کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تيسير الكريم الرحمن

سورة الفاتحة سورة آل عمران سورة المائدة سورة الأنعام تفسير سورة الأعراف تفسير سورة الأنفال تفسير سورة التوبة تفسير سورة يونس تفسير سورة هود تفسير سورة الرعد سورة إبراهيم تفسير سورة الحجر سورة النحل سورة الإسراء سورة الكهف تفسير سورة مريم سورة طه تفسير سورة الأنبياء تفسير سورة الحج تفسير سورة المؤمنون تفسير سورة النور تفسير سورة الفرقان تفسير سورة الشعراء تفسير سورة النمل تفسير سورة العنكبوت تفسير سورة الروم تفسير سورة لقمان تفسير سورة السجدة سورة الأحزاب سورة سبأ تفسير سورة فاطر تفسير سورة يس تفسير سورة الصافات تفسير سورة الزمر تفسير سورة فصلت سورة الشورى سورة الزخرف تفسير سورة الدخان سورة الجاثية سورة الأحقاف سورة محمد تفسير سورة الحجرات تفسير سورة ق سورة الطور تفسير سورة النجم سورة القمر سورة الرحمن سورة الواقعة تفسير سورة الحديد تفسير سورة المجادلة تفسير سورة الحشر تفسير سورة الممتحنة تفسير سورة الصف سورة الجمعة تفسير سورة المنافقون تفسير سورة التغابن تفسير سورة الطلاق تفسير سورة التحريم تفسير سورة الملك تفسير سورة القلم سورة الحاقة سورة المعارج سورة نوح سورة الجن تفسير سورة المزمل سورة المدثر تفسير سورة القيامة سورة الإنسان سورة المرسلات تفسير سورة النبأ سورة النازعات سورة عبس تفسير سورة التكوير سورة الإنفطار سورة المطففين تفسير سورة الإنشقاق سورة البروج سورة الطارق سورة الأعلى تفسير سورة الغاشية تفسير سورة الفجر تفسير سورة البلد سورة الشمس سورة الليل تفسير سورة الضحى سورة الشرح سورة التين تفسير سورة العلق سورة القدر تفسير سورة البينة تفسير سورة الزلزلة تفسير سورة العاديات تفسير سورة القارعة سورة التكاثر سورة العصر تفسير سورة الهمزة سورة الفيل تفسير سورة قريش سورة الماعون سورة الكوثر تفسير سورة الكافرون سورة النصر تفسير سورة المسد تفسير سورة الإخلاص سورة الفلق تفسير سورة الناس محتوى تفسير الإمام السعدي

تيسير الكريم الرحمن


صفحه قبل

تيسير الكريم الرحمن، ص: 524

و ذلك أنها أتتهم، فردوها، و عرضت عليهم، فلم يقبلوها.

[109] لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ‏ (109) الذين خسروا أنفسهم و أموالهم و أهليهم يوم القيامة، و فاتهم النعيم المقيم، و حصلوا على العذاب الأليم. و هذا بخلاف من أكره على الكفر، و أجبر عليه، و قلبه مطمئن بالإيمان، راغب فيه فإنه لا حرج عليه و لا إثم، و يجوز له النطق بكلمة الكفر، عند الإكراه عليها. و دل ذلك، على أن كلام المكره على الطلاق، أو العتاق، أو البيع، أو الشراء، أو سائر العقود، أنه لا عبرة به، و لا يترتب عليه حكم شرعي، لأنه إذا لم يعاقب على كلمة الكفر، إذا أكره عليها، فغيرها من باب أولى و أحرى.

[110] أي: ثم إن ربك الذي ربى عباده المخلصين بلطفه و إحسانه لغفور رحيم، لمن هاجر في سبيله، و خلى دياره و أمواله، طالبا لمرضاة اللّه، و فتن على دينه، ليرجع إلى الكفر، فثبت على الإيمان، و تخلص ما معه من اليقين. ثم جاهد أعداء اللّه، ليدخلهم في دين اللّه، بلسانه، و يده، و صبر على هذه العبادات الشاقة، على أكثر الناس. فهذه أكبر الأسباب، التي ينال بها أعظم العطايا، و أفضل المواهب، و هي مغفرة اللّه للذنوب، صغارها، و كبارها، المتضمن ذلك زوال كل أمر مكروه. و رحمته العظيمة التي بها صلحت أحوالهم و استقامت أمور دينهم و دنياهم. فلهم الرحمة من اللّه في يوم القيامة.

[111] يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها كلّ يقول نفسي، لا يهمه سوى نفسه. ففي ذلك اليوم، يفتقر العبد إلى حصول مثقال ذرة من الخير. وَ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ‏ من خير و شر وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ‏ فلا يزاد في سيئاتهم، و لا ينقص من حسناتهم. فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ لا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏ (54).

[112- 113] و هذه القرية هي: مكة المشرفة، التي كانت آمنة مطمئنة، لا يهاج فيها أحد، و تحترمها الجاهلية الجهلاء حتى إن أحدهم، يجد فيها قاتل أبيه و أخيه، فلا يهيجه مع شدة الحمية فيهم، و النعرة العربية فحصل لها في مكة، من الأمن التام، ما لم يحصل في سواها و كذلك الرزق الواسع. كانت بلدة ليس فيها زرع و لا شجر، لكن يسر اللّه لها الرزق، يأتيها من كل مكان. فجاءهم رسول منهم، يعرفون أمانته و صدقه، يدعوهم إلى أكمل الأمور، و ينهاهم عن الأمور السيئة، فكذبوه، و كفروا بنعمة اللّه عليهم، فأذاقهم اللّه، ضد ما كانوا فيه، و ألبسهم لباس الجوع، الذي هو ضد الرغد، و الخوف، الذي هو ضد الأمن، و ذلك بسبب صنيعهم و كفرهم، و عدم شكرهم‏ وَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏ .

[114] يأمر تعالى عباده بأكل ما رزقهم اللّه من الحيوانات، و الحبوب، و الثمار، و غيرها. حَلالًا طَيِّباً أي:

حالة كونها متصفة بهذين الوصفين بحيث لا تكون مما حرم اللّه، أو أثرا من غصب و نحوه. فتمتعوا بما خلق اللّه لكم، من غير إسراف، و لا تعدّ. وَ اشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ‏ بالاعتراف بها، بالقلب، و الثناء على اللّه بها، و صرفها في طاعة اللّه. إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ‏ أي: إن كنتم مخلصين له العبادة، فلا تشكروا إلا إياه، و لا تنسوا المنعم.

[115] إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ‏ الأشياء المضرة، تنزيها لكم. و من ذلك: الْمَيْتَةَ و يدخل في ذلك كل ما

تيسير الكريم الرحمن، ص: 525

كان موته على غير ذكاة مشروعة. و يستثنى منه، ميتة الجراد و السمك. وَ الدَّمَ‏ المسفوح، و أما ما يبقى في العروق و اللحم فلا يضر. وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ لقذارته و خبثه، و ذلك شامل للحمه و شحمه، و جميع أجزائه. وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ‏ كالذي يذبح للأصنام و القبور و نحوها، لأنه مقصود به الشرك. فَمَنِ اضْطُرَّ إلى شي‏ء من المحرمات- بأن حملته الضرورة، و خاف إن لم يأكل أن يهلك- فلا جناح عليه إذا كان‏ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ . أي: إذا لم يرد أكل المحرم، و هو غير مضطر، و لا متعد الحلال إلى الحرام، أو متجاوز لما زاد على قدر الضرورة. فهذا الذي حرمه اللّه من المباحات.

[116- 118] وَ لا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَ هذا حَرامٌ‏ أي: لا تحرموا و تحللوا من تلقاء أنفسكم، كذبا، و افتراء على اللّه و تقوّلا عليه. لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ‏ لا في الدنيا، و لا في الآخرة، و لا بد أن يظهر اللّه خزيهم، و إن تمتعوا في الدنيا، فإنه‏ مَتاعٌ قَلِيلٌ‏ و مصيرهم إلى النار وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ‏ . فاللّه تعالى ما حرّم علينا إلا الخبيثات، تفضلا منه، و صيانة عن كل مستقذر. و أما الذين هادوا فحرم اللّه عليهم طيبات أحلت لهم بسبب ظلمهم عقوبة لهم، كما قصه في سورة الأنعام في قوله: وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَ مِنَ الْبَقَرِ وَ الْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَ إِنَّا لَصادِقُونَ‏ .

[119] و هذا حضّ منه لعباده على التوبة، و دعوة لهم إلى الإنابة، فأخبر أن من عمل سوءا بجهالة، فعاقبة ما تجنى عليه، و لو كان متعمدا للذنب، فإنه لا بد أن ينقص ما في قلبه من العلم، وقت مقارفة الذنب. فإذا تاب و أصلح، بأن ترك الذنب و ندم عليه و أصلح أعماله، فإن اللّه يغفر له و يرحمه، و يتقبل توبته، و يعيده إلى حالته الأولى، أو أعلى منها.

[120] يخبر تعالى عما فضل به خليله عليه الصلاة و السلام، و خصه به من الفضائل العالية و المناقب الكاملة فقال: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً أي: إماما، جامعا لخصال الخير، هاديا مهتديا قانِتاً لِلَّهِ‏ أي: مديما لطاعة ربه، مخلصا له الدين. حَنِيفاً مقبلا على اللّه، بالمحبة، و الإنابة، و العبودية، معرضا عمن سواه. وَ لَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏ في قوله و عمله، و جميع أحواله، لأنه إمام الموحدين الحنفاء.

[121] شاكِراً لِأَنْعُمِهِ‏ أي: آتاه اللّه في الدنيا حسنة، و أنعم عليه بنعم ظاهرة و باطنة، فقام بشكرها.

فكان نتيجة هذه الخصال الفاضلة أن‏ اجْتَباهُ‏ ربه، و اختصه بخلته، و جعله من صفوة خلقه، و خيار عباده المقربين. وَ هَداهُ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ‏ في علمه و عمله، فعلم بالحق، و آثره على غيره.

[122- 123] وَ آتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً رزقا واسعا، و زوجة حسناء، و ذرية صالحين، و أخلاقا مرضية.

وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ‏ الذين لهم المنازل العالية، و القرب العظيم من اللّه تعالى. و من أعظم فضائله، أن اللّه أوحى لسيد الخلق و أكملهم، أن يتبع ملّة إبراهيم، و يقتدي به، هو و أمته.

تيسير الكريم الرحمن، ص: 526

[124] يقول تعالى: إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ‏ أي: فرضا عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ‏ حين ضلوا عن يوم الجمعة، و هم اليهود، فصار اختلافهم سببا لأن يجب عليهم في السبت احترامه و تعظيمه، و إلا فالفضيلة الحقيقية ليوم الجمعة، الذي هدى اللّه هذه الأمة إليه. وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏ فيبين لهم المحق من المبطل، و المستحق للثواب، ممن استحق العذاب.

[125] أي: ليكن دعاؤك للخلق، مسلمهم و كافرهم، إلى سبيل ربك المستقيم، المشتمل على العلم النافع، و العمل الصالح. بِالْحِكْمَةِ أي: كل أحد على حسب حاله و فهمه، و قبوله و انقياده. و من الحكمة، الدعوة بالعلم، لا بالجهل، و البدأة بالأهم فالأهم، و بالأقرب إلى الأذهان و الفهم، و بما يكون قبوله أتم، و بالرفق و اللين. فإن انقاد بالحكمة، و إلا فينتقل معه إلى الدعوة بالموعظة الحسنة، و هو الأمر و النهي المقرون بالترغيب و الترهيب. إما بما تشتمل عليه الأوامر من المصالح و تعدادها، و النواهي من المضار و تعدادها. و إما بذكر إكرام من قام بدين اللّه، و إهانة من لم يقم به. و إما بذكر ما أعد اللّه للطائعين، من الثواب العاجل و الآجل، و ما أعد للعاصين من العقاب العاجل و الآجل. فإن كان المدعو، يرى أن ما هو عليه حق، أو كان داعيه إلى الباطل، فيجادل بالتي هي أحسن، و هي الطرق التي تكون أدعى لاستجابته عقلا و نقلا. من ذلك، الاحتجاج عليه بالأدلة التي كان يعتقدها، فإنه أقرب إلى حصول المقصود، و أن لا تؤدي المجادلة إلى خصام أو مشاتمة، تذهب بمقصودها، و لا تحصل الفائدة منها، بل يكون القصد منها هداية الخلق إلى الحق لا المغالبة و نحوها.

و قوله: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ‏ أي: أعلم بالسبب، الذي أداه إلى الضلال، و يعلم أعماله المترتبة على ضلالته، و سيجازيه عليها. وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ‏ علم أنهم يصلحون للهداية، فهداهم، ثم منّ عليهم فاجتباهم.

[126] يقول تعالى- مبيحا للعدل، و نادبا للفضل و الإحسان- وَ إِنْ عاقَبْتُمْ‏ من أساء إليكم بالقول و الفعل‏ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ‏ من غير زيادة منكم، على ما أجراه معكم. وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ‏ عن المعاقبة، و عفوتم عن جرمهم‏ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ‏ من الاستيفاء، و ما عند اللّه، خير لكم، و أحسن عاقبة كما قال تعالى: فَمَنْ عَفا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ‏ ، ثم أمر رسوله بالصبر على دعوة الخلق إلى اللّه، و الاستعانة باللّه على ذلك، و عدم الاتكال على النفس فقال:

[127] وَ اصْبِرْ وَ ما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ‏ هو الذي يعينك عليه و يثبتك. وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ‏ إذا دعوتهم، فلم تر منهم قبولا لدعوتك، فإن الحزن لا يجدي عليك شيئا. وَ لا تَكُ فِي ضَيْقٍ‏ أي شدة و حرج‏ مِمَّا يَمْكُرُونَ‏ فإن مكرهم عائد إليهم، و أنت من المتقين المحسنين.

[128] و اللّه مع المتقين المحسنين، بعونه، و توفيقه، و تسديده، و هم الّذين اتقوا الكفر و المعاصي، و أحسنوا في عبادة اللّه، بأن عبدوا اللّه، كأنهم يرونه، فإن لم يكونوا يرونه، فإنه يراهم. و الإحسان إلى الخلق ببذل النفع لهم من‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 527

كل وجه. نسأل اللّه أن يجعلنا من المتقين المحسنين. تم تفسير سورة النحل- و للّه الحمد و المنة.

سورة الإسراء

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

[1] ينزه تعالى نفسه المقدسة، و يعظمها لأن له الأفعال العظيمة و المنن الجسيمة، التي من جملتها أنه‏ أَسْرى‏ بِعَبْدِهِ‏ و رسوله محمد صلّى اللّه عليه و سلّم، لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ‏ الذي هو أجل المساجد على الإطلاق‏ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى‏ الذي هو من المساجد الفاضلة، و هو محل الأنبياء. فأسري به في ليلة واحدة إلى مسافة بعيدة جدا، و رجع في ليلته، و أراه اللّه من آياته، ما ازداد به هدى و بصيرة، و ثباتا، و فرقانا. و هذا من اعتنائه تعالى به، و لطفه، حيث يسره لليسرى، في جميع أموره، و خوّله نعما، فاق بها الأولين و الآخرين. و ظاهر الآية أن الإسراء كان في أول الليل، و أنه من نفس المسجد الحرام. لكن ثبت في الصحيح، أنه أسري به من بيت أم هانى‏ء. فعلى هذا، تكون الفضيلة في المسجد الحرام، لسائر الحرم. فكله تضاعف فيه العبادة كتضاعفها في نفس المسجد. و أن الإسراء بروحه و جسده معا، و إلا لم يكن في ذلك آية كبرى، و منقبة عظيمة. و قد تكاثرت الأحاديث الثابتة عن النبي صلى اللّه عليه و سلّم في الإسراء، و ذكر تفاصيل ما رأى، أنه أسري به إلى بيت المقدس، ثم عرج به من هناك، إلى السموات، حتى وصل إلى ما فوق السموات العلى، و رأى الجنة و النار، و الأنبياء على مراتبهم، و فرض عليه الصلوات خمسين. ثم ما زال يراجع ربه بإشارة موسى الكليم، حتى صارت خمسا في الفعل، و خمسين في الأجر و الثواب، و حاز من المفاخر تلك الليلة، هو و أمته، ما لا يعلم مقداره إلا اللّه عز و جل. و ذكره هنا و في مقام الإنزال للقرآن، و مقام التحدي بصفة العبودية، لأنه نال هذه المقامات الكبار، بتكميله لعبودية ربه. و قوله: الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ‏ أي: بكثرة الأشجار و الأنهار، و الخصب الدائم. و من بركته، تفضيله على غيره من المساجد، سوى المسجد الحرام، و مسجد المدينة، و أنه يطلب شد الرحل إليه للعبادة و الصلاة فيه، و أن اللّه اختصه محلا، لكثير من أنبيائه و أصفيائه.

[2] كثيرا ما يقرن الباري بين نبوة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم، و نبوة موسى صلّى اللّه عليه و سلّم، و بين كتابيهما و شريعتيهما، لأن كتابيهما أفضل الكتب، و شريعتيهما أكمل الشرائع، و نبوتيهما أعلى النبوات، و أتباعهما أكثر المؤمنين. و لهذا قال هنا:

وَ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ‏ الذي هو التوراة وَ جَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ‏ يهتدون به في ظلمات الجهل إلى العلم بالحق.

أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا أي: و قلنا لهم ذلك، و أنزلنا إليهم الكتاب لذلك، ليعبدوا اللّه وحده، و ينيبوا إليه، و يتّخذوه وحده وكيلا و مدبرا لهم، في أمر دينهم و دنياهم، و لا يتعلقوا بغيره من المخلوقين الّذين لا يملكون شيئا، و لا ينفعونهم بشي‏ء.

[3] ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ‏ أي: يا ذرية من مننا عليهم، و حملناهم مع نوح. إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً

تيسير الكريم الرحمن، ص: 528

ففيه التنويه بالثناء على نوح عليه السلام، بقيامه بشكر اللّه، و اتصافه بذلك، و الحث لذريته، أن يقتدوا به في شكره و يتابعوه عليه، و أن يتذاكروا نعمة اللّه عليهم، إذ أبقاهم و استخلفهم في الأرض، و أغرق غيرهم.

[4] وَ قَضَيْنا إِلى‏ بَنِي إِسْرائِيلَ‏ أي: تقدمنا و عهدنا إليهم، و أخبرناهم في كتابهم، أنهم لا بد أن يقع منهم إفساد في الأرض مرتين بعمل المعاصي، و البطر لنعم اللّه، و العلو في الأرض و التكبر فيها، و أنه إذا وقع واحدة منهما، سلط اللّه عليهم الأعداء، و انتقم منهم، و هذا تحذير لهم و إنذار، لعلهم يرجعون فيتذكرون.

[5] فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما أي: أولى المرتين اللتين يفسدون فيهما. أي: إذا وقع منهم ذلك الفساد بَعَثْنا عَلَيْكُمْ‏ بعثا قدريا، و سلطنا عليكم تسليطا كونيا جزائيا عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ أي: ذوي شجاعة و عدد و عدة فنصرهم اللّه عليكم، فقتلوكم و سبوا أولادكم، و نهبوا أموالكم. فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ و هتكوا الدور، و دخلوا المسجد الحرام، و أفسدوه. وَ كانَ وَعْداً مَفْعُولًا لا بد من وقوعه، لوجود سببه منهم. و اختلف المفسرون في تعيين هؤلاء المسلطين، إلا أنهم اتفقوا على أنهم قوم كفار، إما من أهل العراق، أو الجزيرة، أو غيرها سلطهم اللّه على بني إسرائيل، لما كثرت فيهم المعاصي، و تركوا كثيرا من شريعتهم، و طغوا في الأرض.

[6] ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ‏ أي: على هؤلاء الّذين سلطوا عليكم، فأجليتموهم من دياركم.

وَ أَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ‏ أي: أكثرنا أرزاقكم، و كثرناكم، و قويناكم عليهم، وَ جَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً منهم، و ذلك بسبب إحسانكم و خضوعكم للّه.

[7] إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ‏ لأن النفع عائد إليكم، حتى في الدنيا كما شاهدتم من انتصاركم على أعدائكم. وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها أي: فلأنفسكم يعود الضرر كما أراكم اللّه، من تسليط الأعداء. [ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ أي: المرة الأخرى التي تفسدون فيها في الأرض، سلطنا عليكم الأعداء] «1» . لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ‏ بانتصارهم عليكم و سبيكم‏ وَ لِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ و المراد بالمسجد، مسجد بيت المقدس.

وَ لِيُتَبِّرُوا أي: يخربوا و يدمروا ما عَلَوْا عليه‏ تَتْبِيراً فيخربوا بيوتكم، و مساجدكم، و حروثكم.

[8] عَسى‏ رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ‏ فيديل لكم الكرة عليهم. فرحمهم، و جعل لهم الدولة. و توعدهم على المعاصي فقال: وَ إِنْ عُدْتُمْ‏ إلى الإفساد في الأرض‏ عُدْنا إلى عقوبتكم. فعادوا لذلك، فسلط اللّه عليهم رسوله، محمدا صلّى اللّه عليه و سلّم، فانتقم اللّه به منهم، فهذا جزاء الدنيا، و ما عند اللّه من النكال، أعظم و أشنع، و لهذا قال: وَ جَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً يصلونها، و يلازمونها، لا يخرجون منها أبدا. و في هذه الآيات التحذير لهذه الأمة، من العمل بالمعاصي لئلا يصيبهم، ما أصاب بني إسرائيل. فسنة اللّه واحدة، لا تبدل و لا تغير. و من نظر إلى تسليط الكفرة

(1) سقط من المطبوعة التي بين أيدينا، و هو موافق للسياق.

تيسير الكريم الرحمن، ص: 529

و الظلمة على المسلمين عرف أن ذلك، من أجل ذنوبهم، عقوبة لهم، و أنهم إذا أقاموا كتاب اللّه، و سنة رسوله، مكّن لهم في الأرض، و نصرهم على أعدائهم.

[9] يخبر تعالى عن شرف القرآن و جلالته، و أنه‏ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ‏ أي: أعدل و أعلى، من العقائد، و الأعمال، و الأخلاق، فمن اهتدى بما يدعو إليه القرآن، كان أكمل الناس، و أقومهم، و أهداهم في جميع الأمور. وَ يُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ‏ من الواجبات و السنن. أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً أعده اللّه لهم في دار كرامته، لا يعلم وصفه إلا هو.

[10] وَ أَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10)، فالقرآن مشتمل على البشارة و النذارة، و ذكر الأسباب التي تنال بها البشارة، و هو الإيمان، و العمل الصالح، و التي تستحق بها النذارة و هو ضد ذلك.

[11] و هذا من جهل الإنسان و عجلته، حيث يدعو على نفسه و أولاده بالشر عند الغضب، و يبادر بذلك الدعاء، كما يبادر بالدعاء في الخير، و لكن اللّه- من لطفه- يستجيب له في الخير، و لا يستجيب له بالشر. وَ لَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ‏ .

[12] يقول تعالى: وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ آيَتَيْنِ‏ أي: دالتين على كمال قدرة اللّه و سعة رحمته، و أنه الذي لا تنبغي العبادة إلا له. فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ‏ أي: جعلناه مظلما، للسكون فيه، و الراحة، وَ جَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً أي: مضيئة لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ‏ في معايشكم، و صنائعكم، و تجاراتكم، و أسفاركم. وَ لِتَعْلَمُوا بتوالي الليل و النهار و اختلاف القمر عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ‏ فتبنون عليها ما تشاؤون، من مصالحكم. وَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا أي: بينا الآيات، و صرفناه، لتتميز الأشياء، و يتبين الحق من الباطل، كما قال تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ‏ءٍ .

[13- 14] و هذا إخبار عن كمال عدله، أن كل إنسان يلزمه‏ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ‏ ، أي: ما عمل من خير و شر، يجعله اللّه ملازما له، لا يتعداه إلى غيره، فلا يحاسب بعمل غيره و لا يحاسب غيره بعمله. وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً فيه عمله، من الخير و الشر، حاضرا، صغيره و كبيره، و يقال له: اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى‏ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14). و هذا من أعظم العدل و الإنصاف، أن يقال للعبد: حاسب نفسك، ليعرف ما عليه من الحق الموجب للعقاب.

[15] أي: هداية كل أحد و ضلاله لنفسه، و لا يحمل أحد ذنب أحد و لا يدفع عنه مثقال ذرة من الشر. و اللّه تعالى أعدل العادلين. لا يعذب أحدا حتى تقوم عليه الحجة بالرسالة، ثم يعاند الحجة. و أما من انقاد للحجة، أو لم تبلغه حجة اللّه تعالى، فإن اللّه تعالى لا يعذبه. استدل بهذه الآية على أن أهل الفترات، و أطفال المشركين، لا يعذبهم اللّه، حتى يبعث إليهم رسولا، لأنه منزه عن الظلم.

[16- 17] يخبر تعالى أنه إذا أراد أن يهلك قرية من القرى الظالمة، و يستأصلها بالعذاب، أمر مترفيها، أمرا

تيسير الكريم الرحمن، ص: 530

قدريا، فَفَسَقُوا فِيها ، و اشتد طغيانهم. فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ‏ أي: كلمة العذاب التي لا مرد لها فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً .

و هؤلاء أمم كثيرة أبادهم اللّه بالعذاب، من بعد قوم نوح، كعاد، و ثمود، و قوم لوط، و غيرهم، ممن عاقبهم اللّه، لما كثر بغيهم، و اشتد كفرهم، أنزل اللّه بهم عقابه العظيم.

وَ كَفى‏ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً فلا يخافون منه ظلما، و أنه يعاقبهم على ما عملوه.

[18] يخبر تعالى أن‏ مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ أي: الدنيا المنقضية الزائلة، فعمل لها، و سعى، و نسي المبتدأ أو المنتهى، أن اللّه يعجل له من حطامها و متاعها، ما يشاؤه و يريده، مما كتب اللّه له في اللوح المحفوظ، و لكنه متاع غير نافع و لا دائم له. ثم يجعل له في الآخرة جَهَنَّمَ يَصْلاها أي: يباشر عذابها مَذْمُوماً مَدْحُوراً أي: في حالة الخزي و الفضيحة و الذم من اللّه، و من خلقه، و البعد عن رحمة اللّه، فيجمع له العذاب و الفضيحة.

[19- 20] وَ مَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ فرضيها و آثرها على الدنيا وَ سَعى‏ لَها سَعْيَها الذي دعت إليه الكتب السماوية، و الآثار النبوية، فعمل بذلك على قدر إمكانه‏ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ‏ باللّه و ملائكته، و كتبه، و رسله، و اليوم الآخر. فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً أي: مقبولا منمّى، مدخرا، لهم أجرهم و ثوابهم عند ربهم. و مع هذا، فلا يفوتهم نصيبهم من الدنيا، فكلا يمده اللّه منها، لأنه عطاؤه و إحسانه. وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً أي: ممنوعا من أحد، بل جميع الخلق راتعون بفضله و إحسانه.

[21] انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ‏ في الدنيا، بسعة الأرزاق و قلتها، و اليسر و العسر، و العلم و الجهل، و العقل و السفه، و غير ذلك من الأمور التي فضل اللّه العباد بعضهم على بعض بها. وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَ أَكْبَرُ تَفْضِيلًا فلا نسبة لنعيم الدنيا و لذاتها، إلى الآخرة، بوجه من الوجوه. فكم بين من هو في الغرف العاليات، و اللذات المتنوعات، و السرور و الخيرات و الأفراح، ممن هو يتقلب في الجحيم، و يعذب بالعذاب الأليم و قد حل عليه سخط الرب الرحيم، و كل من الدارين بين أهلها من التفاوت ما لا يمكن أحدا عدّه.

[22] أي: لا تعتقد أن أحدا من المخلوقين يستحق شيئا من العبادة، و لا تشرك باللّه أحدا منهم، فإن ذلك داع للذم و الخذلان. فاللّه، و ملائكته، و رسله، قد نهوا عن الشرك، و ذموا عن عمله أشد الذم، و رتبوا عليه من الأسماء المذمومة، و الأوصاف المقبوحة، ما كان به متعاطيه، أشنع الخلق وصفا، و أقبحهم نعتا. و له من الخذلان في أمر دينه و دنياه، بحسب ما تركه من التعلق بربه. فمن تعلق بغيره، فهو مخذول، قد و كل إلى من تعلق به، و لا أحد من الخلق ينفع أحدا، إلا بإذن اللّه. كما أن من جعل مع اللّه إلها آخر، له الذم و الخذلان. فمن وحده، و أخلص دينه للّه، و تعلق به دون غيره، فإنه محمود معان في جميع أحواله.

صفحه بعد