کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تيسير الكريم الرحمن

سورة الفاتحة سورة آل عمران سورة المائدة سورة الأنعام تفسير سورة الأعراف تفسير سورة الأنفال تفسير سورة التوبة تفسير سورة يونس تفسير سورة هود تفسير سورة الرعد سورة إبراهيم تفسير سورة الحجر سورة النحل سورة الإسراء سورة الكهف تفسير سورة مريم سورة طه تفسير سورة الأنبياء تفسير سورة الحج تفسير سورة المؤمنون تفسير سورة النور تفسير سورة الفرقان تفسير سورة الشعراء تفسير سورة النمل تفسير سورة العنكبوت تفسير سورة الروم تفسير سورة لقمان تفسير سورة السجدة سورة الأحزاب سورة سبأ تفسير سورة فاطر تفسير سورة يس تفسير سورة الصافات تفسير سورة الزمر تفسير سورة فصلت سورة الشورى سورة الزخرف تفسير سورة الدخان سورة الجاثية سورة الأحقاف سورة محمد تفسير سورة الحجرات تفسير سورة ق سورة الطور تفسير سورة النجم سورة القمر سورة الرحمن سورة الواقعة تفسير سورة الحديد تفسير سورة المجادلة تفسير سورة الحشر تفسير سورة الممتحنة تفسير سورة الصف سورة الجمعة تفسير سورة المنافقون تفسير سورة التغابن تفسير سورة الطلاق تفسير سورة التحريم تفسير سورة الملك تفسير سورة القلم سورة الحاقة سورة المعارج سورة نوح سورة الجن تفسير سورة المزمل سورة المدثر تفسير سورة القيامة سورة الإنسان سورة المرسلات تفسير سورة النبأ سورة النازعات سورة عبس تفسير سورة التكوير سورة الإنفطار سورة المطففين تفسير سورة الإنشقاق سورة البروج سورة الطارق سورة الأعلى تفسير سورة الغاشية تفسير سورة الفجر تفسير سورة البلد سورة الشمس سورة الليل تفسير سورة الضحى سورة الشرح سورة التين تفسير سورة العلق سورة القدر تفسير سورة البينة تفسير سورة الزلزلة تفسير سورة العاديات تفسير سورة القارعة سورة التكاثر سورة العصر تفسير سورة الهمزة سورة الفيل تفسير سورة قريش سورة الماعون سورة الكوثر تفسير سورة الكافرون سورة النصر تفسير سورة المسد تفسير سورة الإخلاص سورة الفلق تفسير سورة الناس محتوى تفسير الإمام السعدي

تيسير الكريم الرحمن


صفحه قبل

تيسير الكريم الرحمن، ص: 129

أحدهما لعداوة و نحوها. و منها: أن الكتابة بين المتعاملين من أفضل الأعمال، و من الإحسان إليهما، و فيها حفظ حقوقهما، و براءة ذممهما كما أمره اللّه بذلك، فليحتسب الكاتب بين الناس هذه الأمور، ليحظى بثوابها. و منها: أن الكاتب لا بد أن يكون عارفا بالعدل، معروفا بالعدل؛ لأنه إذا لم يكن عارفا بالعدل لم يتمكن منه، و إذا لم يكن معتبرا عدلا عند الناس رضيا، لم تكن كتابته معتبرة، و لا حاصلا بها المقصود، الذي هو حفظ الحقوق. و منها: أن من تمام الكتابة و العدل فيها، أن يحسن الكاتب الإنشاء، و الألفاظ المعتبرة في كل معاملة، بحسبها، و للعرف في هذا المقام، اعتبار عظيم. و منها: أن الكتابة من نعم اللّه على العباد التي لا تستقيم أمورهم الدينية و لا الدنيوية إلا بها، و أن من علمه اللّه الكتابة، فقد تفضل عليه بفضل عظيم، فمن تمام شكره لنعمة اللّه تعالى، أن يقضي بكتابته حاجات العباد، و لا يمتنع عن الكتابة، و لهذا قال: وَ لا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ‏ . و منها: أن الذي يكتبه الكاتب، هو اعتراف من عليه الحق، إذا كان يحسن التعبير عن الحق الذي عليه، فإن كان لا يحسن ذلك- لصغره، أو سفهه، أو جنونه، أو خرسه، أو عدم استطاعته- أملى عنه وليه، و قام وليه في ذلك مقامه. و منها: أن الاعتراف من أعظم الطرق، التي تثبت بها الحقوق، حيث أمر اللّه تعالى أن يكتب الكاتب، ما أملى عليه من عليه الحق. و منها: ثبوت الولاية على القاصرين، من الصغار و المجانين، و السفهاء و نحوهم. و منها: أن الولي يقوم مقام موليه، في جميع اعترافاته المتعلقة بحقوقه. و منها: أن من أمنته في معاملة، و فوّضته فيها، فقوله في ذلك مقبول، و هو نائب منابك، لأنه إذا كان الولي على القاصرين ينوب منابهم، فالذي وليته باختيارك و فوضت إليه الأمر، أولى بالقبول، و اعتبار قوله و تقديمه على قولك عند الاختلاف. و منها: أنه يجب على الذي عليه الحق- إذا أملى على الكاتب- أن يتقي اللّه، و لا يبخس الحق الذي عليه، فلا ينقصه في قدره، و لا في وصفه، و لا في شرط من شروطه، أو قيد من قيوده، بل عليه أن يعترف بكل ما عليه من متعلقات الحق، كما يجب ذلك إذا كان الحق على غيره له، فمن لم يفعل ذلك، فهو من المطففين الباخسين. و منها: وجوب الاعتراف بالحقوق الخفية، و أن ذلك من أعظم خصال التقوى، كما أن ترك الاعتراف بها من نواقض التقوى و نواقصها. و منها: الإرشاد إلى الإشهاد في البيع، فإن كانت في المداينات، فحكمها حكم الكتابة كما تقدم، لأن الكتابة هي كتابة الشهادة، و إن كان البيع بيعا حاضرا، فينبغي الإشهاد فيه، و لا حرج فيه بترك الكتابة، لكثرته و حصول المشقة فيه. و منها: الإرشاد إلى إشهاد رجلين عدلين، فإن لم يمكن، أو تعذر، أو تعسر، فرجل و امرأتان، و ذلك شامل لجميع المعاملات، بيوع الإدارة، و بيوع الديون، و توابعها من الشروط و الوثائق و غيرها. و إذا قيل: قد ثبت أنه صلى اللّه عليه و سلم قضى بالشاهد الواحد مع اليمين، و الآية الكريمة ليس فيها إلا شهادة رجلين، أو رجل و امرأتين، قيل: الآية الكريمة، فيها إرشاد الباري عباده إلى حفظ حقوقهم، و لهذا أتى فيها بأكمل الطرق، و أقواها، و ليس فيها ما ينافي ما ذكره النبي صلى اللّه عليه و سلم من الحكم بالشاهد و اليمين. فباب حفظ الحقوق في ابتداء الأمر، يرشد فيه العبد إلى الاحتراز و التحفظ التام، و باب الحكم بين المتنازعين، ينظر فيه إلى المرجحات و البينات، بحسب‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 130

حالها. و منها: أن شهادة المرأتين، قائمة مقام الرجل الواحد، في الحقوق الدنيوية، و أما في الأمور الدينية- كالرواية و الفتوى- فإن المرأة فيه، تقوم مقام الرجل، و الفرق ظاهر بين البابين. و منها: الإرشاد إلى الحكمة في كون شهادة المرأتين عن شهادة الرجل، و أنه لضعف ذاكرة المرأة غالبا، و قوة حافظة الرجل. و منها: أن الشاهد لو نسي شهادته، فذكره الشاهد الآخر، فذكر أنه لا يضر ذلك النسيان، إذا زال بالتذكير بقوله: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى‏ ، و من باب أولى، إذا نسي الشاهد، ثم ذكر من دون تذكير، فإن الشهادة مدارها على العلم و اليقين. و منها: أن الشهادة لا بد أن تكون عن علم و يقين، لا عن شك، فمتى صار عند الشاهد ريب في شهادته- و لو غلب على ظنه- لم يحل له أن يشهد إلا بما يعلم. و منها: أن الشاهد ليس له أن يمتنع، إذا دعي للشهادة، سواء دعي للتحمل أو للأداء، و أن القيام بالشهادة من أفضل الأعمال الصالحة، كما أمر اللّه بها، و أخبر عن نفعها و مصالحها. و منها: أنه لا يحل الإضرار بالكاتب، و لا بالشهيد، بأن يدعيا في وقت أو حالة، تضرهما. و كما أنه نهي لأهل الحقوق و المتعاملين، و أن يضار الشهود و الكتاب، فإنه أيضا نهي للكاتب و الشهيد، أن يضار المتعاملين أو أحدهما. و في هذا أيضا أن الشاهد و الكاتب- إذا حصل عليهما ضرر في الكتابة و الشهادة- أنه يسقط عنهما الوجوب. و فيها التنبيه على أن جميع المحسنين الفاعلين للمعروف، لا يحل إضرارهم، و تحميلهم ما لا يطيقون، ف هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ‏ (60)؟ و كذلك على من أحسن و فعل معروفا، أن يتمم إحسانه بترك الإضرار القولي و الفعلي بمن أوقع به المعروف، فإن الإحسان لا يتم إلا بذلك. و منها: أنه لا يجوز أخذ الأجرة على الكتابة و الشهادة، حيث وجبت، لأنه حق أوجبه اللّه على الكاتب و الشهيد، و لأنه من مضارة المتعاملين. و منها: التنبيه على المصالح و الفوائد المترتبة على العمل بهذه الإرشادات الجليلة، و أن فيها حفظ الحقوق و العدل، و قطع التنازع و السلامة من النسيان و الذهول، و لهذا قال: ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَ أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَ أَدْنى‏ أَلَّا تَرْتابُوا ، و هذه مصالح ضرورية للعباد. و منها: أن تعلم الكتابة من الأمور الدينية، لأنها وسيلة إلى حفظ الدين و الدنيا و سبب للإحسان. و منها: أن من خصه اللّه بنعمة من النعم، يحتاج الناس إليها، فمن تمام شكر هذه النعمة، أن يعود بها على عباد اللّه، و أن يقضي بها حاجتهم، لتعليل اللّه النهي عن الامتناع عن الكتابة، بتذكير الكاتب بقوله: كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ‏ ، و مع هذا:

«فمن كان في حاجة أخيه، كان اللّه في حاجته». و منها: أن الإضرار بالشهود و الكتاب، فسوق بالإنسان، فإن الفسوق هو الخروج عن طاعة اللّه إلى معصيته، و هو يزيد و ينقص، و يتبعض، و لهذا لم يقل: «فأنتم فسّاق» أو «فاسقون»، بل قال: فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ‏ ، فبقدر خروج العبد عن طاعة ربه، فإنه يحصل به من الفسوق، بحسب ذلك. و استدل بقوله تعالى: وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ‏ أن تقوى اللّه، وسيلة إلى حصول العلم، و أوضح من هذا قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً ، أي: علما تفرقون به بين الحقائق و الحق و الباطل. و منها: أنه كما أن من العلم النافع، تعليم الأمور الدينية المتعلقة بالعبادات، فمنه أيضا، تعليم الأمور الدنيوية المتعلقة بالمعاملات، فإن اللّه تعالى، حفظ على العباد أمور دينهم و دنياهم، و كتابه العظيم فيه تبيان كل شي‏ء.

[283] و منها: مشروعية الوثيقة بالحقوق، و هي الرهون و الضمانات، التي تكفل للعبد حصوله على حقه، سواء عامل برا أو فاجرا، أمينا أو خائنا، فكم في الوثائق من حفظ حقوق، و انقطاع منازعات. و منها: أن تمام الوثيقة في الرهن، أن يكون مقبوضا، و لا يدل ذلك على أنه لا يصح الرهن إلا بالقبض، بل التقييد بكون الرهن مقبوضا، يدل على أنه قد يكون مقبوضا، تحصل به الثقة التامة، و قد لا يكون مقبوضا، فيكون ناقصا. و منها: أنه يستدل بقوله: فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ أنه إذا اختلف الراهن و المرتهن في مقدار الدين الذي به الرهن، أن القول قول المرتهن، صاحب الحق، لأن اللّه جعل الرهن وثيقة به، فلو لا أنه يقبل قوله في ذلك، لم تحصل به الوثيقة لعدم الكتابة و الشهود. و منها: أنه يجوز التعامل بغير وثيقة، و لا شهود، لقوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 131

أَمانَتَهُ‏ ، و لكن في هذه الحال يحتاج إلى التقوى و الخوف من اللّه، و إلا فصاحب الحق مخاطر في حقه، و لهذا أمر اللّه في هذه الحال، من عليه الحق، أن يتّقي اللّه و يؤدي أمانته.

و منها: أن من ائتمنه معامله، فقد عمل معه معروفا عظيما، و رضي بدينه و أمانته، فيتأكد على من عليه الحق، أداء الأمانة من الجهتين: أداء لحق اللّه، و امتثالا لأمره، و وفاء بحق صاحبه، الذي رضي بأمانته، و وثق به. و منها: تحريم كتم الشهادة، و أن كاتمها قد أثم قلبه، الذي هو ملك الأعضاء، و ذلك لأن كتمها، كالشهادة بالباطل و الزور، فيها ضياع الحقوق، و فساد المعاملات، و الإثم المتكرر في حقه، و حق من عليه الحق. و أما تقييد الرهن بالسفر- مع أنه يجوز حضرا و سفرا- فللحاجة إليه لعدم الكاتب و الشهيد. و ختم الآية بأنه‏ عَلِيمٌ‏ بكل ما يعمله العباد، كالترغيب لهم في المعاملات الحسنة، و الترهيب من المعاملات السيئة.

[284] يخبر تعالى، بعموم ملكه لأهل السماء و الأرض، و إحاطة علمه بما أبداه العباد، و ما أخفوه في أنفسهم، و أنه سيحاسبهم به، فيغفر لمن يشاء، و هو المنيب إلى ربه، الأواب إليه إنه‏ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً .

و يعذب من يشاء، و هو المصرّ على المعاصي، في باطنه و ظاهره. و هذه الآية لا تنافي الأحاديث الواردة في العفو، عما حدث به العبد نفسه، ما لم يعمل أو يتكلم، فتلك الخطرات هي التي تتحدث بها النفوس، التي لا يتصف بها العبد و لا يصمم عليها، و أما هنا فهي العزائم المصممة، و الأوصاف الثابتة في النفوس، أوصاف الخير، و أوصاف الشر، و لهذا قال: ما فِي أَنْفُسِكُمْ‏ ، أي: استقر فيها و ثبت، من العزائم و الأوصاف. و أخبر أنه‏ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ، فمن تمام قدرته، محاسبة الخلائق، و إيصال ما يستحقونه من الثواب و العقاب.

[285] ثبت عنه صلى اللّه عليه و سلم أن من قرأ هاتين الآيتين في ليلته كفتاه، أي: من جميع الشرور، و ذلك لما احتوتا عليه من المعاني الجليلة، فإن اللّه أمر في أول هذه السورة الناس بالإيمان، بجميع أصوله في قوله: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا ، الآية. و أخبر في هذه الآية، أن الرسول صلى اللّه عليه و سلم و من معه من المؤمنين، آمنوا بهذه الأصول العظيمة، و بجميع الرسل، و جميع الكتب، و لم يصنعوا صنيع من آمن ببعض، و كفر ببعض، كحالة المنحرفين من أهل الأديان المنحرفة.

و في قرن المؤمنين بالرسول صلى اللّه عليه و سلم، و الإخبار عنهم جميعا بخبر واحد، شرف عظيم للمؤمنين. و فيه أنه صلى اللّه عليه و سلم مشارك للأمة في الخطاب الشرعي له، و قيامه التام به، و أنه فاق المؤمنين، بل فاق جميع المرسلين في القيام بالإيمان و حقوقه.

و قوله: وَ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا ، هذا التزام من المؤمنين، عام لجميع ما جاء به النبي صلى اللّه عليه و سلم من الكتاب و السنة، و أنهم سمعوه سماع قبول و إذعان و انقياد، و مضمون ذلك تضرعهم إلى اللّه في طلب الإعانة على القيام به، و أن اللّه يغفر لهم ما قصروا فيه من الواجبات، و ما ارتكبوه من المحرمات، و كذلك تضرعوا إلى اللّه في هذه الأدعية النافعة، و اللّه تعالى قد أجاب دعاءهم على لسان نبيه صلى اللّه عليه و سلم فقال: «قد فعلت». فهذه الدعوات مقبولة من مجموع المؤمنين قطعا، و من أفرادهم، إذا لم يمنع من ذلك مانع في الأفراد، و ذلك أن اللّه رفع عنهم المؤاخذة في الخطأ و النسيان، و أن اللّه سهل عليهم شرعه غاية التسهيل، و لم يحملهم من المشاق، و الآصار، و الأغلال، ما حمله على من قبلهم، و لم يحمّلهم فوق‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 132

طاقتهم، و قد غفر لهم و رحمهم، و نصرهم على القوم الكافرين. فنسأل اللّه تعالى، بأسمائه و صفاته، و بما منّ به علينا من التزام دينه، أن يحقق لنا ذلك، و أن ينجز لنا ما وعدنا على لسان نبيه، و أن يصلح أحوال المؤمنين. و يؤخذ من هنا قاعدة التيسير، و نفي الحرج في أمور الدين كلها.

و قاعدة العفو عن النسيان و الخطأ، في العبادات، و في حقوق اللّه تعالى. و كذلك في حقوق الخلق من جهة رفع المأثم، و توجه الذم. و أما وجوب ضمان المتلفات، خطأ أو نسيانا، في النفوس و الأموال، فإنه مرتب على الإتلاف بغير حق، و ذلك شامل لحالة الخطأ و النسيان، و العمد.

تم تفسير سورة البقرة، و للّه الحمد و الثناء، و صلى اللّه على سيدنا محمد و آله و سلم.

سورة آل عمران‏

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

[1] الم‏ (1) من الحروف التي لا يعلم معناها إلا اللّه.

[2- 3] فأخبر تعالى أنه‏ الْحَيُ‏ كامل الحياة، الْقَيُّومُ‏ القائم بنفسه، المقيم لأحوال خلقه، و قد أقام أحوالهم الدينية، و أحوالهم الدنيوية و القدرية، فأنزل على رسوله محمد صلى اللّه عليه و سلم الكتاب بالحق، الذي لا ريب فيه، و هو مشتمل على الحق‏ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ‏ من الكتب، أي: شهد بما شهدت به، و وافقها، و صدق من جاء بها من المرسلين.

و كذلك‏ أَنْزَلَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ‏ .

[4] مِنْ قَبْلُ‏ هذا الكتاب‏ هُدىً لِلنَّاسِ‏ . و أكمل الرسالة و ختمها بمحمد صلى اللّه عليه و سلم، و كتابه العظيم الذي هدى اللّه به الخلق، من الضلالات، و استنقذهم به من الجهالات، و فرّق به بين الحق و الباطل، و السعادة و الشقاوة، و الصراط المستقيم، و طرق الجحيم، فالذين آمنوا به و اهتدوا، حصل لهم به الخير الكثير، و الثواب العاجل و الآجل. و إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ‏ التي بينها في كتابه و على لسان رسوله‏ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ‏ ممن عصاه.

[5] و من تمام قيوميته تعالى، أن علمه محيط بالخلائق‏ لا يَخْفى‏ عَلَيْهِ شَيْ‏ءٌ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ حتى ما في بطون الحوامل.

[6] فهو الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ من ذكر و أنثى، و كامل الخلق و ناقصه، متنقلين في أطوار خلقته و بديع حكمته، فمن هذا شأنه مع عباده، و اعتناؤه العظيم بأحوالهم، من حين أنشأهم إلى منتهى أمورهم لا مشارك له في ذلك- فيتعين أنه لا يستحق العبادة إلا هو. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الذي قهر الخلائق بقوته، و اعتز عن أن يوصف بنقص أو ينعت بذم‏ الْحَكِيمُ‏ في خلقه و شرعه.

[7] يخبر تعالى عن عظمته، و كمال قيوميته، أنه هو الذي تفرد بإنزال هذا الكتاب العظيم، الذي لم يوجد- و لن‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 133

يوجد- له نظير أو مقارب في هدايته، و بلاغته و إعجازه، و إصلاحه للخلق، و أن هذا الكتاب يحتوي على المحكم الواضح المعاني البين، الذي لا يشتبه بغيره، و منه آيات متشابهات، تحتمل بعض المعاني، و لا يتعين منها واحد من الاحتمالين بمجردها، حتى تضم إلى المحكم. فالذين في قلوبهم مرض و زيغ، و انحراف، لسوء قصدهم، يتبعون المتشابه منه، فيستدلون به على مقالاتهم الباطلة، و آرائهم الزائفة، طلبا للفتنة، و تحريفا لكتابه، و تأويلا له على مشاربهم و مذاهبهم ليضلوا و يضلوا. و أما أهل العلم الراسخون فيه، الذين وصل العلم و اليقين إلى أفئدتهم، فأثمر لهم العمل و المعارف- فيعلمون أن القرآن كله من عند اللّه، و أنه كله حق، محكمه و متشابهه، و أن الحق لا يتناقض و لا يختلف.

فلعلمهم أن المحكمات، معناها في غاية الصراحة و البيان، يردون إليها المشتبه، الذي تحصل فيه الحيرة لناقص العلم، و ناقص المعرفة. فيردون المتشابه إلى المحكم، فيعود كله محكما، و يقولون: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَ ما يَذَّكَّرُ للأمور النافعة، و العلوم الصائبة إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ‏ ، أي: أهل العقول الرزينة. ففي هذا دليل على أن هذا، من علامة أولي الألباب، و أن اتباع المتشابه، من أوصاف أهل الآراء السقيمة، و العقول الواهية، و القصود السيئة. و قوله: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ‏ : إن أريد بالتأويل معرفة عاقبة الأمور، و ما تنتهي إليه و تؤول، تعين الوقوف على‏ إِلَّا اللَّهُ‏ حيث هو تعالى المتفرد بالتأويل بهذا المعنى، و إن أريد بالتأويل: معنى التفسير، و معرفة معنى الكلام، كان العطف أولى، فيكون هذا مدحا للراسخين في العلم، أنهم يعلمون كيف ينزلون نصوص الكتاب و السنة، محكمها و متشابهها.

[8] و لما كان المقام مقام انقسام إلى منحرفين و مستقيمين، دعوا اللّه تعالى أن يثبتهم على الإيمان، فقالوا: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا ، أي: لا تملها عن الحق إلى الباطل. بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ، تصلح بها أحوالنا إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ‏ ، أي: كثير الفضل و الهبات. [و هذه الآية، تصلح مثالا للطريقة التي يتعين سلوكها في المتشابهات‏] «1» .

و ذلك أن اللّه تعالى ذكر عن الراسخين، أنهم يسألونه أن لا يزيغ قلوبهم، بعد إذ هداهم، و قد أخبر في آيات أخر عن الأسباب التي بها تزيغ قلوب أهل الانحراف، و أن ذلك بسبب كسبهم، كقوله: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ‏ ، ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ‏ . وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ . فالعبد إذا تولى عن ربه، و والى عدوه، و رأى الحق، فصدف عنه، و رأى الباطل فاختاره، و لاه اللّه ما تولى لنفسه، و أزاغ قلبه، عقوبة له على زيغه، و ما ظلمه اللّه، و لكنه ظلم نفسه، فلا يلم إلا نفسه الأمّارة بالسوء، و اللّه أعلم.

[9] هذا من تتمة كلام الراسخين في العلم، و هو يتضمن الإقرار بالبعث و الجزاء، و اليقين التام، و أن اللّه لا بد أن يوقع ما وعد به، و ذلك يستلزم موجبه و مقتضاه، من العمل و الاستعداد لذلك اليوم، فإن الإيمان بالبعث و الجزاء، أصل صلاح القلوب، و أصل الرغبة في الخير، و الرهبة من الشر، اللذين هما أساس الخيرات.

(1) سقط من المطبوعة التي بين أيدينا، و هو موافق للسياق.

تيسير الكريم الرحمن، ص: 134

[10- 11] لما ذكر يوم القيامة، ذكر أن جميع من كفر باللّه، و كذب رسل اللّه، لا بد أن يدخلوا النار و يصلوها، و أن أموالهم و أولادهم، لن تغني عنهم شيئا من عذاب اللّه، و أنه سيجري عليهم في الدنيا من الأخذات و العقوبات، ما جرى على فرعون و سائر الأمم المكذبة بآيات اللّه‏ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ‏ و عجّل لهم في العقوبات الدنيوية، متصلة بالعقوبات الأخروية. وَ اللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ‏ ، فإياكم أن تستهينوا بعقابه، فيهون عليكم الإقامة على الكفر و التكذيب.

و هذا خبر و بشرى للمؤمنين، و تخويف للكافرين، أنهم لا بد أن يغلبوا في هذه الدنيا، و قد وقع كما أخبر اللّه، فغلبوا غلبة لم يكن لها مثيل و لا نظير.

[12- 13] و جعل اللّه تعالى ما وقع في «بدر» من آياته الدالة على صدق رسوله، و أنه على الحق، و أعداءه على الباطل، حيث التقت فئتان، فئة المؤمنين لا يبلغون إلا ثلاثمائة و بضعة عشر رجلا مع قلة عددهم، و فئة الكافرين، يناهزون الألف، مع استعدادهم التام في السلاح و غيره، فأيد اللّه المؤمنين بنصره، فهزموهم بإذن اللّه، ففي هذا عبرة لأهل البصائر. فلو لا أن هذا هو الحق الذي إذا قابل الباطل أزهقه و اضمحل الباطل لكان- بحسب الأسباب الحسية- الأمر بالعكس.

[14] أخبر تعالى في هاتين الآيتين، عن حالة الناس في إيثار الدنيا على الآخرة، و بين التفاوت العظيم، و الفرق الجسيم بين الدارين، فأخبر أن الناس زيّنت لهم هذه الأمور، فرمقوها بالأبصار، و استحلوها بالقلوب، و عكفت على لذاتها النفوس، كل طائفة من الناس تميل إلى نوع من هذه الأنواع، قد جعلوها هي أكبر همهم، و مبلغ علمهم، و هي- مع هذا- متاع قليل، منقض في مدة يسيرة. فهذا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ‏ .

[15] ثم أخبر عن ذلك بأن المتقين للّه، القائمين بعبوديته، لهم خير من هذه اللذات، فلهم أصناف الخيرات، و النعيم المقيم، مما لا عين رأت، و لا أذن سمعت، و لا خطر على قلب بشر، و لهم رضوان اللّه الذي هو أكبر من كل شي‏ء. و لهم الأزواج المطهرة، من كل آفة و نقص، جميلات الأخلاق، كاملات الخلائق، لأن النفي يستلزم ضده، فتطهيرها عن الآفات، مستلزم لوصفها بالكمالات. وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ فييسر كلّا منهم لما خلق له، أما أهل السعادة، فييسرهم للعمل لتلك الدار الباقية، و يأخذون من هذه الحياة الدنيا، ما يعينهم على عبادة اللّه و طاعته، و أما أهل الشقاوة و الإعراض، فيقيضهم لعمل أهل الشقاوة، و يرضون بالحياة الدنيا، و يطمئنون بها، و يتخذونها قرارا.

[16] أي: هؤلاء الراسخون في العلم، أهل العلم بالإيمان، يتوسلون إلى ربهم بإيمانهم، لمغفرة ذنوبهم، و وقايتهم عذاب النار، و هذا من الوسائل التي يحبها اللّه، أن يتوسل العبد إلى ربه، بما منّ به عليه من الإيمان و الأعمال الصالحة، إلى تكميل نعم اللّه عليه، بحصول الثواب الكامل، و اندفاع العقاب.

تيسير الكريم الرحمن، ص: 135

[17] ثم وصفهم بأجمل الصفات: بالصبر الذي هو حبس النفوس على ما يحبه اللّه، طلبا لمرضاته، يصبرون على طاعة اللّه، و يصبرون عن معاصيه، و يصبرون على أقداره المؤلمة. و بالصدق بالأقوال و الأحوال، و هو استواء الظاهر و الباطن، و صدق العزيمة على سلوك الصراط المستقيم، و بالقنوت الذي هو دوام الطاعة، مع مصاحبة الخشوع و الخضوع، و بالنفقات في سبل الخيرات، و على الفقراء، و أهل الحاجات، و بالاستغفار، خصوصا وقت الأسحار، فإنهم مدوا الصلاة إلى وقت السحر، فجلسوا يستغفرون اللّه تعالى.

[18] هذه أجلّ الشهادات الصادرة من الملك العظيم، و من الملائكة، و أهل العلم، على أجل مشهود عليه، و هو توحيد اللّه، و قيامه بالقسط، و ذلك يتضمن الشهادة على جميع الشرع، و جميع أحكام الجزاء. فإن الشرع و الدين، أصله و قاعدته، توحيد اللّه و إفراده بالعبودية، و الاعتراف بانفراده، بصفات العظمة و الكبرياء، و المجد، و العز، و القدرة، و الجلال، و نعوت الجود، و البر و الرحمة و الإحسان و الجمال، و بكماله المطلق الذي لا يحصي أحد من الخلق، أن يحيطوا بشي‏ء منه، أو يبلغوه، أو يصلوا إلى الثناء عليه، و العبادات الشرعية، و المعاملات و توابعها، و الأمر و النهي، كله عدل و قسط، لا ظلم فيه و لا جور، بوجه من الوجوه، بل هو في غاية الحكمة و الإحكام، و الجزاء على الأعمال الصالحة و السيئة، كله قسط و عدل. قُلْ أَيُّ شَيْ‏ءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ‏ فتوحيد اللّه، و دينه، و جزاؤه، قد ثبت ثبوتا لا ريب فيه، و هو أعظم الحقائق و أوضحها، و قد أقام اللّه على ذلك من البراهين، و الأدلة ما لا يمكن إحصاؤه و عدّه. و في هذه الآية فضيلة العلم و العلماء؛ لأن اللّه خصهم بالذكر، من دون البشر، و قرن شهادتهم بشهادته، و شهادة ملائكته، و جعل شهادتهم من أكبر الأدلة و البراهين على توحيده و دينه و جزائه، و أنه يجب على المكلفين قبول هذه الشهادة العادلة الصادقة. و في ضمن ذلك: تعديلهم، و أن الخلق تبع لهم، و أنهم هم الأئمة المتبوعون، و في هذا من الفضل و الشرف، و علو المكانة، ما لا يقادر قدره.

[19] يخبر تعالى‏ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ‏ ، أي: الدين الذي لا دين له سواه، و لا مقبول غيره، هو الْإِسْلامُ‏ ، و هو الانقياد للّه وحده، ظاهرا و باطنا بما شرعه على ألسنة رسله، قال تعالى: وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ‏ (85)، فمن دان بغير دين الإسلام، فهو لم يدن للّه حقيقة، لأنه لم يسلك الطريق الذي شرعه على ألسنة رسله. ثم أخبر تعالى، أن أهل الكتاب يعلمون ذلك، و إنما اختلفوا، فانحرفوا عنه عنادا و بغيا، و إلا فقد جاءهم العلم المقتضي لعدم الاختلاف، الموجب للزوم الدين الحقيقي. ثم لما جاءهم محمد صلى اللّه عليه و سلم عرفوه حق المعرفة، و لكن الحسد و البغي و الكفر بآيات اللّه، هي التي صدتهم عن اتباع الحق. وَ مَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ‏ ، أي: فلينتظروا ذلك فإنه آت، و سيجزيهم اللّه بما كانوا يعملون.

صفحه بعد