کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تيسير الكريم الرحمن

سورة الفاتحة سورة آل عمران سورة المائدة سورة الأنعام تفسير سورة الأعراف تفسير سورة الأنفال تفسير سورة التوبة تفسير سورة يونس تفسير سورة هود تفسير سورة الرعد سورة إبراهيم تفسير سورة الحجر سورة النحل سورة الإسراء سورة الكهف تفسير سورة مريم سورة طه تفسير سورة الأنبياء تفسير سورة الحج تفسير سورة المؤمنون تفسير سورة النور تفسير سورة الفرقان تفسير سورة الشعراء تفسير سورة النمل تفسير سورة العنكبوت تفسير سورة الروم تفسير سورة لقمان تفسير سورة السجدة سورة الأحزاب سورة سبأ تفسير سورة فاطر تفسير سورة يس تفسير سورة الصافات تفسير سورة الزمر تفسير سورة فصلت سورة الشورى سورة الزخرف تفسير سورة الدخان سورة الجاثية سورة الأحقاف سورة محمد تفسير سورة الحجرات تفسير سورة ق سورة الطور تفسير سورة النجم سورة القمر سورة الرحمن سورة الواقعة تفسير سورة الحديد تفسير سورة المجادلة تفسير سورة الحشر تفسير سورة الممتحنة تفسير سورة الصف سورة الجمعة تفسير سورة المنافقون تفسير سورة التغابن تفسير سورة الطلاق تفسير سورة التحريم تفسير سورة الملك تفسير سورة القلم سورة الحاقة سورة المعارج سورة نوح سورة الجن تفسير سورة المزمل سورة المدثر تفسير سورة القيامة سورة الإنسان سورة المرسلات تفسير سورة النبأ سورة النازعات سورة عبس تفسير سورة التكوير سورة الإنفطار سورة المطففين تفسير سورة الإنشقاق سورة البروج سورة الطارق سورة الأعلى تفسير سورة الغاشية تفسير سورة الفجر تفسير سورة البلد سورة الشمس سورة الليل تفسير سورة الضحى سورة الشرح سورة التين تفسير سورة العلق سورة القدر تفسير سورة البينة تفسير سورة الزلزلة تفسير سورة العاديات تفسير سورة القارعة سورة التكاثر سورة العصر تفسير سورة الهمزة سورة الفيل تفسير سورة قريش سورة الماعون سورة الكوثر تفسير سورة الكافرون سورة النصر تفسير سورة المسد تفسير سورة الإخلاص سورة الفلق تفسير سورة الناس محتوى تفسير الإمام السعدي

تيسير الكريم الرحمن


صفحه قبل

تيسير الكريم الرحمن، ص: 1058

اللّه‏ عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ‏ أي: غليظ شرس الخلق قاس، غير منقاد زَنِيمٍ‏ أي: دعيّ، ليس له أصل و لا مادة ينتج منها الخير، بل أخلاقه أقبح الأخلاق، و لا يرجى منه فلاح، له زنمة، أي: علامة في الشر يعرف بها. و حاصل هذا، أن اللّه تعالى نهى عن طاعة كلّ حلاف كذاب، خسيس النفس، سيى‏ء الأخلاق، خصوصا الأخلاق المتضمنة للإعجاب بالنفس، و التكبر على الحقّ و على الخلق، و الاحتقار للناس، بالغيبة و النميمة، و الطعن فيهم، و كثرة المعاصي.

[14- 15] و هذه الآيات- و إن كانت نزلت في بعض المشركين- كالوليد بن المغيرة أو غيره، لقوله عنه: أَنْ كانَ ذا مالٍ وَ بَنِينَ (14) إِذا تُتْلى‏ عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ‏ (15) أي: لأجل كثرة ماله و ولده، طغى و استكبر عن الحقّ، و دفعه حين جاءه، و جعله من جملة أساطير الأولين، الّتي يمكن صدقها و كذبها. فإنها عامة في كلّ من اتصف بهذا الوصف، لأن القرآن نزل لهداية الخلق كلهم، و يدخل فيه أول الأمة و آخرهم. و ربما نزل بعض الآيات في سبب شخص من الأشخاص، لتتضح به القاعدة العامة، و يعرف به أمثال الجزئيات الداخلة في القضايا العامة.

[16] ثمّ توعد تعالى من جرى منه ما وصف اللّه، بأن اللّه سيسمه على الخرطوم في العذاب، و يعذبه عذابا ظاهرا، يكون عليه سمة و علامة، في أشق الأشياء عليه، و هو وجهه.

[17] يقول تعالى: إنا بلونا هؤلاء المكذبين بالخير، و أمهلناهم، و أمددناهم بما شئنا من مال و ولد و طول عمر، و نحو ذلك، مما يوافق أهواءهم، لا لكرامتهم علينا، بل ربما يكون استدراجا لهم، من حيث لا يعلمون.

فاغترارهم بذلك، نظير اغترار أصحاب الجنة، الذي هم فيها شركاء، حين أينعت أشجارها، و زهت ثمارها، و آن وقت صرامها، و جزموا أنها في أيديهم، و طوع أمرهم، و أنه ليس ثمّ مانع يمنعهم منها.

[18] و لهذا أقسموا و حلفوا من غير استثناء، أنهم سيصرمونها، أي: يجذونها مصبحين. و لم يدروا أن اللّه بالمرصاد، و أن العذاب سيخلفهم عليها، و يبادرهم إليها.

[19- 21] فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ‏ ، أي: عذاب نزل عليها ليلا وَ هُمْ نائِمُونَ‏ ، فأبادها، و أتلفها فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ‏ (20)، أي: كالليل المظلم، و ذهبت الأشجار و الثمار، هذا و هم لا يشعرون بهذا الواقع الملم، و لهذا تنادوا فيها بينهم لما أصبحوا، يقول بعضهم لبعض:

[22- 24] أَنِ اغْدُوا عَلى‏ حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا قاصدين لها وَ هُمْ يَتَخافَتُونَ‏ فيما بينهم بمنع حق اللّه تعالى، و يقولون: لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ‏ ، أي: بكروا قبل انتشار الناس، و تواصوا مع ذلك، بمنع الفقراء و المساكين. و من شدة حرصهم و بخلهم، أنهم يتخافتون بهذا الكلام مخافتة، خوفا أن يسمعهم أحد، فيخبر الفقراء.

[25] وَ غَدَوْا في هذه الحالة الشنيعة، و القسوة، و عدم الرحمة عَلى‏ حَرْدٍ قادِرِينَ‏ ، أي: على إمساك و منع لحق اللّه، جازمين بقدرتهم عليها.

[26] فَلَمَّا رَأَوْها على الوصف الذي ذكر اللّه كالصريم، قالُوا من الحيرة و الانزعاج: إِنَّا لَضَالُّونَ‏ ، أي: تائهون عنها، لعلها غيرها.

[27] فلما تحققوها، و رجعت إليهم عقولهم، قالوا:

بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ‏ (27) منها، فعرفوا حينئذ أنه عقوبة.

[28] قالَ أَوْسَطُهُمْ‏ ، أي: أعدلهم، و أحسنهم طريقة: أَ لَمْ‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 1059

أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ‏ ، أي: تنزهون اللّه عما لا يليق به، و من ذلك، ظنكم أن قدرتكم مستقلة، فلو استثنيتم، و قلتم: «إن شاء اللّه» و جعلتم مشيئتكم تابعة لمشيئته، ما جرى عليكم ما جرى.

[29] قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ‏ (29)، أي:

استدركوا بعد ذلك، و لكن بعد ما وقع على جنتهم العذاب، الذي لا يرفع. و لكن بعد ما وقع على جنتهم العذاب، الذي لا يرفع. و لكن لعل تسبيحهم هذا، و إقرارهم على أنفسهم بالظلم، ينفعهم في تخفيف الإثم و يكون توبة، و لهذا ندموا ندامة عظيمة.

[30- 31] فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ‏ (30) فيما أجروه و فعلوه، قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ‏ (31)، أي: متجاوزين للحد في حق اللّه، و حق عباده.

[32] عَسى‏ رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى‏ رَبِّنا راغِبُونَ‏ (32) فهم رجوا اللّه أن يبدلهم خيرا منها، و وعدوا أنهم سيرغبون إلى اللّه، و يلحون عليه في الدنيا. فإن كانوا كما قالوا، فالظاهر أن اللّه أبدلهم في الدنيا خيرا منها لأن من دعا اللّه صادقا، و رغب إليه و رجاه، أعطاه سؤله.

[33] قال تعالى معظما ما وقع: كَذلِكَ الْعَذابُ‏ ، أي: الدنيوي لمن أتى بأسباب العذاب أن يسلبه اللّه الشي‏ء الذي طغى به و بغى، و آثر الحياة الدنيا، و أن يزيله عنه، أحوج ما يكون إليه. وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ من عذاب الدنيا لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ‏ ، فإن من علم ذلك، أوجب له الانزجار عن كلّ سبب يوجب العقاب، و يحرم الثواب.

[34- 35] يخبر تعالى بما أعده للمتقين الكفر و المعاصي، من أنواع النعيم و العيش السليم في جوار أكرم الأكرمين، و أن حكمته تعالى، لا تقتضي أن يجعل المتقين القانتين لربهم، المنقادين لأوامره، المتبعين مراضيه، كالمجرمين الّذين أوضعوا في معاصيه، و الكفر بآياته، و معاندة رسله، و محاربه أوليائه.

[36] و أن من ظن أنه يسويهم في الثواب، فإنه قد أساء الحكم، و أن حكمه باطل، و رأيه فاسد.

[37- 38] و أن المجرمين إذا ادعوا ذلك، فليس لهم مستند، لا كتاب فيه يدرسون و يتلون، أنهم من أهل الجنة، و أن لهم ما طلبوا و تخيروا.

[39] و ليس لهم عند اللّه عهد و يمين بالغة إلى يوم القيامة أن لهم ما يحكمون و ليس لهم شركاء و أعوان على إدراك ما طلبوا، فإن كان لهم شركاء و أعوان، فليأتوا بهم، إن كانوا صادقين. و من المعلوم أن جميع ذلك منتف، فليس لهم كتاب، و لا لهم عهد عند اللّه في النجاة، و لا لهم شركاء يعينونهم، فعلم أن دعواهم باطلة فاسدة.

[40] و قوله: سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ‏ (40)، أي: أيهم الكفيل بهذه الدعوى الّتي تبين بطلانها، فإنه لا يمكن أحدا، أن يتصدر بها، و لا يكون زعيما فيها.

[42] أي: إذا كان يوم القيامة، و انكشف فيه من القلاقل و الزلازل و الأهوال، ما لا يدخل تحت الوهم، و أتى الباري لفصل القضاء بين عباده، و مجازاتهم، فكشف عن ساقه الكريمة، الّتي لا يشبهها شي‏ء، و رأى الخلائق من جلال اللّه و عظمته، ما لا يمكن التعبير عنه، فحينئذ يدعون إلى السجود للّه. فيسجد المؤمنون الّذين كانوا يسجدون للّه، طوعا و اختيارا، و يذهب الفجار المنافقون ليسجدوا فلا يقدرون على السجود، و تكون ظهورهم كصياصي البقر، لا يستطيعون الانحناء.

[43] و هذا الجزاء من جنس عملهم، فإنهم كانوا يدعون في الدنيا إلى السجود للّه،

تيسير الكريم الرحمن، ص: 1060

و توحيده و عبادته، و هم سالمون، لا علة فيهم، فيستكبرون عن ذلك و يأبون، فلا تسأل يومئذ عن حالهم، و سوء مآلهم، فإن اللّه سخط عليهم، و حقت عليهم كلمة العذاب، و تقطعت أسبابهم، و لم تنفعهم الندامة و الاعتذار يوم القيامة. ففي هذا ما يزعج القلوب عن المقام على المعاصي، و يوجب التدارك مدة الإمكان.

[44- 45] أي: دعني و المكذبين بالقرآن العظيم، فإن عليّ جزاءهم، و لا تستعجل لهم، سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ‏ فنمدهم بالأموال و الأولاد، و نمدهم في الأرزاق و الأعمال، ليغتروا، و يستمروا على ما يضرهم، و هذا من كيد اللّه لهم، و كيد اللّه لأعدائه متين قوي، يبلغ من ضررهم و عقوبتهم كلّ مبلغ.

[46] أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ‏ (46)، أي: ليس لنفورهم عنك، و عدم تصديقهم لك، سبب يوجب لهم ذلك، فإنك تعلمهم، و تدعوهم إلى اللّه، لمحض مصلحتهم، من غير أن تصيبهم من أموالهم مغرما، يثقل عليهم.

[47] أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ‏ (47) ما كان عندهم من الغيوب، و قد وجدوا أنهم على حق، و أن لهم الثواب عند اللّه. فهذا أمر ما كان، و إنّما كانت حالهم، حال معاند ظالم.

[48] فلم يبق إلا الصبر لأذاهم، و التحمل لما يصدر منهم، و الاستمرار على دعوتهم، و لهذا قال: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ‏ ، أي: لما حكم به، شرعا و قدرا، فالحكم القدري، يصبر على المؤذى منه، و لا يتلقّى بالسخط و الجزع، و الحكم الشرعي، يقابل بالقبول و التسليم، و الانقياد لأمره. و قوله: وَ لا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ‏ و هو يونس بن متى، عليه الصلاة و السّلام. أي: و لا تشابهه في الحال الّتي أوصلته و أوجبت له الانحباس في بطن الحوت، و هو عدم صبره على قومه، الصبر المطلوب منه، و ذهابه مغاضبا لربه، حتى ركب البحر، فاقترع أهل السفينة حين ثقلت بأهلها، أيهم يلقون لكي تخف بهم، فوقعت القرعة عليه، فالتقمه الحوت و هو مليم. و قوله: إِذْ نادى‏ وَ هُوَ مَكْظُومٌ‏ ، أي: و هو في بطنها قد كظمت عليه، أو نادى و هو مغتمّ مهتم، فقال: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ‏ . فاستجاب اللّه له، و قذفته الحوت من بطنها بالعراء، و هو سقيم، و أنبت اللّه عليه شجرة من يقطين، و لهذا قال هنا:

[49] لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ ، أي: لطرح في العراء، و هي الأرض الخالية وَ هُوَ مَذْمُومٌ‏ ، و لكن اللّه تغمده برحمته، فنبذ و هو ممدوح، و صارت حاله أحسن من حاله الأولى، و لهذا قال:

[50] فَاجْتَباهُ رَبُّهُ‏ ، أي: اختاره و نقاه من كلّ كدر. فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ‏ ، أي: الّذين صلحت أعمالهم و أقوالهم، و نياتهم و أحوالهم. فامتثل نبينا محمد صلّى اللّه عليه و سلّم أمر اللّه، فصبر لحكم ربه صبرا لا يدركه أحد من العالمين. فجعل اللّه له العاقبة وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ* و لم يبلغ أعداؤه فيه إلا ما يسوؤهم.

[51] حتى إنهم حرصوا على أن يزلقوه بأبصارهم، أي:

يصيبوه بأعينهم، من حسدهم و حنقهم و غيظهم. هذا منتهى ما قدروا عليه من الأذى الفعليّ، و اللّه حافظه و ناصره.

و أما الأذى القولي، فيقولون فيه أقوالا، بحسب ما توحي إليهم قلوبهم، فيقولون تارة: «مجنون»، و تارة: «شاعر»، و تارة: «ساحر».

[52] قال تعالى: وَ ما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ‏ (52)، أي: و ما هذا القرآن العظيم، و الذكر الحكيم، إلا ذكر للعالمين، يتذكرون به مصالح دينهم و دنياهم، و الحمد للّه. تم تفسير سورة القلم- بمنّ اللّه و كرمه.

تيسير الكريم الرحمن، ص: 1061

سورة الحاقة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

[1- 3] الْحَاقَّةُ (1) من أسماء يوم القيامة، لأنها تحق و تنزل بالخلق، و تظهر فيها حقائق الأمور، و مخبآت الصدور. فعظم تعالى شأنها و فخّمه، بما كرّره من قوله: الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَ ما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) فإن لها شأنا عظيما، و هولا جسيما.

ثمّ ذكر نموذجا من أحوالها الموجودة في الدنيا المشاهدة فيها، و هو ما أحله من العقوبات البليغة بالأمم العاتية، فقال:

[4] كَذَّبَتْ ثَمُودُ و هم: القبيلة المشهورة، سكان الحجر، الّذين أرسل اللّه إليهم رسوله صالحا عليه السّلام، ينهاهم عما هم عليه من الشرك، و يأمرهم بالتوحيد، فردوا دعوته، و كذبوه، و كذبوا ما أخبر به من يوم القيامة، و هي:

القارعة الّتي تقرع الخلق بأهوالها. و كذلك عاد الأولى، سكان حضرموت، حين بعث اللّه إليهم رسوله هودا عليه الصلاة و السّلام، يدعوهم إلى عبادة اللّه وحده، فكذبوه، و أنكروا ما أخبر به من البعث، فأهلك اللّه الطائفتين بالهلاك العاجل:

[5] فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) و هي: الصيحة العظيمة الفظيعة، الّتي قطعت قلوبهم، و زهقت لها أرواحهم فأصبحوا موتى، لا يرى إلا مساكنهم و جثثهم.

[6] وَ أَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ ، أي: قوية شديدة الهبوب، لها صوت أبلغ من صوت الرعد القاصف، عاتِيَةٍ ، أي: عتت على خزانها، على قول كثير من المفسرين، أو عتت على عاد، و زادت على الحد كما هو الصحيح.

[7] سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَ ثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً ، أي: نحسا و شرا فظيعا عليهم، فدمرتهم و أهلكتهم. فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى‏ ، أي: هلكى موتى، كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ ، أي: كأنهم جذوع النخل، الّتي قطعت رؤوسها الخاوية، الساقط بعضها على بعض.

[8] فَهَلْ تَرى‏ لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8)، و هذا استفهام بمعنى النفي المتقرر.

[9] أي: و كذلك غير هاتين الأمتين الطاغيتين، عاد و ثمود، جاء غيرهم من الطغاة العتاة، كفرعون مصر، الذي أرسل اللّه إليه عبده و رسوله، موسى بن عمران عليه الصلاة و السّلام، و أراهم من الآيات البينات، ما تيقنوا بها الحقّ، و لكن جحدوا و كفروا، ظلما و علوا، و جاء من قبله من المكذبين. وَ الْمُؤْتَفِكاتُ‏ ، أي: قرى قوم لوط، الجميع جاءوا بِالْخاطِئَةِ ، أي: بالفعلة الطاغية، و هو الكفر و التكذيب، و الظلم و المعاندة، و ما انضم إلى ذلك من أنواع المعاصي و الفسوق.

[10] فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ‏ و هذا اسم جنس، أي: كل من هؤلاء كذبوا الرسول، الذي أرسله اللّه إليهم. فَأَخَذَهُمْ‏ اللّه جميعا أَخْذَةً رابِيَةً ، أي: زائدة على الحد و المقدار، الذي يحصل به هلاكهم.

[11] و من جملة هؤلاء، قوم نوح أغرقهم اللّه في الطوفان‏ لَمَّا طَغَى الْماءُ على وجه الأرض، علا على مواضعها الرفيعة. و امتنّ اللّه على الخلق الموجودين بعدهم أن حملهم‏ فِي الْجارِيَةِ ، و هي السفينة: في أصلاب آبائهم و أمهاتهم، الّذين نجاهم اللّه. فاحمدوا اللّه و اشكروا الذي نجاكم حين أهلك الطاغين، و اعتبروا بآياته الدالة على‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 1062

توحيده، و لهذا قال:

[12] لِنَجْعَلَها ، أي: الجارية، و المراد جنسها تَذْكِرَةً تذكّركم أول سفينة صنعت، و ما قصتها، و كيف نجى اللّه عليها من آمن به، و اتبع رسوله، و أهلك أهل الأرض كلها، فإن جنس الشي‏ء مذكّر بأصله. و قوله:

وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ أي: يعقلها أولو الألباب، و يعرفون المقصود منها و وجه الآية بها. و هذا، بخلاف أهل الإعراض و الغفلة، و أهل البلادة و عدم الفطنة، فإنهم ليس لهم انتفاع بآيات اللّه، لعدم وعيهم عن اللّه، و تفكرهم بآياته.

[13] لما ذكر تعالى ما فعله بالمكذبين لرسله، و كيف جازاهم، و عجل لهم العقوبة في الدنيا، و أن اللّه نجّى الرسل و أتباعهم، كان هذا مقدمة للجزاء الأخروي، و توفية الأعمال كاملة يوم القيامة. فذكر الأمور الهائلة الّتي تقع أمام يوم القيامة، و أن أول ذلك أنه ينفخ إسرافيل‏ فِي الصُّورِ إذا تكاملت الأجساد نابتة. نَفْخَةٌ واحِدَةٌ فخرجت الأرواح، فتدخل كلّ روح في جسدها، فإذا الناس قيام لرب العالمين.

[14] وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14)، أي: فتتت الجبال، و اضمحلت، و خلطت بالأرض، و نسفت عليها، فكان الجميع قاعا صفصفا، لا ترى فيها عوجا و لا أمتا، هذا ما يصنع بالأرض و ما عليها.

[16] و أما ما يصنع بالسماء، فإنها تضطرب و تمور و تشقق و يتغير لونها، و تهي بعد تلك الصلابة و القوة العظيمة، و ما ذاك إلا لأمر عظيم أزعجها، و كرب جسيم هائل، أوهاها و أضعفها.

[17] وَ الْمَلَكُ‏ ، أي:

الملائكة الكرام‏ عَلى‏ أَرْجائِها ، أي: على جوانب السماء و أركانها، خاضعين لربهم، مستكينين لعظمته. وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ أملاك في غاية القوة، إذا أتى للفصل بين العباد و القضاء بينهم، بعدله و قسطه و فضله.

[18] و لهذا قال: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ‏ على اللّه‏ لا تَخْفى‏ مِنْكُمْ خافِيَةٌ لا من أجسادكم و ذواتكم، و لا من أعمالكم و صفاتكم، فإن اللّه تعالى عالم الغيب و الشهادة. و يحشر العباد حفاة، عراة، غرلا، في أرض مستوية، يسمعهم الداعي و ينفذهم البصر، فحينئذ يجازيهم بما عملوا.

[19] و لهذا ذكر كيفية الجزاء، فقال: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ‏ إلى: الْخالِيَةِ . و هؤلاء هم أهل السعادة، يعطون كتبهم الّتي فيها أعمالهم الصالحة بأيمانهم، تمييزا لهم، و تنويها بشأنهم، و رفعا لمقدارهم. و يقول أحدهم عند ذلك من الفرح و السرور، و محبة أن يطلع الخلق على ما منّ اللّه عليه به من الكرامة: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ‏ ، أي: دونكم كتابي، فاقرأوه، فإنه يبشر بالجنات، و أنواع الكرامات، و مغفرة الذنوب، و ستر العيوب. و الذي أوصلني إلى هذه الحال، ما منّ اللّه به عليّ من الإيمان بالبعث و الحساب، و الاستعداد له، بالممكن من العلم، و لهذا قال:

[20] إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ‏ (20)، أي: أيقنت، فالظن- هنا- بمعنى اليقين.

[21] فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21)، أي:

جامعة لما تشتهيه الأنفس، و تلذ الأعين، و قد رضوها، و لم يختاروا عليها غيرها.

[22] فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22) المنازل و القصور، عالية المحل.

[23] قُطُوفُها دانِيَةٌ (23)، أي: ثمرها و جناها، من أنواع الفواكه، قريبة، سهلة التناول على أهلها، ينالها أهلها، قياما و قعودا و متكئين.

[24] و يقول لهم إكراما: كُلُوا وَ اشْرَبُوا ، أي: من كل‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 1063

طعام لذيذ، و شراب شهيّ. هَنِيئاً ، أي: تاما كاملا، من غير مكدر، و لا منغص. و ذلك الجزاء حاصل لكم‏ بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ من الأعمال الصالحة، من صلاة، و صيام، و صدقة، و حج، و إحسان إلى الخلق، و ذكر اللّه، و إنابة إليه، و ترك الأعمال السيئة. فالأعمال جعلها اللّه سببا لدخول الجنة، و مادة لنعيمها، و أصلا لسعادتها.

[25] هؤلاء هم أهل الشقاء، يعطون كتبهم المشتملة على أعمالهم السيئة بشمالهم، تمييزا لهم، و خزيا، و عارا، و فضيحة. فيقول أحدهم من الهم، و الغم، و الحزن:

يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ‏ لأنه يبشر بدخول النار، و الخسارة الأبدية.

[26] وَ لَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ‏ (26)، أي: ليتني كنت نسيا منسيا، و لم أبعث و أحاسب، و لهذا قال:

[27] يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27)، أي: يا ليت موتتي هي الموتة، الّتي لا بعث بعدها.

[28] ثمّ التفت إلى ماله و سلطانه، فإذا هو و بال عليه، لم يقدم منه لآخرته، و لا ينفعه لو افتدى به من العذاب شيئا، فيقول: ما أَغْنى‏ عَنِّي مالِيَهْ‏ (28)، أي: ما نفعني في الدنيا، لأني لم أقدم منه شيئا، و لا في الآخرة، قد ذهب وقت نفعه.

[29] هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ‏ (29)، أي:

ذهب و اضمحل، فلم تنفع الجنود و لا الكثرة، و لا العدد و لا العدد، و لا الجاه العريض، بل ذهب كله أدراج الرياح، و فاتت بسببه المتاجر و الأرباح، و حضرت بدله الهموم و الغموم و الأتراح.

[30] فحينئذ يؤمر بعذابه فيقال للزبانية الغلاظ الشداد: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ‏ (30)، أي: اجعلوا في عنقه غلا يخنقه.

[31] ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ‏ (31)، أي: قلبوه على جمرها و لهبها.

[32] ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً من سلاسل الجحيم في غاية الحرارة، فَاسْلُكُوهُ‏ ، أي: انظموه فيها بأن تدخل في دبره، و تخرج من فمه، و يعلق فيها. فلا يزال يعذب هذا العذاب الفظيع، فبئس العذاب و العقاب، و وا حسرة له من التوبيخ و العتاب، فإن السبب الذي أوصله إلى هذا المحل:

[33] إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ‏ (33)، بأن كان كافرا بربه، معاندا لرسله، رادّا ما جاءوا به من الحقّ.

[34] وَ لا يَحُضُّ عَلى‏ طَعامِ الْمِسْكِينِ‏ (34)، أي: ليس في قلبه رحمة، يرحم بها الفقراء و المساكين، فلا يطعمهم من ماله، و لا يحض غيره على إطعامهم، لعدم الوازع في قلبه. و ذلك لأن مدار السعادة و مادتها أمران: الإخلاص للّه، الذي أصله الإيمان باللّه، و الإحسان إلى الخلق، بجميع وجوه الإحسان، الّتي من أعظمها، دفع ضرورة المحتاجين، بإطعامهم ما يتقوتون به، و هؤلاء لا إخلاص و لا إحسان، فلذلك استحقوا ما استحقوا.

[35] فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا ، أي: يوم القيامة حَمِيمٌ‏ ، أي: قريب أو صديق، يشفع له، لينجو من عذاب اللّه، أو يفوز بثوابه: وَ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ‏ ، ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لا شَفِيعٍ يُطاعُ‏ .

[36] وَ لا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ‏ (36) و هو صديد أهل النار، الذي هو في غاية الحرارة و المرارة، و نتن الريح، و قبح الطعم.

[37] لا يأكل هذا الطعام الذميم‏ إِلَّا الْخاطِؤُنَ‏ الّذين أخطأوا الصراط المستقيم، و سلكوا كلّ طريق يوصلهم إلى الجحيم، فلذلك استحقوا العذاب الأليم.

[38] أقسم تعالى، بما يبصر الخلق من جميع الأشياء، و ما لا يبصرونه.

[39- 42] فدخل في ذلك كلّ الخلق،

تيسير الكريم الرحمن، ص: 1064

بل دخل في ذلك نفسه المقدسة، على صدق الرسول بما جاء به من هذا القرآن الكريم، و أن الرسول الكريم، بلغه عن اللّه تعالى. و نزه اللّه رسوله، عما رماه به أعداؤه، من أنه شاعر أو ساحر، و أن الذي حملهم على ذلك، عدم إيمانهم و تذكرهم، فلو آمنوا و تذكروا، علموا ما ينفعهم و يضرهم.

[43] و من ذلك، أن ينظروا في حال محمد صلّى اللّه عليه و سلّم، و يرمقوا أوصافه و أخلاقه، ليروا أمرا مثل الشمس، يدلهم على أنه رسول اللّه حقا، و أن ما جاء به‏ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ‏ (43)، لا يليق أن يكون قولا للبشر، بل هو كلام دال على عظمة من تكلم به، و جلالة أوصافه، و كمال تربيته للخلق، و علوه فوق عباده. و أيضا، فإن هذا ظن منهم بما لا يليق باللّه و حكمته.

[44- 46] وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا ، و افترى‏ بَعْضَ الْأَقاوِيلِ‏ الكاذبة، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ‏ (46)، و هو عرق متصل بالقلب، إذا انقطع هلك منه الإنسان. فلو قدر أن الرسول- حاشا و كلا- تقوّل على اللّه، لعاجله بالعقوبة، و أخذه أخذ عزيز مقتدر، لأنه حكيم، قدير على كلّ شي‏ء. فحكمته تقتضي أن لا يمهل الكاذب عليه، الذي يزعم أن اللّه أباح له دماء من خالفه و أموالهم، و أنه هو و أتباعه لهم النجاة، و من خالفه فله الهلاك. فإذا كان اللّه قد أيد رسوله بالمعجزات، و برهن على صدق ما جاء به بالآيات البينات، و نصره على أعدائه، و مكنه من نواصيهم، فهو أكبر شهادة منه على رسالته.

[47] و قوله: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ‏ (47)، أي: لو أهلكه، ما امتنع هو بنفسه، و لا قدر أحد أن يمنعه من عذاب اللّه.

[48] وَ إِنَّهُ‏ ، أي: القرآن الكريم‏ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ‏ يتذكرون به مصالح دينهم و دنياهم، فيعرفونها و يعملون عليها، يذكرهم العقائد الدينية، و الأخلاق المرضية، و الأحكام الشرعية، فيكونون من العلماء الربانيين، و العباد العارفين، و الأئمة المهديين.

[49] وَ إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ‏ (49) به، و هذا فيه تهديد، و وعيد للمكذبين، و أنه سيعاقبهم على تكذيبهم، بالعقوبة البليغة.

[50] وَ إِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ‏ (50) فإنهم لما كفروا به، و رأوا ما وعدهم به، تحسروا إذ لم يهتدوا به، و لم ينقادوا لأمره، ففاتهم الثواب، و حصلوا على أشد العذاب، و تقطعت بهم الأسباب.

[51] وَ إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ‏ (51)، أي:

أعلى مراتب العلم، فإن أعلى مراتب العلم: اليقين، و هو: العلم الثابت، الذي لا يتزلزل، و لا يزول. و اليقين مراتبه ثلاث، كل واحدة أعلى مما قبلها: أولها: علم اليقين، و هو: العلم المستفاد من الخبر. ثمّ عين اليقين، و هو:

العلم المدرك بحاسة البصر. ثمّ حق اليقين، و هو العلم المدرك بحاسة الذوق و المباشرة. و هذا القرآن بهذا الوصف، فإن ما فيه من العلوم المؤيدة بالبراهين القطعية، و ما فيه من الحقائق و المعارف الإيمانية، يحصل به لمن ذاقه حق اليقين.

صفحه بعد