کتابخانه تفاسیر
تيسير الكريم الرحمن، ص: 694
فقال: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً و هي: النجوم، عمومها أو منازل الشمس و القمر التي تنزل منزلة منزلة، و هي بمنزلة البروج، و القلاع للمدن في حفظها. كذلك النجوم بمنزلة البروج المجعولة للحراسة فإنها رجوم للشياطين. وَ جَعَلَ فِيها سِراجاً فيه النور و الحرارة، و هي: الشمس. وَ قَمَراً مُنِيراً فيه النور، لا الحرارة، و هذا من أدلة عظمته، و كثرة إحسانه، فإن ما فيها من الخلق الباهر، و التدبير المنتظم، و الجمال العظيم، دال على عظمة خالقها في أوصافه كلها، و ما فيها من المصالح للخلق، و المنافع، دليل على كثرة خيراته.
[62] وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً أي: يذهب أحدهما، فيخلفه الآخر، و هكذا أبدا، لا يجتمعان، و لا يرتفعان. لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً أي: لمن أراد أن يتذكر بهما و يعتبر، و يستدل بهما على كثير من المطالب الإلهية، و يشكر اللّه على ذلك، و لمن أراد أن يذكر اللّه و يشكره، ورد من الليل أو النهار، فمن فاته ورده من أحدهما، أدركه في الآخر، و أيضا فإن القلوب تتقلب و تنتقل، في ساعات الليل و النهار، فيحدث لها النشاط و الكسل، و الذكر و الغفلة، و القبض و البسط، و الإقبال و الإعراض، فجعل اللّه الليل و النهار، يتوالى كل منهما على العباد، و يتكرران، ليحدث لهم الذكر و النشاط، و الشكر للّه في وقت آخر، و لأن أوقات العبادات، تتكرر بتكرر الليل و النهار، فكلما تكررت الأوقات، أحدث للعبد همة غير همته، التي كسلت عنه، في الوقت المتقدم، فزاد في تذكرها و شكرها، فوظائف الطاعات، بمنزلة سقي الإيمان، الذي يمده، فلولا ذلك، لذوى غرس الإيمان و يبس.
فللّه أتم حمد، و أجمله على ذلك.
[63- 64] ثمّ ذكر من جملة كثرة خيره، منته على عباده الصالحين، و توفيقهم للأعمال الصالحات، التي أكسبتهم المنازل العاليات، في غرف الجنات فقال: وَ عِبادُ الرَّحْمنِ إلى فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً . العبودية للّه نوعان: عبودية لربوبيته، فهذه يشترك فيها سائر الخلق، مسلمهم و كافرهم، برهم و فاجرهم، فكلهم عبيد للّه مربوبون مدبرون إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) و عبودية لألوهيته، و عبادته، و رحمته، و هي: عبودية أنبيائه، و أوليائه، و هي المراد هنا، و لهذا أضافها إلى اسمه «الرحمن» إشارة إلى أنهم إنّما وصلوا إلى هذه الحال، بسبب رحمته، فذكر أن صفاتهم أكمل الصفات، و نعوتهم أفضل النعوت، فوصفهم بأنهم يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً أي: ساكنين متواضعين للّه، و للخلق، فهذا وصف لهم، بالوقار، و السكينة، و التواضع للّه، و لعباده. وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ أي: خطاب جهل، بدليل إضافة الفعل، و إسناده لهذا الوصف، قالُوا سَلاماً أي: خاطبوهم خطابا يسلمون فيه، من الإثم، و يسلمون من مقابلة الجاهل بجهله. و هذا مدح لهم، بالحلم الكثير، و مقابلة المسيء بالإحسان، و العفو عن الجاهل، و رزانة العقل الذي أوصلهم إلى هذه الحال. وَ الَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَ قِياماً (64) أي: يكثرون من صلاة الليل، مخلصين فيها لربهم، متذللين له، كما قال تعالى: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17).
[65] وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ أي: ادفعه عنا، بالعصمة من أسبابه، و مغفرة ما وقع منا، مما هو مقتض للعذاب. إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً أي: ملازما لأهلها، بمنزلة ملازمة الغريم لغريمه.
[66] إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً (66) و هذا منهم، على وجه التضرع لربهم، و بيان شدة حاجتهم إليه، و أنهم ليس في طاقتهم احتمال هذا العذاب، و ليتذكروا منّة اللّه عليهم، فإن صرف الشدة، بحسب شدتها و فظاعتها، يعظم وقعها و يشتد الفرح بصرفها.
[67] وَ الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا النفقات الواجبة و المستحبة لَمْ يُسْرِفُوا بأن يزيدوا على الحد، فيدخلوا في قسم التبذير، و إهمال الحقوق الواجبة، وَ لَمْ يَقْتُرُوا فيدخلوا في باب البخل و الشح وَ كانَ إنفاقهم بَيْنَ ذلِكَ بين الإسراف و التقتير قَواماً يبذلون في الواجبات من الزكوات، و الكفارات، و النفقات الواجبة، و فيما ينبغي،
تيسير الكريم الرحمن، ص: 695
على الوجه الذي ينبغي، من غير ضرر و لا ضرار، و هذا من عدلهم و اقتصادهم.
[68- 69] وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ بل يعبدونه وحده، مخلصين له الدين، حنفاء، مقبلين عليه، معرضين عما سواه. وَ لا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ و هو نفس المسلم، الكافر المعاهد، إِلَّا بِالْحَقِ كقتل النفس بالنفس، و قتل الزاني المحصن، و الكافر الذي يحل قتله.
وَ لا يَزْنُونَ بل يحفظون فروجهم إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ* . وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي: الشرك باللّه، أو قتل النفس، التي حرم اللّه بغير حق، أو الزنا، فسوف يَلْقَ أَثاماً . ثمّ فسره بقوله: يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ يَخْلُدْ فِيهِ أي: في العذاب مُهاناً . فالوعيد بالخلود، لمن فعلها كلها، ثابت لا شك فيه، و كذا لمن أشرك باللّه.
و كذلك الوعيد بالعذاب الشديد على كل واحد من هذه الثلاثة، لكونها، إما شرك، و إما من أكبر الكبائر. و أما خلود القاتل و الزاني في العذاب، فإنه لا يتناوله الخلود، لأنه قد دلت النصوص القرآنية، و السنة النبوية، أن جميع المؤمنين سيخرجون من النار، و لا يخلد فيها مؤمن، و لو فعل من المعاصي ما فعل. و نص تعالى على هذه الثلاثة، لأنها أكبر الكبائر: فالشرك، فيه فساد الأديان، و القتل، فيه فساد الأبدان، و الزنا، فيه فساد الأعراض.
[70] إِلَّا مَنْ تابَ عن هذه المعاصي و غيرها، بأن أقلع عنها في الحال، و ندم على ما مضى له من فعلها، و عزم عزما جازما أن لا يعود. وَ آمَنَ باللّه إيمانا صحيحا، يقتضي ترك المعاصي، و فعل الطاعات. وَ عَمِلَ عَمَلًا صالِحاً مما أمر به الشارع، إذا قصد به وجه اللّه. فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ أي: تتبدل أفعالهم، التي كانت مستعدة لعمل السيئات، تتبدل حسنات. فيتبدل شركهم إيمانا، و معصيتهم طاعة، و تتبدل نفس السيئات، التي عملوها، ثمّ أحدثوا عن كل ذنب منها توبة، و إنابة، و طاعة، تبدل حسنات، كما هو ظاهر الآية. و ورد في ذلك، حديث الرجل الذي حاسبه اللّه ببعض ذنوبه، فعدّدها عليه، ثمّ أبدل مكان كل سيئة حسنة فقال: «يا رب إن لي سيئات لا أراها هاهنا» و اللّه أعلم. وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً لمن تاب، يغفر الذنوب العظيمة رَحِيماً بعباده، حيث دعاهم إلى التوبة بعد مبارزته بالعظائم، ثمّ وفقهم لها، ثمّ قبلها منهم.
[71] وَ مَنْ تابَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71) أي: فليعلم أن توبته، في غاية الكمال، لأنها رجوع إلى الطريق الموصل إلى اللّه، الذي هو عين سعادة العبد و فلاحه، فليخلص فيها، و ليخلّصها من شوائب الأغراض الفاسدة. فالمقصود من هذا، الحث على تكميل التوبة، و اتباعها على أفضل الوجوه و أجلها، ليقدم على من تاب إليه، فيوفيه أجره، بحسب كمالها.
[72] وَ الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ أي: لا يحضرون الزور، أي: القول و الفعل المحرم، فيجتنبون جميع المجالس، المشتملة على الأقوال المحرمة، أو الأفعال المحرمة، كالخوض في آيات اللّه، و الجدال الباطل، و الغيبة، و النميمة، و السب، و القذف، و الاستهزاء، و الغناء المحرم، و شرب الخمر، و فرش الحرير، و الصور، و نحو ذلك.
تيسير الكريم الرحمن، ص: 696
و إذا كانوا لا يشهدون الزور، فمن باب أولى و أحرى، أن لا يقولوه و يفعلوه. و شهادة الزور داخلة في قول الزور، تدخل في هذه الآية بالأولوية، وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ و هو الكلام الذي لا خير فيه، و لا فيه فائدة دينية، و لا دنيوية، ككلام السفهاء و نحوهم مَرُّوا كِراماً أي: نزهوا أنفسهم، و أكرموها عن الخوض فيه، و رأوا أن الخوض فيه، و إن كان لا إثم فيه، فإنه سفه و نقص للإنسانية و المروءة، فربؤوا بأنفسهم عنه. و في قوله: وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ إشارة إلى أنهم لا يقصدون حضوره، و لا سماعه، و لكن عند المصادفة، التي من غير قصد، يكرمون أنفسهم عنه.
[73] وَ الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ التي أمرهم باستماعها، و الاهتداء بها، لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَ عُمْياناً أي: لم يقابلوها بالإعراض عنها، و الصمم عن سماعها، و صرف النظر و القلوب عنها، كما يفعله، من لم يؤمن بها و لم يصدق. و إنّما حالهم فيها، و عند سماعها، كما قال تعالى: إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَ سَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15)، يقابلونها بالقبول و الافتقار إليها، و الانقياد، و التسليم لها. و تجد عندهم آذانا سامعة، و قلوبا واعية، فيزداد بها إيمانهم، و يتم بها، إيقانهم، و تحدث لهم نشاطا، و يفرحون بها سرورا و اغتباطا.
[74] وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا أي: قرنائنا من أصحاب و أقران، و زوجات. وَ ذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ أي: تقرّ بهم أعيننا. و إذا استقرأنا حالهم و صفاتهم، عرفنا من هممهم، و علو مرتبتهم، أن دعاءهم لذرياتهم، في صلاحهم، فإنه دعاء لأنفسهم، لأن نفعه يعود عليهم، و لهذا جعلوا ذلك، هبة لهم فقالوا: هَبْ لَنا بل دعاؤهم يعود إلى نفع عموم المسلمين، لأن صلاح من ذكر، يكون سببا لصلاح كثير ممن يتعلق بهم، و ينتفع بهم. وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً أي: أوصلنا يا ربنا، إلى هذه الدرجة العالية، درجة الصديقين، و الكمل من عباد اللّه الصالحين، و هي درجة الإمامة في الدين، و أن يكونوا قدوة للمتقين، في أقوالهم، و أفعالهم، يقتدى بأفعالهم و يطمئنّ لأقوالهم، و يسير أهل الخير خلفهم، فيهدون، و يهتدون. و من المعلوم، أن الدعاء ببلوغ شيء، دعاء بما لا يتم إلا به. و هذه الدرجة- درجة الإمامة في الدين- لا تتم إلا بالصبر و اليقين، كما قال تعالى:
وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24). فهذا الدعاء، يستلزم من الأعمال، و الصبر على طاعة اللّه، و عن معصيته، و أقداره المؤلمة، و من العلم التام، الذي يوصل صاحبه إلى درجة اليقين- خيرا كثيرا، و عطاء جزيلا، و أن يكونوا في أعلى، ما يمكن من درجات الخلق بعد الرسل.
[75- 76] و لهذا- لما كانت هممهم و مطالبهم عالية- كان الجزاء من جنس العمل، فجازاهم بالمنازل العاليات فقال: أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا أي: المنازل الرفيعة، و المساكن الأنيقة الجامعة لكل ما يشتهى، و تلذه الأعين، و ذلك بسبب صبرهم، نالوا ما نالوا، كما قال تعالى: وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)- و لهذا قال هنا: وَ يُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَ سَلاماً من ربهم، و من ملائكته الكرام، و من بعض على بعض، و يسلمون من جميع المنغصات و المكدرات. و الحاصل: أن اللّه وصفهم بالوقار و السكينة، و التواضع له و لعباده، و حسن الأدب، و الحلم، و سعة الخلق، و العفو عن الجاهلين، و الإعراض عنهم، و مقابلة إساءتهم بالإحسان، و قيام الليل، و الإخلاص فيها، و الخوف من النار، و التضرع لربهم، أن ينجيهم منها، و إخراج الواجب و المستحب في النفقات، و الاقتصاد في ذلك. و إذا كانوا مقتصدين في الإنفاق، الذي جرت العادة، بالتفريط فيه، أو الإفراط، فاقتصادهم، و توسطهم في غيره، من باب أولى. و السلامة من كبائر الذنوب و الاتصاف بالإخلاص للّه في عبادته، و العفة عن الدماء و الأعراض، و التوبة عند صدور شيء من ذلك، و أنهم لا يحضرون مجالس المنكر، و الفسوق القولية و الفعلية، و لا يفعلونها بأنفسهم، و أنهم يتنزهون من اللغو و الأفعال الردية، التي لا خير فيها، و ذلك يستلزم مروءتهم و إنسانيتهم، و كمالهم، و رفعة أنفسهم عن كل خسيس، قولي و فعلي، و أنهم
تيسير الكريم الرحمن، ص: 697
يقابلون آيات اللّه بالقبول لها، و التفهم لمعانيها، و العمل بها، و الاجتهاد في تنفيذ أحكامها، و أنهم يدعون اللّه تعالى، بأكمل الدعاء في الدعاء، الذي ينتفعون به و ينتفع به من يتعلق بهم، و ينتفع به المسلمون، من صلاح أزواجهم، و ذريتهم. و من لوازم ذلك، سعيهم في تعليمهم، و وعظهم، و نصحهم، لأن من حرص على شيء و دعا اللّه فيه، لا بد أن يكون متسببا فيه، و أنهم دعوا اللّه ببلوغ أعلى الدرجات الممكنة لهم، و هي: درجة الإمامة و الصديقية.
فللّه، ما أعلى هذه الصفات، و أرفع هذه الهمم، و أجل هذه المطالب، و أزكى تلك النفوس، و أطهر تلك القلوب، و أصفى هؤلاء الصفوة و أتقى هؤلاء السادة!! و للّه، فضل اللّه عليهم، و نعمته، و رحمته، التي جللتهم و لطفه الذي أوصلهم إلى هذه المنازل. و للّه، منّة اللّه على عباده، أن بين لهم أوصافهم، و نعت لهم هيئاتهم، و بين لهم هممهم، و أوضح لهم أجورهم، ليشتاقوا إلى الاتصاف بأوصافهم، و يبذلوا جهدهم في ذلك، و يسألوا الذي منّ عليهم، و أكرمهم، الذي، فضله في كل زمان و مكان، و في كل وقت و أوان، أن يهديهم كما هداهم، و يتولاهم بتربيته الخاصة، كما تولاهم. فاللهم، لك الحمد، و إليك المشتكى، و أنت المستعان، و بك المستغاث، و لا حول و لا قوة، إلا بك، لا نملك لأنفسنا، نفعا و لا ضرا، و لا نقدر على مثقال ذرة من الخير، إن لم تيسر ذلك لنا، فإنا ضعفاء، عاجزون من كل وجه. نشهد أنك إن وكلتنا إلى أنفسنا طرفة عين، وكلتنا إلى ضعف، و عجز و خطية، فلا نثق، يا ربنا، إلا برحمتك التي بها خلقتنا و رزقتنا، و أنعمت علينا، بما أنعمت، من النعم الظاهرة و الباطنة، و صرفت عنا من النقم، فارحمنا رحمة، تغنينا بها عن رحمة من سواك، فلا خاب من سألك و رجاك.
[77] و لما كان اللّه تعالى، قد أضاف هؤلاء العباد، إلى رحمته، و اختصهم بعبوديته، لشرفهم و فضلهم، ربما توهم متوهم، أنه، و أيضا غيرهم، فلم لا يدخل في العبودية؟ فأخبر تعالى، أنه لا يبالي، و لا يعبأ بغير هؤلاء، و أنه لولا دعاؤكم إياه، دعاء العبادة، و دعاء المسألة، ما عبأ بكم و لا أحبكم فقال: قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77) أي: عذابا يلزمكم، لزوم الغريم لغريمه، و سوف يحكم اللّه بينكم و بين عباده المؤمنين. تم تفسير سورة الفرقان، فلله الحمد و الثناء و الشكر أبدا.
تفسير سورة الشعراء
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[2] يشير الباري تعالى إشارة، تدل على التعظيم لآيات الكتاب المبين البين الواضح، الدال على جميع المطالب
تيسير الكريم الرحمن، ص: 698
الإلهية، و المقاصد الشرعية، بحيث لا يبقى عند الناظر فيه، شك و لا شبهة فيما أخبر به، أو حكم به، لوضوحه، و دلالته على أشرف المعاني، و ارتباط الأحكام بحكمها، و تعليقها بمناسبها. فكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، ينذر به الناس، و يهدي به الصراط المستقيم. فيهتدي بذلك عباد اللّه المتقون، و يعرض عنه من كتب عليه الشقاء، فكان يحزن حزنا شديدا، على عدم إيمانهم، حرصا منه على الخير، و نصحا لهم.
[3] فلهذا قال تعالى لنبيه: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أي:
مهلكها و شاقا عليها، أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أي: فلا تفعل، و لا تذهب نفسك عليهم حسرات، فإن الهداية بيد اللّه، و قد أديت ما عليك من التبليغ، و ليس فوق هذا القرآن المبين، آية، حتى ننزلها، ليؤمنوا بها، فإنه كاف شاف، لمن يريد الهداية، و لهذا قال:
[4] إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً أي: من آيات الاقتراح، فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ أي: أعناق المكذبين لَها خاضِعِينَ و لكن لا حاجة إلى ذلك، و لا مصلحة فيه، فإنه إذ ذاك الوقت، يكون الإيمان غير نافع. و إنّما الإيمان النافع، هو الإيمان بالغيب، كما قال تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها الآية.
[5] وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ يأمرهم و ينهاهم، و يذكرهم ما ينفعهم و يضرهم. إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ بقلوبهم و أبدانهم. هذا إعراضهم عن الذكر المحدث، الذي جرت العادة، أنه يكون موقعه، أبلغ من غيره، فكيف بإعراضهم عن غيره. و هذا، لأنهم لا خير فيهم، و لا تنجع فيهم المواعظ.
[6] و لهذا قال: فَقَدْ كَذَّبُوا أي: بالحق، و صار التكذيب لهم سجية، لا تتغير و لا تتبدل، فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي: سيقع بهم العذاب، و يحل بهم، ما كذبوا به، فإنهم قد حقت عليهم، كلمة العذاب.
[7] قال اللّه منبها على التفكر، الذي ينفع صاحبه: أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) من جميع أصناف النباتات، حسنة المنظر، كريمة في نفعها.
[8] إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً على إحياء اللّه الموتى بعد موتهم، كما أحيا الأرض بعد موتها وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ كما قال تعالى: وَ ما أَكْثَرُ النَّاسِ وَ لَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103).
[9] وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الذي قد قهر كل مخلوق، و دان له العالم العلوي و السفلي، الرَّحِيمُ ، الذي وسعت رحمته كل شيء، و وصل جوده إلى كل حي، العزيز الذي أهلك الأشقياء بأنواع العقوبات، الرحيم بالسعداء، حيث أنجاهم من كل شر و بلاء.
[10] أعاد الباري تعالى، قصة موسى و ثناها في القرآن، ما لم يثن غيرها، لكونها مشتملة على حكم عظيمة، و عبر، و فيها نبأه مع الظالمين، و المؤمنين. و هو صاحب الشريعة الكبرى، و صاحب التوراة، أفضل الكتب بعد القرآن فقال: و اذكر حالة موسى الفاضلة، وقت نداء اللّه إياه، حين كلمه، و نبأه و أرسله فقال: أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ
تيسير الكريم الرحمن، ص: 699
الظَّالِمِينَ الذين تكبروا في الأرض، و علوا على أهلها و ادعى كبيرهم الربوبية.
[11] قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَ لا يَتَّقُونَ (11) أي: قل لهم، بلين قول، و لطف عبارة أَ لا يَتَّقُونَ اللّه الذي خلقكم و رزقكم، فتتركون ما أنتم عليه من الكفر.
[12- 13] فقال موسى عليه السلام، معتذرا من ربه، و مبينا لعذره، و سائلا له المعونة على هذا الحمل الثقيل: قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَ يَضِيقُ صَدْرِي وَ لا يَنْطَلِقُ لِسانِي .
فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ ، فأجاب اللّه طلبته، و نبأ أخاه، كما نبأه فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً أي: معاونا لي على أمري.
[14] وَ لَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ أي: في قتل القبطي فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ .
[15] قالَ كَلَّا أي: لا يتمكنون من قتلك، فإنا سنجعل لكما سلطانا، فلا يصلون إليكما أنتما، و من اتبعكما الغالبون. و لهذا لم يتمكن فرعون، من قتل موسى، مع منابذته له غاية المنابذة، و تسفيه رأيه، و تضليله و قومه. فَاذْهَبا بِآياتِنا الدالة على صدقكما، و صحة ما جئتما به، إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ أحفظكما و أكلؤكما.
[16] فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أي: أرسلنا إليك، لتؤمن به و بنا، و تنقاد لعبادته، و تذعن لتوحيده.
[17] أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) فكف عنهم عذابك، و ارفع عنهم يدك ليعبدوا ربهم، و يقيموا أمر دينهم.
[18- 19] فلما جاءا فرعون، و قالا له، ما قال اللّه لهما، لم يؤمن فرعون، و لم يلن، و جعل يعارض موسى بقوله: قالَ أَ لَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً أي: ألم ننعم عليك، و نقم بتربيتك، منذ كنت وليدا في مهدك، و لم تزل كذلك.
وَ لَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَ فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ و هي قتل موسى للقبطي، حين استغاثه الذي من شيعته، على الذي من عدوه فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ الآية. وَ أَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ أي: و أنت، إذ ذاك طريقك طريقنا، و سبيلك سبيلنا، في الكفر، فأقر على نفسه بالكفر، من حيث لا يدري.
[20] فقال: موسى فَعَلْتُها إِذاً وَ أَنَا مِنَ الضَّالِّينَ أي: عن غير كفر، و إنّما كان عن ضلال و سفه، فاستغفرت ربي فغفر لي.
[21] فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ حين تراجعتم بقتلي، فهربت إلى مدين، و مكثت سنين، ثمّ جئتكم. فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ . فالحاصل أن اعتراض فرعون على موسى، اعتراض جاهل أو متجاهل، فإنه جعل المانع من كونه رسولا، أن جرى منه القتل، فبين له موسى، أن قتله كان على وجه الضلال و الخطأ، الذي لم يقصد نفس القتل، و أن فضل اللّه تعالى غير ممنوع منه أحد، فلم منعتم ما منحني اللّه، من الحكم و الرسالة؟ بقي عليك يا فرعون، إدلاؤك بقولك: أَ لَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً و عند التحقيق، يتبين أن لا منة لك فيها.
[22] و لهذا قال موسى: وَ تِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22) أي: تدلي عليّ بهذه المنة لأنك سخرت
تيسير الكريم الرحمن، ص: 700
بني إسرائيل، و جعلتهم لك بمنزلة العبيد، و أنا قد أسلمتني من تعبيدك و تسخيرك، و جعلتها عليّ نعمة. فعند التصور، يتبين أن الحقيقة، أنك ظلمت هذا الشعب الفاضل، و عذبتهم، و سخرتهم بأعمالك. و أنا، قد سلمني اللّه من أذاك، مع وصول أذاك لقومي، فما هذه المنّة، التي تمن بها، و تدلي بها؟
[23] قالَ فِرْعَوْنُ وَ ما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) و هذا إنكار منه لربه، ظلما و علوا مع تيقن صحة ما دعاه إليه موسى
[24] فقال: رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا أي: الذي خلق العالم العلوي و السفلي، و دبره بأنواع التدبير، و رباه بأنواع التربية. و من جملة ذلك، أنتم أيها الخاطبون، فكيف تنكرون خالق المخلوقات، و فاطر الأرض و السموات إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ .
[25] فقال فرعون متجهما، و معجبا بقوله: أَ لا تَسْتَمِعُونَ ما يقول هذا الرجل.
[26] فقال موسى: رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ تعجبتم أم لا، استكبرتم، أم أذعنتم.
[27] فقال فرعون معاندا للحق، قادحا، بمن جاء به: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ حيث قال خلاف ما نحن عليه، و خالفنا فيما ذهبنا إليه، فالعقل عنده و أهل العقل، من زعموا أنهم لم يخلقوا، أو أن السموات الأرض، ما زالتا موجودتين من غير موجد و أنهم، بأنفسهم، خلقوا من غير خالق. و العقل عنده، أن يعبد المخلوق الناقص، من جميع الوجوه، و الجنون عنده، أن يثبت الرب الخالق للعالم العلوي و السفلي، المنعم بالنعم الظاهرة و الباطنة، و يدعى إلى عبادته. و زين لقومه هذا القول، و كانوا سفهاء الأحلام، خفيفي العقول فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (54).
[28] فقال موسى عليه السّلام، مجيبا لإنكار فرعون و تعطيله لرب العالمين: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ ما بَيْنَهُما من سائر المخلوقات إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ، فقد أديت لكم من البيان و التبيين، ما يفهمه كل من له أدنى مسكة من عقل، فما بالكم تتجاهلون فيما أخاطبكم به؟ و فيه إيماء و تنبيه إلى أن الذي رميتم به موسى من الجنون، أنه داؤكم فرميتم أزكى الخلق عقلا، و أكملهم علما، و الحال أنكم، أنتم المجانين، حيث ذهبت عقولكم إلى إنكار أظهر الموجودات، خالق الأرض و السموات و ما بينهما، فإذا جحدتموه، فأي شيء تثبتون؟ و إذا جهلتموه، فأي شيء تعلمون؟ و إذا لم تؤمنوا به و بآياته، فبأي شيء- بعد اللّه و آياته- تؤمنون؟ تاللّه، إن المجانين الّذين بمنزلة البهائم، أعقل منكم، و إن الأنعام السارحة، أهدى منكم.
[29] فلما خنقت فرعون الحجة، و عجزت قدرته و بيانه عن المعارضة قالَ متوعدا لموسى بسلطانه لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ، زعم- قبحه اللّه- أنه قد طمع في إضلال موسى، و أن لا يتخذ إلها غيره، و إلا فقد تقرر أنه، هو و من معه، على بصيرة من أمرهم.
[30] فقال له موسى: أَ وَ لَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ أي: آية ظاهرة جلية، على صحة ما جئت به، من خوارق العادات.
[31- 32] قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ أي: ذكر الحيات، مُبِينٌ ظاهر لكل أحد، لا خيال، و لا تشبيه.
[33] وَ نَزَعَ يَدَهُ من جيبه فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ أي: له نور عظيم، لا نقص فيه لمن نظر إليها.
[34] قالَ فرعون لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ معارضا للحق، و من جاء به إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ .