کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تيسير الكريم الرحمن

سورة الفاتحة سورة آل عمران سورة المائدة سورة الأنعام تفسير سورة الأعراف تفسير سورة الأنفال تفسير سورة التوبة تفسير سورة يونس تفسير سورة هود تفسير سورة الرعد سورة إبراهيم تفسير سورة الحجر سورة النحل سورة الإسراء سورة الكهف تفسير سورة مريم سورة طه تفسير سورة الأنبياء تفسير سورة الحج تفسير سورة المؤمنون تفسير سورة النور تفسير سورة الفرقان تفسير سورة الشعراء تفسير سورة النمل تفسير سورة العنكبوت تفسير سورة الروم تفسير سورة لقمان تفسير سورة السجدة سورة الأحزاب سورة سبأ تفسير سورة فاطر تفسير سورة يس تفسير سورة الصافات تفسير سورة الزمر تفسير سورة فصلت سورة الشورى سورة الزخرف تفسير سورة الدخان سورة الجاثية سورة الأحقاف سورة محمد تفسير سورة الحجرات تفسير سورة ق سورة الطور تفسير سورة النجم سورة القمر سورة الرحمن سورة الواقعة تفسير سورة الحديد تفسير سورة المجادلة تفسير سورة الحشر تفسير سورة الممتحنة تفسير سورة الصف سورة الجمعة تفسير سورة المنافقون تفسير سورة التغابن تفسير سورة الطلاق تفسير سورة التحريم تفسير سورة الملك تفسير سورة القلم سورة الحاقة سورة المعارج سورة نوح سورة الجن تفسير سورة المزمل سورة المدثر تفسير سورة القيامة سورة الإنسان سورة المرسلات تفسير سورة النبأ سورة النازعات سورة عبس تفسير سورة التكوير سورة الإنفطار سورة المطففين تفسير سورة الإنشقاق سورة البروج سورة الطارق سورة الأعلى تفسير سورة الغاشية تفسير سورة الفجر تفسير سورة البلد سورة الشمس سورة الليل تفسير سورة الضحى سورة الشرح سورة التين تفسير سورة العلق سورة القدر تفسير سورة البينة تفسير سورة الزلزلة تفسير سورة العاديات تفسير سورة القارعة سورة التكاثر سورة العصر تفسير سورة الهمزة سورة الفيل تفسير سورة قريش سورة الماعون سورة الكوثر تفسير سورة الكافرون سورة النصر تفسير سورة المسد تفسير سورة الإخلاص سورة الفلق تفسير سورة الناس محتوى تفسير الإمام السعدي

تيسير الكريم الرحمن


صفحه قبل

تيسير الكريم الرحمن، ص: 694

فقال: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً و هي: النجوم، عمومها أو منازل الشمس و القمر التي تنزل منزلة منزلة، و هي بمنزلة البروج، و القلاع للمدن في حفظها. كذلك النجوم بمنزلة البروج المجعولة للحراسة فإنها رجوم للشياطين. وَ جَعَلَ فِيها سِراجاً فيه النور و الحرارة، و هي: الشمس. وَ قَمَراً مُنِيراً فيه النور، لا الحرارة، و هذا من أدلة عظمته، و كثرة إحسانه، فإن ما فيها من الخلق الباهر، و التدبير المنتظم، و الجمال العظيم، دال على عظمة خالقها في أوصافه كلها، و ما فيها من المصالح للخلق، و المنافع، دليل على كثرة خيراته.

[62] وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً أي: يذهب أحدهما، فيخلفه الآخر، و هكذا أبدا، لا يجتمعان، و لا يرتفعان. لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً أي: لمن أراد أن يتذكر بهما و يعتبر، و يستدل بهما على كثير من المطالب الإلهية، و يشكر اللّه على ذلك، و لمن أراد أن يذكر اللّه و يشكره، ورد من الليل أو النهار، فمن فاته ورده من أحدهما، أدركه في الآخر، و أيضا فإن القلوب تتقلب و تنتقل، في ساعات الليل و النهار، فيحدث لها النشاط و الكسل، و الذكر و الغفلة، و القبض و البسط، و الإقبال و الإعراض، فجعل اللّه الليل و النهار، يتوالى كل منهما على العباد، و يتكرران، ليحدث لهم الذكر و النشاط، و الشكر للّه في وقت آخر، و لأن أوقات العبادات، تتكرر بتكرر الليل و النهار، فكلما تكررت الأوقات، أحدث للعبد همة غير همته، التي كسلت عنه، في الوقت المتقدم، فزاد في تذكرها و شكرها، فوظائف الطاعات، بمنزلة سقي الإيمان، الذي يمده، فلولا ذلك، لذوى غرس الإيمان و يبس.

فللّه أتم حمد، و أجمله على ذلك.

[63- 64] ثمّ ذكر من جملة كثرة خيره، منته على عباده الصالحين، و توفيقهم للأعمال الصالحات، التي أكسبتهم المنازل العاليات، في غرف الجنات فقال: وَ عِبادُ الرَّحْمنِ‏ إلى‏ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً . العبودية للّه نوعان: عبودية لربوبيته، فهذه يشترك فيها سائر الخلق، مسلمهم و كافرهم، برهم و فاجرهم، فكلهم عبيد للّه مربوبون مدبرون‏ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) و عبودية لألوهيته، و عبادته، و رحمته، و هي: عبودية أنبيائه، و أوليائه، و هي المراد هنا، و لهذا أضافها إلى اسمه «الرحمن» إشارة إلى أنهم إنّما وصلوا إلى هذه الحال، بسبب رحمته، فذكر أن صفاتهم أكمل الصفات، و نعوتهم أفضل النعوت، فوصفهم بأنهم‏ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً أي: ساكنين متواضعين للّه، و للخلق، فهذا وصف لهم، بالوقار، و السكينة، و التواضع للّه، و لعباده. وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ‏ أي: خطاب جهل، بدليل إضافة الفعل، و إسناده لهذا الوصف، قالُوا سَلاماً أي: خاطبوهم خطابا يسلمون فيه، من الإثم، و يسلمون من مقابلة الجاهل بجهله. و هذا مدح لهم، بالحلم الكثير، و مقابلة المسي‏ء بالإحسان، و العفو عن الجاهل، و رزانة العقل الذي أوصلهم إلى هذه الحال. وَ الَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَ قِياماً (64) أي: يكثرون من صلاة الليل، مخلصين فيها لربهم، متذللين له، كما قال تعالى: تَتَجافى‏ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ‏ (17).

[65] وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ‏ أي: ادفعه عنا، بالعصمة من أسبابه، و مغفرة ما وقع منا، مما هو مقتض للعذاب. إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً أي: ملازما لأهلها، بمنزلة ملازمة الغريم لغريمه.

[66] إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً (66) و هذا منهم، على وجه التضرع لربهم، و بيان شدة حاجتهم إليه، و أنهم ليس في طاقتهم احتمال هذا العذاب، و ليتذكروا منّة اللّه عليهم، فإن صرف الشدة، بحسب شدتها و فظاعتها، يعظم وقعها و يشتد الفرح بصرفها.

[67] وَ الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا النفقات الواجبة و المستحبة لَمْ يُسْرِفُوا بأن يزيدوا على الحد، فيدخلوا في قسم التبذير، و إهمال الحقوق الواجبة، وَ لَمْ يَقْتُرُوا فيدخلوا في باب البخل و الشح‏ وَ كانَ‏ إنفاقهم‏ بَيْنَ ذلِكَ‏ بين الإسراف و التقتير قَواماً يبذلون في الواجبات من الزكوات، و الكفارات، و النفقات الواجبة، و فيما ينبغي،

تيسير الكريم الرحمن، ص: 695

على الوجه الذي ينبغي، من غير ضرر و لا ضرار، و هذا من عدلهم و اقتصادهم.

[68- 69] وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ بل يعبدونه وحده، مخلصين له الدين، حنفاء، مقبلين عليه، معرضين عما سواه. وَ لا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ‏ و هو نفس المسلم، الكافر المعاهد، إِلَّا بِالْحَقِ‏ كقتل النفس بالنفس، و قتل الزاني المحصن، و الكافر الذي يحل قتله.

وَ لا يَزْنُونَ‏ بل يحفظون فروجهم‏ إِلَّا عَلى‏ أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ* . وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ‏ أي: الشرك باللّه، أو قتل النفس، التي حرم اللّه بغير حق، أو الزنا، فسوف‏ يَلْقَ أَثاماً . ثمّ فسره بقوله: يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ يَخْلُدْ فِيهِ‏ أي: في العذاب‏ مُهاناً . فالوعيد بالخلود، لمن فعلها كلها، ثابت لا شك فيه، و كذا لمن أشرك باللّه.

و كذلك الوعيد بالعذاب الشديد على كل واحد من هذه الثلاثة، لكونها، إما شرك، و إما من أكبر الكبائر. و أما خلود القاتل و الزاني في العذاب، فإنه لا يتناوله الخلود، لأنه قد دلت النصوص القرآنية، و السنة النبوية، أن جميع المؤمنين سيخرجون من النار، و لا يخلد فيها مؤمن، و لو فعل من المعاصي ما فعل. و نص تعالى على هذه الثلاثة، لأنها أكبر الكبائر: فالشرك، فيه فساد الأديان، و القتل، فيه فساد الأبدان، و الزنا، فيه فساد الأعراض.

[70] إِلَّا مَنْ تابَ‏ عن هذه المعاصي و غيرها، بأن أقلع عنها في الحال، و ندم على ما مضى له من فعلها، و عزم عزما جازما أن لا يعود. وَ آمَنَ‏ باللّه إيمانا صحيحا، يقتضي ترك المعاصي، و فعل الطاعات. وَ عَمِلَ عَمَلًا صالِحاً مما أمر به الشارع، إذا قصد به وجه اللّه. فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ‏ أي: تتبدل أفعالهم، التي كانت مستعدة لعمل السيئات، تتبدل حسنات. فيتبدل شركهم إيمانا، و معصيتهم طاعة، و تتبدل نفس السيئات، التي عملوها، ثمّ أحدثوا عن كل ذنب منها توبة، و إنابة، و طاعة، تبدل حسنات، كما هو ظاهر الآية. و ورد في ذلك، حديث الرجل الذي حاسبه اللّه ببعض ذنوبه، فعدّدها عليه، ثمّ أبدل مكان كل سيئة حسنة فقال: «يا رب إن لي سيئات لا أراها هاهنا» و اللّه أعلم. وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً لمن تاب، يغفر الذنوب العظيمة رَحِيماً بعباده، حيث دعاهم إلى التوبة بعد مبارزته بالعظائم، ثمّ وفقهم لها، ثمّ قبلها منهم.

[71] وَ مَنْ تابَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71) أي: فليعلم أن توبته، في غاية الكمال، لأنها رجوع إلى الطريق الموصل إلى اللّه، الذي هو عين سعادة العبد و فلاحه، فليخلص فيها، و ليخلّصها من شوائب الأغراض الفاسدة. فالمقصود من هذا، الحث على تكميل التوبة، و اتباعها على أفضل الوجوه و أجلها، ليقدم على من تاب إليه، فيوفيه أجره، بحسب كمالها.

[72] وَ الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ أي: لا يحضرون الزور، أي: القول و الفعل المحرم، فيجتنبون جميع المجالس، المشتملة على الأقوال المحرمة، أو الأفعال المحرمة، كالخوض في آيات اللّه، و الجدال الباطل، و الغيبة، و النميمة، و السب، و القذف، و الاستهزاء، و الغناء المحرم، و شرب الخمر، و فرش الحرير، و الصور، و نحو ذلك.

تيسير الكريم الرحمن، ص: 696

و إذا كانوا لا يشهدون الزور، فمن باب أولى و أحرى، أن لا يقولوه و يفعلوه. و شهادة الزور داخلة في قول الزور، تدخل في هذه الآية بالأولوية، وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ و هو الكلام الذي لا خير فيه، و لا فيه فائدة دينية، و لا دنيوية، ككلام السفهاء و نحوهم‏ مَرُّوا كِراماً أي: نزهوا أنفسهم، و أكرموها عن الخوض فيه، و رأوا أن الخوض فيه، و إن كان لا إثم فيه، فإنه سفه و نقص للإنسانية و المروءة، فربؤوا بأنفسهم عنه. و في قوله: وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ إشارة إلى أنهم لا يقصدون حضوره، و لا سماعه، و لكن عند المصادفة، التي من غير قصد، يكرمون أنفسهم عنه.

[73] وَ الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ‏ التي أمرهم باستماعها، و الاهتداء بها، لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَ عُمْياناً أي: لم يقابلوها بالإعراض عنها، و الصمم عن سماعها، و صرف النظر و القلوب عنها، كما يفعله، من لم يؤمن بها و لم يصدق. و إنّما حالهم فيها، و عند سماعها، كما قال تعالى: إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَ سَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ‏ (15)، يقابلونها بالقبول و الافتقار إليها، و الانقياد، و التسليم لها. و تجد عندهم آذانا سامعة، و قلوبا واعية، فيزداد بها إيمانهم، و يتم بها، إيقانهم، و تحدث لهم نشاطا، و يفرحون بها سرورا و اغتباطا.

[74] وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا أي: قرنائنا من أصحاب و أقران، و زوجات. وَ ذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ‏ أي: تقرّ بهم أعيننا. و إذا استقرأنا حالهم و صفاتهم، عرفنا من هممهم، و علو مرتبتهم، أن دعاءهم لذرياتهم، في صلاحهم، فإنه دعاء لأنفسهم، لأن نفعه يعود عليهم، و لهذا جعلوا ذلك، هبة لهم فقالوا: هَبْ لَنا بل دعاؤهم يعود إلى نفع عموم المسلمين، لأن صلاح من ذكر، يكون سببا لصلاح كثير ممن يتعلق بهم، و ينتفع بهم. وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً أي: أوصلنا يا ربنا، إلى هذه الدرجة العالية، درجة الصديقين، و الكمل من عباد اللّه الصالحين، و هي درجة الإمامة في الدين، و أن يكونوا قدوة للمتقين، في أقوالهم، و أفعالهم، يقتدى بأفعالهم و يطمئنّ لأقوالهم، و يسير أهل الخير خلفهم، فيهدون، و يهتدون. و من المعلوم، أن الدعاء ببلوغ شي‏ء، دعاء بما لا يتم إلا به. و هذه الدرجة- درجة الإمامة في الدين- لا تتم إلا بالصبر و اليقين، كما قال تعالى:

وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ‏ (24). فهذا الدعاء، يستلزم من الأعمال، و الصبر على طاعة اللّه، و عن معصيته، و أقداره المؤلمة، و من العلم التام، الذي يوصل صاحبه إلى درجة اليقين- خيرا كثيرا، و عطاء جزيلا، و أن يكونوا في أعلى، ما يمكن من درجات الخلق بعد الرسل.

[75- 76] و لهذا- لما كانت هممهم و مطالبهم عالية- كان الجزاء من جنس العمل، فجازاهم بالمنازل العاليات فقال: أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا أي: المنازل الرفيعة، و المساكن الأنيقة الجامعة لكل ما يشتهى، و تلذه الأعين، و ذلك بسبب صبرهم، نالوا ما نالوا، كما قال تعالى: وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)- و لهذا قال هنا: وَ يُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَ سَلاماً من ربهم، و من ملائكته الكرام، و من بعض على بعض، و يسلمون من جميع المنغصات و المكدرات. و الحاصل: أن اللّه وصفهم بالوقار و السكينة، و التواضع له و لعباده، و حسن الأدب، و الحلم، و سعة الخلق، و العفو عن الجاهلين، و الإعراض عنهم، و مقابلة إساءتهم بالإحسان، و قيام الليل، و الإخلاص فيها، و الخوف من النار، و التضرع لربهم، أن ينجيهم منها، و إخراج الواجب و المستحب في النفقات، و الاقتصاد في ذلك. و إذا كانوا مقتصدين في الإنفاق، الذي جرت العادة، بالتفريط فيه، أو الإفراط، فاقتصادهم، و توسطهم في غيره، من باب أولى. و السلامة من كبائر الذنوب و الاتصاف بالإخلاص للّه في عبادته، و العفة عن الدماء و الأعراض، و التوبة عند صدور شي‏ء من ذلك، و أنهم لا يحضرون مجالس المنكر، و الفسوق القولية و الفعلية، و لا يفعلونها بأنفسهم، و أنهم يتنزهون من اللغو و الأفعال الردية، التي لا خير فيها، و ذلك يستلزم مروءتهم و إنسانيتهم، و كمالهم، و رفعة أنفسهم عن كل خسيس، قولي و فعلي، و أنهم‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 697

يقابلون آيات اللّه بالقبول لها، و التفهم لمعانيها، و العمل بها، و الاجتهاد في تنفيذ أحكامها، و أنهم يدعون اللّه تعالى، بأكمل الدعاء في الدعاء، الذي ينتفعون به و ينتفع به من يتعلق بهم، و ينتفع به المسلمون، من صلاح أزواجهم، و ذريتهم. و من لوازم ذلك، سعيهم في تعليمهم، و وعظهم، و نصحهم، لأن من حرص على شي‏ء و دعا اللّه فيه، لا بد أن يكون متسببا فيه، و أنهم دعوا اللّه ببلوغ أعلى الدرجات الممكنة لهم، و هي: درجة الإمامة و الصديقية.

فللّه، ما أعلى هذه الصفات، و أرفع هذه الهمم، و أجل هذه المطالب، و أزكى تلك النفوس، و أطهر تلك القلوب، و أصفى هؤلاء الصفوة و أتقى هؤلاء السادة!! و للّه، فضل اللّه عليهم، و نعمته، و رحمته، التي جللتهم و لطفه الذي أوصلهم إلى هذه المنازل. و للّه، منّة اللّه على عباده، أن بين لهم أوصافهم، و نعت لهم هيئاتهم، و بين لهم هممهم، و أوضح لهم أجورهم، ليشتاقوا إلى الاتصاف بأوصافهم، و يبذلوا جهدهم في ذلك، و يسألوا الذي منّ عليهم، و أكرمهم، الذي، فضله في كل زمان و مكان، و في كل وقت و أوان، أن يهديهم كما هداهم، و يتولاهم بتربيته الخاصة، كما تولاهم. فاللهم، لك الحمد، و إليك المشتكى، و أنت المستعان، و بك المستغاث، و لا حول و لا قوة، إلا بك، لا نملك لأنفسنا، نفعا و لا ضرا، و لا نقدر على مثقال ذرة من الخير، إن لم تيسر ذلك لنا، فإنا ضعفاء، عاجزون من كل وجه. نشهد أنك إن وكلتنا إلى أنفسنا طرفة عين، وكلتنا إلى ضعف، و عجز و خطية، فلا نثق، يا ربنا، إلا برحمتك التي بها خلقتنا و رزقتنا، و أنعمت علينا، بما أنعمت، من النعم الظاهرة و الباطنة، و صرفت عنا من النقم، فارحمنا رحمة، تغنينا بها عن رحمة من سواك، فلا خاب من سألك و رجاك.

[77] و لما كان اللّه تعالى، قد أضاف هؤلاء العباد، إلى رحمته، و اختصهم بعبوديته، لشرفهم و فضلهم، ربما توهم متوهم، أنه، و أيضا غيرهم، فلم لا يدخل في العبودية؟ فأخبر تعالى، أنه لا يبالي، و لا يعبأ بغير هؤلاء، و أنه لولا دعاؤكم إياه، دعاء العبادة، و دعاء المسألة، ما عبأ بكم و لا أحبكم فقال: قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77) أي: عذابا يلزمكم، لزوم الغريم لغريمه، و سوف يحكم اللّه بينكم و بين عباده المؤمنين. تم تفسير سورة الفرقان، فلله الحمد و الثناء و الشكر أبدا.

تفسير سورة الشعراء

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

[2] يشير الباري تعالى إشارة، تدل على التعظيم لآيات الكتاب المبين البين الواضح، الدال على جميع المطالب‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 698

الإلهية، و المقاصد الشرعية، بحيث لا يبقى عند الناظر فيه، شك و لا شبهة فيما أخبر به، أو حكم به، لوضوحه، و دلالته على أشرف المعاني، و ارتباط الأحكام بحكمها، و تعليقها بمناسبها. فكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، ينذر به الناس، و يهدي به الصراط المستقيم. فيهتدي بذلك عباد اللّه المتقون، و يعرض عنه من كتب عليه الشقاء، فكان يحزن حزنا شديدا، على عدم إيمانهم، حرصا منه على الخير، و نصحا لهم.

[3] فلهذا قال تعالى لنبيه: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ‏ أي:

مهلكها و شاقا عليها، أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ‏ أي: فلا تفعل، و لا تذهب نفسك عليهم حسرات، فإن الهداية بيد اللّه، و قد أديت ما عليك من التبليغ، و ليس فوق هذا القرآن المبين، آية، حتى ننزلها، ليؤمنوا بها، فإنه كاف شاف، لمن يريد الهداية، و لهذا قال:

[4] إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً أي: من آيات الاقتراح، فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ‏ أي: أعناق المكذبين‏ لَها خاضِعِينَ‏ و لكن لا حاجة إلى ذلك، و لا مصلحة فيه، فإنه إذ ذاك الوقت، يكون الإيمان غير نافع. و إنّما الإيمان النافع، هو الإيمان بالغيب، كما قال تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها الآية.

[5] وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ‏ يأمرهم و ينهاهم، و يذكرهم ما ينفعهم و يضرهم. إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ‏ بقلوبهم و أبدانهم. هذا إعراضهم عن الذكر المحدث، الذي جرت العادة، أنه يكون موقعه، أبلغ من غيره، فكيف بإعراضهم عن غيره. و هذا، لأنهم لا خير فيهم، و لا تنجع فيهم المواعظ.

[6] و لهذا قال: فَقَدْ كَذَّبُوا أي: بالحق، و صار التكذيب لهم سجية، لا تتغير و لا تتبدل، فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ‏ أي: سيقع بهم العذاب، و يحل بهم، ما كذبوا به، فإنهم قد حقت عليهم، كلمة العذاب.

[7] قال اللّه منبها على التفكر، الذي ينفع صاحبه: أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ‏ (7) من جميع أصناف النباتات، حسنة المنظر، كريمة في نفعها.

[8] إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً على إحياء اللّه الموتى بعد موتهم، كما أحيا الأرض بعد موتها وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ‏ كما قال تعالى: وَ ما أَكْثَرُ النَّاسِ وَ لَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ‏ (103).

[9] وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الذي قد قهر كل مخلوق، و دان له العالم العلوي و السفلي، الرَّحِيمُ‏ ، الذي وسعت رحمته كل شي‏ء، و وصل جوده إلى كل حي، العزيز الذي أهلك الأشقياء بأنواع العقوبات، الرحيم بالسعداء، حيث أنجاهم من كل شر و بلاء.

[10] أعاد الباري تعالى، قصة موسى و ثناها في القرآن، ما لم يثن غيرها، لكونها مشتملة على حكم عظيمة، و عبر، و فيها نبأه مع الظالمين، و المؤمنين. و هو صاحب الشريعة الكبرى، و صاحب التوراة، أفضل الكتب بعد القرآن فقال: و اذكر حالة موسى الفاضلة، وقت نداء اللّه إياه، حين كلمه، و نبأه و أرسله فقال: أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 699

الظَّالِمِينَ‏ الذين تكبروا في الأرض، و علوا على أهلها و ادعى كبيرهم الربوبية.

[11] قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَ لا يَتَّقُونَ‏ (11) أي: قل لهم، بلين قول، و لطف عبارة أَ لا يَتَّقُونَ‏ اللّه الذي خلقكم و رزقكم، فتتركون ما أنتم عليه من الكفر.

[12- 13] فقال موسى عليه السلام، معتذرا من ربه، و مبينا لعذره، و سائلا له المعونة على هذا الحمل الثقيل: قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَ يَضِيقُ صَدْرِي وَ لا يَنْطَلِقُ لِسانِي‏ .

و قال: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي‏ (30).

فَأَرْسِلْ إِلى‏ هارُونَ‏ ، فأجاب اللّه طلبته، و نبأ أخاه، كما نبأه‏ فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً أي: معاونا لي على أمري.

[14] وَ لَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ‏ أي: في قتل القبطي‏ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ‏ .

[15] قالَ كَلَّا أي: لا يتمكنون من قتلك، فإنا سنجعل لكما سلطانا، فلا يصلون إليكما أنتما، و من اتبعكما الغالبون. و لهذا لم يتمكن فرعون، من قتل موسى، مع منابذته له غاية المنابذة، و تسفيه رأيه، و تضليله و قومه. فَاذْهَبا بِآياتِنا الدالة على صدقكما، و صحة ما جئتما به، إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ‏ أحفظكما و أكلؤكما.

[16] فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ‏ (16) أي: أرسلنا إليك، لتؤمن به و بنا، و تنقاد لعبادته، و تذعن لتوحيده.

[17] أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ‏ (17) فكف عنهم عذابك، و ارفع عنهم يدك ليعبدوا ربهم، و يقيموا أمر دينهم.

[18- 19] فلما جاءا فرعون، و قالا له، ما قال اللّه لهما، لم يؤمن فرعون، و لم يلن، و جعل يعارض موسى بقوله: قالَ أَ لَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً أي: ألم ننعم عليك، و نقم بتربيتك، منذ كنت وليدا في مهدك، و لم تزل كذلك.

وَ لَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَ فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ‏ و هي قتل موسى للقبطي، حين استغاثه الذي من شيعته، على الذي من عدوه‏ فَوَكَزَهُ مُوسى‏ فَقَضى‏ عَلَيْهِ‏ الآية. وَ أَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ‏ أي: و أنت، إذ ذاك طريقك طريقنا، و سبيلك سبيلنا، في الكفر، فأقر على نفسه بالكفر، من حيث لا يدري.

[20] فقال: موسى‏ فَعَلْتُها إِذاً وَ أَنَا مِنَ الضَّالِّينَ‏ أي: عن غير كفر، و إنّما كان عن ضلال و سفه، فاستغفرت ربي فغفر لي.

[21] فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ‏ حين تراجعتم بقتلي، فهربت إلى مدين، و مكثت سنين، ثمّ جئتكم. فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ‏ . فالحاصل أن اعتراض فرعون على موسى، اعتراض جاهل أو متجاهل، فإنه جعل المانع من كونه رسولا، أن جرى منه القتل، فبين له موسى، أن قتله كان على وجه الضلال و الخطأ، الذي لم يقصد نفس القتل، و أن فضل اللّه تعالى غير ممنوع منه أحد، فلم منعتم ما منحني اللّه، من الحكم و الرسالة؟ بقي عليك يا فرعون، إدلاؤك بقولك: أَ لَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً و عند التحقيق، يتبين أن لا منة لك فيها.

[22] و لهذا قال موسى: وَ تِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ‏ (22) أي: تدلي عليّ بهذه المنة لأنك سخرت‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 700

بني إسرائيل، و جعلتهم لك بمنزلة العبيد، و أنا قد أسلمتني من تعبيدك و تسخيرك، و جعلتها عليّ نعمة. فعند التصور، يتبين أن الحقيقة، أنك ظلمت هذا الشعب الفاضل، و عذبتهم، و سخرتهم بأعمالك. و أنا، قد سلمني اللّه من أذاك، مع وصول أذاك لقومي، فما هذه المنّة، التي تمن بها، و تدلي بها؟

[23] قالَ فِرْعَوْنُ وَ ما رَبُّ الْعالَمِينَ‏ (23) و هذا إنكار منه لربه، ظلما و علوا مع تيقن صحة ما دعاه إليه موسى‏

[24] فقال: رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا أي: الذي خلق العالم العلوي و السفلي، و دبره بأنواع التدبير، و رباه بأنواع التربية. و من جملة ذلك، أنتم أيها الخاطبون، فكيف تنكرون خالق المخلوقات، و فاطر الأرض و السموات‏ إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ‏ .

[25] فقال فرعون متجهما، و معجبا بقوله: أَ لا تَسْتَمِعُونَ‏ ما يقول هذا الرجل.

[26] فقال موسى: رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ‏ تعجبتم أم لا، استكبرتم، أم أذعنتم.

[27] فقال فرعون معاندا للحق، قادحا، بمن جاء به: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ‏ حيث قال خلاف ما نحن عليه، و خالفنا فيما ذهبنا إليه، فالعقل عنده و أهل العقل، من زعموا أنهم لم يخلقوا، أو أن السموات الأرض، ما زالتا موجودتين من غير موجد و أنهم، بأنفسهم، خلقوا من غير خالق. و العقل عنده، أن يعبد المخلوق الناقص، من جميع الوجوه، و الجنون عنده، أن يثبت الرب الخالق للعالم العلوي و السفلي، المنعم بالنعم الظاهرة و الباطنة، و يدعى إلى عبادته. و زين لقومه هذا القول، و كانوا سفهاء الأحلام، خفيفي العقول‏ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ‏ (54).

[28] فقال موسى عليه السّلام، مجيبا لإنكار فرعون و تعطيله لرب العالمين: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ ما بَيْنَهُما من سائر المخلوقات‏ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ‏ ، فقد أديت لكم من البيان و التبيين، ما يفهمه كل من له أدنى مسكة من عقل، فما بالكم تتجاهلون فيما أخاطبكم به؟ و فيه إيماء و تنبيه إلى أن الذي رميتم به موسى من الجنون، أنه داؤكم فرميتم أزكى الخلق عقلا، و أكملهم علما، و الحال أنكم، أنتم المجانين، حيث ذهبت عقولكم إلى إنكار أظهر الموجودات، خالق الأرض و السموات و ما بينهما، فإذا جحدتموه، فأي شي‏ء تثبتون؟ و إذا جهلتموه، فأي شي‏ء تعلمون؟ و إذا لم تؤمنوا به و بآياته، فبأي شي‏ء- بعد اللّه و آياته- تؤمنون؟ تاللّه، إن المجانين الّذين بمنزلة البهائم، أعقل منكم، و إن الأنعام السارحة، أهدى منكم.

[29] فلما خنقت فرعون الحجة، و عجزت قدرته و بيانه عن المعارضة قالَ‏ متوعدا لموسى بسلطانه‏ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ‏ ، زعم- قبحه اللّه- أنه قد طمع في إضلال موسى، و أن لا يتخذ إلها غيره، و إلا فقد تقرر أنه، هو و من معه، على بصيرة من أمرهم.

[30] فقال له موسى: أَ وَ لَوْ جِئْتُكَ بِشَيْ‏ءٍ مُبِينٍ‏ أي: آية ظاهرة جلية، على صحة ما جئت به، من خوارق العادات.

[31- 32] قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقى‏ عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ‏ أي: ذكر الحيات، مُبِينٌ‏ ظاهر لكل أحد، لا خيال، و لا تشبيه.

[33] وَ نَزَعَ يَدَهُ‏ من جيبه‏ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ‏ أي: له نور عظيم، لا نقص فيه لمن نظر إليها.

[34] قالَ‏ فرعون‏ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ‏ معارضا للحق، و من جاء به‏ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ‏ .

صفحه بعد