کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تيسير الكريم الرحمن

سورة الفاتحة سورة آل عمران سورة المائدة سورة الأنعام تفسير سورة الأعراف تفسير سورة الأنفال تفسير سورة التوبة تفسير سورة يونس تفسير سورة هود تفسير سورة الرعد سورة إبراهيم تفسير سورة الحجر سورة النحل سورة الإسراء سورة الكهف تفسير سورة مريم سورة طه تفسير سورة الأنبياء تفسير سورة الحج تفسير سورة المؤمنون تفسير سورة النور تفسير سورة الفرقان تفسير سورة الشعراء تفسير سورة النمل تفسير سورة العنكبوت تفسير سورة الروم تفسير سورة لقمان تفسير سورة السجدة سورة الأحزاب سورة سبأ تفسير سورة فاطر تفسير سورة يس تفسير سورة الصافات تفسير سورة الزمر تفسير سورة فصلت سورة الشورى سورة الزخرف تفسير سورة الدخان سورة الجاثية سورة الأحقاف سورة محمد تفسير سورة الحجرات تفسير سورة ق سورة الطور تفسير سورة النجم سورة القمر سورة الرحمن سورة الواقعة تفسير سورة الحديد تفسير سورة المجادلة تفسير سورة الحشر تفسير سورة الممتحنة تفسير سورة الصف سورة الجمعة تفسير سورة المنافقون تفسير سورة التغابن تفسير سورة الطلاق تفسير سورة التحريم تفسير سورة الملك تفسير سورة القلم سورة الحاقة سورة المعارج سورة نوح سورة الجن تفسير سورة المزمل سورة المدثر تفسير سورة القيامة سورة الإنسان سورة المرسلات تفسير سورة النبأ سورة النازعات سورة عبس تفسير سورة التكوير سورة الإنفطار سورة المطففين تفسير سورة الإنشقاق سورة البروج سورة الطارق سورة الأعلى تفسير سورة الغاشية تفسير سورة الفجر تفسير سورة البلد سورة الشمس سورة الليل تفسير سورة الضحى سورة الشرح سورة التين تفسير سورة العلق سورة القدر تفسير سورة البينة تفسير سورة الزلزلة تفسير سورة العاديات تفسير سورة القارعة سورة التكاثر سورة العصر تفسير سورة الهمزة سورة الفيل تفسير سورة قريش سورة الماعون سورة الكوثر تفسير سورة الكافرون سورة النصر تفسير سورة المسد تفسير سورة الإخلاص سورة الفلق تفسير سورة الناس محتوى تفسير الإمام السعدي

تيسير الكريم الرحمن


صفحه قبل

تيسير الكريم الرحمن، ص: 952

تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ‏ (22)، أي: فهما أمران، إما التزام لطاعة اللّه، و امتثال لأوامره، فثمّ الخير و الرشد و الفلاح، و إما الإعراض عن ذلك، و التولّي عن طاعة اللّه فما ثمّ إلا الفساد في الأرض، بالعمل بالمعاصي، و قطيعة الأرحام.

[23] أُولئِكَ الَّذِينَ‏ أفسدوا في الأرض، و قطعوا أرحامهم‏ لَعَنَهُمُ اللَّهُ‏ بأن أبعدهم عن رحمته، و قربوا من سخط اللّه. فَأَصَمَّهُمْ وَ أَعْمى‏ أَبْصارَهُمْ‏ ، أي: جعلهم لا يسمعون ما ينفعهم، و لا يبصرونه.

فلهم آذان و لكن لا تسمع سماع إذعان و قبول، و إنّما تسمع سماعا تقوم بها حجة اللّه عليها، و لهم أعين، و لكن لا يبصرون بها العبر و الآيات، و لا يلتفتون بها إلى البراهين و البينات.

[24] أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ‏ أي: فهلا يتدبر هؤلاء المعرضون لكتاب اللّه، و يتأملونه حق التأمل، فإنهم لو تدبروه، لدلّهم على كل خير، و لحذّرهم من كل شر، و لملأ قلوبهم من الإيمان، و أفئدتهم من الإيقان. و لأوصلهم إلى المطالب العالية، و المواهب الغالية، و لبيّن لهم الطريق الموصلة إلى اللّه، و إلى جنته و مكملاتها و مفسداتها، و الطريق الموصلة إلى العذاب، و بأي شي‏ء يحذر. و لعرّفهم بربهم، و أسمائه و صفاته، و إحسانه، و لشوّقهم إلى الثواب الجزيل، و رهّبهم من العقاب الوبيل. أَمْ عَلى‏ قُلُوبٍ أَقْفالُها ، أي: قد أغلق على ما فيها من الإعراض و الغفلة و الاعتراض، و أقفلت، فلا يدخلها خير أبدا؟ هذا هو الواقع.

[25] يخبر تعالى عن حالة المرتدين عن الهدى و الإيمان، على أعقابهم، إلى الضلال و الكفران. ذلك لا عن دليل دلهم، و لا برهان، و إنّما هو تسويل من عدوهم الشيطان و تزيين لهم، و إملاء منه لهم: يَعِدُهُمْ وَ يُمَنِّيهِمْ وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً (120).

[26] و ذلِكَ بِأَنَّهُمْ‏ قد تبين لهم الهدى، فزهدوا فيه، و رفضوه، و قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ‏ من المبرزين العداوة للّه و لرسوله‏ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ ، أي: الذي يوافق أهواءهم، فلذلك عاقبهم اللّه بالضلال، و الإقامة على ما يوصلهم إلى الشقاء الأبدي، و العذاب السرمدي. وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ‏ فلذلك فضحهم، و بينها لعباده المؤمنين، لئلا يغتروا بها.

[27] فَكَيْفَ‏ ترى حالهم الشنيعة، و رؤيتهم الفظيعة إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ الموكلون بقبض أرواحهم‏ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ‏ بالمقامع الشديدة؟

[28] ذلِكَ‏ العذاب الذي استحقوه و نالوه (ب) سبب أنهم‏ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ‏ من كل كفر و فسوق و عصيان. وَ كَرِهُوا رِضْوانَهُ‏ فلم يكن لهم رغبة فيما يقربهم إليه، و لا يدنيهم منه، فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ‏ ، أي: أبطلها و أذهبها، و هذا بخلاف من اتبع ما يرضي اللّه و كره سخطه؛ فإنه سيكفر عنه سيئاته، و يضاعف له أجره و ثوابه.

[29] يقول تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ‏ من شبهة أو شهوة بحيث تخرج القلب عن حال صحته و اعتداله. أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ‏ ما في قلوبهم من‏ أَضْغانَهُمْ‏ و عداوتهم للإسلام و أهله؟ هذا ظن لا يليق بحكمة اللّه، فإنه لا بد أن يميز الصادق من الكاذب، و ذلك بالابتلاء بالمحن الّتي من ثبت عليها، و دام إيمانه فيها فهو المؤمن حقيقة. و من ردته على عقبيه فلم يصبر عليها، و حين أتاه الامتحان، جزع و ضعف إيمانه، و ظهر ما في قلبه من الضغن، و تبين نفاقه، هذا مقتضى الحكمة الإلهية، مع أنه تعالى قال:

[30] وَ لَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ‏ ، أي: بعلاماتهم الّتي هي كالرسم في وجوههم. وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ‏ ، أي: لا بد أن يظهر ما في قلوبهم، و يتبين بفلتات ألسنتهم. فإن الألسن مغارف القلوب، يظهر فيها ما في القلوب من الخير و الشر وَ اللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ‏ فيجازيكم عليها.

[31] ثمّ ذكر أعظم امتحان يمتحن به عباده، و هو الجهاد في سبيل اللّه، فقال:

وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ‏ ، أي: نختبر إيمانكم و صبركم‏ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَ الصَّابِرِينَ وَ نَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ‏ ، فمن امتثل أمر اللّه و جاهد في سبيل اللّه بنصر دينه و إعلاء كلمته فهو المؤمن حقا، و من تكاسل عن ذلك، كان ذلك نقصا في إيمانه.

[32] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ‏ هذا وعيد شديد لمن جمع أنواع الشر كلها، من الكفر باللّه، و صد الخلق عن سبيل اللّه الذي نصبه موصلا إليه. وَ شَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى‏ ، أي: عاندوه، و خالفوه عن‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 953

عمد و عناد، لا عن جهل و غيّ و ضلال، فإنهم‏ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً فلا ينقص به ملكه. وَ سَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ‏ ، أي: مساعيهم الّتي بذلوها في نصر الباطل، بأن لا تثمر لهم إلا الخيبة و الخسران، و أعمالهم الّتي يرجون بها الثواب، لا تقبل لعدم وجود شرطها.

[33] يأمر تعالى المؤمنين بأمر به تتم و تحصل سعادتهم الدينية و الدنيوية، و هو طاعته و طاعة رسوله في أصول الدين و فروعه، و الطاعة هي: امتثال الأوامر، و اجتناب النهي على الوجه المأمور به بالإخلاص و تمام المتابعة. و قوله: وَ لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ‏ يشمل النهي عن إبطالها بعد عملها، بما يفسدها، من منّ بها و إعجاب، و فخر و سمعة، و من عمل بالمعاصي الّتي تضمحل معها الأعمال، و يحبط أجرها، و يشمل النهي عن إفسادها حال وقوعها بقطعها، أو الإتيان بمفسد من مفسداتها. فمبطلات الصلاة و الصيام و الحج و نحوها، كلها داخلة في هذا، و منهيّ عنها، و يستدل الفقهاء بهذه الآية على تحريم قطع الفرض، و كراهة قطع النفل، من غير موجب لذلك. و إذا كان اللّه قد نهى عن إبطال الأعمال، فهو أمر بإصلاحها، و إكمالها و إتمامها، و الإتيان بها، على الوجه الذي تصلح به علما و عملا.

[34] هذه الآية و الّتي في البقرة و هي قوله تعالى: وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ مقيدتان، لكل نص مطلق، فيه إحباط العمل بالكفر، فإنه مقيد بالموت عليه.

فقال هنا: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا باللّه و ملائكته، و كتبه و رسله، و اليوم الآخر وَ صَدُّوا الخلق‏ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ‏ بتزهيدهم إياهم بالحق، و دعوتهم إلى الباطل، و تزيينه. ثُمَّ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ لم يتوبوا منه‏ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ‏ لا بشفاعة و لا بغيرها، لأنه قد تحتم عليهم العقاب، و فاتهم الثواب، و وجب عليهم الخلود في النار، و سدت عليهم رحمة الرحيم الغفار. و مفهوم الآية الكريمة أنهم إن تابوا من ذلك قبل موتهم، فإن اللّه يغفر لهم و يرحمهم و يدخلهم الجنة، و لو كانوا مفنين أعمارهم في الكفر به و الصد عن سبيله، و الإقدام على معاصيه. فسبحان من فتح لعباده أبواب الرحمة، و لم يغلقها عن أحد، مادام حيا متمكنا من التوبة. و سبحان الحليم، الذي لا يعاجل العاصين بالعقوبة، بل يعافيهم، و يرزقهم، كأنهم ما عصوه مع قدرته عليهم.

[35] ثمّ قال تعالى: فَلا تَهِنُوا أي: لا تضعفوا عن قتال عدوكم، و يستولي عليكم الخوف، بل اصبروا و اثبتوا، و وطّنوا أنفسكم على القتال و الجلاد، طلبا لمرضاة ربكم، و نصحا للإسلام، و إغضابا للشيطان. وَ لا تَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ‏ و المتاركة بينكم و بين أعدائكم، طلبا للراحة، وَ الحال أنكم‏ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَ اللَّهُ مَعَكُمْ وَ لَنْ يَتِرَكُمْ‏ ، أي: ينقصكم‏ أَعْمالَكُمْ‏ . فهذه الأمور الثلاثة، كل منها مقتض للصبر و عدم الوهن كونهم الأعلين، أي: قد توفرت لهم أسباب النصر، و وعدوا من اللّه بالوعد الصادق، فإن الإنسان لا يهن إلا إذا كان أذل من غيره و أضعف عددا، أو عددا و قوة داخلية و خارجية. الثاني: أن اللّه معهم، فإنهم مؤمنون، و اللّه مع المؤمنين، بالعون و النصر و التأييد، و ذلك موجب لقوة قلوبهم، و إقدامهم على عدوهم. الثالث: أن اللّه لا ينقصهم من أعمالهم شيئا،

تيسير الكريم الرحمن، ص: 954

بل سيوفيهم أجورهم، و يزيدهم من فضله، خصوصا عبادة الجهاد، فإن النفقة تضاعف فيه، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَ لا نَصَبٌ وَ لا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَ لا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَ لا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً وَ لا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ‏ (121). فإذا عرف الإنسان أن اللّه تعالى لا يضيع عمله و جهاده، أوجب له ذلك النشاط، و بذل الجهد، فيما يترتب عليه الأجر و الثواب، فكيف إذا اجتمعت هذه الأمور الثلاثة؟ فإن ذلك يوجب النشاط التام، فهذا من ترغيب اللّه لعباده، و تنشيطهم و تقوية أنفسهم على ما فيه صلاحهم و فلاحهم.

[36] إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ هذا تزهيد منه تعالى لعباده في الحياة الدنيا بإخبارهم عن حقيقة أمرها، بأنها لعب و لهو، لعب في الأبدان و لهو في القلوب. فلا يزال العبد لاهيا في ماله، و أولاده، و زينته، و لذاته من النساء، و المآكل و المشارب، و المساكن و المجالس، و المناظر و الرياسات، لاعبا في كل عمل لا فائدة فيه، بل هو دائر بين البطالة و الغفلة و المعاصي، حتى يستكمل دنياه، و يحضره أجله. فإذا هذه الأمور قد ولّت و فارقت، و لم يحصل العبد منها على طائل، بل قد تبين له خسرانه و حرمانه و حضر عذابه، فهذا موجب للعاقل الزهد فيها، و عدم الرغبة فيها، و الاهتمام بشأنها. و إنّما الذي ينبغي أن يهتم به ما ذكره بقوله: وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا بأن تؤمنوا باللّه، و ملائكته، و كتبه، و رسله، و اليوم الآخر، و تقوموا بتقواه الّتي هي من لوازم الإيمان و مقتضياته، و هي العمل بمرضاته على الدوام، مع ترك معاصيه، فهذا الذي ينفع العبد، و هو الذي ينبغي أن يتنافس فيه، و تبذل الهمم و الأعمال في طلبه. و هو مقصود اللّه من عباده رحمة بهم، و لطفا، ليثيبهم الثواب الجزيل، و لهذا قال: وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَ لا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ‏ ، أي: لا يريد تعالى أن يكلفكم ما يشق عليكم، و يعنتكم من أخذ أموالكم، و بقائكم بلا مال، أو ينقصكم نقصا يضركم، و لهذا قال:

[37] إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَ يُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ‏ (37)، أي: ما في قلوبكم من الضغن، إذا طلب منكم ما تكرهون بذله.

[38] الدليل على أن اللّه لو طلب منكم أموالكم و أحفاكم بسؤالها، أنكم تمنعون منها أنكم‏ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏ على هذا الوجه، الذي فيه مصلحتكم الدينية و الدنيوية. فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ‏ . أي: فكيف لو سألكم، و طلب منكم أموالكم في غير أمر ترونه مصلحة عاجلة؟ أليس من باب أولى و أحرى، امتناعكم من ذلك.

ثمّ قال: وَ مَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ‏ لأنه حرم نفسه ثواب اللّه تعالى، وفاته خير كثير، و لن يضر اللّه بترك الإنفاق شيئا. وَ اللَّهُ‏ هو الْغَنِيُّ وَ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ تحتاجون إليه في جميع أوقاتكم، لجميع أموركم. وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا عن الإيمان باللّه، و امتثال ما يأمركم به‏ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ‏ في التولّي «عن أمر اللّه».

بل يطيعون اللّه و رسوله، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ‏ . تم تفسير سورة محمّد- (القتال)- و الحمد للّه رب العالمين.

تيسير الكريم الرحمن، ص: 955

تفسير سورة الفتح‏

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

[1] هذا الفتح المذكور هو صلح الحديبية، حين صد المشركون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لما جاء معتمرا في قصة طويلة، صار آخر أمرها أن صالحهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم على وضع الحرب بينه و بينهم عشر سنين، و على أن يعتمر من العام المقبل، و على أن من أراد أن يدخل في عهد قريش و حلفهم دخل، و من أحب أن يدخل في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و عقده فعل. و سبب ذلك أنه لما أمن الناس بعضهم بعضا، اتسعت دائرة الدعوة لدين اللّه عز و جل، و صار كل مؤمن بأي محل كان من تلك الأقطار، يتمكن من ذلك. و أمكن ذلك للحريص على الوقوف على حقيقة الإسلام، فدخل الناس في تلك المدة في دين اللّه أفواجا، فلذلك سماه اللّه فتحا و وصفه بأنه فتح مبين، أي: ظاهر جلي.

و ذلك لأن المقصود من فتح بلدان المشركين إعزاز دين اللّه، و انتصار المسلمين، و هذا حصل به الفتح، و رتب اللّه على هذا الفتح عدة أمور، فقال:

[2] لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ و ذلك- و اللّه أعلم- بسبب ما حصل بسببه من الطاعات الكثيرة، و الدخول في الدين بكثرة. و بما تحمّل صلّى اللّه عليه و سلّم من تلك الشروط الّتي لا يصبر عليها، إلا أولو العزم من المرسلين، و هذا من أعظم مناقبه، و كراماته صلّى اللّه عليه و سلّم، أن غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر. وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ‏ بإعزاز دينك، و نصرك على أعدائك، و اتساع كلمتك، وَ يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً تنال به السعادة الأبدية، و الفلاح السرمدي.

[3] وَ يَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3)، أي: قويا لا يتضعضع فيه الإسلام، بل يحصل الانتصار التام، و قمع الكافرين، و ذلهم و نقصهم، مع توفر المسلمين و نموهم، و نمو أموالهم. ثمّ ذكر آثار هذا الفتح على المؤمنين، فقال: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ ، إلى: وَ ساءَتْ مَصِيراً .

[4] يخبر تعالى عن منّته على المؤمنين بإنزال السكينة في قلوبهم، و هي: السكون و الطمأنينة، و الثبات عند نزول المحن المقلقلة، و الأمور الصعبة الّتي تشوش القلوب و تزعج الألباب و تضعف النفوس. فمن نعمة اللّه على عبده في هذه الحال أن يثبته و يربط على قلبه، و ينزل عليه السكينة، ليتلقى هذه المشقات بقلب ثابت، و نفس مطمئنة، فيستعد بذلك لإقامة أمر اللّه في هذه الحال، فيزداد بذلك إيمانه، و يتم إيقانه. فالصحابة رضي اللّه عنهم لما جرى بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و المشركين، من تلك الشروط الّتي ظاهرها أنها غضاضة عليهم، و حط من أقدارهم، و تلك لا تكاد تصبر عليها النفوس. فلما صبروا عليها، و وطنوا أنفسهم لها، ازدادوا بذلك إيمانا مع إيمانهم. و قوله: وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ‏ ، أي: جميعها في ملكه، و تحت تدبيره و قهره. فلا يظن المشركون أن اللّه لا ينصر دينه و نبيه، و لكنه تعالى عليم حكيم، فتقتضي حكمته المداولة بين الناس في الأيام، و تأخير نصر المؤمنين إلى وقت آخر.

[5] لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ يُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ‏ فهذا أعظم ما يحصل للمؤمنين، أي: يحصل لهم المرغوب المطلوب، بدخول الجنات، و يزيل عنهم المحذور بتكفير السيئات. وَ كانَ ذلِكَ‏ الجزاء المذكور للمؤمنين‏ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً ، فهذا ما يفعل بالمؤمنين في ذلك الفتح المبين.

[6] و أما المنافقون و المنافقات، و المشركون و المشركات، فإن اللّه يعذبهم بذلك، و يريهم ما يسوؤهم، حيث كان مقصودهم خذلان المؤمنين، و ظنوا باللّه ظن السوء، أنه لا ينصر دينه، و لا يعلي كلمته، و أن أهل الباطل، ستكون لهم الدائرة على أهل الحقّ، فأدار اللّه عليهم ظنهم، و كانت دائرة السوء عليهم في الدنيا. وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ‏ بما

تيسير الكريم الرحمن، ص: 956

اقترفوه من المحادّة للّه و لرسوله. وَ لَعَنَهُمْ‏ ، أي: أبعدهم و أقصاهم عن رحمته‏ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً .

[7] كرر الإخبار بأن له ملك السماوات و الأرض و ما فيهما من الجنود، ليعلم العباد أنه تعالى هو المعز المذل، و أنه سينصر جنوده المنسوبة إليه، كما قال تعالى: وَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ‏ (173). وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ، أي: قويا غالبا، قاهرا لكل شي‏ء. و مع عزته و قوته، حكيم في خلقه و تدبيره، يجري على ما تقتضيه حكمته و إتقانه.

[8] أي: إِنَّا أَرْسَلْناكَ‏ أيها الرسول الكريم‏ شاهِداً لأمتك بما فعلوه من خير و شر، و شاهدا على المقالات و المسائل، حقها و باطلها، و شاهدا للّه تعالى بالوحدانية و الانفراد بالكمال، من كل وجه. وَ مُبَشِّراً من أطاعك، و أطاع اللّه بالثواب الدنيوي و الديني، و الأخروي، وَ نَذِيراً لمن عصى اللّه، بالعقاب العاجل و الآجل. و من تمام البشارة و النذارة، بيان الأعمال و الأخلاق، الّتي يبشر بها و ينذر، فهو المبين للخير و الشر، و السعادة و الشقاوة، و الحقّ من الباطل.

[9] و لهذا رتب على ذلك قوله: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ‏ ، أي: بسبب دعوة الرسول لكم، و تعليمه لكم ما ينفعكم، أرسلناه لتقوموا بالإيمان باللّه و رسوله، المستلزم ذلك لطاعتهما في جميع الأمور. وَ تُعَزِّرُوهُ وَ تُوَقِّرُوهُ‏ ، أي: تعزروا الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، و توقروه، أي: تعظموه و تجلوه، و تقوموا بحقوقه، كما كانت له المنة العظيمة في رقابكم. وَ تُسَبِّحُوهُ‏ ، أي: تسبحوا للّه‏ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا أول النهار و آخره، فذكر اللّه في هذه الآية الحقّ المشترك بين اللّه و بين رسوله، و هو الإيمان بهما، و المختص بالرسول، و هو: التعزير و التوقير، و المختص باللّه، و هو التسبيح له و التقديس بصلاة أو غيرها.

[10] هذه المبايعة الّتي أشار اللّه إليها هي «بيعة الرضوان» الّتي بايع الصحابة رضي اللّه عنهم فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، على أن لا يفروا عنه، فهي عقد خاص، من لوازمه: أن لا يفروا، و لو لم يبق منهم إلا القليل، و لو كانوا في حال يجوز الفرار فيها. فأخبر تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ‏ حقيقة الأمر أنهم‏ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ‏ ، و يعقدون العقد معه، حتى إنه من شدة تأكده أنه قال: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ‏ ، أي: كأنهم بايعوا اللّه و صافحوه بتلك المبايعة، و كل هذا لزيادة التأكيد و التقوية، و حملهم على الوفاء بها، و لهذا قال: فَمَنْ نَكَثَ‏ فلم يف بما عاهد اللّه عليه‏ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى‏ نَفْسِهِ‏ ، لأن و بال ذلك راجع إليه، و عقوبته واصلة له. وَ مَنْ أَوْفى‏ بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ‏ ، أي: أتى به كاملا موفرا. فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ، لا يعلم عظمه و قدره إلا الذي آتاه إياه.

[11] يذم تعالى المتخلفين عن رسول اللّه، في الجهاد في سبيله، من الأعراب، الّذين ضعف إيمانهم، و كان في قلوبهم مرض، و سوء ظن باللّه تعالى، و أنهم سيعتذرون، بأن أموالهم و أهليهم شغلتهم عن الخروج في سبيله. و أنهم طلبوا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أن يستغفر لهم، قال اللّه تعالى: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ‏ فإن طلبهم الاستغفار من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يدل على ندمهم، و إقرارهم على أنفسهم بالذنب، و أنهم تخلفوا تخلفا يحتاج إلى توبة و استغفار.

فلو لا هذا الذي في قلوبهم، لكان استغفار الرسول نافعا لهم، لأنهم قد تابوا و أنابوا، و لكن الذي في قلوبهم، أنهم‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 957

إنما تخلفوا لأنهم ظنوا باللّه ظن السوء.

[12] فظنوا أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَ الْمُؤْمِنُونَ إِلى‏ أَهْلِيهِمْ أَبَداً ، أي: إنهم سيقتلون و يستأصلون، و لم يزل هذا الظن يزيد في قلوبهم، و يطمئنون إليه، حتى استحكم، و سبب ذلك أمران: أحدهما: أنهم كانوا قَوْماً بُوراً ، أي: هلكى، لا خير فيهم، فلو كان فيهم خير، لم يكن هذا في قلوبهم.

[13] الثاني: ضعف إيمانهم و يقينهم بوعد اللّه، و نصر دينه، و إعلاء كلمته، و لهذا قال: وَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ‏ ، أي: فإنه كافر مستحق للعقاب، فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً .

[14] أي: هو تعالى المنفرد بملك السماوات و الأرض، يتصرف فيهما بما يشاء من الأحكام القدرية، و الأحكام الشرعية، و الأحكام الجزائية، و لهذا ذكر حكم الجزاء المرتب على الأحكام الشرعية، فقال: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ ، و هو:

من قام بما أمره اللّه به‏ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ ممن تهاون بأمر اللّه، وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ، أي: وصفه اللازم الذي لا ينفك عنه المغفرة و الرحمة. فلا يزال في جميع الأوقات يغفر للمذنبين، و يتجاوز عن الخطائين، و يتقبل توبة التائبين، و ينزل خيره المدرار، آناء الليل و النهار.

[15] لما ذكر تعالى المخلفين و ذمهم، ذكر أن من عقوبتهم الدنيوية، أن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم و أصحابه، إذا انطلقوا إلى غنائم لا قتال فيها ليأخذوها، طلبوا منهم الصحبة و المشاركة، و يقولون: ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ‏ بذلك‏ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ‏ حيث حكم بعقوبتهم، و اختصاص الصحابة المؤمنين بتلك الغنائم، شرعا و قدرا. قُلْ‏ لهم‏ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ‏ إنكم محرومون منها بما جنيتم على أنفسكم، و بما تركتم القتال أول مرة.

فَسَيَقُولُونَ‏ ، مجيبين لهذا الكلام، الذي منعوا به عن الخروج: بَلْ تَحْسُدُونَنا على الغنائم، هذا منتهى علمهم في هذا الموضع. و لو فهموا رشدهم، لعلموا أن حرمانهم بسبب عصيانهم، و أن المعاصي لها عقوبات دنيوية و دينية، و لهذا قال: بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا .

[16] لما ذكر تعالى أن المخلفين من الأعراب، يتخلفون عن الجهاد في سبيله، و يعتذرون بغير عذر، و أنهم يطلبون الخروج معهم، إذا لم يكن شوكة و لا قتال، بل لمجرد الغنيمة، قال تعالى ممتحنا لهم: قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى‏ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ، أي: سيدعوكم الرسول و من ناب منابه من الخلفاء الراشدين و الأئمة. و هؤلاء القوم هم فارس و الروم و من نحا نحوهم و أشبههم. تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ‏ ، أي: إما هذا و إما هذا. و هذا هو الأمر الواقع، فإنهم في حال قتالهم، و مقاتلتهم لأولئك الأقوام، إذا كانت شدتهم و بأسهم معهم، فإنهم في تلك الحال لا يقبلون أن يبذلوا الجزية، بل إما أن يدخلوا في الإسلام، و إما أن يقاتلوا على ما هم عليه. فلما أثخنهم المسلمون، و ضعفوا و ذلّوا، ذهب بأسهم، فصاروا إما أن يسلموا، و إما أن يبذلوا الجزية، فَإِنْ تُطِيعُوا الداعي إلى قتال هؤلاء يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً ، و هو الأجر الذي رتبه اللّه و رسوله على الجهاد في سبيل اللّه. وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ‏ عن قتال من دعاكم الرسول إلى قتاله، يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً ، و دلت هذه الآية على فضيلة الخلفاء الراشدين، الداعين لجهاد أهل البأس من الناس، و أنه تجب طاعتهم في ذلك.

[17] ثمّ ذكر الأعذار الّتي يعذر بها

تيسير الكريم الرحمن، ص: 958

العبد، عن الخروج إلى الجهاد، فقال: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى‏ حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ‏ ، أي: في التخلف عن الجهاد لعذرهم المانع. وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ‏ في امتثال أمرهما، و اجتناب نهيهما يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، فيها ما تشتهيه الأنفس، و تلذ الأعين. وَ مَنْ يَتَوَلَ‏ عن طاعة اللّه و رسوله‏ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً ، فالسعادة كلها في طاعة اللّه و الشقاوة في معصيته و مخالفته.

[18] يخبر تعالى، بفضله و رحمته، برضاه عن المؤمنين إذ يبايعون الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، تلك المبايعة الّتي بيضت وجوههم، و اكتسبوا بها سعادة الدنيا و الآخرة. و كان سبب هذه البيعة- الّتي يقال لها: «بيعة الرضوان» لرضا اللّه عن المؤمنين فيها، و يقال لها: «بيعة أهل الشجرة»- أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لما دار الكلام بينه و بين المشركين يوم الحديبية، في شأن مجيئه، و أنه لم يجى‏ء لقتال أحد، و إنما جاء زائرا هذا البيت، معظما له.

فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عثمان بن عفان رضي اللّه تعالى عنه لمكة في ذلك. فجاء خبر غير صادق، أن عثمان قتله المشركون.

فجمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم من معه من المؤمنين، و كانوا نحوا من ألف و خمسائة، فبايعوه تحت شجرة، على قتال المشركين، و أن لا يفروا حتى يموتوا. فأخبر تعالى أنه رضي عن المؤمنين في تلك الحال، الّتي هي من أكبر الطاعات و أجلّ القربات‏ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ‏ من الإيمان‏ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ‏ شكرا لهم على ما في قلوبهم، و زادهم هدى. و علم ما في قلوبهم من الجزع، من تلك الشروط الّتي شرطها المشركون على رسوله، فأنزل عليهم السكينة، تثبتهم، و تطمئن بها قلوبهم‏ وَ أَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ، و هو فتح خيبر، لم يحضره سوى أهل الحديبية. فاختصّوا بخيبر و غنائمها، جزاء لهم، و شكرا على ما فعلوه من طاعة اللّه تعالى، و القيام بمرضاته.

[19] وَ مَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19)، أي: له العزة و القدرة، الّتي قهر بها الأشياء، فلو شاء لانتصر من الكفار في كلّ وقعة تكون بينهم و بين المؤمنين. و لكنه حكيم، يبتلي بعضهم ببعض، و يمتحن المؤمن بالكافر.

[20] وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها و هذا يشمل كلّ غنيمة غنمها المسلمون إلى يوم القيامة. فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ‏ ، أي: غنيمة خيبر، أي: فلا تحسبوها وحدها، بل ثمّ شي‏ء كثير من الغنائم سيتبعها. وَ احمدوا اللّه، إذ كَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ‏ القادرين على قتالكم، الحريصين عليه‏ عَنْكُمْ‏ فهي نعمة، و تخفيف عنكم.

وَ لِتَكُونَ‏ هذه الغنيمة آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ‏ يستدلون بها على خبر اللّه الصادق، و وعده الحقّ، و ثوابه للمؤمنين، و أن الذي قدرها، سيقدر غيرها. وَ يَهْدِيَكُمْ‏ بما يقيض لكم من الأسباب‏ صِراطاً مُسْتَقِيماً من العلم و الإيمان و العمل.

[21] وَ أُخْرى‏ ، أي: وعدكم أيضا غنيمة أخرى‏ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها وقت هذا الخطاب. قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها ، أي: هو قادر عليها، و هي تحت تدبيره و ملكه، و قد وعدكموها، فلا بد من وقوع ما وعد به، لكمال اقتدار اللّه تعالى، و لهذا قال: وَ كانَ اللَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيراً .

صفحه بعد