجهم إليها من فرض و نفل. و الأمر بالشي‏ء، أمر بجميع ما لا يتم إلا به، فيكون أمرا بتعليمهم، ما يصلح الصلاة، و يفسدها، و يكملها. وَ اصْطَبِرْ عَلَيْها أي:

على الصلاة بإقامتها، بحدودها، و أركانها، و خشوعها، فإن ذلك، مشق على النفس، و لكن ينبغي إكراهها و جهادها على ذلك، و الصبر معها دائما، فإن العبد إذا أقام صلاته على الوجه المأمور به، كان لما سواها من دينه، أحفظ و أقوم، و إذا ضيعها، كان لما سواها أضيع، ثمّ ضمن تعالى لرسوله الرزق، و أن لا يشغله الاهتمام به عن إقامة دينه‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 607

فقال: نَحْنُ نَرْزُقُكَ‏ أي: رزقك علينا، قد تكفلنا به، كما تكفلنا بأرزاق الخلائق، كلهم، فكيف بمن قام بأمرنا، و اشتغل بذكرنا؟ و رزق اللّه عام للمتقي و غيره. فينبغي الاهتمام، بما يجلب السعادة الأبدية، و هو: التقوى، و لهذا قال: وَ الْعاقِبَةُ في الدنيا و الآخرة لِلتَّقْوى‏ التي هي فعل المأمور و ترك المنهي. فمن قام بها، كان له العاقبة، كما قال تعالى: وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ* .

[133- 134] أي: قال المكذبون للرسول صلّى اللّه عليه و سلم: هلا يأتينا بآية من ربه؟ يعنون آيات الاقتراح كقولهم: وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ قَبِيلًا . و هذا تعنت منهم، و عناد و ظلم، فإنهم، هم و الرسول، بشر عبيد للّه، فلا يليق منهم الاقتراح، بحسب أهوائهم، و إنّما الذي ينزلها، و يختار منها ما يختار بحسب حكمته، هو اللّه. و لما كان قولهم: لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ‏ يقتضي أنه لم يأتهم بآية على صدقه، و لا بينة على حقه، و هذا كذب و افتراء، فإنه أتى من المعجزات الباهرات، و الآيات القاهرات، ما يحصل ببعضه، المقصود. و لهذا قال: أَ وَ لَمْ تَأْتِهِمْ‏ إن كانوا صادقين في قولهم، و أنهم يطلبون الحق بدليله. بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى‏ أي: هذا القرآن العظيم، المصدق لما في الصحف الأولى، من التوراة و الإنجيل، و الكتب السابقة المطابق لها، المخبر بما أخبرت به، و تصديقه أيضا مذكور فيها، و مبشر بالرسول بها، و هذا كقوله تعالى:

أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى‏ عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَ ذِكْرى‏ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏ ، فالآيات تنفع المؤمنين، و يزداد بها إيمانهم و إيقانهم، و أما المعرضون عنها المعارضون لها، فلا يؤمنون بها، و لا ينتفعون بها، إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَ لَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ‏ (97)، و إنّما الفائدة في سوقها إليهم و مخاطبتهم بها، لتقوم عليهم حجة اللّه، و لئلا يقولوا حين ينزل بهم العذاب: لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَ نَخْزى‏ بالعقوبة، فها قد جاءكم رسولي و معه آياتي و براهيني، فإن كنتم كما تقولون، فصدقوه.

[135] قل يا محمد مخاطبا للمكذبين لك الّذين يقولون تربصوا به ريب المنون‏ قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ‏ فتربصوا بي الموت، و أنا أتربص بكم العذاب‏ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ‏ أي: الظفر أو الشهادة وَ نَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا . فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِ‏ أي المستقيم.

وَ مَنِ اهْتَدى‏ بسلوكه، أنا أم أنتم؟ فإن صاحبه، هو الفائز الراشد، الناجي المفلح، و من حاد عنه فهو خاسر خائب معذب. و قد علم أن الرسول هو الذي بهذه الحالة، و أعداؤه، بخلافه، و اللّه أعلم. تم تفسير سورة طه و للّه الحمد.

تفسير سورة الأنبياء

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

[1] هذا تعجب من حالة الناس، و أنهم لا ينجع فيهم تذكير، و لا يرعون إلى نذير، و أنهم قد قرب حسابهم، و مجازاتهم على أعمالهم الصالحة، و الحال أنهم في غفلة معرضون أي: غفلة عما خلقوا له، و إعراض عما زجروا به.

كأنهم للدنيا خلقوا، و للتمتع بها ولدوا، و أن اللّه تعالى لا يزال يجدد لهم التذكير و الوعظ، و لا يزالون في غفلتهم‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 608

و إعراضهم.

[2] و لهذا قال: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ‏ يذكرهم ما ينفعهم، و يحثهم عليه و ما يضرهم، و يرهبهم منه‏ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ‏ سماعا، تقوم عليهم به الحجة.

وَ هُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ‏ ، أي: قلوبهم غافلة معرضة بمطالبها الدنيوية و أبدانهم لاعبة، قد اشتغلوا بتناول الشهوات، و العمل بالباطل، و الأقوال الردية، مع أن الذي ينبغي لهم أن يكونوا بغير هذه الصفة، تقبل قلوبهم على أمر اللّه و نهيه، و تستمعه استماعا، تفقه المراد منه، و تسعى جوارحهم، في عبادة ربهم، التي خلقوا لأجلها، و يجعلون القيامة و الحساب، و الجزاء منهم على بال، فبذلك يتم لهم أمرهم و تستقيم أحوالهم، و تزكوا أعمالهم. و في معنى قوله: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ‏ قولان: أحدهما: أن هذه الأمة، هي آخر الأمم، و رسولها، آخر الرسل، و على أمته تقوم الساعة، فقد قرب الحساب منها، بالنسبة لما قبلها، من الأمم، لقوله صلّى اللّه عليه و سلم: «بعثت أنا و الساعة كهاتين، و قرن بين إصبعيه، السبابة و التي تليها». و القول الثاني: أن المراد بقرب الحساب الموت، و أن من مات، قامت قيامته، و دخل في دار الجزاء على الأعمال، و أن هذا تعجب من كل غافل معرض، لا يدري متى يفاجئه الموت، صباحا أو مساء، فهذه حالة الناس كلهم إلا من أدركته العناية الربانية، فاستعد للموت و ما بعده.

[3] ثمّ ذكر ما يتناجى به الكافرون الظالمون، على وجه العناد، و مقابلة الحق بالباطل، و أنهم تناجوا، و تواطؤوا فيما بينهم، أن يقولوا في الرسول صلّى اللّه عليه و سلم، إنه بشر مثلكم، فما الذي فضله عليكم، و خصه من بينكم، فلو ادعى أحد منكم مثل دعواه، لكان قوله من جنس قوله، و لكنه يريد أن يتفضل عليكم، و يرأس فيكم، فلا تطيعوه، و لا تصدقوه، و أنه ساحر، و ما جاء به من القرآن، سحر، فانفروا عنه، و نفروا الناس، و قولوا: أَ فَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ‏ هذا، و هم يعلمون أنه رسول اللّه حقا بما يشاهدون من الآيات الباهرة، ما لم يشاهده غيرهم، و لكن حملهم على ذلك، الشقاء و الظلم و العناد. و اللّه تعالى قد أحاط علما بما تناجوا به، و سيجازيهم عليه.

[4] و لهذا قال: قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ‏ الخفي و الجلي‏ فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ‏ أي: في جميع ما احتوت عليه أقطارهما وَ هُوَ السَّمِيعُ‏ لسائر الأصوات، باختلاف اللغات، على تفنن الحاجات‏ الْعَلِيمُ‏ بما في الضمائر، و أكنته السرائر.

[5] يذكر تعالى ائتفاك المكذبين بمحمد صلّى اللّه عليه و سلم، و بما جاء به من القرآن العظيم، و أنهم تقوّلوا فيه، و قالوا فيه الأقاويل الباطلة المختلفة، فتارة يقولون: أَضْغاثُ أَحْلامٍ‏ بمنزلة كلام النائم الهاذي، الذي لا يحس بما يقول، و تارة يقولون: افْتَراهُ‏ و اختلقه و تقوّله من عند نفسه، و تارة يقولون: إنه شاعر و ما جاء به شعر. و كل من له أدنى معرفة بالواقع، من حالة الرسول، و نظر في هذا الذي جاء به، جزم جزما لا يقبل الشك. أنه أجل الكلام و أعلاه، و أنه من عند اللّه، و أن أحدا من البشر، لا يقدر على الإتيان بمثل بعضه، كما تحدى اللّه أعداءه بذلك، ليعارضوه مع توفر دواعيهم لمعارضته، و عداوته، فلم يقدروا على شي‏ء من معارضته، و هم يعلمون ذلك، و إلا،

تيسير الكريم الرحمن، ص: 609

فما الذي أقامهم، و أقعدهم؟ و أقض مضاجعهم، و بلبل ألسنتهم إلا الحق الذي لا يقوم له شي‏ء؟ و إنّما يقولون هذه الأقوال فيه، حيث لم يؤمنوا به، تنفيرا عنه لمن لم يعرفه. و هو أكبر الآيات المستمرة، الدالة على صحة ما جاء به الرسول صلّى اللّه عليه و سلم، و صدقه، و هو كاف شاف. فمن طلب دليلا غيره، أو اقترح آية من الآيات سواه، فهو جاهل ظالم مشبه لهؤلاء المعاندين الّذين كذبوه، و طلبوا من الآيات الاقتراحية، ما هو أضر شي‏ء عليهم، و ليس لهم فيها مصلحة لأنهم إن كان قصدهم معرفة الحق إذا تبين دليله، فقد تبين دليله بدونها، و إن كان قصدهم التعجيز و إقامة العذر لأنفسهم، إن لم يأت بما طلبوا فإنهم بهذه الحالة- على فرض إتيان ما طلبوا من الآيات- لا يؤمنون قطعا، فلو جاءتهم كل آية، لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم. و لهذا قال اللّه عنهم: فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ‏ أي: كناقة صالح، و عصا موسى، و نحو ذلك.

[6] قال اللّه: ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أي: بهذه الآيات المقترحة، و إنّما سنته تقتضي أن من طلبها، ثمّ حصلت له لم يأمن أن يعاجله بالعقوبة. فالأولون ما آمنوا بها أ فيؤمن هؤلاء بها؟ ما الذي فضلهم على أولئك و ما الخير الذي فيهم، يقتضي الإيمان عند وجودها؟ و هذا الاستفهام، بمعنى النفي، أي: لا يكون ذلك منهم أبدا.

[7- 9] هذا جواب لشبه المكذبين للرسول القائلين: هلّا كان ملكا، لا يحتاج إلى طعام و شراب، و تصرّف في الأسواق؟ و هلّا كان خالدا؟ فإذا لم يكن كذلك، دل على أنه ليس برسول. و هذه الشبه ما زالت في قلوب المكذبين للرسل، تشابهوا في الكفر، فتشابهت أقوالهم، فأجاب تعالى عن هذه الشبه لهؤلاء المكذبين للرسول، المقرين بإثبات الرسل قبله، و لو لم يكن إلا إبراهيم عليه السّلام، الذي قد أقر بنبوته جميع الطوائف. و المشركون، يزعمون أنهم على دينه و ملته- بأن الرسل قبل محمد صلّى اللّه عليه و سلم، كلهم من البشر، الّذين يأكلون الطعام، و يمشون في الأسواق، و تطرأ عليهم العوارض البشرية، من الموت و غيره، و أن اللّه أرسلهم إلى قومهم و أممهم، فصدقهم من صدقهم، و كذبهم من كذبهم، و أن اللّه صدقهم ما وعدهم به من النجاة، و السعادة لهم، و لأتباعهم، و أهلك المسرفين المكذبين لهم. فما بال محمد صلّى اللّه عليه و سلم، تقام الشبه الباطلة على إنكار رسالته و هي موجودة في إخوانه المرسلين، الّذين يقرّ بهم المكذبون لمحمد؟ فهذا إلزام لهم، في غاية الوضوح، و أنهم إن أقروا برسول من البشر، و لن يقروا برسول من غير البشر، فإن شبههم باطلة، قد أبطلوها بإقرارهم بفسادها، و تناقضهم بها، فلو قدر انتقالهم هذا إلى إنكار نبوة البشر رأسا، و أنه لا يكون نبي إن لم يكن ملكا مخلّدا، لا يأكل الطعام، فقد أجاب اللّه عن هذه الشبهة بقوله: وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَ لَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ‏ . و أن البشر لا طاقة لهم بتلقي الوحي من الملائكة قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا (95)، فإن حصل معكم شك و عدم علم بحالة الرسل المتقدمين‏ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ من الكتب السالفة، كأهل التوراة و الإنجيل، يخبروكم بما عندهم من العلم، و أنهم كلهم بشر من جنس المرسل إليهم. و هذه الآية و إن‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 610

كان سببها خاصا بالسؤال عن حالة الرسل المتقدمين من أهل الذكر، و هم أهل العلم، فإنها عامة في كل مسألة من مسائل الدين، أصوله و فروعه، إذا لم يكن عند الإنسان علم منها، أن يسأل من يعلمها. ففيه الأمر بالتعلم و السؤال لأهل العلم، و لم يؤمر بسؤالهم، إلا لأنه يجب عليهم التعليم و الإجابة عما علموه.

و في تخصيص السؤال بأهل الذكر و العلم، نهي عن سؤال المعروف بالجهل، و عدم العلم، و نهي له أن يتصدى لذلك، و في هذه الآية، دليل على أن النساء ليس منهن نبية، لا مريم و لا غيرها، لقوله: إِلَّا رِجالًا .

[10] أي: لقد أنزلنا إليكم- أيها المرسل إليهم، محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب- كتابا جليلا، و قرآنا مبينا فِيهِ ذِكْرُكُمْ‏ أي: شرفكم و فخركم، و ارتفاعكم، إن تذكرتم به، ما فيه من الأخبار الصادقة، فاعتقدتموها، و امتثلتم ما فيه من الأوامر، و اجتنبتم ما فيه من النواهي، و ارتفع قدركم، و عظم أمركم. أَ فَلا تَعْقِلُونَ‏ ما ينفعكم و ما يضركم؟ كيف لا تعملون على ما فيه ذكركم، و شرفكم في الدنيا و الآخرة، فلو كان لكم عقل، لسلكتم، هذا السبيل. فلما لم تسلكوه، و سلكتم غيره، من الطرق، التي فيها ضعتكم و خسّتكم في الدنيا و الآخرة و شقاوتكم فيهما، علم أنه ليس لكم معقول صحيح، و لا رأي رجيح. و هذه الآية، مصداقها ما وقع. فإن المؤمنين بالرسول، و الّذين تذكروا بالقرآن، من الصحابة، فمن بعدهم، حصل لهم من الرفعة و العلو الباهر، و الصيت العظيم، و الشرف على الملوك، ما هو أمر معلوم لكل أحد. كما أنه معلوم ما حصل، لمن لم يرفع بهذا القرآن رأسا، و لم يهتد، و لم يتزكّ به، من المقت و الضعة، و التدسية، و الشقاوة، فلا سبيل إلى سعادة الدنيا و الآخرة، إلا بالتذكر بهذا الكتاب.

[11- 12] يقول تعالى- محذرا لهؤلاء الظالمين، المكذبين للرسول، بما فعل بالأمم المكذبة لغيره من الرسل- وَ كَمْ قَصَمْنا أي: أهلكنا بعذاب مستأصل‏ مِنْ قَرْيَةٍ تلفت عن آخرها وَ أَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ‏ و أن هؤلاء المهلكين، لما أحسوا بعذاب اللّه و عقابه، و باشرهم نزوله، لم يمكن لهم الرجوع و لا طريق لهم إلى النزوع، و إنّما ضربوا الأرض بأرجلهم، ندما، و قلقا، و تحسروا على ما فعلوا.

[13] فقيل لهم على وجه التهكم بهم: لا تَرْكُضُوا وَ ارْجِعُوا إِلى‏ ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَ مَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ‏ (13) أي: لا يفيدكم الركض و الندم، و لكن إن كان لكم اقتدار، فارجعوا إلى ما أترفتم فيه، من اللذات، و المشتهيات، و مساكنكم المزخرفات، و دنياكم التي غرتكم و ألهتكم، حتى جاءكم أمر اللّه. فكونوا فيها متمكنين، و للذاتها جانين، و في منازلكم مطمئنين معظمين، لعلكم أن تكونوا مقصودين في أموركم، كما كنتم سابقا، مسؤولين من مطالب الدنيا، كحالتكم الأولى، و هيهات، أين الوصول إلى هذا؟ و قد فات الوقت، و حل بهم العقاب و المقت، و ذهب عنهم عزهم، و شرفهم و دنياهم، و حضرهم ندمهم و تحسرهم؟

[14- 15] و لهذا قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ‏ أي: الدعاء بالويل و الثبور، و الندم، و الإقرار على أنفسهم بالظلم و أن اللّه عادل فيما أحل بهم. حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ‏ أي: بمنزلة النبات الذي قد حصد و أنيم، قد خمدت منهم الحركات، و سكنت منهم الأصوات، فاحذروا- أيها المخاطبون- أن تستمروا على تكذيب أشرف الرسل، فيحل بكم كما حل بأولئك.

[16] يخبر تعالى أنه ما خلق السموات و الأرض عبثا، و لا لعبا من غير فائدة بل خلقها بالحق و للحق، ليستدل بها العباد على أنه الخالق العظيم، المدبر الحكيم، الرحمن الرحيم، الذي له الكمال كله، و الحمد كله، و العزة كلها، الصادق في قيله، الصادقة رسله، فيما تخبر عنه، و أن القادر على خلقهما مع سعتهما و عظمهما، قادر على إعادة الأجساد بعد موتها، ليجازي المحسن بإحسانه، و المسي‏ء بإساءته.

صفحه بعد