کتابخانه تفاسیر
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1058
اللّه عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ أي: غليظ شرس الخلق قاس، غير منقاد زَنِيمٍ أي: دعيّ، ليس له أصل و لا مادة ينتج منها الخير، بل أخلاقه أقبح الأخلاق، و لا يرجى منه فلاح، له زنمة، أي: علامة في الشر يعرف بها. و حاصل هذا، أن اللّه تعالى نهى عن طاعة كلّ حلاف كذاب، خسيس النفس، سيىء الأخلاق، خصوصا الأخلاق المتضمنة للإعجاب بالنفس، و التكبر على الحقّ و على الخلق، و الاحتقار للناس، بالغيبة و النميمة، و الطعن فيهم، و كثرة المعاصي.
[14- 15] و هذه الآيات- و إن كانت نزلت في بعض المشركين- كالوليد بن المغيرة أو غيره، لقوله عنه: أَنْ كانَ ذا مالٍ وَ بَنِينَ (14) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) أي: لأجل كثرة ماله و ولده، طغى و استكبر عن الحقّ، و دفعه حين جاءه، و جعله من جملة أساطير الأولين، الّتي يمكن صدقها و كذبها. فإنها عامة في كلّ من اتصف بهذا الوصف، لأن القرآن نزل لهداية الخلق كلهم، و يدخل فيه أول الأمة و آخرهم. و ربما نزل بعض الآيات في سبب شخص من الأشخاص، لتتضح به القاعدة العامة، و يعرف به أمثال الجزئيات الداخلة في القضايا العامة.
[16] ثمّ توعد تعالى من جرى منه ما وصف اللّه، بأن اللّه سيسمه على الخرطوم في العذاب، و يعذبه عذابا ظاهرا، يكون عليه سمة و علامة، في أشق الأشياء عليه، و هو وجهه.
[17] يقول تعالى: إنا بلونا هؤلاء المكذبين بالخير، و أمهلناهم، و أمددناهم بما شئنا من مال و ولد و طول عمر، و نحو ذلك، مما يوافق أهواءهم، لا لكرامتهم علينا، بل ربما يكون استدراجا لهم، من حيث لا يعلمون.
فاغترارهم بذلك، نظير اغترار أصحاب الجنة، الذي هم فيها شركاء، حين أينعت أشجارها، و زهت ثمارها، و آن وقت صرامها، و جزموا أنها في أيديهم، و طوع أمرهم، و أنه ليس ثمّ مانع يمنعهم منها.
[18] و لهذا أقسموا و حلفوا من غير استثناء، أنهم سيصرمونها، أي: يجذونها مصبحين. و لم يدروا أن اللّه بالمرصاد، و أن العذاب سيخلفهم عليها، و يبادرهم إليها.
[19- 21] فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ ، أي: عذاب نزل عليها ليلا وَ هُمْ نائِمُونَ ، فأبادها، و أتلفها فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)، أي: كالليل المظلم، و ذهبت الأشجار و الثمار، هذا و هم لا يشعرون بهذا الواقع الملم، و لهذا تنادوا فيها بينهم لما أصبحوا، يقول بعضهم لبعض:
[22- 24] أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا قاصدين لها وَ هُمْ يَتَخافَتُونَ فيما بينهم بمنع حق اللّه تعالى، و يقولون: لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ ، أي: بكروا قبل انتشار الناس، و تواصوا مع ذلك، بمنع الفقراء و المساكين. و من شدة حرصهم و بخلهم، أنهم يتخافتون بهذا الكلام مخافتة، خوفا أن يسمعهم أحد، فيخبر الفقراء.
[25] وَ غَدَوْا في هذه الحالة الشنيعة، و القسوة، و عدم الرحمة عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ ، أي: على إمساك و منع لحق اللّه، جازمين بقدرتهم عليها.
[26] فَلَمَّا رَأَوْها على الوصف الذي ذكر اللّه كالصريم، قالُوا من الحيرة و الانزعاج: إِنَّا لَضَالُّونَ ، أي: تائهون عنها، لعلها غيرها.
[27] فلما تحققوها، و رجعت إليهم عقولهم، قالوا:
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) منها، فعرفوا حينئذ أنه عقوبة.
[28] قالَ أَوْسَطُهُمْ ، أي: أعدلهم، و أحسنهم طريقة: أَ لَمْ
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1059
أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ ، أي: تنزهون اللّه عما لا يليق به، و من ذلك، ظنكم أن قدرتكم مستقلة، فلو استثنيتم، و قلتم: «إن شاء اللّه» و جعلتم مشيئتكم تابعة لمشيئته، ما جرى عليكم ما جرى.
[29] قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29)، أي:
استدركوا بعد ذلك، و لكن بعد ما وقع على جنتهم العذاب، الذي لا يرفع. و لكن بعد ما وقع على جنتهم العذاب، الذي لا يرفع. و لكن لعل تسبيحهم هذا، و إقرارهم على أنفسهم بالظلم، ينفعهم في تخفيف الإثم و يكون توبة، و لهذا ندموا ندامة عظيمة.
[30- 31] فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) فيما أجروه و فعلوه، قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31)، أي: متجاوزين للحد في حق اللّه، و حق عباده.
[32] عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32) فهم رجوا اللّه أن يبدلهم خيرا منها، و وعدوا أنهم سيرغبون إلى اللّه، و يلحون عليه في الدنيا. فإن كانوا كما قالوا، فالظاهر أن اللّه أبدلهم في الدنيا خيرا منها لأن من دعا اللّه صادقا، و رغب إليه و رجاه، أعطاه سؤله.
[33] قال تعالى معظما ما وقع: كَذلِكَ الْعَذابُ ، أي: الدنيوي لمن أتى بأسباب العذاب أن يسلبه اللّه الشيء الذي طغى به و بغى، و آثر الحياة الدنيا، و أن يزيله عنه، أحوج ما يكون إليه. وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ من عذاب الدنيا لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ، فإن من علم ذلك، أوجب له الانزجار عن كلّ سبب يوجب العقاب، و يحرم الثواب.
[34- 35] يخبر تعالى بما أعده للمتقين الكفر و المعاصي، من أنواع النعيم و العيش السليم في جوار أكرم الأكرمين، و أن حكمته تعالى، لا تقتضي أن يجعل المتقين القانتين لربهم، المنقادين لأوامره، المتبعين مراضيه، كالمجرمين الّذين أوضعوا في معاصيه، و الكفر بآياته، و معاندة رسله، و محاربه أوليائه.
[36] و أن من ظن أنه يسويهم في الثواب، فإنه قد أساء الحكم، و أن حكمه باطل، و رأيه فاسد.
[37- 38] و أن المجرمين إذا ادعوا ذلك، فليس لهم مستند، لا كتاب فيه يدرسون و يتلون، أنهم من أهل الجنة، و أن لهم ما طلبوا و تخيروا.
[39] و ليس لهم عند اللّه عهد و يمين بالغة إلى يوم القيامة أن لهم ما يحكمون و ليس لهم شركاء و أعوان على إدراك ما طلبوا، فإن كان لهم شركاء و أعوان، فليأتوا بهم، إن كانوا صادقين. و من المعلوم أن جميع ذلك منتف، فليس لهم كتاب، و لا لهم عهد عند اللّه في النجاة، و لا لهم شركاء يعينونهم، فعلم أن دعواهم باطلة فاسدة.
[40] و قوله: سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40)، أي: أيهم الكفيل بهذه الدعوى الّتي تبين بطلانها، فإنه لا يمكن أحدا، أن يتصدر بها، و لا يكون زعيما فيها.
[42] أي: إذا كان يوم القيامة، و انكشف فيه من القلاقل و الزلازل و الأهوال، ما لا يدخل تحت الوهم، و أتى الباري لفصل القضاء بين عباده، و مجازاتهم، فكشف عن ساقه الكريمة، الّتي لا يشبهها شيء، و رأى الخلائق من جلال اللّه و عظمته، ما لا يمكن التعبير عنه، فحينئذ يدعون إلى السجود للّه. فيسجد المؤمنون الّذين كانوا يسجدون للّه، طوعا و اختيارا، و يذهب الفجار المنافقون ليسجدوا فلا يقدرون على السجود، و تكون ظهورهم كصياصي البقر، لا يستطيعون الانحناء.
[43] و هذا الجزاء من جنس عملهم، فإنهم كانوا يدعون في الدنيا إلى السجود للّه،
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1060
و توحيده و عبادته، و هم سالمون، لا علة فيهم، فيستكبرون عن ذلك و يأبون، فلا تسأل يومئذ عن حالهم، و سوء مآلهم، فإن اللّه سخط عليهم، و حقت عليهم كلمة العذاب، و تقطعت أسبابهم، و لم تنفعهم الندامة و الاعتذار يوم القيامة. ففي هذا ما يزعج القلوب عن المقام على المعاصي، و يوجب التدارك مدة الإمكان.
[44- 45] أي: دعني و المكذبين بالقرآن العظيم، فإن عليّ جزاءهم، و لا تستعجل لهم، سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ فنمدهم بالأموال و الأولاد، و نمدهم في الأرزاق و الأعمال، ليغتروا، و يستمروا على ما يضرهم، و هذا من كيد اللّه لهم، و كيد اللّه لأعدائه متين قوي، يبلغ من ضررهم و عقوبتهم كلّ مبلغ.
[46] أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46)، أي: ليس لنفورهم عنك، و عدم تصديقهم لك، سبب يوجب لهم ذلك، فإنك تعلمهم، و تدعوهم إلى اللّه، لمحض مصلحتهم، من غير أن تصيبهم من أموالهم مغرما، يثقل عليهم.
[47] أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) ما كان عندهم من الغيوب، و قد وجدوا أنهم على حق، و أن لهم الثواب عند اللّه. فهذا أمر ما كان، و إنّما كانت حالهم، حال معاند ظالم.
[48] فلم يبق إلا الصبر لأذاهم، و التحمل لما يصدر منهم، و الاستمرار على دعوتهم، و لهذا قال: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ، أي: لما حكم به، شرعا و قدرا، فالحكم القدري، يصبر على المؤذى منه، و لا يتلقّى بالسخط و الجزع، و الحكم الشرعي، يقابل بالقبول و التسليم، و الانقياد لأمره. و قوله: وَ لا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ و هو يونس بن متى، عليه الصلاة و السّلام. أي: و لا تشابهه في الحال الّتي أوصلته و أوجبت له الانحباس في بطن الحوت، و هو عدم صبره على قومه، الصبر المطلوب منه، و ذهابه مغاضبا لربه، حتى ركب البحر، فاقترع أهل السفينة حين ثقلت بأهلها، أيهم يلقون لكي تخف بهم، فوقعت القرعة عليه، فالتقمه الحوت و هو مليم. و قوله: إِذْ نادى وَ هُوَ مَكْظُومٌ ، أي: و هو في بطنها قد كظمت عليه، أو نادى و هو مغتمّ مهتم، فقال: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ . فاستجاب اللّه له، و قذفته الحوت من بطنها بالعراء، و هو سقيم، و أنبت اللّه عليه شجرة من يقطين، و لهذا قال هنا:
[49] لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ ، أي: لطرح في العراء، و هي الأرض الخالية وَ هُوَ مَذْمُومٌ ، و لكن اللّه تغمده برحمته، فنبذ و هو ممدوح، و صارت حاله أحسن من حاله الأولى، و لهذا قال:
[50] فَاجْتَباهُ رَبُّهُ ، أي: اختاره و نقاه من كلّ كدر. فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ، أي: الّذين صلحت أعمالهم و أقوالهم، و نياتهم و أحوالهم. فامتثل نبينا محمد صلّى اللّه عليه و سلّم أمر اللّه، فصبر لحكم ربه صبرا لا يدركه أحد من العالمين. فجعل اللّه له العاقبة وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ* و لم يبلغ أعداؤه فيه إلا ما يسوؤهم.
[51] حتى إنهم حرصوا على أن يزلقوه بأبصارهم، أي:
يصيبوه بأعينهم، من حسدهم و حنقهم و غيظهم. هذا منتهى ما قدروا عليه من الأذى الفعليّ، و اللّه حافظه و ناصره.
و أما الأذى القولي، فيقولون فيه أقوالا، بحسب ما توحي إليهم قلوبهم، فيقولون تارة: «مجنون»، و تارة: «شاعر»، و تارة: «ساحر».
[52] قال تعالى: وَ ما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52)، أي: و ما هذا القرآن العظيم، و الذكر الحكيم، إلا ذكر للعالمين، يتذكرون به مصالح دينهم و دنياهم، و الحمد للّه. تم تفسير سورة القلم- بمنّ اللّه و كرمه.
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1061
سورة الحاقة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1- 3] الْحَاقَّةُ (1) من أسماء يوم القيامة، لأنها تحق و تنزل بالخلق، و تظهر فيها حقائق الأمور، و مخبآت الصدور. فعظم تعالى شأنها و فخّمه، بما كرّره من قوله: الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَ ما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) فإن لها شأنا عظيما، و هولا جسيما.
ثمّ ذكر نموذجا من أحوالها الموجودة في الدنيا المشاهدة فيها، و هو ما أحله من العقوبات البليغة بالأمم العاتية، فقال:
[4] كَذَّبَتْ ثَمُودُ و هم: القبيلة المشهورة، سكان الحجر، الّذين أرسل اللّه إليهم رسوله صالحا عليه السّلام، ينهاهم عما هم عليه من الشرك، و يأمرهم بالتوحيد، فردوا دعوته، و كذبوه، و كذبوا ما أخبر به من يوم القيامة، و هي:
القارعة الّتي تقرع الخلق بأهوالها. و كذلك عاد الأولى، سكان حضرموت، حين بعث اللّه إليهم رسوله هودا عليه الصلاة و السّلام، يدعوهم إلى عبادة اللّه وحده، فكذبوه، و أنكروا ما أخبر به من البعث، فأهلك اللّه الطائفتين بالهلاك العاجل:
[5] فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) و هي: الصيحة العظيمة الفظيعة، الّتي قطعت قلوبهم، و زهقت لها أرواحهم فأصبحوا موتى، لا يرى إلا مساكنهم و جثثهم.
[6] وَ أَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ ، أي: قوية شديدة الهبوب، لها صوت أبلغ من صوت الرعد القاصف، عاتِيَةٍ ، أي: عتت على خزانها، على قول كثير من المفسرين، أو عتت على عاد، و زادت على الحد كما هو الصحيح.
[7] سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَ ثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً ، أي: نحسا و شرا فظيعا عليهم، فدمرتهم و أهلكتهم. فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى ، أي: هلكى موتى، كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ ، أي: كأنهم جذوع النخل، الّتي قطعت رؤوسها الخاوية، الساقط بعضها على بعض.
[8] فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8)، و هذا استفهام بمعنى النفي المتقرر.
[9] أي: و كذلك غير هاتين الأمتين الطاغيتين، عاد و ثمود، جاء غيرهم من الطغاة العتاة، كفرعون مصر، الذي أرسل اللّه إليه عبده و رسوله، موسى بن عمران عليه الصلاة و السّلام، و أراهم من الآيات البينات، ما تيقنوا بها الحقّ، و لكن جحدوا و كفروا، ظلما و علوا، و جاء من قبله من المكذبين. وَ الْمُؤْتَفِكاتُ ، أي: قرى قوم لوط، الجميع جاءوا بِالْخاطِئَةِ ، أي: بالفعلة الطاغية، و هو الكفر و التكذيب، و الظلم و المعاندة، و ما انضم إلى ذلك من أنواع المعاصي و الفسوق.
[10] فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ و هذا اسم جنس، أي: كل من هؤلاء كذبوا الرسول، الذي أرسله اللّه إليهم. فَأَخَذَهُمْ اللّه جميعا أَخْذَةً رابِيَةً ، أي: زائدة على الحد و المقدار، الذي يحصل به هلاكهم.
[11] و من جملة هؤلاء، قوم نوح أغرقهم اللّه في الطوفان لَمَّا طَغَى الْماءُ على وجه الأرض، علا على مواضعها الرفيعة. و امتنّ اللّه على الخلق الموجودين بعدهم أن حملهم فِي الْجارِيَةِ ، و هي السفينة: في أصلاب آبائهم و أمهاتهم، الّذين نجاهم اللّه. فاحمدوا اللّه و اشكروا الذي نجاكم حين أهلك الطاغين، و اعتبروا بآياته الدالة على
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1062
توحيده، و لهذا قال:
[12] لِنَجْعَلَها ، أي: الجارية، و المراد جنسها تَذْكِرَةً تذكّركم أول سفينة صنعت، و ما قصتها، و كيف نجى اللّه عليها من آمن به، و اتبع رسوله، و أهلك أهل الأرض كلها، فإن جنس الشيء مذكّر بأصله. و قوله:
وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ أي: يعقلها أولو الألباب، و يعرفون المقصود منها و وجه الآية بها. و هذا، بخلاف أهل الإعراض و الغفلة، و أهل البلادة و عدم الفطنة، فإنهم ليس لهم انتفاع بآيات اللّه، لعدم وعيهم عن اللّه، و تفكرهم بآياته.
[13] لما ذكر تعالى ما فعله بالمكذبين لرسله، و كيف جازاهم، و عجل لهم العقوبة في الدنيا، و أن اللّه نجّى الرسل و أتباعهم، كان هذا مقدمة للجزاء الأخروي، و توفية الأعمال كاملة يوم القيامة. فذكر الأمور الهائلة الّتي تقع أمام يوم القيامة، و أن أول ذلك أنه ينفخ إسرافيل فِي الصُّورِ إذا تكاملت الأجساد نابتة. نَفْخَةٌ واحِدَةٌ فخرجت الأرواح، فتدخل كلّ روح في جسدها، فإذا الناس قيام لرب العالمين.
[14] وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14)، أي: فتتت الجبال، و اضمحلت، و خلطت بالأرض، و نسفت عليها، فكان الجميع قاعا صفصفا، لا ترى فيها عوجا و لا أمتا، هذا ما يصنع بالأرض و ما عليها.
[16] و أما ما يصنع بالسماء، فإنها تضطرب و تمور و تشقق و يتغير لونها، و تهي بعد تلك الصلابة و القوة العظيمة، و ما ذاك إلا لأمر عظيم أزعجها، و كرب جسيم هائل، أوهاها و أضعفها.
[17] وَ الْمَلَكُ ، أي:
الملائكة الكرام عَلى أَرْجائِها ، أي: على جوانب السماء و أركانها، خاضعين لربهم، مستكينين لعظمته. وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ أملاك في غاية القوة، إذا أتى للفصل بين العباد و القضاء بينهم، بعدله و قسطه و فضله.
[18] و لهذا قال: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ على اللّه لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ لا من أجسادكم و ذواتكم، و لا من أعمالكم و صفاتكم، فإن اللّه تعالى عالم الغيب و الشهادة. و يحشر العباد حفاة، عراة، غرلا، في أرض مستوية، يسمعهم الداعي و ينفذهم البصر، فحينئذ يجازيهم بما عملوا.
[19] و لهذا ذكر كيفية الجزاء، فقال: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ إلى: الْخالِيَةِ . و هؤلاء هم أهل السعادة، يعطون كتبهم الّتي فيها أعمالهم الصالحة بأيمانهم، تمييزا لهم، و تنويها بشأنهم، و رفعا لمقدارهم. و يقول أحدهم عند ذلك من الفرح و السرور، و محبة أن يطلع الخلق على ما منّ اللّه عليه به من الكرامة: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ، أي: دونكم كتابي، فاقرأوه، فإنه يبشر بالجنات، و أنواع الكرامات، و مغفرة الذنوب، و ستر العيوب. و الذي أوصلني إلى هذه الحال، ما منّ اللّه به عليّ من الإيمان بالبعث و الحساب، و الاستعداد له، بالممكن من العلم، و لهذا قال:
[20] إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20)، أي: أيقنت، فالظن- هنا- بمعنى اليقين.
[21] فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21)، أي:
جامعة لما تشتهيه الأنفس، و تلذ الأعين، و قد رضوها، و لم يختاروا عليها غيرها.
[22] فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22) المنازل و القصور، عالية المحل.
[23] قُطُوفُها دانِيَةٌ (23)، أي: ثمرها و جناها، من أنواع الفواكه، قريبة، سهلة التناول على أهلها، ينالها أهلها، قياما و قعودا و متكئين.
[24] و يقول لهم إكراما: كُلُوا وَ اشْرَبُوا ، أي: من كل
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1063
طعام لذيذ، و شراب شهيّ. هَنِيئاً ، أي: تاما كاملا، من غير مكدر، و لا منغص. و ذلك الجزاء حاصل لكم بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ من الأعمال الصالحة، من صلاة، و صيام، و صدقة، و حج، و إحسان إلى الخلق، و ذكر اللّه، و إنابة إليه، و ترك الأعمال السيئة. فالأعمال جعلها اللّه سببا لدخول الجنة، و مادة لنعيمها، و أصلا لسعادتها.
[25] هؤلاء هم أهل الشقاء، يعطون كتبهم المشتملة على أعمالهم السيئة بشمالهم، تمييزا لهم، و خزيا، و عارا، و فضيحة. فيقول أحدهم من الهم، و الغم، و الحزن:
يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ لأنه يبشر بدخول النار، و الخسارة الأبدية.
[26] وَ لَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (26)، أي: ليتني كنت نسيا منسيا، و لم أبعث و أحاسب، و لهذا قال:
[27] يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27)، أي: يا ليت موتتي هي الموتة، الّتي لا بعث بعدها.
[28] ثمّ التفت إلى ماله و سلطانه، فإذا هو و بال عليه، لم يقدم منه لآخرته، و لا ينفعه لو افتدى به من العذاب شيئا، فيقول: ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28)، أي: ما نفعني في الدنيا، لأني لم أقدم منه شيئا، و لا في الآخرة، قد ذهب وقت نفعه.
[29] هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29)، أي:
ذهب و اضمحل، فلم تنفع الجنود و لا الكثرة، و لا العدد و لا العدد، و لا الجاه العريض، بل ذهب كله أدراج الرياح، و فاتت بسببه المتاجر و الأرباح، و حضرت بدله الهموم و الغموم و الأتراح.
[30] فحينئذ يؤمر بعذابه فيقال للزبانية الغلاظ الشداد: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30)، أي: اجعلوا في عنقه غلا يخنقه.
[31] ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31)، أي: قلبوه على جمرها و لهبها.
[32] ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً من سلاسل الجحيم في غاية الحرارة، فَاسْلُكُوهُ ، أي: انظموه فيها بأن تدخل في دبره، و تخرج من فمه، و يعلق فيها. فلا يزال يعذب هذا العذاب الفظيع، فبئس العذاب و العقاب، و وا حسرة له من التوبيخ و العتاب، فإن السبب الذي أوصله إلى هذا المحل:
[33] إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33)، بأن كان كافرا بربه، معاندا لرسله، رادّا ما جاءوا به من الحقّ.
[34] وَ لا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34)، أي: ليس في قلبه رحمة، يرحم بها الفقراء و المساكين، فلا يطعمهم من ماله، و لا يحض غيره على إطعامهم، لعدم الوازع في قلبه. و ذلك لأن مدار السعادة و مادتها أمران: الإخلاص للّه، الذي أصله الإيمان باللّه، و الإحسان إلى الخلق، بجميع وجوه الإحسان، الّتي من أعظمها، دفع ضرورة المحتاجين، بإطعامهم ما يتقوتون به، و هؤلاء لا إخلاص و لا إحسان، فلذلك استحقوا ما استحقوا.
[35] فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا ، أي: يوم القيامة حَمِيمٌ ، أي: قريب أو صديق، يشفع له، لينجو من عذاب اللّه، أو يفوز بثوابه: وَ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ، ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لا شَفِيعٍ يُطاعُ .
[36] وَ لا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) و هو صديد أهل النار، الذي هو في غاية الحرارة و المرارة، و نتن الريح، و قبح الطعم.
[37] لا يأكل هذا الطعام الذميم إِلَّا الْخاطِؤُنَ الّذين أخطأوا الصراط المستقيم، و سلكوا كلّ طريق يوصلهم إلى الجحيم، فلذلك استحقوا العذاب الأليم.
[38] أقسم تعالى، بما يبصر الخلق من جميع الأشياء، و ما لا يبصرونه.
[39- 42] فدخل في ذلك كلّ الخلق،
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1064
بل دخل في ذلك نفسه المقدسة، على صدق الرسول بما جاء به من هذا القرآن الكريم، و أن الرسول الكريم، بلغه عن اللّه تعالى. و نزه اللّه رسوله، عما رماه به أعداؤه، من أنه شاعر أو ساحر، و أن الذي حملهم على ذلك، عدم إيمانهم و تذكرهم، فلو آمنوا و تذكروا، علموا ما ينفعهم و يضرهم.
[43] و من ذلك، أن ينظروا في حال محمد صلّى اللّه عليه و سلّم، و يرمقوا أوصافه و أخلاقه، ليروا أمرا مثل الشمس، يدلهم على أنه رسول اللّه حقا، و أن ما جاء به تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43)، لا يليق أن يكون قولا للبشر، بل هو كلام دال على عظمة من تكلم به، و جلالة أوصافه، و كمال تربيته للخلق، و علوه فوق عباده. و أيضا، فإن هذا ظن منهم بما لا يليق باللّه و حكمته.
[44- 46] وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا ، و افترى بَعْضَ الْأَقاوِيلِ الكاذبة، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46)، و هو عرق متصل بالقلب، إذا انقطع هلك منه الإنسان. فلو قدر أن الرسول- حاشا و كلا- تقوّل على اللّه، لعاجله بالعقوبة، و أخذه أخذ عزيز مقتدر، لأنه حكيم، قدير على كلّ شيء. فحكمته تقتضي أن لا يمهل الكاذب عليه، الذي يزعم أن اللّه أباح له دماء من خالفه و أموالهم، و أنه هو و أتباعه لهم النجاة، و من خالفه فله الهلاك. فإذا كان اللّه قد أيد رسوله بالمعجزات، و برهن على صدق ما جاء به بالآيات البينات، و نصره على أعدائه، و مكنه من نواصيهم، فهو أكبر شهادة منه على رسالته.
[47] و قوله: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47)، أي: لو أهلكه، ما امتنع هو بنفسه، و لا قدر أحد أن يمنعه من عذاب اللّه.
[48] وَ إِنَّهُ ، أي: القرآن الكريم لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ يتذكرون به مصالح دينهم و دنياهم، فيعرفونها و يعملون عليها، يذكرهم العقائد الدينية، و الأخلاق المرضية، و الأحكام الشرعية، فيكونون من العلماء الربانيين، و العباد العارفين، و الأئمة المهديين.
[49] وَ إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) به، و هذا فيه تهديد، و وعيد للمكذبين، و أنه سيعاقبهم على تكذيبهم، بالعقوبة البليغة.
[50] وَ إِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50) فإنهم لما كفروا به، و رأوا ما وعدهم به، تحسروا إذ لم يهتدوا به، و لم ينقادوا لأمره، ففاتهم الثواب، و حصلوا على أشد العذاب، و تقطعت بهم الأسباب.
[51] وَ إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51)، أي:
أعلى مراتب العلم، فإن أعلى مراتب العلم: اليقين، و هو: العلم الثابت، الذي لا يتزلزل، و لا يزول. و اليقين مراتبه ثلاث، كل واحدة أعلى مما قبلها: أولها: علم اليقين، و هو: العلم المستفاد من الخبر. ثمّ عين اليقين، و هو:
العلم المدرك بحاسة البصر. ثمّ حق اليقين، و هو العلم المدرك بحاسة الذوق و المباشرة. و هذا القرآن بهذا الوصف، فإن ما فيه من العلوم المؤيدة بالبراهين القطعية، و ما فيه من الحقائق و المعارف الإيمانية، يحصل به لمن ذاقه حق اليقين.