کتابخانه تفاسیر
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1042
ألوهيته سبحانه، و سعة غناه، و افتقار جميع الخلائق إليه، و تسبيح من في السماوات و الأرض بحمد ربها، و أن الملك كله للّه، فلا يخرج عن ملكه مخلوق. و الحمد كله له، حمد على ما له من صفات الكمال، و حمد على ما أوجده من الأشياء، و حمد على ما شرعه من الأحكام، و أسداه من النعم. و قدرته شاملة، لا يخرج عنها موجود، فلا يعجزه شيء يريده.
[2] و ذكر أنه خلق العباد، و جعل منهم المؤمن و الكافر، فإيمانهم و كفرهم كله، بقضاء اللّه و قدره، و هو الذي شاء ذلك منهم، بأن جعل لهم قدرة و إرادة، بها يتمكنون من كلّ ما يريدون، من الأمر و النهي، وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ .
[3] فلما ذكر خلق الإنسان المأمور المنهي، ذكر خلق باقي المخلوقات، فقال: خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ ، أي:
أجرامهما، و جميع ما فيهما، فأحسن خلقهما. بِالْحَقِ ، أي: بالحكمة، و الغاية المقصودة له تعالى. وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ كما قال تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4). فالإنسان، أحسن المخلوقات صورة، و أبهاها منظرا. وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ، أي: المرجع يوم القيامة، فيجازيكم على إيمانكم و كفركم، و يسألكم عن النعم و النعيم الذي أولاكم، هل قمتم بشكره أم لم تقوموا به؟ ثمّ ذكر عموم علمه، فقال:
[4] يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ، أي: في السرائر و الظواهر، و الغيب و الشهادة. وَ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَ ما تُعْلِنُونَ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ، أي: بما فيها من الأسرار الطيبة، و الخبايا الخبيثة، و النيات الصالحة، و المقاصد الفاسدة. فإذا كان عليما بذات الصدور، تعين على العاقل البصير، أن يحرص و يجتهد في حفظ باطنه، من الأخلاق الرذيلة، و اتصافه بالأخلاق الجميلة.
[5] لما ذكر تعالى من أوصافه الكاملة العظيمة، ما به يعرف و يعبد، و يبذل الجهد في مرضاته، و تجتنب مساخطه، أخبر بما فعل بالأمم السابقين، و القرون الماضين، الّذين لم تزل أنباؤهم، يتحدث بها المتأخرون، و يخبر بها الصادقون، و أنهم حين جاءتهم رسلهم بالحق، كذبوهم و عاندوهم. فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ في الدنيا، و أخزاهم اللّه فيها وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الدار الآخرة، و لهذا ذكر السبب في هذه العقوبة، فقال:
[6] ذلِكَ النكال و الوبال، الذي أحللناه بهم بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ، أي: بالآيات الواضحات، الدالة على الحقّ و الباطل، فاشمأزوا، و استكبروا على رسلهم، فقالوا: أَ بَشَرٌ يَهْدُونَنا ، أي: ليس لهم فضل علينا، و لأي شيء خصهم اللّه دوننا. كما قال في الآية الأخرى: قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فهم حجروا فضل اللّه و منته على أنبيائه أن يكونوا رسلا للخلق، و استكبروا عن الانقياد لهم. فابتلوا بعبادة الأشجار، و الأحجار و نحوها فَكَفَرُوا باللّه وَ تَوَلَّوْا عن طاعته. وَ اسْتَغْنَى اللَّهُ عنهم، فلا يبالي بهم، و لا يضره ضلالهم شيئا. وَ اللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ، أي: هو الغني، الذي له الغني التام المطلق، من جميع الوجوه. الحميد، في أقواله و أفعاله و أوصافه.
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1043
[7] يخبر تعالى عن عناد الكافرين، و زعمهم الباطل، و تكذيبهم بالبعث بغير علم، و لا هدى و لا كتاب منير.
فأمر أشرف خلقه، أن يقسم بربه على بعثهم، و جزائهم بأعمالهم الخبيثة، و تكذيبهم بالحق. وَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ فإنه، و إن كان عسيرا بل متعذرا، بالنسبة إلى الخلق، فإن قواهم كلهم، لو اجتمعت على إحياء ميت واحد، ما قدروا على ذلك. و أما اللّه تعالى، فإنه إذا أراد شيئا، قال له كن فيكون. قال تعالى: وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68).
[8] لما ذكر تعالى إنكار من أنكر البعث، و أن ذلك منهم موجب كفرهم باللّه و آياته، أمر بما يعصم من الهلكة و الشقاء، و هو الإيمان به، و برسوله، و بكتابه. و سماه اللّه نورا، لأن النور ضد الظلمة، فما في الكتاب الذي أنزله اللّه من الأحكام و الشرائع و الأخبار، أنوار يهتدى بها في ظلمات الجهل المدلهمة، و يمشى بها في حندس الليل البهيم. و ما سوى الاهتداء بكتاب اللّه، فهي علوم، ضررها أكثر من نفعها، و شرها أكثر من خيرها. بل لا خير فيها و لا نفع، إلّا ما وافق ما جاءت به الرسل. و الإيمان باللّه و رسوله و كتابه، يقتضي الجزم التام، و اليقين الصادق بها، و العمل بمقتضى ذلك التصديق، من امتثال الأوامر، و اجتناب النواهي. وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فيجازيكم بأعمالكم، الصالحة و السيئة.
[9] يعني: اذكروا يوم الجمع الذي يجمع اللّه به الأولين و الآخرين، و يقفهم موقفا هائلا عظيما، و ينبئهم بما عملوا. فحينئذ يظهر الفرق و التغابن بين الخلائق، و يرفع أقوام إلى أعلى عليين، في الغرف العاليات، و المنازل المرتفعات، المشتملة على جميع اللذات و الشهوات. و يخفض أقوام إلى أسفل سافلين، محل الهم و الغم، و الحزن و العذاب الشديد، و ذلك نتيجة ما قدموه لأنفسهم، و أسلفوه أيام حياتهم، و لهذا قال: ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ . أي:
يظهر فيه التغابن، و التفاوت بين الخلائق، و يغبن المؤمنون الفاسقين، و يعرف المجرمون، أنهم على غير شيء، و أنهم هم الخاسرون، فكأنه قيل: بأي شيء يحصل الفلاح و الشقاء و النعيم و العذاب؟ فذكر أسباب ذلك بقوله: وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ إيمانا تاما، شاملا لجميع ما أمر اللّه بالإيمان به. وَ يَعْمَلْ صالِحاً من الفرائض و النوافل، من أداء حقوق اللّه و حقوق عباده. يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، فيها ما تشتهيه الأنفس، و تلذ الأعين، و تختاره الأرواح، و تحن إليه القلوب، و يكون نهاية كلّ مرغوب. خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ .
[10] وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا ، أي: كفروا بها، من غير مستند شرعي و لا عقلي. بل جاءتهم الأدلة و البينات، فكذبوا بها و عاندوا، ما دلت عليه. أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ لأنها جمعت كلّ بؤس و شدة، و شقاء و عذاب.
[11] يقول تعالى: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ هذا عام لجميع المصائب، في النفس، و المال، و الولد، و الأحباب، و نحوهم. فجميع ما أصاب العباد، بقضاء اللّه و قدره، قد سبق بذلك، علم اللّه، و جرى به قلمه، و نفذت مشيئته، و اقتضته حكمته، و لكن الشأن كلّ الشأن، هل يقوم العبد بالوظيفة، الّتي عليه في هذا المقام، أم لا يقوم بها؟ فإن قام بها، فله الثواب الجزيل، و الأجر الجميل، في الدنيا و الآخرة. فإذا آمن أنها من عند اللّه، فرضي بذلك، و سلّم لأمره، هدى اللّه قلبه، فاطمأن و لم ينزعج عند المصائب، كما يجري ممن لم يهد اللّه قلبه، بل يرزقه الثبات عند ورودها و القيام بموجب الصبر فيحصل له بذلك ثواب عاجل، مع ما يدخر له يوم الجزاء من الأجر العظيم، كما قال تعالى: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ . و علم من ذلك، أن من لم يؤمن باللّه عند ورود المصائب، بأن لم يلحظ قضاء اللّه و قدره، بل وقف مع مجرد الأسباب، أنه يخذل، و يكله اللّه إلى نفسه. و إذا و كلّ العبد إلى نفسه، فالنفس ليس عندها إلّا الهلع و الجزع، الذي هو عقوبة عاجلة على العبد، قبل عقوبة الآخرة، على ما فرط في واجب الصبر. هذا ما يتعلق بقوله: وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ، في مقام المصائب الخاص. و أما ما يتعلق بها من حيث العموم اللفظي، فإن اللّه أخبر أن كلّ من آمن، أي: الإيمان المأمور به،
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1044
و هو الإيمان باللّه و ملائكته، و كتبه، و رسله، و اليوم الآخر، و القدر خيره و شره. و صدق إيمانه، بما يقتضيه الإيمان من لوازمه و واجباته، أن هذا السبب الذي قام به العبد، أكبر سبب لهداية اللّه له في أقواله و أفعاله، و جميع أحواله و في علمه و عمله. و هذا أفضل جزاء، يعطيه اللّه لأهل الإيمان، كما قال تعالى- مخبرا- أنه يثبت المؤمنين في الحياة الدنيا، و في الآخرة. و أصل الثبات: ثبات القلب و صبره، و يقينه عند ورود كلّ فتنة، فقال: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ ، فأهل الإيمان، أهدى الناس قلوبا، و أثبتهم عند المزعجات و المقلقات، و ذلك لما معهم من الإيمان.
[12] و قوله: وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ ، أي: في امتثال أمرهما، و اجتناب نهيهما، فإن طاعة اللّه، و طاعة رسوله، مدار السعادة، و عنوان الفلاح. فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ ، أي: عن طاعة اللّه و طاعة رسوله، فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ، أي: يبلغكم ما أرسل به إليكم، بلاغا بينا واضحا، فتقوم عليكم به الحجة، و ليس بيده من هدايتكم، و لا من حسابكم شيء. و إنّما يحاسبكم على القيام بطاعة اللّه و طاعة رسوله، أو عدم ذلك، عالم الغيب و الشهادة.
[13] اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، أي: هو المستحق للعبادة و الألوهية، فكل معبود سواه باطل. وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ، أي: فليعتمدوا عليه في كلّ أمر نابهم، و فيما يريدون القيام به. فإنه لا يتيسر أمر من الأمور إلّا باللّه، و لا سبيل إلى ذلك إلّا بالاعتماد على اللّه، و لا يتم الاعتماد على اللّه، حتى يحسن العبد ظنه بربه، و يثق به في كفايته الأمر، الذي يعتمد عليه به، و بحسب إيمان العبد يكون توكله، قوة و ضعفا.
[14- 15] هذا تحذير من اللّه للمؤمنين، عن الاغترار بالأزواج و الأولاد، فإن بعضهم عدو لكم، و العدو هو الذي يريد لك الشر، فوظيفتك الحذر ممن هذه صفته، و النفس مجبولة على محبة الأزواج و الأولاد. فنصح تعالى عباده، أن توجب لهم هذه المحبة، الانقياد لمطالب الأزواج و الأولاد، الّتي فيها محذور شرعي، و رغبهم في امتثال أوامره، و تقديم مرضاته بما عنده، من الأجر العظيم المشتمل على المطالب العالية، و المحاب الغالية، و أن يؤثروا الآخرة على الدنيا الفانية المنقضية. و لما كان النهي عن طاعة الأزواج و الأولاد، فيما هو ضرر على العبد، و التحذير من ذلك، قد يوهم الغلظة عليهم و عقابهم، أمر تعالى بالحذر منهم، و الصفح عنهم و العفو، فإن في ذلك من المصالح ما لا يمكن حصره، فقال: وَ إِنْ تَعْفُوا وَ تَصْفَحُوا وَ تَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لأن الجزاء من جنس العمل. فمن عفا، عفا اللّه عنه، و من صفح، صفح عنه، و من عامل اللّه فيما يحب، و عامل عباده بما يحبون، و ينفعهم، نال محبة اللّه، و محبة عباده، و استوثق له أمره.
[16] يأمر تعالى بتقواه، الّتي هي امتثال أوامره، و اجتناب نواهيه، و قيد ذلك بالاستطاعة و القدرة. فهذه الآية تدل على أن كلّ واجب عجز عنه العبد، يسقط عنه، و أنه إذا قدر على بعض الأمور، و عجز عن بعضها، فإنه يأتي بما قدر عليه، و يسقط عنه ما يعجز عنه، كما قال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم». و يدخل تحت
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1045
هذه القاعدة الشرعية من الفروع، ما لا يدخل تحت الحصر. و قوله: وَ اسْمَعُوا ، أي: اسمعوا ما يعظكم اللّه به، و ما يشرعه لكم، من الأحكام و اعلموا ذلك، و انقادوا له وَ أَطِيعُوا اللّه و رسوله في جميع أموركم. وَ أَنْفِقُوا من النفقات الواجبة و المستحبة، يكن ذلك الفعل منكم خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ في الدنيا و الآخرة، فإن الخير كله في امتثال أوامر اللّه، و قبول نصائحه، و الانقياد لشرعه، و الشر كله، في مخالفة ذلك. و لكن ثمّ آفة تمنع كثيرا من الناس، من النفقة المأمور بها، و هو الشح المجبولة عليه أكثر النفوس، فإنها تشح بالمال، و تحب وجوده، و تكره خروجه من اليد غاية الكراهة. وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ بأن تسمح بالإنفاق النافع لها فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ لأنهم أدركوا المطلوب، و نجوا من المرهوب، بل لعل ذلك شامل لكل ما أمر به العبد، و نهى عنه. فإنه إن كانت نفسه شحيحة، لا تنقاد لما أمرت به، و لا تخرج ما قبلها، «من النفقات المأمورة بها» لم يفلح، بل خسر الدنيا و الآخرة. و إن كانت نفسه نفسا سمحة، مطمئنة، منشرحة لشرع اللّه، طالبة لمرضاته، فإنها ليس بينها و بين فعل ما كلفت به إلّا العلم به، و وصول معرفته إليها، و البصيرة بأنه مرض للّه، و بذلك تفلح و تنجح و تفوز كلّ الفوز.
[17] ثمّ رغّب تعالى في النفقة، فقال: إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً و هو: كل نفقة كانت في الحلال، و إذا قصد بها العبد وجه اللّه تعالى، و وضعها في موضعها يُضاعِفْهُ لَكُمْ ، النفقة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة. وَ مع المضاعفة أيضا يَغْفِرْ لَكُمْ بسبب الإنفاق و الصدقة، ذنوبكم، فإن الذنوب تكفرها الصدقات و الحسنات: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ . وَ اللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ لا يعاجل من عصاه، بل يمهله و لا يهمله. وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى .
وَ اللَّهُ تعالى شَكُورٌ يقبل من عباده اليسير من العمل، و يجازيهم عليه الكثير من الأجر. و يشكر تعالى لمن تحمل من أجله المشاق و الأثقال، و أنواع التكاليف الثقال، و من ترك شيئا، عوضه اللّه خيرا منه.
[18] عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ ، أي: ما غاب عن العباد من الجنود الّتي لا يعلمها إلّا هو، و ما يشاهدونه من المخلوقات. الْعَزِيزُ الذي لا يغالب، و لا يمانع، الذي قهر جميع الأشياء. الْحَكِيمُ في خلقه و أمره، الذي يضع الأشياء مواضعها. تم تفسير سورة التغابن- و للّه الحمد.
تفسير سورة الطلاق
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] يقول تعالى- مخاطبا لنبيه صلّى اللّه عليه و سلّم و للمؤمنين-: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ، أي: أردتم طلاقهن (ف) التمسوا لطلاقهن الأمر المشروع، و لا تبادروا بالطلاق، من حين يوجد سببه، من غير مراعاة لأمر اللّه. بل طلقوهن لِعِدَّتِهِنَ ، أي: لأجل عدتهن، بأن يطلقها زوجها، و هي طاهر، في طهر لم يجامعها فيه، فهذا الطلاق هو الذي تكون العدة فيه واضحة بينة. بخلاف ما لو طلقها و هي حائض، فإنها لا تحتسب تلك الحيضة، الّتي وقع فيها الطلاق، و تطول عليها العدة بسبب ذلك. و كذلك لو طلقها في طهر و طىء فيه، فإنه لا يؤمن حملها، فلا يتبين، و لا يتضح بأي عدة تعتد. وَ أَحْصُوا الْعِدَّةَ و إحصاء العدة، ضبطها إن كانت تحيض، أو بالأشهر، إن لم تكن تحيض، و ليست حاملا. فإن في إحصائها، أداء لحق اللّه، و حق الزوج المطلق، و حق من سيتزوجها بعد،
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1046
و حقها في النفقة و نحوها. فإذا ضبطت عدتها، علمت حالها على بصيرة، و علم ما يترتب عليها، من الحقوق، و ما لها منها. و هذا الأمر بإحصاء العدة، يتوجه للزوج، و للمرأة، إن كانت مكلفة، و إلا فلوليّها. و قوله: وَ اتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ ، أي: في جميع أموركم، و خافوه في حق الزوجات المطلقات. لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَ مدة العدة، بل تلزم بيتها الذي طلقها زوجها و هي فيه. وَ لا يَخْرُجْنَ ، أي: لا يجوز لهن الخروج منها. أما النهي عن إخراجها، فلأن المسكن، يجب على الزوج للزوجة، لتكمل فيه عدتها الّتي هي حق من حقوقه. و أما النهي عن خروجها، فلما في خروجها، من إضاعة حق الزوج، و عدم صونه. و يستمر هذا النهي عن الخروج من البيوت، و الإخراج إلى تمام العدة. إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ، أي: بأمر قبيح واضح، موجب لإخراجها، بحيث يدخل على أهل البيت الضرر، من عدم إخراجها، كالأذى بالأقوال، و الأفعال الفاحشة، ففي هذه الحال يجوز لهم إخراجها، لأنها هي الّتي تسببت لإخراج نفسها، و الإسكان فيه جبر لخاطرها، و رفق بها، فهي الّتي أدخلت الضرر عليها، و هذا في المعتدة الرجعية. و أما البائن، فليس لها سكنى واجبة، لأن السكن تبع للنفقة، و النفقة تجب للرجعية دون البائن. وَ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ، أي: الّتي حدها لعباده و شرعها لهم، و أمرهم بلزومها، و الوقوف معها. وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ بأن لم يقف معها، بل تجاوزها، أو قصر عنها. فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ، أي: بخسها حقها، و أضاع نصيبه من اتباع حدود اللّه الّتي هي الصلاح في الدنيا و الآخرة. لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً ، أي: شرع اللّه العدة، و حدد الطلاق بها، لحكم عظيمة. فمنها: أنه لعل اللّه يحدث في قلب المطلق الرحمة و المودة، فيراجع من طلقها، و يستأنف عشرتها، فيتمكن من ذلك «من معرفة» مدة العدة، و لعله يطلقها لسبب منها، فيزول ذلك السبب، في مدة العدة، فيراجعها، لانتفاء سبب الطلاق. و من الحكم: أنها مدة التربص، يعلم براءة رحمها من زوجها.
[2] و قوله: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ ، أي: قاربن انقضاء العدة، لأنهن لو خرجن من العدة، لم يكن الزوج مخيرا بين الإمساك و الفراق. فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ، أي؛ على وجه المعاشرة الحسنة، و الصحبة الجميلة، لا على وجه الضرر، و إرادة الشر و الحبس، فإن إمساكها على هذا الوجه لا يجوز. أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ، أي: فراقا لا محذور فيه، من غير تشاتم و لا تخاصم، و لا قهر لها، على أخذ شيء من مالها. وَ أَشْهِدُوا على طلاقها و رجعتها ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ، أي: رجلين مسلمين عدلين، لأن في الإشهاد المذكور، سدا لباب المخاصمة، و كتمان كلّ منهما، ما يلزم بيانه. وَ أَقِيمُوا أيها الشهداء الشَّهادَةَ لِلَّهِ ، أي: ائتوا بها على وجهها، من غير زيادة و لا نقص. و اقصدوا بإقامتها، وجه اللّه تعالى، و لا تراعوا بها قريبا لقرابته، و لا صاحبا لمحبته. ذلِكُمْ الذي ذكرنا لكم من الأحكام و الحدود يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فإن الإيمان باللّه، و اليوم الآخر، يوجب لصاحبه أن يتعظ بمواعظ اللّه، و أن يقدم لآخرته من الأعمال الصالحة، ما يتمكن منها. بخلاف من ترحل الإيمان من قلبه، فإنه لا يبالي بما أقدم عليه من الشر، و لا يعظم مواعظ اللّه، لعدم الموجب لذلك. و لما كان الطلاق، قد يوقع في
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1047
الضيق و الكرب و الغم، أمر تعالى بتقواه و وعد من اتقاه في الطلاق و غيره بأن يجعل له فرجا و مخرجا. فإذا أراد العبد الطلاق، ففعله على الوجه الشرعي، بأن أوقعه طلقة واحدة، في غير حيض و لا طهر أصابها فيه، فإنه لا يضيق عليه الأمر، بل جعل اللّه له فرجا و سعة، يتمكن بها من الرجوع إلى النكاح، إذا ندم على الطلاق. و الآية، و إن كانت في سياق الطلاق و الرجعة، فإن العبرة بعموم اللفظ، فكل من اتقى اللّه، و لازم مرضاته في جميع أحواله، فإن اللّه يثيبه في الدنيا و الآخرة. و من جملة ثوابه أن يجعل له فرجا و مخرجا من كلّ شدة و مشقة. و كما أن من اتقى اللّه، جعل له فرجا و مخرجا، فمن لم يتق اللّه، يقع في الآصار و الأغلال، الّتي لا يقدرون على التخلص منها، و الخروج من تبعتها. و اعتبر ذلك في الطلاق، فإن العبد إذا لم يتق اللّه فيه، بل أوقعه، على الوجه المحرم، كالثلاث و نحوها، فإنه لا بد أن يندم ندامة، لا يتمكن من استدراكها، و الخروج منها.
[3] و قوله: وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ، أي: يسوق اللّه الرزق للمتقي، من وجه لا يحتسبه، و لا يشعر به. وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ في أمر دينه و دنياه، بأن يعتمد على اللّه في جلب ما ينفعه، و دفع ما يضره، و يثق به في تسهيل ذلك فَهُوَ حَسْبُهُ ، أي: كافيه الأمر الذي توكل عليه فيه. و إذا كان الأمر في كفالة الغني القوي، العزيز الرحيم، فهو أقرب إلى العبد من كلّ شيء. و لكن ربما أن الحكمة الإلهية اقتضت تأخيره إلى الوقت المناسب له، فلهذا قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ ، أي: لا بد من نفوذ قضائه و قدره. و لكن قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً ، أي: وقتا و مقدارا، لا يتعداه، و لا يقصر عنه.
[4] لما ذكر تعالى، أن الطلاق المأمور به، يكون لعدة النساء، ذكر العدة، فقال: وَ اللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ بأن كن يحضن، ثمّ ارتفع حيضهن، لكبر أو غيره، و لم يرج رجوعه فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ جعل كلّ شهر، مقابله حيضة. وَ اللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ ، أي: الصغار اللائي لم يأتهن الحيض بعد، أو البالغات، اللاتي لم يأتهن حيض بالكلية، فإنهن كالآيسات، عدتهن ثلاثة أشهر. و أما اللائي يحضن، فذكر اللّه عدتهن في قوله:
وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ . و قوله: وَ أُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَ ، أي: عدتهن أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ ، أي: جميع ما في بطونهن، من واحد، و متعدد، و لا عبرة حينئذ بالأشهر و لا غيرها. وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً أي: من اتقى، يسّر له الأمور، و سهّل عليه كلّ عسير.
[5] ذلِكَ ، أي: الحكم الذي بينه اللّه لكم أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ لتمشوا عليه، و تأتموا به، و تعظموه. وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَ يُعْظِمْ لَهُ أَجْراً ، أي: يندفع عنه المحذور، و يحصل له المطلوب.
[6] تقدم أن اللّه نهى عن إخراج المطلقات من البيوت، و هنا أمر بإسكانهن و قدر إسكانهن بالمعروف، و هو البيت الذي يسكنه مثله و مثلها، بحسب وجد الزوج و عسره. وَ لا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ ، أي: لا تضاروهن، عند سكناهن بالقول أو الفعل، لأجل أن يمللن، فيخرجن من البيوت، قبل تمام العدة، فتكونوا أنتم المخرجين لهن. و حاصل هذا أنه نهى عن إخراجهن، و نهاهن عن الخروج، و أمر بسكناهن، على وجه لا يحصل به عليهن
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1048
ضرر و لا مشقة، و ذلك راجع إلى العرف. وَ إِنْ كُنَ ، أي: المطلقات أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ و ذلك لأجل الحمل الذي في بطنها، إن كانت بائنا. و لها و لحملها، إن كانت رجعية و منتهى النفقة، إلى وضع الحمل، فإذا وضعن حملهن، فإما أن يرضعن أولادهن، أو لا. فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ المسماة لهن، إن كان مسمى، و إلا فأجر المثل. وَ أْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ ، أي: و ليأمر كل واحد من الزوجين و غيرهما، الآخر بالمعروف، و هو كلّ ما فيه منفعة و مصلحة في الدنيا و الآخرة، فإن الغفلة عن الائتمار بالمعروف، يحصل فيها من الضرر و الشر، ما لا يعلمه إلا اللّه، و في الائتمار به تعاون على البر و التقوى. و مما يناسب هذا المقام، أن الزوجين عند الفراق وقت العدة، خصوصا إذا ولد بينهما ولد، في الغالب يحصل من التنازع و التشاجر لأجل النفقة عليها و على الولد مع الفراق، الذي لا يحصل في الغالب إلا مقرونا بالبغض، فيتأثر من ذلك شيء كثير. فكل منهما يؤمر بالمعروف، و المعاشرة الحسنة، و عدم المشاقة و المنازعة، و ينصح على ذلك. وَ إِنْ تَعاسَرْتُمْ بأن لم يتفق الزوجان على رضاعها لولدها. فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى غيرها فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ . و هذا حيث كان الولد يقبل ثدي غير أمه، فإن لم يقبل إلا ثدي أمه، تعينت لإرضاعه، و وجب عليها، و أجبرت إن امتنعت، و كان لها أجرة المثل، إن لم يتفقا على مسمى. و هذا مأخوذ من الآية الكريمة من حيث المعنى، فإن الولد، لما كان في بطن أمه مدة الحمل، لا خروج له منه، عينّ تعالى على وليه النفقة. فلما ولد، و كان يتمكن أن يتقوت من أمه، و من غيرها، أباح تعالى الأمرين، فإذا كان بحالة، لا يمكن أن يتقوت إلا من أمه، كان بمنزلة الحمل، و تعينت أمه طريقا لقوته. ثمّ قدر تعالى النفقة، بحسب حال الزوج، فقال:
[7] لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ، أي: لينفق الغني من غناه، فلا ينفق نفقة الفقراء. وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ ، أي: ضيق عليه فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ من الرزق. لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها و هذا مناسب للحكمة و الرحمة الإلهية حيث جعل كلا بحسبه، و خفف عن المعسر، و أنه لا يكلفه إلا ما آتاه، فلا يكلف اللّه نفسا إلا وسعها، في باب النفقة و غيرها. سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً ، و هذه بشارة للمعسرين، أن اللّه تعالى سيزيل عنهم الشدة، و يرفع عنهم المشقة، فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5).
[8] يخبر تعالى عن إهلاكه الأمم العاتية، و القرون المكذبة للرسل، و أن كثرتهم و قوتهم، لم تغن عنهم شيئا، حين جاءهم الحساب الشديد، و العذاب الأليم، و أن اللّه أذاقهم من العذاب ما هو موجب أعمالهم السيئة. و مع عذاب الدنيا، فإن اللّه أعد لهم في الآخرة عذابا شديدا.