کتابخانه تفاسیر
تيسير الكريم الرحمن، ص: 567
للشمال، فوصل إلى ما بين السدين، و هما سدان، كانا معروفين في ذلك الزمان، سدان من سلاسل الجبال، المتصلة يمنة و يسرة حتّى تتصل بالبحار، بين يأجوج و مأجوج و بين الناس، وجد من دون السدين قوما، لا يكادون يفقهون قولا، لعجمة ألسنتهم، و استعجام أذهانهم و قلوبهم، و قد أعطى اللّه ذا القرنين، من الأسباب العلمية، ما فقه به ألسنة أولئك القوم، و وفقهم، و راجعهم، و راجعوه، فاشتكوا إليه ضرر يأجوج و مأجوج، و هما:
أمتان عظيمتان من بني آدم.
[94] فقالوا: إِنَّ يَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بالقتل و أخذ الأموال و غير ذلك. فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً أي: جعلا عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَ بَيْنَهُمْ سَدًّا ، و دل ذلك على عدم اقتدارهم بأنفسهم، على بنيان السد، و عرفوا اقتدار ذي القرنين عليه، فبذلوا له أجرة، ليفعل ذلك، و ذكروا له السبب الداعي، و هو: إفسادهم في الأرض. فلم يكن ذو القرنين ذا طمع، و لا رغبة في الدنيا، و لا تاركا لإصلاح أحوال الرعية. بل قصده الإصلاح، فلذلك أجاب طلباتهم، لما فيها من المصلحة، و لم يأخذ منهم أجرة، و شكر ربه على تمكينه و اقتداره.
[95] فقال لهم: ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ أي: مما تبذلون لي و تعطوني، و إنما أطلب منكم أن تعينوني بقوة منكم بأيديكم أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ رَدْماً أي: مانعا من عبورهم عليكم.
[96] آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ أي: قطع الحديد، فأعطوه ذلك. حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ أي: الجبلين اللذين بني بينهما السد قالَ انْفُخُوا أي: أوقدوها إيقادا عظيما، و استعملوا لها المنافيخ، لتشتد، فتذيب النحاس، فلما ذاب النحاس، الذي يريد أن يلصقه بين زبر الحديد قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً أي: نحاسا مذابا، فأفرغ عليه القطر، فاستحكم السد استحكاما هائلا، و امتنع به من وراءه من الناس، من ضرر يأجوج و مأجوج.
[97- 98] فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَ مَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97) أي: فما لهم استطاعة، و لا قدرة على الصعود عليه، لارتفاعه، و لا على نقبه لإحكامه و قوته، فلما فعل هذا الفعل الجميل و الأثر الجليل، أضاف النعمة إلى موليها و قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي أي: من فضله و إحسانه عليّ. و هذه حال الخلفاء و الصالحين، إذا منّ اللّه عليهم بالنعم الجليلة، ازداد شكرهم و إقرارهم، و اعترافهم بنعمة اللّه كما قال سليمان عليه السّلام، لما حضر عنده عرش ملكة سبأ، مع البعد العظيم قال: هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ، بخلاف أهل التجبر و التكبر، و العلو في الأرض فإن النعم الكبار، تزيدهم أشرا و بطرا. كما قال قارون- لما آتاه اللّه من الكنوز، ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة قال: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي . و قوله: فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي أي: لخروج يأجوج و مأجوج جَعَلَهُ أي: ذلك السد المحكم المتقن دَكَّاءَ أي: دكه فانهدم، و استوى هو و الأرض وَ كانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا .
[99] وَ تَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ يحتمل أن الضمير، يعود إلى يأجوج و مأجوج. و أنهم إذا خرجوا على الناس- من كثرتهم و استيعابهم للأرض كلها- يموج بعضهم ببعض، كما قال تعالى: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ
تيسير الكريم الرحمن، ص: 568
وَ مَأْجُوجُ وَ هُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96). و يحتمل أن الضمير يعود إلى الخلائق يوم القيامة، و أنهم يجتمعون فيه فيكثرون و يموج بعضهم ببعض، من الأهوال و الزلازل العظام، بدليل قوله: وَ تَرَكْنا بَعْضَهُمْ إلى لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً أي: إذا نفخ إسرافيل في الصور، أعاد اللّه الأرواح إلى الأجساد، ثم حشرهم، و جمعهم لموقف القيامة، الأولين منهم و الآخرين، و الكافرين و المؤمنين، ليسألوا و يحاسبوا و يجزوا بأعمالهم، فأما الكافرون- على اختلافهم- فإن جهنم جزاؤهم، خالدين فيها أبدا. و لهذا قال:
[100] وَ عَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100) كما قال تعالى: وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ* أي: عرضت لهم لتكون مأواهم و منزلهم، و ليتمتعوا بأغلالها و سعيرها، و حميمها، و زمهريرها، و ليذوقوا من العقاب، ما تبكم له القلوب، و تصم الآذان.
[101] و هذا آثار أعمالهم، و جزاء أفعالهم، فإنهم في الدنيا كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي أي: معرضين عن الذكر الحكيم، و القرآن الكريم، و قالوا: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ ، و في أعينهم أغطية تمنعهم من رؤية آيات اللّه النافعة كما قال تعالى: وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ . وَ كانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً أي: لا يقدرون على سمع آيات اللّه الموصلة إلى الإيمان، لبغضهم القرآن و الرسول، فإن المبغض، لا يستطيع أن يلقي سمعه إلى كلام من أبغضه، فإذا انحجبت عنهم طرق العلم و الخير، فليس لهم سمع و لا بصر، و لا عقل نافع، فقد كفروا باللّه، و جحدوا آياته، و كذبوا رسله، فاستحقوا جهنم، و ساءت مصيرا.
[102] و هذا برهان و بيان، لبطلان دعوى المشركين الكافرين، الّذين اتخذوا بعض الأنبياء و الأولياء، شركاء للّه يعبدونهم، و يزعمون أنهم يكونون لهم أولياء، ينجونهم من عذاب اللّه، و ينيلونهم ثوابه، و هم قد كفروا باللّه و برسوله. يقول اللّه لهم على وجه الاستفهام و الإنكار المتقرر بطلانه في العقول: أَ فَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ أي: لا يكون ذلك و لا يوالي ولي اللّه، معاديا للّه أبدا، فإن الأولياء موافقون للّه، في محبته، و رضاه، و سخطه، و بغضه، فيكون على هذا المعنى، مشابها لقوله تعالى: وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَ هؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ . فمن زعم أنه يتخذ وليّ اللّه وليا له، و هو معاد للّه، فهو كاذب، و يحتمل- و هو الظاهر- أن المعنى: أ فحسب الكفار باللّه، المنابذون لرسله، أن يتخذوا من دون اللّه أولياء ينصرونهم، و ينفعونهم من دون اللّه، و يدفعون عنهم الأذى؟ هذا حسبان باطل، و ظن فاسد، فإن جميع المخلوقين، ليس بيدهم من النفع و الضر، شيء. و يكون هذا، كقوله تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَ لا تَحْوِيلًا (56)، وَ لا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ ، و نحو ذلك من الآيات التي يذكر اللّه فيها، أن المتخذ من دونه وليا ينصره و يواليه، ضال خائب الرجاء غير نائل لبعض مقصوده. إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا أي: ضيافة و قرى فبئس النزل نزلهم، و بئست جهنم، ضيافتهم.
[103- 104] أي: قل يا محمد، للناس- على وجه التحذير و الإنذار-: هل أخبركم بأخسر الناس أعمالا على الإطلاق؟ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي: بطل و اضمحل كل ما عملوه، من عمل، و هم يحسبون أنهم محسنون في صنعه، فكيف بأعمالهم، التي يعلمون أنها باطلة، و أنها محادة للّه و رسله، و معاداة؟ فمن هم هؤلاء الذين خسرت أعمالهم، فخسروا أنفسهم و أهليهم يوم القيامة؟ ألا ذلك هو الخسران المبين.
[105- 106] أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ لِقائِهِ أي: جحدوا الآيات القرآنية و الآيات العيانية، الدالة على وجوب الإيمان به، و ملائكته، و رسله، و كتبه، و اليوم الآخر. فَحَبِطَتْ بسبب ذلك أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً لأن الوزن فائدته، مقابلة الحسنات بالسيئات، و النظر في الراجح منها و المرجوح، و هؤلاء، لا حسنات لهم، لعدم شرطها، و هو: الإيمان، كما قال تعالى: وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَ لا هَضْماً
تيسير الكريم الرحمن، ص: 569
(112)، لكن تعد أعمالهم، و تحصى، و يقررون بها، و يخزون بها على رؤوس الأشهاد، ثم يعذبون عليها، و لهذا قال: ذلِكَ جَزاؤُهُمْ أي: حبوط أعمالهم، و أنه لا يقام لهم يوم القيامة وزن لحقارتهم و خستهم، بكفرهم بآيات اللّه، و اتخاذهم آياته و رسله، هزوا يستهزئون بها، و يسخرون منهم، مع أن الواجب في آيات اللّه و رسله، الإيمان التام بها، و التعظيم لها، و القيام بها أتم القيام، و هؤلاء عكسوا القضية، فانعكس أمرهم، و تعسوا، و انتكسوا في العذاب.
[107] و لما بين مآل الكافرين و أعمالهم، بيّن أعمال المؤمنين و مآلهم فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا إلى حِوَلًا .
أي: إن الّذين آمنوا بقلوبهم، و عملوا الصالحات بجوارحهم، و شمل هذا الوصف جميع الدين، عقائده، و أعماله، أصوله، و فروعه الظاهرة، و الباطنة، فهؤلاء- على اختلاف طبقاتهم من الإيمان، و العمل الصالح- لهم جنات الفردوس. يحتمل أن المراد بجنات الفردوس، أعلى الجنة، و وسطها، و أفضلها، و أن هذا الثواب، لمن كمل فيه الإيمان، و العمل الصالح، و هم الأنبياء و المقربون. و يحتمل أن يراد بها، جميع منازل الجنان، فيشمل هذا الثواب، جميع طبقات أهل الإيمان، من المقربين، و الأبرار، و المقتصدين، كلّ بحسب حاله، و هذا أولى المعنيين، لعمومه، و لذكر الجنة، بلفظ الجمع المضاف إلى الفردوس، و أن الفردوس يطلق على البستان، المحتوي على الكرم، أو الأشجار الملتفة، و هذا صادق على جميع الجنة. فجنة الفردوس، نزل، و ضيافة لأهل الإيمان و العمل الصالح، و أي ضيافة أجل، و أكبر، و أعظم، من هذه الضيافة، المحتوية على كل نعيم، للقلوب، و الأرواح، و الأبدان، و فيها ما تشتهيه الأنفس، و تلذ الأعين، من المنازل الأنيقة، و الرياض الناضرة، و الأشجار المثمرة، و الطيور المغردة المشجية، و المآكل اللذيذة، و المشارب الشهية، و النساء الحسان، و الخدم، و الولدان، و الأنهار السارحة، و المناظر الرائقة، و الجمال الحسي و المعنوي، و النعمة الدائمة. و أعلى ذلك و أفضله و أجله، التنعم بالقرب من الرحمن و نيل رضاه، الذي هو أكبر نعيم الجنان، و التمتع برؤية وجهه الكريم، و سماع كلام الرؤوف الرحيم. فللّه تلك الضيافة، ما أجلها و أجملها، و أدومها، و أكملها، و هي أعظم من أن يحيط بها وصف أحد من الخلائق، أو تخطر على القلوب، فلو علم العباد بعض ذلك النعيم، علما حقيقيا، يصل إلى قلوبهم، لطارت إليها قلوبهم بالأشواق، و لتقطعت أرواحهم، من ألم الفراق، و لساروا إليها زرافات و وحدانا، و لم يؤثروا عليها دنيا فانية، و لذات منغصة متلاشية، و لم يفوتوا أوقاتا، تذهب ضائعة خاسرة، يقابل كل لحظة منها من النعيم من الحقب، آلاف مؤلفة، و لكن الغفلة شملت، و الإيمان ضعف، و العلم قلّ، و الإرادة وهت فكان ما كان، فلا حول و لا قوة إلا باللّه العلي العظيم.
[108] و قوله: خالِدِينَ فِيها هذا هو تمام النعيم، إن فيها، النعيم الكامل، و من تمامه أنه لا ينقطع لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا . أي: تحولا و لا انتقالا، لأنهم لا يرون إلا ما يعجبهم و يبهجهم، و يسرهم و يفرحهم، و لا يرون نعيما فوق ما هم فيه.
[109] أي: قل لهم- مخبرا عن عظمة الباري، و سعة صفاته، و أنها لا يحيط العباد بشيء منها: لَوْ كانَ الْبَحْرُ
تيسير الكريم الرحمن، ص: 570
أي: هذه الأبحر الموجودة في العالم، مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي أي: و أشجار الدنيا، من أولها إلى آخرها، من أشجار البلدان و البراري، و البحار، أقلام، لَنَفِدَ الْبَحْرُ و تكسرت الأقلام قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي و هذا شيء عظيم، لا يحيط به أحد. و في الآية الأخرى وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27). و هذا من باب تقريب المعنى إلى الأذهان، لأن هذه الأشياء مخلوقة، و جميع المخلوقات، منقضية منتهية، و أما كلام اللّه، فإنه من جملة صفاته، و صفاته غير مخلوقة، و لا لها حد و لا منتهى، فأيّ سعة و عظمة تصورتها القلوب، فاللّه فوق ذلك، و هكذا سائر صفات اللّه تعالى، كعلمه، و حكمته، و قدرته، و رحمته، فلو جمع علم الخلائق، من الأولين و الآخرين، أهل السموات و أهل الأرض، لكان بالنسبة إلى علم العظيم، أقل من نسبة عصفور، وقع على حافة البحر، فأخذ بمنقاره من البحر بالنسبة للبحر و عظمته، ذلك بأن اللّه، له الصفات العظيمة الواسعة الكاملة، و أن إلى ربك المنتهى.
[110] أي: قُلْ يا محمد للكفار و غيرهم: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أي: لست بإله، و لا لي شركة في الملك، و لا علم بالغيب، و لا عندي خزائن اللّه. إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ عبد من عبيد ربي، يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ أي: فضلت عليكم بالوحي، الذي يوحيه إلي، الذي أجله الإخبار لكم، أنما إلهكم إله واحد، أي: لا شريك له، و لا أحد يستحق من العبادة مثقال ذرة، و أدعوكم إلى العمل الذي يقربكم منه، و ينيلكم ثوابه، و يدفع عنكم عقابه. و لهذا قال: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً و هو الموافق لشرع اللّه، من واجب و مستحب.
وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً أي: لا يرائي بعمله، بل يعمله خالصا لوجه اللّه تعالى، فهذا الذي جمع بين الإخلاص و المتابعة، هو الذي ينال ما يرجو و يطلب، و أما من عدا ذلك، فإنه خاسر في دنياه و أخراه، و قد فاته القرب من مولاه، و نيل رضاه.
انتهى تفسير سورة الكهف، و للّه الحمد.
تفسير سورة مريم
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[2- 3] أي: هذا ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) سنقصه عليك، و نفصله تفصيلا، يعرف به حالة نبيه زكريا، و آثاره الصالحة، و مناقبه الجميلة، فإن في قصها عبرة للمعتبرين، و أسوة للمقتدين، و لأن في تفصيل رحمته
تيسير الكريم الرحمن، ص: 571
لأوليائه، و بأي سبب حصلت لهم، مما يدعو إلى محبة اللّه تعالى، و الإكثار من ذكره و معرفته، و السبب الموصل إليه.
و ذلك أن اللّه تعالى، اجتبى و اصطفى، زكريا عليه السّلام لرسالته، و خصه بوحيه، فقام بذلك قيام أمثاله من المرسلين، و دعا العباد إلى ربه، و علمهم ما علمه اللّه، و نصح لهم في حياته و بعد مماته، كإخوانه من المرسلين، و من اتبعهم، فلما رأى من نفسه الضعف، و خاف أن يموت، و لم يكن أحد ينوب منابه في دعوة الخلق إلى ربهم و النصح لهم، شكا إلى ربه ضعفه الظاهر و الباطن، و ناداه نداء خفيا، ليكون أكمل، و أفضل، و أتم إخلاصا.
[4] فقال: رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي أي: و هى و ضعف، و إذا ضعف العظم، الذي هو عماد البدن، ضعف غيره. وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً لأن الشيب دليل الضعف و الكبر، و رسول الموت، و رائده و نذيره. فتوسل إلى اللّه تعالى بضعفه و عجزه، و هذا من أحب الوسائل إلى اللّه، لأنه يدل التّبرّي من الحول و القوة، و تعلق القلب بحول اللّه و قوته. وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا أي: لم تكن يا رب تردني خائبا و لا محروما من الإجابة، بل لم تزل بي حفيا، و لدعائي مجيبا، و لم تزل ألطافك تتوالى عليّ، و إحسانك واصلا إليّ، و هذا توسل إلى اللّه، بإنعامه عليه، و إجابة دعواته السابقة، فسأل الذي أحسن سابقا، أن يتمم إحسانه لاحقا.
[5] وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي أي: و إني خفت من يتولى على بني إسرائيل من بعد موتي، أي: لا يقوموا بدينك حق القيام، و لا يدعوا عبادك إليك. و ظاهر هذا، أنه لم ير فيهم أحدا، فيه لياقة للإمامة في الدين، و هذا فيه شفقة زكريا عليه السّلام، و نصحه. و أن طلبه للولد، ليس كطلب غيره، قصده مجرد المصلحة الدنيوية، و إنما قصده، مصلحة الدين، و الخوف من ضياعه، و رأى غيره، غير صالح لذلك. و كان بيته من البيوت المشهورة في الدين، و معدن الرسالة، و مظنة للخير، فدعا اللّه أن يرزقه ولدا، يقوم بالدين من بعده، و اشتكى أن امرأته عاقرا، أي: ليست تلد أصلا، و أنه قد بلغ من الكبر عتيا، أي: عمرا يندر معه وجود الشهوة و الولد. فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا و هذه الولاية، ولاية الدين، و ميراث النبوة و العلم و العمل.
[6] و لهذا قال: يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) أي: عبدا صالحا ترضاه، و تحببه إلى عبادك، و الحاصل أنه سأل اللّه ولدا، ذكرا، صالحا، يبقى بعد موته، و يكون وليا من بعده، و يكون نبيا مرضيا عند اللّه و عند خلقه، و هذا أفضل ما يكون من الأولاد، و من رحمة اللّه بعبده، أن يرزقه ولدا صالحا، جامعا لمكارم الأخلاق، و محامد الشيم.
[7] فرحمه ربه، و استجاب دعوته فقال: يا زَكَرِيَّا إلى وَ عَشِيًّا ، أي: بشره اللّه تعالى على يد الملائكة ب «يحيى» و سماه اللّه له «يحيى»، و كان اسما موافقا لمسماه: يحيا حياة حسية، فتتم به المنة، و يحيا حياة معنوية، و هي حياة القلب و الروح، بالوحي و العلم و الدين. لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا أي: لم يسم هذا الاسم قبله أحد، و يحتمل أن المعنى: لم نجعل له من قبل مثيلا و مساميا، فيكون، بشارة بكماله، و اتصافه بالصفات الحميدة، و أنه فاق من قبله، و لكن على هذا الاحتمال هذا العموم، لا بد أن يكون مخصوصا بإبراهيم، و موسى، و نوح عليهم الصلاة و السّلام، و نحوهم، ممن هو أفضل من يحيى قطعا، فحينئذ لما جاءته البشارة بهذا المولود، الذي طلبه، استغرب و تعجب و قال:
[8] رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ و الحال أن المانع من وجود الولد، موجود بي و بزوجتي؟ و كأنه وقت دعائه، لم يستحضر هذا المانع، لقوة الوارد في قلبه، و شدة الحرص العظيم على الولد.
[9] و في هذه الحال، حين قبلت دعوته، تعجب من ذلك، فأجابه اللّه بقوله: كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ أي: الأمر مستغرب في العادة، و في سنة اللّه في الخليقة، و لكن قدرة اللّه تعالى صالحة لإيجاده بدون أسبابها فذلك هين عليه، ليس بأصعب من إيجاده قبل، و لم يكن شيئا.
تيسير الكريم الرحمن، ص: 572
[10] قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أي: يطمئن بها قلبي، و ليس هذا شكا في خبر اللّه، و إنما هو، كما قال الخليل عليه السّلام رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي فطلب زيادة العلم، و الوصول إلى عين اليقين بعد علم اليقين، فأجابه اللّه إلى طلبته، رحمة به. قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا و في الآية الأخرى ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً ، و المعنى واحد، لأنه تارة يعبر بالليالي، و تارة بالأيام و مؤداها واحد، و هذا من الآيات العجيبة، فإن منعه من الكلام مدة ثلاثة أيام، و عجزه عنه من غير خرس و لا آفة، بل كان سويا، لا نقص فيه- من الأدلة على قدرة اللّه الخارقة للعوائد- و مع هذا، ممنوع من الكلام، الذي يتعلق بالآدميين و خطابهم، و أما التسبيح، و الذكر و نحوه، فغير ممنوع منه، و لهذا قال في الآية الأخرى: وَ اذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَ سَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكارِ ، فاطمأن قلبه، و استبشر بهذه البشارة العظيمة، و امتثل لأمر اللّه له، بالشكر، بعبادته و ذكره، فعكف في محرابه.
[11] و خرج على قومه منه، فأوحى إليهم، أي: بالإشارة و الرمز أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا لأن البشارة ب «يحيى» في حق الجميع، مصلحة دينية.
[12] دل الكلام السابق، على ولادة يحيى، و شبابه، و تربيته، فلما وصل إلى حالة يفهم فيها الخطاب، أمره اللّه أن يأخذ الكتاب بقوة، أي: بجد و اجتهاد، و ذلك بالاجتهاد في حفظ ألفاظه، و فهم معانيه، و العمل بأوامره و نواهيه، هذا تمام أخذ الكتاب بقوة، فامتثل أمر ربه، و أقبل على الكتاب، فحفظه و فهمه، و جعل اللّه فيه من الذكاء و الفطنة، ما لا يوجد في غيره و لهذا قال: وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا .
[13] وَ آتيناه أيضا حَناناً مِنْ لَدُنَّا أي: رحمة و رأفة، تيسرت بها أموره، و صلحت بها أحواله، و استقامت بها أفعاله. وَ زَكاةً أي: طهارة من الآفات و الذنوب، فطهر قلبه، و تزكى عقله، و ذلك يتضمن زوال الأوصاف المذمومة، و الأخلاق الرديئة، و زيادة الأخلاق الحسنة، و الأوصاف المحمودة، و لهذا قال: وَ كانَ تَقِيًّا أي: فاعلا للمأمور، تاركا للمحظور، و من كان مؤمنا تقيا، كان للّه وليا، و كان من أهل الجنة، التي أعدت للمتقين، و حصل له من الثواب الدنيوي و الأخروي، ما رتبه اللّه على التقوى.
[14] وَ كان أيضا بَرًّا بِوالِدَيْهِ أي: لم يكن عاقا، و لا مسيئا إلى أبويه، بل كان محسنا إليهما بالقول و الفعل. وَ لَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا أي: لم يكن متجبرا متكبرا عن عبادة اللّه، و لا مترفعا على عباد اللّه، و لا على والديه. فجمع بين القيام بحق اللّه، و حق خلقه، و لهذا حصلت له السلامة من اللّه، في جميع أحواله، مبادئها و عواقبها.
[15] فلذا قال: وَ سَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَ يَوْمَ يَمُوتُ وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) و ذلك يقتضي سلامته من الشيطان، و الشر، و العقاب في هذه الأحوال الثلاثة و ما بينها، و أنه سالم من النار و الأهوال، و من أهل دار السّلام، فصلوات
تيسير الكريم الرحمن، ص: 573
اللّه و سلامه عليه، و على والده، و على سائر المرسلين، و جعلنا من أتباعهم، إنه جواد كريم.
[16] لما ذكر قصة زكريا و يحيى، و كانت من الآيات العجيبة، انتقل، منها إلى ما هو أعجب منها، تدريجا من الأدنى إلى الأعلى فقال: وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ الكريم مَرْيَمَ عليها السّلام، و هذا من أعظم فضائلها، أن تذكر في الكتاب العظيم، الذي يتلوه المسلمون، في مشارق الأرض و مغاربها، تذكر فيه بأحسن الذكر، و أفضل الثناء، جزاء لعملها الفاضل، و سعيها الكامل، أي: و اذكر في الكتاب مريم، في حالها الحسنة، حين انْتَبَذَتْ أي:
تباعدت عن أهلها مَكاناً شَرْقِيًّا أي: مما يلي الشرق عنهم.
[17] فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً أي: سترا و مانعا، و هذا التباعد منها، و اتخاذ الحجاب، لتعتزل، و تنفرد بعبادة ربها، و تقنت له في حالة الإخلاص و الخضوع، و الذل للّه تعالى، و ذلك امتثال منها لقوله تعالى: وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَ اسْجُدِي وَ ارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43). فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا و هو: جبريل عليه السّلام فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا أي: كاملا من الرجال، في صورة جميلة، و هيئة حسنة، لا عيب فيه و لا نقص، لكونها لا تحتمل رؤيته على ما هو عليه، فلما رأته في هذه الحال، و هي معتزلة عن أهلها، منفردة عن الناس، قد اتخذت الحجاب عن أعز الناس عليها، و هم أهلها، خافت أن يكون رجلا قد تعرض لها بسوء، و طمع فيها، فاعتصمت بربها، و استعاذت منه فقالت له:
[18] إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ أي: ألتجئ به و أعتصم برحمته، أن تنالني بسوء إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا أي: إن كنت تخاف اللّه، و تعمل بتقواه، فاترك التعرض لي، فجمعت بين الاعتصام بربها، و بين تخويفه و ترهيبه، و أمره بلزوم التقوى، و هي في تلك الحالة الخالية، و الشباب، و البعد عن الناس، و هو في ذلك الجمال الباهر، و البشرية الكاملة السوية، و لم ينطق لها بسوء، أو يتعرض لها، و إنما ذلك خوف منها، و هذا أبلغ ما يكون من العفة، و البعد عن الشر و أسبابه. و هذه العفة- خصوصا مع اجتماع الدواعي، و عدم المانع- من أفضل الأعمال. و لذلك أثنى اللّه عليها فقال: وَ مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا ، وَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَ جَعَلْناها وَ ابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91).
[19- 20] فأعاضها اللّه بعفتها، ولدا من آيات اللّه، و رسولا من رسله، فلما رأى جبريل منها الروع و الخيفة، قال: إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ أي: إنما وظيفتي و شغلي، تنيفذ رسالة ربي فيك لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا ، و هذه بشارة عظيمة بالولد و زكائه، فإن الزكاء، يستلزم تطهيره من الخصال الذميمة، و اتصافه بالخصال الحميدة، فتعجبت من وجود الولد من غير أب فقالت: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا و الولد لا يوجد إلا بذلك؟!!