کتابخانه تفاسیر
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1113
فإنه لا يزال يكابد العذاب الشديد، أبد الآباد. و يحتمل أن المعنى: لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم، و أقوم خلقة، يقدر على التصرف و الأعمال الشديدة. و مع ذلك، فإنه لم يشكر اللّه على هذه النعمة العظيمة، بل بطر بالعافية و تجبّر على خالقه، فحسب بجهله و ظلمه أن هذه الحال ستدوم له، و أن سلطان تصرفه لا ينعزل، و لهذا قال:
[5- 6] أَ يَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) و يطغى و يفتخر بما أنفق من الأموال على شهوات نفسه، حيث يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً (6)، أي: كثيرا، بعضه فوق بعض. و سمى اللّه الإنفاق في الشهوات و المعاصي إهلاكا، لأنه لا ينتفع المنفق بما أنفق، و لا يعود إليه من إنفاقه إلا الندم و الخسارة، و التعب و القلة، لا كمن أنفق في مرضاة اللّه، في سبيل الخير، فإن هذا قد تاجر مع اللّه، و ربح أضعاف أضعاف ما أنفق.
قال اللّه متوعدا هذا الذي افتخر بما أنفق في الشهوات:
[7] أَ يَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7)، أي: أ يظن في فعله هذا، أن اللّه لا يراه و لا يحاسبه على الصغير و الكبير؟ بل قد رآه اللّه، و حفظ عليه أعماله، و وكل به الكرام الكاتبين، لكل ما عمله من خير و شر.
[8- 9] ثم قرره بنعمه، فقال: أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَ لِساناً وَ شَفَتَيْنِ (9) للجمال و البصر، و النطق، و غير ذلك من المنافع الضرورية فيها، فهذه نعم الدنيا.
[10] ثم قال في نعم الدين: وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10)، أي: طريقي الخير و الشر، بينا له الهدى من الضلال، و الرشد من الغي. فهذه المنن الجزيلة، تقتضي من العبد أن يقوم بحقوق اللّه، و يشكره على نعمه، و أن لا يستعين بها على معاصي اللّه، و لكن هذا الإنسان لم يفعل ذلك.
[11] فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11)، أي: لم يقتحمها و يعبر عليها، لأنه متبع لهواه. و هذه العقبة شديدة عليه، ثم فسر هذه العقبة بقوله:
[12- 13] وَ ما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13)، أي: فكها من الرق، بعتقها أو مساعدتها على أداء كتابتها، و من باب أولى فكاك الأسير المسلم عند الكفار.
[14] أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14)، أي: مجاعة شديدة، بأن يطعم وقت الحاجة، أشد الناس حاجة.
[15] يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15) جامعا بين كونه يتيما، و فقيرا ذا قرابة.
[16] أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16)، أي: قد لزق بالتراب من الحاجة و الضرورة.
[17] ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا و عملوا الصالحات، أي: آمنوا بقلوبهم بما يجب الإيمان به، و عملوا الصالحات بجوارحهم. فدخل في هذا كل قول و فعل واجب أو مستحب. وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ على طاعة اللّه، و عن معصيته، و على أقداره المؤلمة بأن يحث بعضهم بعضا، على الانقياد لذلك، و الإتيان به، كاملا منشرحا به الصدر، مطمئنة به النفس. وَ تَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ للخلق، من إعطاء محتاجهم، و تعليم جاهلهم، و القيام بما يحتاجون إليه من جميع الوجوه، و مساعدتهم على المصالح الدينية و الدنيوية، و أن يحب لهم ما يحب لنفسه، و يكره لهم ما يكره لنفسه.
[18] أولئك قاموا بهذه الأوصاف، و الذين وفقهم اللّه لاقتحام العقبة أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18) لأنهم أدوا ما أمر اللّه به من حقوقه و حقوق عباده، و تركوا ما نهوا عنه، و هذا عنوان السعادة و علامتها.
[19- 20] وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا بأن نبذوا هذه الأمور وراء ظهورهم، فلم يصدقوا باللّه، و لا آمنوا به، و لا عملوا صالحا، و لا رحموا عباد اللّه. هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)، أي: مغلقة، في عمد ممددة، قد مدت من ورائها، لئلا تنفتح أبوابها، حتى يكونوا في ضيق، و همّ و شدّة. تم تفسير سورة البلد- و الحمد للّه.
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1114
سورة الشمس
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] أقسم تعالى بهذه الآيات العظيمة، على النفس المفلحة، و غيرها من النفوس الفاجرة، فقال: وَ الشَّمْسِ وَ ضُحاها (1)، أي: نورها، و نفعها الصادر منها.
[2] وَ الْقَمَرِ إِذا تَلاها (2)، أي: تبعها في المنازل و النور.
[3] وَ النَّهارِ إِذا جَلَّاها (3)، أي: جلّى ما على وجه الأرض و أوضحه.
[4] وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4) أي: يغشى وجه الأرض، فيكون ما عليها مظلما. فتعاقب الظلمة و الضياء، و الشمس و القمر، على هذا العالم، بانتظام و إتقان، و قيام لمصالح العباد، أكبر دليل على أن اللّه بكل شيء عليم، و على كل شيء قدير، و أنه المعبود وحده، الذي كل معبود سواه باطل.
[5] وَ السَّماءِ وَ ما بَناها (5) يحتمل أن «ما» موصولة، فيكون الإقسام بالسماء و بانيها، و هو اللّه تعالى. و يحتمل أنها مصدرية، فيكون الإقسام بالسماء و بنيانها، الذي هو غاية ما يقدر من الإحكام و الإتقان و الإحسان.
[6] و نحو هذا قوله: وَ الْأَرْضِ وَ ما طَحاها (6)، أي: مدها و وسعها، فتمكن الخلق حينئذ من الانتفاع بها، بجميع أوجه الانتفاع.
[7] وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها (7) يحتمل أن المراد، و نفس سائر المخلوقات الحيوانية، كما يؤيد هذا العموم. و يحتمل أن الإقسام بنفس الإنسان المكلف، بدليل ما يأتي بعده. و على كلّ، فالنفس آية كبيرة من آياته التي يحق الإقسام بها، فإنها في غاية اللطف و الخفة، سريعة التنقل و الحركة و التغير، و التأثر و الانفعالات النفسية، من الهم، و الإرادة، و القصد، و الحب، و البغض. و هي التي لولاها لكان البدن مجرد تمثال لا فائدة فيه. و تسويتها على ما هي عليه، آية من آيات اللّه العظيمة.
[9] و قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9)، أي: طهر نفسه من الذنوب، و نقاها من العيوب، و رقّاها بطاعة اللّه، و علّاها بالعلم النافع، و العمل الصالح.
[10] وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10)، أي: أخفى نفسه الكريمة، التي ليست حقيقة بقمعها و إخفائها، بالتدنس بالرذائل، و الدنو من العيوب و الذنوب، و ترك ما يكملها و ينميها، و استعمال ما يشينها و يدسيها.
[11] كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11)، أي: بسبب طغيانها، و ترفعها عن الحق، و عتوها على رسولهم.
[12] إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) أي: أشقى القبيلة، و هو «قدار بن سالف» لعقرها، حين اتفقوا على ذلك، و أمروه، فأتمر لهم.
[13] فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صالح عليه السّلام محذرا: ناقَةَ اللَّهِ وَ سُقْياها ، أي:
احذروا عقر ناقة اللّه، التي جعلها لكم آية عظيمة، و لا تقابلوا نعمة اللّه عليكم، بسقي لبنها أن تعقروها.
[14] فكذبوا نبيهم صالحا فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ ، أي: دمر عليهم، و عمهم بعقابه، و أرسل عليهم الصيحة من فوقهم، و الرجفة من تحتهم، فأصبحوا جاثمين على ركبهم، لا تجد منهم داعيا و لا مجيبا.
فَسَوَّاها عليهم، أي: سوى بينهم في العقوبة.
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1115
[15] وَ لا يَخافُ عُقْباها (15)، أي: تبعتها. و كيف يخاف من هو قاهر، لا يخرج عن قهره و تصرفه مخلوق، حكيم في كل ما قضاه و شرعه؟ تم تفسير سورة الشمس بحمد اللّه و عونه.
سورة الليل
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] هذا قسم من اللّه، بالزمان الذي تقع فيه أفعال العباد، على تفاوت أحوالهم، فقال: وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1)، أي: يعم الخلق بظلامه، فيسكن إلى مأواه و مسكنه، و يستريح العباد من الكد و التعب.
[2] وَ النَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) للخلق، فاستضاءوا بنوره و انتشروا في مصالحهم.
[3] وَ ما خَلَقَ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى (3) إن كانت «ما» موصولة، كانت إقساما بنفسه الكريمة الموصوفة، بكونه خالق الذكور و الإناث، و إن كانت مصدرية، كان قسما بخلقه للذكر و الأنثى. و كمال حكمته في ذلك أن خلق من كل صنف من الحيوانات، التي يريد إبقاءها ذكرا و أنثى ليبقى النوع و لا يضمحل، و قاد كلا منهما إلى الآخر بسلسلة الشهوة. و جعل كل منهما مناسبا للآخر، فتبارك اللّه أحسن الخالقين.
[4] و قوله: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) هذا هو المقسم عليه، أي: إن سعيكم أيها المكلفون لمتفاوت تفاوتا كثيرا، و ذلك بحسب تفاوت نفس الأعمال و مقدارها، و النشاط فيها، و بحسب الغاية المقصودة بتلك الأعمال، هل هو وجه اللّه الأعلى الباقي؟ فيبقى العمل له ببقائه، و ينتفع به صاحبه، أم هي غاية مضمحلة فانية، فيبطل السعي ببطلانها و يضمحل باضمحلالها؟ و هذا كل عمل يقصد به غير وجه اللّه، بهذا الوصف.
[5] و لهذا فضّل اللّه العاملين، و وصف أعمالهم، فقال: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى ، أي: ما أمر به من العبادات المالية: كالزكوات، و النفقات، و الكفارات، و الصدقات، و الإنفاق في وجوه الخير. و العبادات البدنية: كالصلاة، و الصوم غيرهما. و المركّبة من ذلك: كالحج و العمرة و نحوهما. وَ اتَّقى ما نهي عنه، من المحرمات و المعاصي، على اختلاف أجناسها.
[6] وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى (6)، أي: صدّق ب «لا إله إلا اللّه» و ما دلت عليه، من العقائد الدينية، و ما ترتب عليها من الجزاء.
[7] فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7)، أي: نيسر له أمره، و نجعله مسهلا عليه كل خير، ميسرا له ترك كل شر، لأنه أتى بأسباب التيسير، فيسر اللّه له ذلك.
[8] وَ أَمَّا مَنْ بَخِلَ بما أمر به، فترك الإنفاق الواجب و المستحب، و لم تسمح نفسه بأداء ما وجب للّه. وَ اسْتَغْنى عن اللّه، فترك عبوديته جانبا، و لم ير نفسه مفتقرة غاية الافتقار إلى ربها، الذي لا نجاة لها، و لا فوز، و لا فلاح، إلا بأن يكون هو محبوبها و معبودها، الذي تقصده و تتوجه إليه.
[9] وَ كَذَّبَ بِالْحُسْنى (9)، أي:
بما أوجب اللّه على العباد التصديق به من العقائد الحسنة.
[10] فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10)، أي: للحالة العسرة، و الخصال الذميمة، بأن يكون ميسرا للشر، أينما كان، و مقيضا له أفعال المعاصي، نسأل اللّه العافية.
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1116
[11] وَ ما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ الذي أطغاه، و استغنى به، و بخل به. إِذا تَرَدَّى ، أي: هلك و مات، فإنه لا يصحب الإنسان إلا عمله الصالح. و أما ماله الذي لم يخرج منه الواجب، فإنه يكون و بالا عليه، إذ لم يقدم منه لآخرته شيئا.
[12] إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12)، أي: إن الهدى المستقيم طريقه يوصل إلى اللّه، و يدني من رضاه. و أما الضلال، فطرقه مسدودة عن اللّه، لا توصل صاحبها إلا للعذاب الشديد.
[13] وَ إِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَ الْأُولى (13) ملكا و تصرفا، ليس له فيهما مشارك، فليرغب الراغبون إليه في الطلب، و لينقطع رجاؤهم عن المخلوقين.
[14] فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14)، أي: تستعر و تتوقد.
[15- 16] لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ بالخبر وَ تَوَلَّى عن الأمر.
[17- 18] وَ سَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) بأن يكون قصده به تزكية نفسه، و تطهيرها من الذنوب و الأدناس، قاصدا به وجه اللّه تعالى. فدل هذا على أنه إذا تضمن الإنفاق المستحب، ترك واجب كدين و نفقة و نحوهما، فإنه غير مشروع، بل تكون عطيته مردودة عند كثير من العلماء، لأنه يتزكى بفعل مستحب يفوت عليه الواجب.
[19] وَ ما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19)، أي: ليس لأحد من الخلق على هذا الأتقى نعمة تجزى، إلا و قد كافأه عليها، و ربما بقي له الفضل و المنة على الناس، فتمحض عبدا للّه، لأنه رقيق إحسانه وحده. و أما من بقيت عليه نعمة الناس، فلم يجزها و يكافئها، فإنه لا بد أن يترك الناس، و يفعل لهم ما ينقص إخلاصه. و هذه الآية و إن كانت متناولة لأبي بكر الصديق رضي اللّه عنه، بل قد قيل: إنها نزلت بسببه، فإنه- رضي اللّه عنه- ما لأحد عنده من نعمة تجزى، حتى و لا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، إلا نعمة الرسول التي لا يمكن جزاؤها، و هي نعمة الدعوة إلى الإسلام، و تعليم الهدى و دين الحق، فإن للّه و رسوله المنة على كل أحد. منة لا يمكن لها جزاء و لا مقابلة، فإنها متناولة لكل من اتصف بهذا الوصف الفاضل. فلم يبق لأحد عليه من الخلق نعمة تجزى، فبقيت أعماله خالصة لوجه اللّه تعالى.
[20- 21] و لهذا قال: إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَ لَسَوْفَ يَرْضى (21) هذا الأتقى بما يعطيه اللّه من أنواع الكرامات و المثوبات. تم تفسير سورة الليل و الحمد للّه رب العالمين.
تفسير سورة الضحى
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1- 2] أقسم تعالى، بالنهار إذا انتشر ضياؤه بالضحى، و بالليل إذا سجى، و ادلهمّت ظلمته، على اعتناء اللّه
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1117
برسوله صلّى اللّه عليه و سلّم، فقال:
[3] ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ ، أي: ما تركك منذ اعتنى بك، و لا أهملك منذ رباك و رعاك، بل لم يزل يربيك أكمل تربية، و يعليك درجة بعد درجة. وَ ما قَلى ك اللّه، أي: ما أبغضك، منذ أحبك، فإن نفي الضد، دليل على ثبوت ضده، و النفي المحض، لا يكون مدحا، إلا إذا تضمن ثبوت كمال. فهذه حال الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم الماضية و الحاضرة، أكمل حال و أتمها، محبة اللّه له، و استمرارها و ترقيته في درجات الكمال، و دوام اعتناء اللّه به.
[4] و أما حاله المستقبلة، فقال: وَ لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4)، أي: كل حالة متأخرة من أحوالك، فإن لها الفضل على الحالة السابقة. فلم يزل صلّى اللّه عليه و سلّم يصعد في درجات المعالي، و يمكن اللّه له دينه، و ينصره على أعدائه، و يسدده في أحواله، حتى مات، و قد وصل إلى حال ما وصل إليها الأولون و الآخرون من الفضائل و النعم، و قرة العين، و سرور القلب.
[5] ثم بعد هذا، لا تسأل عن حاله في الآخرة، من تفاصيل الإكرام، و أنواع الإنعام. و لهذا قال: وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) و هذا أمر لا يمكن التعبير عنه إلا بهذه العبارة الجامعة الشاملة.
[6] ثم امتن عليه بما يعلمه من أحواله الخاصة، فقال: أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6)، أي: وجدك لا أم لك، و لا أب، بل قد مات أبوه، و هو لا يدبر نفسه، فآواه اللّه، و كفله جده عبد المطلب، ثم لما مات جده، كفّله اللّه عمه أبا طالب، حتى أيده بنصره و بالمؤمنين.
[7] وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى (7)، أي: وجدك لا تدري ما الكتاب، و لا الإيمان، فعلّمك ما لم تكن تعلم، و وفّقك لأحسن الأعمال و الأخلاق.
[8] وَ وَجَدَكَ عائِلًا ، أي: فقيرا فَأَغْنى ك اللّه، بما فتح عليك من البلدان، التي جبيت لك أموالها و خراجها.
[9] فالذي أزال عنك هذه النقائص، سيزيل عنك كل نقص، و الذي أوصلك إلى الغنى، و آواك و نصرك، و هداك، قابل نعمته بالشكران. و لهذا قال: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9)، أي: لا تسيء معاملة اليتيم، و لا يضق صدرك عليه، و لا تنهره، بل أكرمه، و أعطه ما تيسر، و اصنع به كما تحب أن يصنع بولدك من بعدك.
[10] وَ أَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10)، أي: لا يصدر منك كلام للسائل، يقتضي رده عن مطلوبه، بنهر و شراسة خلق، بل أعطه ما تيسر عندك أو ردّه بمعروف و إحسان. و يدخل في هذا: السائل للمال، و السائل للعلم، و لهذا كان المعلم مأمورا بحسن الخلق مع المتعلم، و مباشرته بالإكرام، و التحنن عليه، فإنه في ذلك معونة له على مقصده، و إكراما لمن كان يسعى في نفع العباد و البلاد.
[11] وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) و هذا يشمل النعم الدينية و الدنيوية، أي: أثن على اللّه بها، و خصها بالذكر، إن كان هناك مصلحة. و إلا فحدث بنعم اللّه على الإطلاق، فإن التحدث بنعمة اللّه، داع لشكرها، و موجب لتحبيب القلوب إلى من أنعم بها، فإن القلوب مجبولة على محبة المحسن. تم تفسير سورة الضحى- بحمد اللّه و عونه.
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1118
سورة الشرح
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] يقول تعالى- ممتنا على رسوله-: أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)، أي: نوسعه لشرائع الدين و الدعوة إلى اللّه، و الاتصاف بمكارم الأخلاق، و الإقبال على الآخرة، و تسهيل الخيرات. فلم يكن ضيقا حرجا، حتى لا يكاد ينقاد لخير، و لا تكاد تجده منبسطا.
[2- 3] وَ وَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2)، أي: ذنبك الَّذِي أَنْقَضَ ، أي: أثقل ظَهْرَكَ كما قال تعالى:
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ .
[4] وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4)، أي: أعلينا قدرك، و جعلنا لك الثناء الحسن العالي، الذي لم يصل إليه أحد من الخلق. فلا يذكر اللّه إلا ذكر معه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، كما في الدخول في الإسلام، و في الأذان، و الإقامة، و الخطب، و غير ذلك من الأمور التي أعلى اللّه بها، ذكر رسوله محمد صلّى اللّه عليه و سلّم. و له في قلوب أمته، من المحبة، و الإجلال، و التعظيم، ما ليس لأحد غيره، بعد اللّه تعالى. فجزاه اللّه عن أمته أفضل ما جزى نبيا عن أمته.
[5- 6] و قوله: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) بشارة عظيمة، أنه كلما وجد عسر و صعوبة، فإن اليسر يقارنه و يصاحبه، حتى لو دخل العسر جحر ضب، لدخل عليه اليسر، فأخرجه كما قال تعالى: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً . و كما قال النبي صلى اللّه عليه و سلّم: «و إن الفرج مع الكرب، و إن مع العسر يسرا». و تعريف «العسر» في الآيتين، يدل على أنه واحد، و تنكير «اليسر» يدل على تكراره، فلن يغلب عسر يسرين. و في تعريفه بالألف و اللام، الدال على الاستغراق و العموم دلالة على أن كل عسر، و إن بلغ من الصعوبة ما بلغ، فإنه في آخره التيسير، ملازم له. ثم أمر رسوله أصلا، و المؤمنين تبعا، بشكره و القيام بواجب نعمه، فقال:
[7] فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7)، أي:
إذا تفرغت من أشغالك، و لم يبق في قلبك ما يعوقه، فاجتهد في العبادة و الدعاء.
[8] وَ إِلى رَبِّكَ وحده فَارْغَبْ ، أي: أعظم الرغبة في إجابة دعائك، و قبول دعواتك. و لا تكن ممن إذا فرغوا لعبوا و أعرضوا عن ربهم، و عن ذكره، فتكون من الخاسرين. و قد قيل: إن معنى هذا: فإذا فرغت من الصلاة و أكملتها، فانصب في الدعاء. و إلى ربك فارغب في سؤال مطالبك. و استدل من قال هذا القول، على مشروعية الدعاء و الذكر، عقب الصلوات المكتوبات، و اللّه أعلم. تم تفسير سورة الشرح و «الإنشراح».
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1119
سورة التين
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] وَ التِّينِ هو التين المعروف، و كذلك وَ الزَّيْتُونِ أقسم بهاتين الشجرتين، لكثرة منافع شجرهما و ثمرهما، و لأن سلطانهما في أرض الشام، محل نبوة عيسى ابن مريم عليه السلام.
[2] وَ طُورِ سِينِينَ (2)، أي: طور سيناء، محل نبوة موسى عليه السلام.
[3] وَ هذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) و هو مكة المكرمة، محل نبوة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم. فأقسم تعالى بهذه المواضع المقدسة، التي اختارها و ابتعث منها أفضل الأنبياء و أشرفهم. و المقسم عليه قوله:
[4] لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)، أي: تام الخلق، متناسب الأعضاء، منتصب القامة، لم يفقد مما يحتاج إليه ظاهرا و باطنا شيئا.
[5] و مع هذه النعم العظيمة، التي ينبغي له القيام بشكرها، فأكثر الخلق منحرفون عن شكر المنعم، مشتغلون باللهو و اللعب، قد رضوا لأنفسهم، بأسافل الأمر، و سفساف الأخلاق. فردهم اللّه في أسفل سافلين، أي: أسفل النار، موضع العصاة المتمردين على ربهم، إلا من منّ اللّه عليه بالإيمان، و العمل الصالح، و الأخلاق الفاضلة العالية.
[6] فَلَهُمْ بذلك المنازل العالية، و أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ، أي: غير مقطوع، بل لذات متوافرة، و أفراح متواترة، و نعم متكاثرة، في أبد لا يزول، و نعيم لا يحول، أكلها دائم و ظلها.
[7] فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7)، أي: أي شيء يكذبك أيها الإنسان، بيوم الجزاء على الأعمال، و قد رأيت من آيات اللّه الكثيرة ما يحصل لك به اليقين، و من نعمه ما يوجب عليك أن لا تكفر بشيء منها؟
[8] أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8)، فهل تقتضي حكمته أن يترك الخلق سدى لا يؤمرون و لا ينهون، و لا يثابون و لا يعاقبون؟ أم الذي خلق بني الإنسان أطوارا بعد أطوار، و أوصل إليهم من النعم و الخير و البر ما لا يحصونه، و رباهم التربية الحسنة، لا بد أن يعيدهم إلى دار هي مستقرهم، و غايتهم التي إليها يقصدون، و نحوها يؤمون. تم تفسير سورة التين- و الحمد.
تفسير سورة العلق