کتابخانه تفاسیر
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1068
يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) أيّ سبب أطمعهم، و هم لم يقدموا سوى الكفر و الجحود لرب العالمين، و لهذا قال:
[39] كَلَّا ، أي: ليس الأمر بأمانيهم، و لا إدراك ما يشتهون بقوتهم. إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ، أي: من ماء دافق، يخرج من بين الصلب و الترائب، فهم ضعفاء، لا يملكون لأنفسهم نفعا و لا ضرا، و لا موتا و لا حياة، و لا نشورا.
[40] هذا إقسام منه تعالى بالمشارق و المغارب، للشمس و القمر و الكواكب، لما فيها من الآيات الباهرات على البعث، و قدرته على تبديل أمثالهم، و هم بأعيانهم، كما قال تعالى:
وَ نُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ . وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ، أي: ما أحد يسبقنا و يفوتنا و يعجزنا إذا أردنا أن نعيده، فإذا تقرر البعث و الجزاء، و استمروا على تكذيبهم، و عدم انقيادهم لآيات اللّه.
[42] فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَ يَلْعَبُوا ، أي: يخوضوا بالأقوال الباطلة، و العقائد الفاسدة، و يلعبوا بدينهم، و يأكلوا و يشربوا، و يتمتعوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ، فإن اللّه قد أعد لهم فيه من النكال و الوبال، ما هو عاقبة خوضهم و لعبهم. ثمّ ذكر حال الخلق حين يلاقون اليوم الذي يوعدون، فقال:
[43] يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ ، أي:
القبور سِراعاً مجيبين لدعوة الداعي، مهطعين إليها. كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ، أي: كأنهم إلى علم يؤمون و يقصدون، فلا يتمكنون من الاستعصاء على الداعي، و لا الالتواء عن نداء المنادي، بل يأتون أذلاء مقهورين، بين يدي رب العالمين.
[44] خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ و ذلك أن الذلة و القلق، قد ملك قلوبهم، و استولى على أفئدتهم، فخشعت منهم الأبصار، و سكنت الحركات، و انقطعت الأصوات. ذلِكَ الحال و المآل، هو الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ و لا بد من الوفاء بوعد اللّه. تم تفسير سورة المعارج- الحمد.
سورة نوح
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] لم يذكر اللّه في هذه السورة، إلا قصة نوح وحدها لطول لبثه في قومه، و تكرار دعوته إلى التوحيد، و نهيه عن الشرك. فأخبر تعالى أنه أرسل نوحا إلى قومه، رحمة بهم و إنذارا من عذاب أليم، خوفا من استمرارهم على كفرهم، فيهلكهم هلاكا أبديا، و يعذبهم عذابا سرمديا.
[2] فامتثل نوح عليه السّلام لذلك، و ابتدر لأمر اللّه، فقال: يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ، أي: واضح النذارة بيّنها، و ذلك لتوضيحه ما أنذر به، و ما أنذر عنه، و بأي شيء تحصل النجاة، بيّن ذلك بيانا شافيا.
[3- 4] فأخبرهم و أمرهم بأصل ذلك، فقال: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اتَّقُوهُ و ذلك بإفراده تعالى بالعبادة و التوحيد،
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1069
و البعد عن الشرك و طرقه، و وسائله، فإنهم إذا اتقوا اللّه، غفر ذنوبهم، و إذا غفر ذنوبهم حصل لهم النجاة من العذاب، و الفوز بالثواب. وَ يُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ، أي: يمتعكم في هذه الدار، و يدفع عنكم الهلاك إلى أجل مسمى، أي: مقدر البقاء في الدنيا، بقضاء اللّه و قدره، إلى وقت محدود، و ليس المتاع أبدا، فإن الموت لا بد منه، و لهذا قال: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ كما كفرتم باللّه، و عاندتم الحقّ، فلم يجيبوا لدعوته، و لا انقادوا لأمره، فقال شاكيا لربه:
[5- 6] رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَ نَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً (6)، أي: نفورا عن الحقّ و إعراضا، فلم يبق لذلك فائدة، لأن فائدة الدعوة أن يحصل جميع المقصود أو بعضه.
[7] وَ إِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ ، أي:
لأجل أن يستجيبوا، فإذا استجابوا، غفرت لهم، و هذا محض مصلحتهم، و لكن أبوا، إلا تماديا على باطلهم، و نفورا عن الحقّ. جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ حذر سماع ما يقول لهم نبيهم نوح عليه السّلام. وَ اسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ ، أي:
تغطوا بها غطاء يغشاهم، بعدا عن الحقّ، و بغضا له. وَ أَصَرُّوا على كفرهم و شرهم وَ اسْتَكْبَرُوا على الحقّ اسْتِكْباراً ، فشرّهم ازداد، و خيرهم بعد.
[8] ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8)، أي: بمسمع منهم كلهم.
[9] ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9)، كل هذا حرص و نصح، و إتيانهم بكل طريق يظن به حصول المقصود.
[10] فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ، أي: اتركوا ما أنتم عليه من الذنوب، و استغفروا اللّه منها. إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً كثير المغفرة لمن تاب و استغفر، فرغبهم بمغفرة الذنوب، و ما يترتب عليها من الثواب، و اندفاع العقاب.
[11] و رغّبهم أيضا بخير الدنيا العاجل، فقال: يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11)، أي: مطرا متتابعا، يروي الشعاب و الوهاد، و يحيي البلاد و العباد.
[12] وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ ، أي: يكثر أموالكم، الّتي تدركون بها ما تطلبون من الدنيا، و أولادكم. وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً و هذا من أبلغ ما يكون من لذات الدنيا و مطالبها.
[13] ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13)، أي: لا تخافون للّه عظمة، و ليس له عندكم قدر.
[14] وَ قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14)، أي: خلقا من بعد خلق، في بطن الأم، ثمّ في الرضاع، ثمّ في سن الطفولة، ثمّ التمييز، ثمّ الشباب. ثمّ إلى آخر ما يصل إليه الخلق، فالذي انفرد بالخلق و التدبير البديع، متعين أن يفرد بالعبادة و التوحيد. و في ذكر ابتداء خلقهم تنبيه لهم على المعاد، و أن الذي أنشأهم من العدم قادر على أن يعيدهم بعد موتهم.
[15] و استدل أيضا بخلق السماوات، الّتي هي أكبر من خلق الناس، فقال: أَ لَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (15)، أي: كل سماء فوق الأخرى.
[16] وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً لأهل الأرض وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً .
ففيه تنبيه على عظم خلق هذه الأشياء، و كثرة المنافع في الشمس و القمر الدالة على رحمة اللّه و سعة إحسانه، فالعظيم الرحيم، يستحق أن يعظم و يحب و يخاف و يرجى.
[17] وَ اللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) حين خلق أباكم آدم و أنتم في صلبه.
[18] ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها عند الموت وَ يُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً للبعث و النشور، فهو الذي يملك الحياة و الموت
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1070
و النشور.
[19] وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19)، أي:
مبسوصة مهيأة للانتفاع بها.
[20] لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً (20) فلو لا أنه بسطها، لما أمكن ذلك، بل و لا أمكنهم حرثها و غرسها، و زرعها، و البناء و السكون على ظهرها.
[21] قالَ نُوحٌ شاكيا لربه: إن هذا الكلام و الوعظ و التذكير، ما نجع فيهم و لا أفاد. رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي فيما أمرتهم به وَ اتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَ وَلَدُهُ إِلَّا خَساراً ، أي:
عصوا الرسول الناصح الدال على الخير، و اتبعوا الملأ و الأشراف الّذين لم تزدهم أموالهم و لا أولادهم إلّا خسارا، أي: هلاكا و تفويتا للأرباح، فكيف بمن انقاد لهم و أطاعهم؟
[22] وَ مَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22)، أي: مكرا كبيرا بليغا في معاندة الحقّ.
[23] وَ قالُوا لهم داعين إلى الشرك مزينين لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ فدعوهم إلى التعصب على ما هم عليه من الشرك، و أن لا يدعوا ما عليه آباؤهم الأقدمون. ثمّ عينوا آلهتهم، فقالوا: وَ لا تَذَرُنَّ وَدًّا وَ لا سُواعاً وَ لا يَغُوثَ وَ يَعُوقَ وَ نَسْراً . و هذه أسماء رجال صالحين، لما ماتوا، زين الشيطان لقومهم أن يصوروا صورهم، لينشطوا- بزعمهم- على الطاعة، إذ رأوها. ثمّ طال الأمد، و جاء غير أولئك فقال لهم الشيطان: إن أسلافكم كانوا يعبدونهم، و يتوسلون بهم، و بهم يسقون المطر، فعبدوهم. و لهذا وصى رؤساؤهم للتابعين لهم، أن لا يدعوا عبادة هذه الأصنام.
[24] وَ قَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً ، أي: أضل الكبار و الرؤساء بدعوتهم، كثيرا من الخلق. وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا ، أي: لو كان ضلالهم عند دعوتي إياهم للحق، لكان مصلحة، و لكن لا يزيدون بدعوة الرؤساء إلا ضلالا، أي: فلم يبق محل لنجاحهم و صلاحهم، و لهذا ذكر اللّه عذابهم و عقوبتهم الدنيوية و الأخروية، فقال:
[25] مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا في اليم الذي أحاط بهم فَأُدْخِلُوا ناراً ، فذهبت أجسادهم في الغرق، و أرواحهم للنار و الحرق. و هذا كله بسبب خطيئاتهم، الّتي أتاهم نبيهم ينذرهم عنها، و يخبرهم بشؤمها و سوء مغبتها، فرفضوا ما قال، حتى حل بهم النكال. فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً ينصرونهم حين نزل بهم الأمر، و لا أحد يقدر على أن يعارض القضاء و القدر.
[26] وَ قالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) يدور على وجه الأرض.
[27] و ذكر السبب، فقال: إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً (27)، أي:
بقاؤهم مفسدة محضة، لهم و لغيرهم. و إنّما قال نوح ذلك، لأنه مع كثرة مخالطته إياهم، و مزاولته لأخلاقهم، علم بذلك، نتيجة أعمالهم، فلهذا استجاب اللّه له دعوته، فأغرقهم أجمعين، و نجى نوحا و من معه من المؤمنين.
[28] رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً خص المذكورين لتأكد حقهم و تقديم برهم، ثمّ عمم الدعاء، فقال: وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً ، أي: خسارا، و دمارا و هلاكا. تم تفسير سورة نوح- و الحمد.
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1071
سورة الجن
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] أي: قُلْ يا أيها الرسول للناس أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ صرفهم اللّه إلى رسوله، لسماع آياته، لتقوم عليهم الحجة، و تتم عليهم النعمة، و يكونوا منذرين لقومهم. و أمر رسوله، أن يقص نبأهم على الناس، و ذلك:
أنهم لما حضروه، قالوا: أنصتوا، فلما أنصتوا، فهموا معانيه، و وصلت حقائقه إلى قلوبهم. فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً ، أي: من العجائب الغالية، و المطالب العالية.
[2] يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ ، و الرشد: اسم جامع لكل ما يرشد الناس إلى مصالح دينهم و دنياهم. فَآمَنَّا بِهِ وَ لَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً فجمعوا بين الإيمان، الذي يدخل فيه جميع أعمال الخير، و بين التقوى، المتضمنة لترك الشر. و يجعلوا السبب الداعي لهم إلى الإيمان و توابعه، ما علموه من إرشادات القرآن، و ما اشتمل عليه من المصالح و الفوائد، و اجتناب المضار، فإن ذلك آية عظيمة، و حجة قاطعة، لمن استنار به، و اهتدى بهديه. و هذا هو الإيمان النافع، المثمر لكل خير، المبني على هداية القرآن، بخلاف إيمان العوائد، و المربى، و الإلف و نحو ذلك، فإنه إيمان تقليد تحت خطر الشبهات و العوارض الكثيرة.
[3] وَ أَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا ، أي: تعالت عظمته و تقدست أسماؤه. مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَ لا وَلَداً فعلموا من جد اللّه و عظمته، ما دلهم على بطلان من يزعم أن له صاحبة أو ولدا، لأن له العظمة و الجلال في كلّ صفة كمال. و اتخاذ الصاحبة و الولد ينافي ذلك، لأنه يضاد كمال الغنى.
[4] وَ أَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4)، أي: قولا جائرا عن الصواب، متعديا للحد، و ما حمله على ذلك، إلا سفهه، و ضعف عقله، و إلّا فلو كان رزينا مطمئنا، لعرف كيف يقول:
[5] وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5)، أي: كنا مغترين قبل ذلك، غرتنا السادة و الرؤساء من الجن و الإنس، فأحسنا بهم الظن، و حسبناهم لا يتجرأون على الكذب على اللّه، فلذلك كنا قبل ذلك على طريقهم. فاليوم إذ بان لنا الحقّ، سلكنا طريقه، و انقدنا له، و لم نبال بقول أحد من الخلق، يعارض الهدى.
[6] وَ أَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) أي: كان الإنس يعوذون بالجن، عند المخاوف و الأفزاع و يعبدونهم، فزاد الإنس الجن رهقا، أي: طغيانا و تكبرا، لما رأوا الإنس يعبدونهم، و يستعيذون بهم. و يحتمل أن الضمير و هو «الواو» يرجع إلى الجن، أي: زاد الجن الإنس ذعرا و تخويفا لما رأوهم يستعيذون بهم، ليلجئوهم إلى الاستعاذة بهم، و التمسك بما هم عليه، فكان الإنسي إذا نزل بواد مخوف، قال: «أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه».
[7] وَ أَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7)، أي: فلما أنكروا البعث، أقدموا على الشرك و الطغيان.
[8] وَ أَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ ، أي: أتيناها و اختبرناها، فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً عن الوصول إلى أرجائها،
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1072
و الدنو منها. وَ شُهُباً يرمى بها من استرق السمع، و هذا مخالف لعادتنا الأولى، فإنا كنا نتمكن من الوصول إلى خبر السماء.
[9] وَ أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فنتلقف من أخبار السماء ما شاء اللّه. فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً ، أي: مرصدا له، معدا لإتلافه و إحراقه، أي:
و هذا له شأن عظيم، و نبأ جسيم.
[10] و جزموا أن اللّه تعالى، أراد أن يحدث في الأرض حادثا كبيرا، من خير أو شر، فلهذا قالوا: وَ أَنَّا لا نَدْرِي أَ شَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10)، أي: لا بد من هذا أو هذا، لأنهم رأوا الأمر تغير عليهم تغيرا أنكروه، فعرفوا بفطنتهم، أن هذا الأمر يريده اللّه، و يحدثه في الأرض. و في هذا بيان لأدبهم، إذ أضافوا الخير إلى اللّه تعالى، و الشر حذفوا فاعله تأدبا.
[11] وَ أَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَ مِنَّا دُونَ ذلِكَ ، أي: فساق و فجار و كفار. كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً ، أي: فرقا متنوعة، و أهواء متفرقة، كل حزب بما لديهم فرحون.
[12] وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَ لَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12)، أي: و أنا في وقتنا الآن تبين لنا كمال قدرة اللّه، و كمال عجزنا، و أن نواصينا بيد اللّه، فلن نعجزه في الأرض، و لن نعجزه إن هربنا، و سعينا بأسباب الفرار و الخروج عن قدرته، لا ملجأ منه، إلا إليه.
[13] وَ أَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى و هو القرآن الكريم، الهادي إلى الصراط المستقيم، و عرفنا هدايته و إرشاده، أثّر في قلوبنا و آمَنَّا بِهِ . ثمّ ذكروا ما يرغب المؤمن فقالوا: فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَ لا رَهَقاً ، أي: من آمن به إيمانا صادقا، فلا عليه نقص، و لا أذى يلحقه، و إذا سلم من الشر، حصل له الخير، فالإيمان سبب داع إلى كل خير، و انتفاء كلّ شر.
[14] وَ أَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَ مِنَّا الْقاسِطُونَ ، أي: الجائرون، العادلون، عن الصراط المستقيم. فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً ، أي: أصابوا طريق الرشد، الموصل لهم إلى الجنة و نعيمها.
[15] وَ أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) و ذلك جزاء على أعمالهم، لا ظلم من اللّه لهم.
[16] وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ المثلى لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً ، أي: هنيئا مريئا، و لم يمنعهم من ذلك، إلا ظلمهم و عدوانهم.
[17] لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ، أي: لنختبرهم و نمتحنهم ليظهر الصادق من الكاذب. وَ مَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً ، أي: من أعرض عن ذكر اللّه، الذي هو كتابه، فلم يتبعه، و ينقد له، بل لها عنه و غفل، يسلكه عذابا صعدا، أي: بليغا شديدا.
[18] وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18)، أي: لا دعاء عبادة، و لا دعاء مسألة، فإن المساجد، الّتي هي أعظم محالّ للعبادة، مبنية على الإخلاص للّه، و الخضوع لعظمته، و الاستكانة لعزته.
[19] وَ أَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ ، أي: يسأله و يتعبد له، و يقرأ القرآن. كادُوا ، أي: الجن من تكاثرهم عليه يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ، أي: متلبدين متراكمين، حرصا على ما جاء به من الهدى.
[20] قُلْ لهم يا أيها الرسول، مبينا حقيقة ما تدعو إليه: إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَ لا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً ، أي: أوحده، وحده لا شريك له، و أخلع ما دونه من الأنداد و الأوثان، و كلّ ما يتخذه المشركون من دونه.
[21] قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا رَشَداً (21)، فإني
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1073
عبد ليس لي من الأمر و التصرف شيء.
[22] قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ أي: لا أحد أستجير به ينقذني من عذاب اللّه. و إذا كان الرسول الذي هو أكمل الخلق، لا يملك ضرا و لا رشدا، و لا يمنع نفسه من اللّه شيئا، إن أراده بسوء، فغيره من الخلق، من باب أولى و أحرى. وَ لَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً ، أي: ملجأ و منتصرا
[23] إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَ رِسالاتِهِ ، أي: ليس لي مزية على الناس، إلا أن اللّه خصني بإبلاغ رسالاته و دعوة خلقه إليه، و بذلك تقوم الحجة على الناس. وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ، و هذا المراد به المعصية الكفرية، كما قيدتها النصوص الأخر المحكمة. و أما مجرد المعصية، فإنه لا يوجب الخلود في النار، كما دلت على ذلك آيات القرآن، و الأحاديث عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، و أجمع عليه سلف الأمة، و أئمة هذه الآمة.
[24] حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ ، أي: شاهدوه عيانا، و جزموا أنه واقع بهم. فَسَيَعْلَمُونَ في ذلك الوقت حقيقة المعرفة مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَ أَقَلُّ عَدَداً حين لا ينصرهم غيرهم، و لا أنفسهم ينتصرون، و إذ يحشرون فرادى كما خلقوا أول مرة.
[25] قُلْ لهم إن سألوك فقالوا: مَتى هذَا الْوَعْدُ* ؟ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً ، أي: غاية طويلة، فعلم ذلك، عند اللّه.
[26] عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) من الخلق، بل انفرد بعلم الضمائر و الأسرار، و الغيوب.
[27] إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ ، أي: فإنه يخبره بما اقتضت حكمته، أن يخبره به. و ذلك لأن الرسل، ليسوا كغيرهم، فإن اللّه أيدهم بتأييد ما أيده أحدا من الخلق، و حفظ ما أوحاه إليهم حتى يبلغوه على حقيقته، من غير أن تقربه الشياطين، فيزيدوا فيه أو ينقصوا، و لهذا قال: فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ، أي: يحفظونه بأمر اللّه.
[28] لِيَعْلَمَ بذلك أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ بما جعله لهم من الأسباب. وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ ، أي: بما عندهم، و ما أسروه و ما أعلنوه. وَ أَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً .
في هذه السورة فوائد عديدة:
منها: وجود الجن، و أنهم مأمورون منهيون، و مجازون بأعمالهم، كما هو صريح في هذه السورة. و منها: أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم مبعوث إلى الجن، كما هو مبعوث إلى الإنس، فإن اللّه صرف نفرا من الجن، ليستمعوا ما يوحى إليه، و يبلغوا قومهم. و منها: ذكاء الجن، و معرفتهم بالحق، و أن الذي ساقهم إلى الإيمان هو ما تحققوه من هداية القرآن، و حسن أدبهم في خطابهم. و منها: اعتناء اللّه برسوله، و حفظه لما جاء به. فحين ابتدأت بشائر نبوته، و السماء محروسة بالنجوم، و الشياطين قد هربت من أماكنها، و أزعجت عن مراصدها، و أن اللّه رحم به أهل الأرض رحمة ما يقدر لها قدر، و أراد بهم ربهم رشدا، فأراد أن يظهر من دينه و شرعه، و معرفته في الأرض، ما تبتهج به القلوب، و تفرح به أولو الألباب، و تظهر به شعائر الإسلام، و ينقمع به أهل الأوثان و الأصنام. و منها: شدة حرص الجن على استماعهم للرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، و تراكمهم عليه. و منها: أن هذه السورة، قد اشتملت على الأمر بالتوحيد و النهي عن
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1074
الشرك، و بينت حالة الخلق، و أن كلّ أحد منهم لا يستحق من العبادة مثقال ذرة؛ لأن الرسول محمدا صلّى اللّه عليه و سلّم، إذا كان لا يملك لأحد نفعا و لا ضرا، بل و لا يملك لنفسه، علم أن الخلق كلهم كذلك، فمن الخطأ و الظلم اتخاذ من هذا وصفه إلها آخر. و منها: أن علوم الغيوب قد انفرد اللّه بعلمها، فلا يعلمها أحد من الخلق، إلا من ارتضاه و اختصه بعلم شيء منها. تم تفسير سورة الجن- و الحمد للّه رب العالمين.
تفسير سورة المزمل
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] المزمل: المتغطي بثيابه كالمدثر، و هذا الوصف، حصل من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، حين أكرمه اللّه برسالته، و ابتدأه بإنزال وحيه بإرسال جبريل إليه، فرأى أمرا لم ير مثله، و لا يقدر على الثبات عليه إلا المرسلون، فاعتراه عند ذلك انزعاج، حين رأى جبريل عليه السّلام، فأتى إلى أهله فقال: «زملوني زملوني» و هو ترعد فرائصه. ثمّ جاءه جبريل، فقال: «اقرأ»، فقال: «ما أنا بقارئ»، فغطه حتى بلغ منه الجهد، و هو يعالجه على القراءة، فقرأ صلّى اللّه عليه و سلّم. ثمّ ألقى اللّه عليه الثبات، و تابع عليه الوحي، حتى بلغ مبلغا ما بلغه أحد من المرسلين. فسبحان اللّه، ما أعظم التفاوت بين ابتداء نبوته و نهايتها، و لهذا خاطبه اللّه بهذا الوصف، الذي وجد منه أول أمره. فأمره هنا بالعبادات المتعلقة به، ثمّ أمره بالصبر على أذية قومه، ثمّ أمره بالصدع بأمره، و إعلان دعوتهم إلى اللّه.
[2] فأمره هنا بأشرف العبادات، و هي الصلاة، و بآكد الأوقات و أفضلها، و هو قيام الليل. و من رحمته به، أنه لم يأمره بقيام الليل كله، بل قال: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2).
[3] ثمّ قدر ذلك، فقال: نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ ، أي: من النصف قَلِيلًا بأن يكون الثلث و نحوه
[4] أَوْ زِدْ عَلَيْهِ ، أي: على النصف، فيكون نحو الثلثين. وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا فإن ترتيل القرآن به يحصل التدبر و التفكر، و تحريك القلوب به، و التعبد بآياته، و التهيؤ و الاستعداد التام له.
[5] فإنه قال: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)، أي: نوحي إليك هذا القرآن الثقيل، أي: العظيمة معانيه، الجليلة أوصافه، و ما كان بهذا الوصف، حقيق أن يتهيأ له، و يرتل، و يتفكر فيما يشتمل عليه. ثمّ ذكر الحكمة في أمره بقيام الليل، فقال:
[6] إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ ، أي: الصلاة فيه بعد النوم هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلًا ، أي: أقرب إلى حصول مقصود القرآن، يتواطأ عليه القلب و اللسان، و تقل الشواغل، و يفهم ما يقول، و يستقيم له أمره. و هذا بخلاف النهار، فإنه لا تحصل به هذه المقاصد، و لهذا قال:
[7] إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا (7)، أي: ترددا في حوائجك و معاشك، يوجب اشتغال القلب، و عدم تفرغه التفرغ التام.
[8] وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ شامل لأنواع الذكر كلها وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ، أي: انقطع إليه، فإن الانقطاع إلى اللّه، و الإنابة إليه، هو الانفصال بالقلب عن الخلائق، و الاتصاف بمحبة اللّه، و ما يقرب إليه، و يدني من رضاه.
[9] رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ و هذا اسم جنس، يشمل المشارق و المغارب كلها، فهو تعالى رب المشارق و المغارب، و ما يكون فيها من الأنوار، و ما هي مصلحة له من العالم العلوي و السفلي، فهو رب كلّ شيء، و خالقه، و مدبره.
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، أي: لا معبود إلا وجهه الأعلى، الذي يستحق أن يخص بالمحبة و التعظيم، و الإجلال و التكريم، و لهذا قال: فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ، أي: حافظا و مدبرا لأمورك كلها.