کتابخانه تفاسیر
تيسير الكريم الرحمن، ص: 995
[16] فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ (16)، أي: فكيف رأيت أيها المخاطب عذاب اللّه الأليم و إنذاره الذي لا يبقي لأحد عليه حجة.
[17] وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)، أي: و لقد يسرنا و سهلنا هذا القرآن الكريم، ألفاظه للحفظ و الأداء، و معانيه للفهم و العلم، لأنه أحسن الكلام لفظا، و أصدقه معنى، و أبينه تفسيرا، فكل من أقبل عليه يسر اللّه عليه مطلوبه غاية التيسير، و سهله عليه، و الذكر شامل لكل ما يتذكر به العاملون من الحلال و الحرام، و أحكام الأمر و النهي، و أحكام الجزاء و المواعظ و العبر، و العقائد النافعة و الأخبار الصادقة. و لهذا كان علم القرآن حفظا و تفسيرا، أسهل العلوم، و أجلّها على الإطلاق، و هو العلم النافع الذي إذا طلبه العبد، أعين عليه، و قال بعض السلف عند هذا الآية: هل من طالب علم فيعان عليه؟
و لهذا يدعو اللّه عباده إلى الإقبال عليه و التذكر بقوله: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ .
[18] «و عاد» هي القبيلة المعروفة باليمن، أرسل اللّه إليهم هودا عليه السّلام يدعوهم إلى توحيد اللّه و عبادته، فكذبوه،
[19] فأرسل اللّه عليهم رِيحاً صَرْصَراً ، أي:
شديدة جدا. فِي يَوْمِ نَحْسٍ ، أي: شديد العذاب و الشقاء عليهم، مُسْتَمِرٍّ عليهم سبع ليال، و ثمانية أيام حسوما.
[20] تَنْزِعُ النَّاسَ من شدتها، فترفعهم إلى جو السماء، ثمّ تدفعهم بالأرض فتهلكهم، فيصبحون كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ، أي: كأن جثثهم بعد هلاكهم، مثل جذوع النخل الخاوي الذي اقتلعته الريح فسقط على الأرض، فما أهون الخلق على اللّه إذا عصوا أمره.
[21] فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ (21)، كان و اللّه العذاب الأليم، و النذارة الّتي ما أبقت لأحد عليه حجة.
[22] وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كرر تعالى ذلك، رحمة بعباده، و عناية بهم، حيث دعاهم إلى ما يصلح دنياهم و أخراهم.
[23] كَذَّبَتْ ثَمُودُ و هم القبيلة المعروفة المشهورة في أرض الحجر، نبيهم صالحا صلّى اللّه عليه و سلّم، حين دعاهم إلى عبادة اللّه وحده لا شريك له، و أنذرهم العقاب، إن هم خالفوه.
[24] فكذبوه و استكبروا عليه، و قالوا- كبرا و تيها-:
أَ بَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ ، أي: كيف نتبع بشرا، لا ملكا، منا، لا من غيرنا، ممن هو أكبر عند الناس منا. و مع ذلك فهو شخص واحد إِنَّا إِذاً ، أي: إن اتبعناه و هو في هذه الحالة، لَفِي ضَلالٍ وَ سُعُرٍ ، أي: لضالون أشقياء.
و هذا الكلام من ضلالهم و شقائهم، فإنهم أنفوا أن يتبعوا رسولا من البشر، و لم يأنفوا أن يكونوا عابدين للشجر، و الحجر، و الصور.
[25] أَ أُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا ، أي: كيف يخصه اللّه من بيننا و ينزل عليه الذكر؟ فأي مزية خصه من بيننا؟ و هذا اعتراض من المكذبين على اللّه، لم يزالوا يدلون به، و يصولون و يردون به دعوة الرسل، و قد أجاب اللّه عن هذه الشبهة بقول الرسل لأممهم: قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ . فالرسل منّ اللّه عليهم بصفات و أخلاق و كمالات، بها صلحوا لرسالات ربهم، و الاختصاص بوحيه. و من رحمته و حكمته أن كانوا من البشر، فلو كانوا من الملائكة، لم يمكن البشر، أن يتلقوا عنهم، و لو جعلهم من الملائكة لعاجل المكذبين لهم بالعقاب العاجل. و المقصود من هذا الكلام الصادر من ثمود لنبيهم صالح،
تيسير الكريم الرحمن، ص: 996
تكذيبه، و لهذا حكموا عليه بهذا الحكم الجائر، فقالوا: بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ ، أي: كثير الكذب و الشر. فقبحهم اللّه ما أسفه أحلامهم و أظلمهم، و أشدهم مقابلة للصادقين الناصحين بالخطاب الشنيع، لا جرم عاقبهم اللّه حين اشتد طغيانهم.
[27] فأرسل اللّه الناقة الّتي هي من أكبر النعم عليهم، آية من آيات اللّه، و نعمة يحلبون من درّها، ما يكفيهم أجمعين. فِتْنَةً لَهُمْ ، أي: اختبارا منه لهم و امتحانا.
فَارْتَقِبْهُمْ وَ اصْطَبِرْ ، أي: اصبر على دعوتك إياهم، و ارتقب ما يحل بهم، أو ارتقب هل يؤمنون أو يكفرون؟
[28] وَ نَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ ، أي: و أخبرهم أن الماء، أي: موردهم الذي يستعذبونه، قسمة بينهم و بين الناقة، لها شرب يوم، و لهم شرب يوم آخر معلوم. كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ ، أي: يحضره من كان قسمته، و يحظر على من ليس بقسمة له.
[29] فَنادَوْا صاحِبَهُمْ الذي باشر عقرها، الذي هو أشقى القبيلة فَتَعاطى ، أي: انقاد لما أمروه به من عقرها فَعَقَرَ .
[30] فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ كان أشد عذاب، أرسل اللّه عليهم صيحة و رجفة، أهلكتهم عن آخرهم، و نجى اللّه صالحا و من آمن معه.
[31] إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ في اليوم الرابع من عقرها صَيْحَةً واحِدَةً صاح بها جبريل عليه السّلام فَكانُوا ، أي: فصاروا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ، و الهشيم: الشجر اليابس المتهشم المتكسر، أو كالحشيش اليابس الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته في الشتاء، أي: كهشيم الحظيرة أو الشجر المتخذ لها. و المعنى الإجمالي: «إنا سلطنا عليهم صيحة واحدة، فصاروا بها كشجر يابس يجمعه من يريد اتخاذ حظيرة لبهائمه».
[32] وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32).
[33- 40] أي: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ لوطا عليه السّلام، حين دعاهم إلى عبادة اللّه وحده لا شريك له، و نهاهم عن الشرك و الفاحشة الّتي ما سبقهم بها أحد من العالمين. فكذبوه و استمروا على شركهم و قبائحهم، حتى إن الملائكة الّذين جاءوه بصورة أضياف حين سمع بهم قومه، جاءوا مسرعين، يريدون إيقاع الفاحشة فيهم، لعنهم اللّه و قبحهم، و راودوه عنهم. فأمر اللّه جبريل عليه السّلام، فطمس عيونهم، و أنذرهم نبيهم بطشة اللّه و عقوبته بِالنُّذُرِ . وَ لَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) قلب اللّه عليهم ديارهم، و جعل أسفلها أعلاها، و تتبعهم بحجارة من سجيل منضود، مسومة عند ربك للمسرفين. و نجى اللّه لوطا و أهله من الكرب العظيم، جزاء لهم على شكرهم لربهم، و عبادته وحده لا شريك له، قال تعالى: عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)، مفهوم ذلك أنه يسير سهل على المؤمنين.
[41] أي: وَ لَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ أي: فرعون و قومه النُّذُرُ فأرسل اللّه إليهم موسى الكليم، و أيده بالآيات البينات، و المعجزات الباهرات، و أشهدهم من العبر ما لم يشهد غيرهم، فكذبوا بآيات اللّه كلها، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر، فأغرقه و جنوده في اليم.
[43] و المراد من ذكر هذه القصص تحذير الناس و المكذبين لمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم، و لهذا قال:
أَ كُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ ، أي: هؤلاء الذي كذبوا أفضل الرسل، خير من أولئك المكذبين، الّذين ذكر اللّه
تيسير الكريم الرحمن، ص: 997
هلاكهم، و ما جرى عليهم؟ فإن كانوا خيرا منهم، أمكن أن ينجوا من العذاب، و لم يصبهم ما أصاب أولئك الأشرار، و ليس الأمر كذلك، فإنهم إن لم يكونوا شرا منهم، فليسوا بخير منهم. أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ ، أي: أم أعطاكم اللّه عهدا و ميثاقا في الكتب الّتي أنزلها على الأنبياء، فتعتقدون حينئذ أنكم الناجون بإخبار اللّه و وعده؟
[44] و هذا غير واقع، بل غير ممكن، عقلا و شرعا، أن تكتب براءتهم في الكتب الإلهية المتضمنة للعدل و الحكمة، فليس من الحكمة نجاة أمثال هؤلاء المعاندين المكذبين، لأفضل الرسل و أكرمهم على اللّه، فلم يبق إلا أن يكون بهم قوة ينتصرون بها، فأخبر تعالى أنهم يقولون: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ .
[45] قال تعالى مبينا لضعفهم، و أنهم مهزومون:
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) فوقع كما أخبر، هزم اللّه جمعهم الأكبر يوم «بدر»، و قتل صناديدهم و كبراؤهم، فأذلوا و نصر اللّه دينه و نبيه، و حزبه المؤمنين.
[46] و مع ذلك، فلهم موعد يجمع به أولهم و آخرهم، و من أصيب في الدنيا منهم، و من متع بلذاته، و لهذا قال: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ الذي يجازون به، و يؤخذ منهم الحقّ بالقسط. وَ السَّاعَةُ أَدْهى وَ أَمَرُّ ، أي: أعظم و أشق، و أكبر من كلّ ما يتوهم، أو يدور في الخيال.
[47] إِنَّ الْمُجْرِمِينَ ، أي: الّذين أكثروا من فعل الجرائم، و هي الذنوب العظيمة من الشرك و غيره، من المعاصي لَفِي ضَلالٍ وَ سُعُرٍ ، أي: هم ضالون في الدنيا، ضلال عن العلم، و ضلال عن العمل، الذي ينجيهم من العذاب، و يوم القيامة من العذاب الأليم، و النار الّتي تستعر بهم، و تشتعل في أجسامهم، حتى تبلغ أفئدتهم.
[48] يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ الّتي هي أشرف ما بهم من الأعضاء، و ألمها أشد من غيرها، فيهانون بذلك، و يخزون، و يقال لهم: ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ، أي: ذوقوا ألم النار و أسفها، و غيظها و لهبها.
[49] إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) و هذا شامل للمخلوقات، و العوالم العلوية و السفلية، إن اللّه تعالى وحده خلقها لا خالق لها سواه، و لا مشاركة في خلقه.
[50] و خلقها بقضاء سبق به علمه، و جرى به قلمه، بوقتها و مقدارها، و جميع ما اشتملت عليه من الأوصاف، و ذلك على اللّه يسير، فلهذا قال: وَ ما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) فإذا أراد شيئا قال له كن فيكون كما أراد، كلمح البصر، من غير ممانعة و لا صعوبة.
[51] وَ لَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ من الأمم السابقين الّذين عملوا كما عملتم، و كذبوا كما كذبتم فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ، أي: متذكر يعلم أن سنة اللّه في الأولين و الآخرين واحدة، و أن حكمته كما اقتضت إهلاك أولئك الأشرار فإن هؤلاء مثلهم، و لا فرق بين الفريقين.
[52] وَ كُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52)، أي: كل ما فعلوه من خير و شر مكتوب عليهم في الكتب القدرية
[53] وَ كُلُّ صَغِيرٍ وَ كَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)، أي: مسطر مكتوب. و هذه حقيقة القضاء و القدر، و أن جميع الأشياء كلها، قد علمها اللّه تعالى، و سطرها عنده في اللوح المحفوظ، فما شاء اللّه كان، و ما لم يشأ لم يكن.
فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، و ما أخطأه لم يكن ليصيبه.
[54] إِنَّ الْمُتَّقِينَ للّه، بفعل أوامره، و ترك نواهيه، الّذين اتقوا الشرك و الكبائر و الصغائر. فِي جَنَّاتٍ
تيسير الكريم الرحمن، ص: 998
وَ نَهَرٍ ، أي: في جنات النعيم، التي فيها ما لا عين رأت، و لا أذن سمعت، و لا خطر على قلب بشر، من الأشجار اليانعة، و الأنهار الجارية، و القصور الرفيعة، و المنازل الأنيقة، و المآكل و المشارب اللذيذة، و الحور الحسان، و الروضات البهيات في الجنان، و رضا الملك الديان، و الفوز بقربه، و لهذا قال:
[55] فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) فلا تسأل بعد هذا عما يعطيهم ربهم من كرامته وجوده، و يمدهم به من إحسانه و منته. جعلنا اللّه منهم، و لا حرمنا خير ما عنده، بشرّ ما عندنا. تم تفسير سورة القمر- و الحمد للّه.
سورة الرحمن
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] هذه السورة الكريمة الجليلة، افتتحها باسمه «الرحمن» الدال على سعة رحمته، و عموم إحسانه، و جزيل بره، و واسع فضله. ثمّ ذكر ما يدل على رحمته و أثرها، الذي أوصله اللّه إلى عباده من النعم الدينية و الدنيوية و الأخروية. و بعد كلّ جنس و نوع من نعمه، ينبه الثقلين لشكره، و يقول: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ* .
[2] فذكر أنه عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)، أي: علم عباده ألفاظه و معانيه، و يسرها على عباده، و هذا أعظم منة و رحمة، رحم بها العباد، حيث أنزل عليهم قرآنا عربيا بأحسن الألفاظ، و أوضح المعاني، مشتمل على كلّ خير، زاجر عن كلّ شر.
[3] خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) في أحسن تقويم كامل الأعضاء، مستوفي الأجزاء، محكم البناء، قد أتقن البارئ تعالى البديع خلقه أيّ إتقان، و ميّزه على سائر الحيوانات.
[4] بأن عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4)، أي: التبين عما في ضميره، و هذا شامل للتعليم النطقي و التعليم الخطي، فالبيان الذي ميز اللّه به الآدمي على غيره من أجلّ نعمه، و أكبرها عليه.
[5] الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5)، أي: خلق اللّه الشمس و القمر، و سخرهما يجريان بحساب مقنن، و تقدير مقدر، رحمة بالعباد، و عناية بهم، و ليقوم بذلك من مصالحهم ما يقوم، و ليعرفوا عدد السنين و الحساب.
[6] وَ النَّجْمُ وَ الشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6)، أي: نجوم السماء، و أشجار الأرض، تعرف ربها و تسجد له، و تطيع و تخضع، تنقاد لما سخرها له من مصالح عباده و منافعهم.
[7] وَ السَّماءَ رَفَعَها سقفها للمخلوقات الأرضية.
وَ وَضَعَ الْمِيزانَ ، أي: العدل بين العباد، في الأقوال و الأفعال، و ليس المراد به الميزان المعروف وحده، بل هو كما ذكرنا، يدخل فيه الميزان المعروف، و المكيال الذي به تكال الأشياء و المقادير، و المساحات الّتي تضبط بها المجهولات، و الحقائق الّتي يفصل بها بين المخلوقات، و يقام بها العدل بينهم، و لهذا قال:
[8] أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8)، أي: أنزل اللّه الميزان، لئلا تتجاوزوا الحد في الحقوق و الأمور، فإن الأمر لو كان يرجع إلى عقولكم و آرائكم، لحصل من الخلل ما اللّه به عليم، و لفسدت السماوات و الأرض و من فيهن.
[9] وَ أَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ ، أي: اجعلوه قائما بالعدل، الذي تصل إليه مقدرتكم و إمكانكم. وَ لا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ أي: لا
تيسير الكريم الرحمن، ص: 999
تنقصوه و تعملوا بضده و هو الجور و الظلم و الطغيان.
[10] وَ الْأَرْضَ وَضَعَها اللّه على ما كانت عليه من الكثافة و الاستقرار و اختلاف أوصافها و أحوالها لِلْأَنامِ ، أي: للخلق، لكي يستقروا عليها، و تكون لهم مهادا، و فراشا يبنون بها، و يحرثون و يغرسون، و يحفرون، و يسلكون سبلها فجاجا، و ينتفعون بمعادنها، و جميع ما فيها، مما تدعو إليه حاجتهم بل ضرورتهم.
[11] ثمّ ذكر ما فيها من الأقوات الضرورية، فقال: فِيها فاكِهَةٌ و هي جميع الأشجار الّتي تثمر الثمرات الّتي يتفكه بها العباد، من العنب، و التين، و الرمان، و التفاح، و غير ذلك. وَ النَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ ، أي: ذات الوعاء الذي ينفلق عن القنوان الّتي تخرج شيئا فشيئا حتى تتم، فتكون قوتا يدخر و يؤكل، و يتزود منه المقيم و المسافر، و فاكهة لذيذة من أحسن الفواكه.
[12] وَ الْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ ، أي: ذو الساق الذي يداس، فينتفع بتبنه للأنعام و غيرها، و يدخل في ذلك حب البر، و الشعير، و الذرة، و الأرز، و الدخن و غير ذلك. وَ الرَّيْحانُ يحتمل أن المراد به جميع الأرزاق الّتي يأكلها الآدميون، فيكون هذا من باب عطف العام على الخاص، و يكون اللّه قد امتنّ على عباده بالقوت و الرزق، عموما و خصوصا. و يحتمل أن المراد بالريحان، المعروف، و أن اللّه امتنّ على عباده بما يسره في الأرض من أنواع الروائح الطيبة، و المشام الفاخرة، الّتي تسر الأرواح، و تنشرح لها النفوس.
[13] و لما ذكر جملة كثيرة من نعمه الّتي تشاهد بالأبصار و البصائر، و كان الخطاب للثقلين، الجن و الإنس، قررهم تعالى بنعمه فقال: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13)، أي: فبأي نعم اللّه الدينية و الدنيوية تكذبان؟ و ما أحسن جواب الجن حين تلا عليهم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم هذه السورة، فكلما مر بقوله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ* (13)، قالوا: و لا بشيء من آلائك ربنا نكذب، فلك الحمد، فهكذا ينبغي للعبد إذا تليت عليه نعم اللّه و آلاؤه، أن يقرّ بها، و يشكر، و يحمد اللّه عليها.
[14- 16] ثمّ قال تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ إلى تُكَذِّبانِ . و هذا من نعمه تعالى على عباده، حيث أراهم من آثار قدرته و بديع صنعته، أن خَلَقَ أبا الْإِنْسانَ و هو آدم عليه السّلام مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ ، أي: من طين مبلول، قد أحكم بله، و أتقن، حتى جف، فصار له صلصلة و صوت، يشبه صوت الفخار، و هو الطين المشوي. وَ خَلَقَ الْجَانَ ، أي: أبا الجن، و هو إبليس لعنه اللّه مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ ، أي: من لهب النار الصافي، أو الذي قد خالطه الدخان. و هذا يدل على شرف عنصر الآدمي المخلوق من الطين و التراب، الذي هو محل الرزانة و الثقل و المنافع، بخلاف عنصر الجان و هو النار، الّتي هي محل الخفة و الطيش، و الشر و الفساد. و لما بين خلق الثقلين و مادة ذلك، و كان منة منه تعالى عليهم، قال: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16).
[19- 23] أي: هو تعالى رب كلّ ما أشرقت عليه الشمس و القمر، و الكواكب النيرة، و كلّ ما غربت عنه، و كلّ ما كانا فيه، فالجميع تحت تدبيره و ربوبيته، و ثنّاهما هنا، باعتبار مشارقها، شتاء و صيفا، و اللّه أعلم. المراد بالبحرين: البحر العذاب، و البحر المالح، فهما يلتقيان، فيصب العذب في البحر المالح، و يختلطان و يمتزجان، و لكن اللّه تعالى جعل بينهما برزخا من الأرض، حتى لا يبغي أحدهما على الآخر، و يحصل النفع بكل منهما.
فالعذب: منه يشربون و تشرب أشجارهم و زروعهم و حروثهم، و الملح: به يطيب الهواء و يتولد السمك و الحوت، و اللؤلؤ و المرجان، و يكون مستقرا مسخرا للسفن و المراكب، و لهذا قال: وَ لَهُ الْجَوارِ إلى: تُكَذِّبانِ .
[24- 25] أي: و سخر تعالى لعباده السفن و الجواري، الّتي تمخر البحر، و تشقه بإذن اللّه، ينشئها الآدميون، فتكون من عظمها و كبرها، كالأعلام، و هي: الجبال العظيمة. فيركبها الناس و يحملون عليها أمتعتهم، و أنواع تجاراتهم و غير ذلك مما تدعو إليه حاجتهم و ضرورتهم، و قد حفظها حافظ السماوات و الأرض، و هذه من نعم اللّه
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1000
الجليلة، و لهذا قال: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25).
[26- 27] أي: كل من على الأرض، من إنس و جن، و دواب، و سائر المخلوقات، يفنى و يبيد، و يبقى الحي الذي لا يموت ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ ، أي: ذو العظمة و الكبرياء و المجد الذي يعظم و يبجل، و يجل لأجله، و الإكرام الذي هو سعة الفضل و الجود الذي يكرم أولياءه، و خواص خلقه بأنواع الإكرام الذي يكرمه أولياؤه و يجلونه، و يعظمونه و يحبونه، و ينيبون إليه و يعبدونه. [28] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28).
[29- 30] أي: هو الغني بذاته عن جميع مخلوقاته، و هو واسع الجود و الكرم، فكل الخلق مفتقرون إليه، يسألونه جميع حوائجهم، مجالهم و مقالهم، و لا يستغنون عنه طرفة عين، و لا أقل من ذلك. و هو تعالى كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ يغني فقيرا، و يجبر كسيرا، و يعطي قوما، و يمنع آخرين، و يميت و يحيي، و يخفض و يرفع، لا يشغله شأن عن شأن، و لا تغلطه المسائل، و لا يبرمه إلحاح الملحين، و لا طول مسألة السائلين. فسبحان الكريم الوهاب، الذي عمت مواهبه أهل الأرض و السماوات، و عمّ لطفه جميع الخلق في كلّ الآنات و اللحظات، و تعالى الذي لا يمنعه من الإعطاء معصية العاصين، و لا استغناء الفقراء الجاهلين به و بكرمه. و هذه الشؤون الّتي أخبر أنه كلّ يوم هو في شأن، هي تقاديره و تدابيره الّتي قدرها في الأزل و قضاها، لا يزال تعالى يمضيها و ينفذها في أوقاتها، الّتي اقتضتها حكمته، و هي أحكامه الدينية الّتي هي الأمر و النهي، و القدرية الّتي يجريها على عباده مدة مقامهم في هذه الدار. حتى إذا تمت هذه الخليقة و أفناهم اللّه تعالى، و أراد أن ينفذ فيهم أحكام الجزاء، و يريهم من عدله و فضله، و كثرة إحسانه، ما به يعرفونه، و يوحدونه، نقل المكلفين من دار الابتلاء و الامتحان، إلى دار الحيوان.
[31- 32] و فرغ حينئذ لتنفيذ هذه الأحكام، الّتي جاء وقتها، و هو المراد بقوله: سَنَفْرُغُ ، إلى:
تُكَذِّبانِ . أي: سنفرغ لحسابكم و مجازاتكم بأعمالكم الّتي عملتموها في دار الدنيا.
[33- 34] أي: إذا جمعهم اللّه في موقف القيامة، أخبرهم بعجزهم و ضعفهم، و كمال سلطانه، و نفوذ مشيئته و قدرته، فقال معجزا لهم: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ، أي: تجدون مسلكا و منفذا، تخرجون به عن ملك اللّه و سلطانه. فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ ، أي: لا تخرجون منه إلا بقوة، و تسلط منكم، و كمال قدرة، و أنّى لهم ذلك، و هم لا يملكون لأنفسهم نفعا و لا ضرا، و لا موتا و لا حياة، و لا نشورا؟ ففي ذلك الموقف لا يتكلم أحد إلا بإذنه، و لا تسمع إلا همسا، و في ذلك الموقف يستوي الملوك و المماليك، و الرؤساء و المرءوسون، و الأغنياء و الفقراء.
[35- 36] ثمّ ذكر ما أعد لهم في ذلك اليوم، فقال: يُرْسَلُ عَلَيْكُما إلى: تُكَذِّبانِ . أي: يرسل عليكما لهب صاف من النار، و نحاس، و هو: اللهب الذي قد خالطه الدخان، و المعنى أن هذين الأمرين الفظيعين يرسلان عليكما، و يحيطان بكما، فلا تنتصران، لا بناصر، من أنفسكم، و لا بأحد ينصركم من دون اللّه. و لما كان تخويفه
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1001
لعباده نعمة منه عليهم، و سوطا يسوقهم به إلى أعلى المطالب، و أشرف المواهب، ذكر منته بذلك، فقال: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36).
[37] فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ ، أي: يوم القيامة من الأهوال، و كثرة البلبال، و ترادف الأوجال، فانخسفت شمسها و قمرها، و انتثرت نجومها. فَكانَتْ من شدة الخوف و الانزعاج وَرْدَةً كَالدِّهانِ ، أي: كانت كالمهل و الرصاص المذاب و نحوه
[38- 39] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لا جَانٌ (39)، أي:
سؤال استعلام بما وقع، لأنه تعالى عالم الغيب و الشهادة، و الماضي و المستقبل، و يريد أن يجازي العباد بما علمه من أحوالهم. و قد جعل لأهل الخير و الشر يوم القيامة علامات يعرفون بها، كما قال تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ .
[41- 42] و قال هنا: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَ الْأَقْدامِ (41) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (42)، أي: فيؤخذ بنواصي المجرمين و أقدامهم، فيلقون في النار، و يسحبون إليها، و إنّما يسألهم تعالى سؤال توبيخ، و تقرير بما وقع منهم، و هو أعلم به منهم، و لكنه تعالى يريد أن تظهر للخلق حجته البالغة، و حكمته الجليلة.
[43] أي: يقال للمكذبين بالوعد و الوعيد، حيتن تسعر الجحيم: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43)، فليهنهم تكذيبهم بها، و ليذوقوا من عذابها، و نكالها و سعيرها، و أغلالها، ما هو جزاء لهم على تكذيبهم.
[44] يَطُوفُونَ بَيْنَها ، أي: بين أطباق الجحيم و لهبها وَ بَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ، أي: ماء حار جدا، قد انتهى حره، و زمهرير، قد اشتد برده و قره [45] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (45).
[46] و لما ذكر ما يفعل بالمجرمين، ذكر جزاء المتقين الخائفين، فقال: وَ لِمَنْ خافَ ، إلى: وَ الْإِكْرامِ . أي:
و الذي خاف ربه، و قيامه عليه، فترك ما نهى عنه، و فعل ما أمر به، له جنتان، من ذهب آنيتهما، و حليتهما، و بنيانهما، و ما فيهما، إحدى الجنتين، جزاء على ترك المنهيات، و الأخرى على فعل الطاعات.
[48] و من أوصاف تلك الجنتين، أنهما ذَواتا أَفْنانٍ (48)، أي: فيهما من ألوان النعيم المتنوعة، نعيم الظاهر و الباطن، ما لا عين رأت، و لا أذن سمعت، و لا خطر على قلب بشر. أن فيهما الأشجار الكثيرة الزاهرة، ذوات الغصون الناعمة، الّتي فيها الثمار اليانعة الكثيرة اللذيذة.
[50] و في تلك الجنتين عَيْنانِ تَجْرِيانِ يفجرونهما على ما يريدون و يشتهون.
[52] فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ من جميع أصناف الفواكه زَوْجانِ ، أي: صنفان، كل صنف له لذة و لون، ليس للنوع الآخر.