کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تيسير الكريم الرحمن

سورة الفاتحة سورة آل عمران سورة المائدة سورة الأنعام تفسير سورة الأعراف تفسير سورة الأنفال تفسير سورة التوبة تفسير سورة يونس تفسير سورة هود تفسير سورة الرعد سورة إبراهيم تفسير سورة الحجر سورة النحل سورة الإسراء سورة الكهف تفسير سورة مريم سورة طه تفسير سورة الأنبياء تفسير سورة الحج تفسير سورة المؤمنون تفسير سورة النور تفسير سورة الفرقان تفسير سورة الشعراء تفسير سورة النمل تفسير سورة العنكبوت تفسير سورة الروم تفسير سورة لقمان تفسير سورة السجدة سورة الأحزاب سورة سبأ تفسير سورة فاطر تفسير سورة يس تفسير سورة الصافات تفسير سورة الزمر تفسير سورة فصلت سورة الشورى سورة الزخرف تفسير سورة الدخان سورة الجاثية سورة الأحقاف سورة محمد تفسير سورة الحجرات تفسير سورة ق سورة الطور تفسير سورة النجم سورة القمر سورة الرحمن سورة الواقعة تفسير سورة الحديد تفسير سورة المجادلة تفسير سورة الحشر تفسير سورة الممتحنة تفسير سورة الصف سورة الجمعة تفسير سورة المنافقون تفسير سورة التغابن تفسير سورة الطلاق تفسير سورة التحريم تفسير سورة الملك تفسير سورة القلم سورة الحاقة سورة المعارج سورة نوح سورة الجن تفسير سورة المزمل سورة المدثر تفسير سورة القيامة سورة الإنسان سورة المرسلات تفسير سورة النبأ سورة النازعات سورة عبس تفسير سورة التكوير سورة الإنفطار سورة المطففين تفسير سورة الإنشقاق سورة البروج سورة الطارق سورة الأعلى تفسير سورة الغاشية تفسير سورة الفجر تفسير سورة البلد سورة الشمس سورة الليل تفسير سورة الضحى سورة الشرح سورة التين تفسير سورة العلق سورة القدر تفسير سورة البينة تفسير سورة الزلزلة تفسير سورة العاديات تفسير سورة القارعة سورة التكاثر سورة العصر تفسير سورة الهمزة سورة الفيل تفسير سورة قريش سورة الماعون سورة الكوثر تفسير سورة الكافرون سورة النصر تفسير سورة المسد تفسير سورة الإخلاص سورة الفلق تفسير سورة الناس محتوى تفسير الإمام السعدي

تيسير الكريم الرحمن


صفحه قبل

تيسير الكريم الرحمن، ص: 877

و لم يكن معطلا عنها، بوقت من الأوقات. و الشاهد من هذا، أن اللّه تعالى، أخبر عن نفسه الكريمة، أنه خالق لجميع العالم العلوي و السفلي، و أنه على كل شي‏ء وكيل. و الوكالة التامة، لا بد فيها من علم الوكيل، بما كان وكيلا عليه، و إحاطته بتفاصيله. و من قدرة تامة على ما هو وكيل عليه، ليتمكن من التصرف فيه، و من حفظ لما هو وكيل عليه، و من حكمة، و معرفة، بوجوه التصرفات، ليصرفها و يدبرها، على ما هو الأليق، فلا تتم الوكالة إلا بذلك كله، فما نقص من ذلك، فهو نقص فيها. و من المعلوم المتقرر، أن اللّه تعالى منزه عن كل نقص، في أي صفة من صفاته. فإخباره بأنه على كل شي‏ء وكيل، يدل على إحاطة علمه بجميع الأشياء، و كمال قدرته على تدبيرها، و كمال تدبيره، و كمال حكمته، التي يضع بها الأشياء مواضعها. لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ‏ أي: مفاتيحها، علما و تدبيرا، ف ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَ ما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏ (2). فلما بيّن من عظمته، ما يقتضي أن تمتلى‏ء القلوب له إجلالا و إكراما، ذكر حال من عكس القضية، فلم يقدره حق قدره فقال:

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ‏ الدالة على الحق اليقين، و الصراط المستقيم. أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ‏ خسروا، ما به تصلح القلوب، من التأله و الإخلاص للّه. و ما به تصلح الألسن، من إشغالها بذكر اللّه، و ما تصلح به الجوارح من طاعة اللّه. و تعوضوا عن ذلك كل مفسد للقلوب و الأبدان، و خسروا جنات النعيم، و تعرضوا عنها، بالعذاب الأليم.

[64] قُلْ‏ يا أيها الرسول، لهؤلاء الجاهلين، الذين دعوك إلى عبادة غير اللّه: أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ‏ أي: هذا الأمر صدر من جهلكم، و إلا فلو كان لكم علم بأن اللّه تعالى، الكامل من جميع الوجوه، مسدي جميع النعم، هو المستحق للعبادة، دون من كان ناقصا من كل وجه، لا ينفع، و لا يضر، لم تأمروني بذلك.

[65] و ذلك لأن الشرك باللّه، محبط للأعمال، مفسد للأحوال، و لهذا قال: وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ‏ من جميع الأنبياء. لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ‏ ، هذا مفرد مضاف، يعم كل عمل. ففي نبوة جميع الأنبياء، أن الشرك محبط لجميع الأعمال، كما قال تعالى في سورة الأنعام- لما عد كثيرا من أنبيائه و رسله قال عنهم: ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ‏ (88). وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ‏ دينك و آخرتك. فبالشرك تحبط الأعمال، و يستحق العقاب و النكال.

[66] ثم قال: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ لما أخبر أن الجاهلين يأمرونه بالشرك، و أخبر عن شناعته، أمره بالإخلاص فقال: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ أي: أخلص له العبادة، وحده لا شريك له. وَ كُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ‏ اللّه، على توفيق اللّه تعالى. فكما أنه يشكر على النعم الدنيوية، كصحة الجسم و عافيته، و حصول الرزق و غير ذلك. كذلك يشكر و يثنى عليه، بالنعم الدينية، كالتوفيق للإخلاص، و التقوى، بل نعم الدين، هي النّعم على الحقيقة. و في تدبر أنها من اللّه تعالى و الشكر للّه عليها، سلامة من آفة العجب، التي تعرض لكثير من العاملين، بسبب جهلهم. و إلا، فلو عرف العبد حقيقة الحال، لم يعجب بنعمة تستحق عليه زيادة الشكر.

[67] يقول تعالى: و ما قدر هؤلاء المشركون ربهم حق قدره، و لا عظموه حق تعظيمه، بل فعلوا ما يناقض ذلك، من إشراكهم به من هو ناقص في أوصافه و أفعاله. فأوصافه ناقصة من كل وجه، و أفعاله، ليس عنده نفع و لا ضر، و لا عطاء، و لا منع، و لا يملك من الأمر شيئا. فسووا هذا المخلوق الناقص، بالخالق الرب العظيم، الذي- من عظمته الباهرة، و قدرته القاهرة- أن جميع الأرض يوم القيامة، قبضة للرحمن، و أن السموات- على سعتها و عظمتها- مطويات بيمينه. فلم يعظمه حق تعظيمه، من سوّى به غيره، و هل أظلم ممن فعل ذلك؟ سُبْحانَهُ وَ تَعالى‏ عَمَّا يُشْرِكُونَ‏ أي: تنزه، و تعاظم عن شركهم به.

[68] لما خوفهم تعالى عن عظمته، خوفهم بأحوال يوم القيامة، و رغّبهم و رهّبهم فقال: وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ و هو قرن عظيم، لا يعلم عظمته إلا خالقه، و من أطلعه اللّه على علمه من خلقه. فينفخ فيه إسرافيل عليه السلام؛

تيسير الكريم الرحمن، ص: 878

أحد الملائكة المقربين، و أحد حملة عرش الرحمن. فَصَعِقَ‏ أي: غشي عليه أو مات، على اختلاف القولين. مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ‏ أي: كلهم، لما سمعوا نفخة الصور أزعجتهم من شدتها و عظمها، و ما يعلمون أنها مقدمة له.

إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ‏ ممن ثبّته اللّه عند النفخة، فلم يصعق، كالشهداء أو بعضهم، و غيرهم. و هذه النفخة الأولى، نفخة الصعق، و نفخة الفزع. ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ‏ نفخة أُخْرى‏ نفخة البعث‏ فَإِذا هُمْ قِيامٌ‏ أي: قد قاموا من قبورهم، لبعثهم و حسابهم، قد تمت منهم الخلقة الجسدية و الأرواح، و شخصت أبصارهم‏ يَنْظُرُونَ‏ ماذا يفعل اللّه بهم.

[69] وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها علم من هذا، أن الأنوار الموجودة تذهب يوم القيامة و تضمحل، و هو كذلك.

فإن اللّه أخبر أن الشمس تكور، و القمر يخسف، و النجوم تنتشر، و يكون الناس في ظلمة، فتشرق الأرض عند ذلك بنور ربها، عند ما يتجلّى و ينزل للفصل بينهم. و في ذلك اليوم يجعل اللّه للخلق قوة. و ينشئهم نشأة، يقوون على أن لا يحرقهم نوره، و يتمكنون أيضا من رؤيته، و إلا، فنوره تعالى عظيم، لو كشفه، لأحرقت سبحات وجهه، ما انتهى إليه بصره من خلقه. وَ وُضِعَ الْكِتابُ‏ أي: كتاب الأعمال و ديوانه، وضع و نشر، ليقرأ ما فيه من الحسنات و السيئات، كما قال تعالى: وَ وُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَ يَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49). و يقال للعامل من تمام العدل و الإنصاف:

اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى‏ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14). وَ جِي‏ءَ بِالنَّبِيِّينَ‏ ليسألوا عن التبليغ، و عن أممهم، و يشهدوا عليهم. وَ الشُّهَداءِ من الملائكة، و أعضاء الإنسان و الأرض. وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ‏ أي: العدل التام و القسط العظيم؛ لأنه حساب صادر ممن لا يظلم مثقال ذرة، و من هو محيط بكل شي‏ء. و كتابه الذي هو اللوح المحفوظ، محيط بكل ما عملوه. و الحفظة الكرام، و الذين لا يعصون ربهم، قد كتبت عليهم ما عملوه. و أعدل الشهداء، قد شهدوا على ذلك الحكم. فحكم بذلك من يعلم مقادير الأعمال و مقادير استحقاقها للثواب و العقاب. فيحصل حكم يقر به الخلق، و يعترفون للّه بالحمد و العدل، و يعرفون به من عظمته، و علمه، و حكمته و رحمته، ما لم يخطر بقلوبهم، و لا تعبر عنه ألسنتهم، و لهذا قال:

[70] وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ‏ (70).

[71] لما ذكر تعالى حكمه بين عباده، الذين جمعهم في خلقه، و رزقه، و تدبيره، و اجتماعهم في الدنيا، و اجتماعهم في موقف القيامة، فرقهم تعالى عند جزائهم، كما افترقوا في الدنيا بالإيمان و الكفر، و التقوى و الفجور، فقال: وَ سِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى‏ جَهَنَّمَ‏ أي: سوقا عنيفا، يضربون بالسياط الموجعة، من الزبانية الغلاظ الشداد، إلى شر محبس، و أفظع موضع، و هي: جهنم التي قد جمعت كل عذاب، و حضرها كل شقاء، و زال عنها كل سرور، كما قال تعالى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى‏ نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) أي: يدفعون إليها دفعا، و ذلك لامتناعهم من دخولها. و يساقون إليها زُمَراً أي: فرقا متفرقة، كل زمرة مع الزمرة التي تناسب عملها، و تشاكل سعيها،

تيسير الكريم الرحمن، ص: 879

يلعن بعضهم بعضا، و يبرأ بعضهم من بعض، حَتَّى إِذا جاؤُها أي: و صلوا إلى ساحتها فُتِحَتْ‏ لهم أي:

لأجلهم‏ أَبْوابُها لقدومهم و قرى لنزولهم. وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها مهنئين لهم بالشقاء الأبدي، و العذاب السرمدي، و موبخين لهم على الأعمال، التي أوصلتهم إلى هذا المحل الفظيع: أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ‏ أي: من جنسكم تعرفونهم و تعرفون صدقهم، و تتمكنون من التلقي عنهم؟ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ‏ التي أرسلهم اللّه بها، الدالة على الحق اليقين بأوضح البراهين. وَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا أي: و هذا يوجب عليكم اتباعهم و الحذر من عذاب هذا اليوم، باستعمال تقواه، و قد كانت حالكم بخلاف هذه الحال؟ قالُوا مقرين بذنبهم، و أن حجة اللّه قامت عليهم: بَلى‏ قد جاءتنا رسل ربنا، بآياته و بيناته، و بينوا لنا غاية التبيين و حذرونا من هذا اليوم.

وَ لكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ‏ أي: بسب كفرهم، و جبت عليهم كلمة العذاب، التي هي لكل من كفر بآيات اللّه، و جحد ما جاء به المرسلون، فاعترفوا بذنبهم و قيام الحجة عليهم.

[72] قِيلَ‏ لهم على وجه الإهانة و الإذلال‏ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ‏ كل طائفة تدخل من الباب الذي يناسبها، و يوافق عملها. خالِدِينَ فِيها أبدا، لا يظعنون عنها، و لا يفتر عنهم العذاب ساعة، و لا ينظرون.

فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ‏ أي: بئس المقر، النار مقرهم، و ذلك لأنهم تكبروا على الحق، فجازاهم اللّه من جنس عملهم، بالإهانة، و الذال، و الخزي.

[73] ثم قال عن أهل الجنة: وَ سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ‏ بتوحيده، و العمل بطاعته، سوق إكرام و إعزاز، يحشرون وفدا على النجائب. إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً فرحين مستبشرين، كل زمرة مع الزمرة، التي تناسب عملها، و تشاكله. حَتَّى إِذا جاؤُها أي: وصلوا لتلك الرحاب الرحيبة، و المنازل الأنيقة، و هبّ عليهم ريحها و نسيمها، و آن خلودها و نعيمها. وَ فُتِحَتْ‏ لهم‏ أَبْوابُها فتح إكرام، لكرام الخلق، ليكرموا فيها. وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها تهنئة لهم و ترحيبا: سَلامٌ عَلَيْكُمْ‏ أي: سلام عليكم من كل آفة و شر حال. طِبْتُمْ‏ أي: طابت قلوبكم بمعرفة اللّه و محبته، و خشيته، و ألسنتكم بذكره، و جوار حكم بطاعته. (ف) بسبب طيبكم ادخلوها خالِدِينَ‏ لأنها الدار الطيبة، و لا يليق بها إلا الطيبون. و قال في النار فُتِحَتْ أَبْوابُها و في الجنة وَ فُتِحَتْ‏ بالواو، إشارة إلى أن أهل النار، بمجرد وصولهم إليها، فتحت لهم أبوابها، من غير إنظار و لا إمهال. و ليكون فتحها في وجوههم، و على وصولهم، لحرها، و أشد لعذابها. و أما الجنة، فإنها الدار العالية الغالية، التي لا يوصل إليها و لا ينالها كل أحد، إلا من أتى بالوسائل الموصلة إليها، و مع ذلك، فيحتاجون لدخولها إلى الشفاعة عند أكرم الشفعاء عليه، فلم تفتح لهم بمجرد ما وصلوا إليها. بل يستشفعون إلى اللّه بمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم، حتى يشفع، فيشفعه اللّه تعالى.

و في الآيات، دليل على أن النار و الجنة، لهما أبواب، تفتح و تغلق، و أن لكل منهما خزنة. و هما الداران الخالصتان، اللتان لا يدخل فيهما، إلا من استحقهما، بخلاف سائر الأمكنة و الدور.

[74] وَ قالُوا عند دخولهم فيها، و استقرارهم، حامدين ربهم على ما أولاهم، و منّ عليهم، و هداهم: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ‏ أي: وعدنا الجنة على ألسنة رسله، إن آمنّا و صلحنا، فوفّى لنا بما وعدنا، و أنجز لنا ما منّانا. وَ أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ‏ أي: أرض الجنة نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ أي: ننزل منها أي مكان شئنا، و نتناول منها، أي نعيم أردنا، ليس ممنوعا عنّا شي‏ء نريده. فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ‏ الذين اجتهدوا بطاعة ربهم، في زمن قليل منقطع، فنالوا بذلك خيرا عظيما باقيا مستمرا. و هذه الدار، التي تستحق المدح على الحقيقة، التي يكرم اللّه فيها خواص خلقه. و رضيها الجواد الكريم لهم نزلا، و بنى أعلاها و أحسنها، و غرسها بيده، و حشاها من رحمته و كرامته، ما ببعضه يفرح الحزين، و يزول الكدر، و يتم الصفاء.

[75] وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ أيها الرائي ذلك اليوم العظيم‏ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ‏ أي: قد قاموا في خدمة ربهم، و اجتمعوا حول عرشه، خاضعين لجلاله، معترفين بكماله، مستغرقين بجماله. يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 880

أي: ينزهونه عن كل ما لا يليق بجلاله، مما نسب إليه المشركون، و ما لم ينسبوا. وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ‏ أي: بين الأولين و الآخرين من الخلق‏ بِالْحَقِ‏ الذي لا اشتباه فيه و لا إنكار، ممن عليه الحق. وَ قِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ‏ لم يذكر القائل من هو، ليدل ذلك على أن جميع الخلق، نطقوا بحمد ربهم، و حكمته على ما قضى به على أهل الجنة، و أهل النار، حمد فضل و إحسان، و حمد عدل و حكمة.

سورة غافر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

[1] يخبر تعالى عن كتابه العظيم، و أنه صادر و منزل من اللّه، المألوه المعبود، لكماله، و انفراده بأفعاله.

[2] الْعَزِيزِ الذي قهر بعزته كل مخلوق‏ الْعَلِيمِ‏ بكل شي‏ء.

[3] غافِرِ الذَّنْبِ‏ للمذنبين‏ وَ قابِلِ التَّوْبِ‏ من التائبين. شَدِيدِ الْعِقابِ‏ على من تجرأ على الذنوب، و لم يتب منها ذِي الطَّوْلِ‏ أي: التفضل و الإحسان الشامل. فلما قرر ما قرر من كماله، و كان ذلك موجبا لأن يكون وحده المألوه، الذي تخلص له الأعمال قال: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ . و وجه المناسبة بذكر نزول القرآن من اللّه، الموصوف بهذه الأوصاف، أن هذه الأوصاف، مستلزمة لجميع ما يشتمل عليه القرآن، من المعاني. فإن القرآن: إما إخبار عن أسماء اللّه، و صفاته، و أفعاله؛ و هذه أسماء، و أوصاف، و أفعال. و إما إخبار عن نعمه العظيمة، و آلائه الجسيمة، و ما يوصل إلى ذلك من الأوامر. فذلك يدل عليه قوله: ذِي الطَّوْلِ‏ . و إما إخبار عن نقمه الشديدة، و عمّا يوجبها و يقتضيها من المعاصي، فذلك يدل عليه‏ شَدِيدِ الْعِقابِ‏ . و إما دعوة للمذنبين إلى التوبة و الإنابة، و الاستغفار فذلك يدل عليه قوله: غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ‏ . و إما إخبار بأنه وحده، المألوه المعبود، و إقامة الأدلة العقلية و النقلية على ذلك، و الحث عليه، و النهي عن عبادة ما سوى اللّه و إقامة الأدلة العقلية و النقلية على فسادها، و الترهيب منها، فذلك يدل عليه قوله تعالى: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ . و إما إخبار عن حكمه الجزائي العدل، و ثواب المحسنين، و عقاب العاصين، فهذا يدل عليه قوله: إِلَيْهِ الْمَصِيرُ . فهذا جميع ما يشتمل عليه القرآن من المطالب العاليات.

[4] يخبر تبارك و تعالى أنه‏ ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا و المراد بالمجادلة هنا، المجادلة لرد آيات اللّه، و مقابلتها بالباطل فهذا من صنيع الكفار. و أما المؤمنون، فيخضعون للحق، ليدحضوا به الباطل. و لا ينبغي للإنسان أن يغتر بحالة الإنسان الدنيوية، و يظن أن إعطاء اللّه إياه في الدنيا، دليل على محبته له، و أنه على الحق، لهذا قال:

فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ أي: ترددهم فيها، بأنواع التجارات و المكاسب. بل الواجب على العبد، أن يعتبر الناس بالحق، و ينظر إلى الحقائق الشرعية، و يزن بها الناس، و لا يزن الحق بالناس، كما عليه من لا علم و لا عقل له.

[5] ثم هدد من جادل بآيات اللّه ليبطلها، كما فعل من قبله من الأمم من‏ قَوْمُ نُوحٍ‏ و عاد وَ الْأَحْزابُ مِنْ‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 881

بَعْدِهِمْ‏ الذين تحزبوا، و تجمعوا على الحق ليبطلوه، و على الباطل لينصروه. وَ أنه بلغت بهم الحال، و آل بهم التحزب إلى أنه‏ هَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ من الأمم‏ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ‏ أي: يقتلوه. و هذا أبلغ ما يكون للرسل، الذين هم قادة أهل الخير، الذين معهم الحق الصرف، الذي لا شك فيه، و لا اشتباه، هموا بقتلهم. فهل بعد هذا البغي و الضلال و الشقاء، إلا العذاب العظيم، الذي لا يخرجون منه؟ و لهذا قال في عقوبتهم الدنيوية و الأخروية:

فَأَخَذْتُهُمْ‏ أي: بسبب تكذيبهم و تحزبهم‏ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ‏ كان أشد العقاب و أفظعه، إن هو إلا صيحة، أو حاصب ينزل عليهم، أو يأمر الأرض أن تأخذهم، أو البحر أن يغرقهم، فإذا هم خامدون.

[6] وَ كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أي: كما حقت على أولئك، حقت عليهم كلمة الضلال، التي نشأت عنها كلمة العذاب، و لهذا قال: أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ .

[7] يخبر تعالى، عن كمال لطفه بعباده المؤمنين، و ما قيض لأسباب سعادتهم، من الأسباب الخارجة عن قدرهم، من استغفار الملائكة المقربين لهم، و دعائهم لهم، بما فيه صلاح دينهم و آخرتهم. و في ضمن ذلك، الإخبار عن شرف حملة العرش و من حوله، و قربهم من ربهم، و كثرة عبادتهم، و نصحهم لعباد اللّه، لعلمهم أن اللّه يحب ذلك منهم فقال: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ‏ أي: عرش الرحمن، الذي هو سقف المخلوقات، و أعظمها، و أوسعها، و أحسنها، و أقربها من اللّه تعالى، الذي وسع الأرض و السموات، و الكرسي. و هؤلاء الملائكة، قد وكلهم اللّه تعالى بحمل عرشه العظيم، فلا شك أنهم من أكبر الملائكة، و أعظمهم، و أقواهم. و اختيار اللّه إياهم، لحمل عرشه، و تقديمهم في الذكر، و قربهم منه، يدل على أنهم أفضل أجناس الملائكة، عليهم السّلام، قال تعالى: وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ . وَ مَنْ حَوْلَهُ‏ من الملائكة المقربين في المنزلة و الفضيلة يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ‏ هذا مدح لهم، بكثرة عبادتهم للّه تعالى، و خصوصا، التسبيح و التحميد. و سائر العبادات، تدخل في تسبيح اللّه و تحميده، لأنها تنزيه له، عن كون العبد يصرفها لغيره، و حمد له تعالى، بل الحمد هو العبادة للّه تعالى. و أما قول العبد: «سبحان اللّه و بحمده» فهو داخل في ذلك و هو من جملة العبادات. وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا و هذا من جملة فوائد الإيمان، و فضائله الكثيرة جدا، أن الملائكة الّذين يؤمنون باللّه، و لا ذنوب عليهم، يستغفرون لأهل الإيمان، فالمؤمن بإيمانه، تسبب لهذا الفضل العظيم. و لما كانت المغفرة، لها لوازم، لا تتم إلا بها- غير ما يتبادر إلى كثير من الأذهان، أن سؤالها و طلبها، غايته مجرد مغفرة الذنوب- ذكر تعالى صفة دعائهم لهم بالمغفرة، بذكر ما لا تتم إلا به فقال: رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً فعلمك قد أحاط بكل شي‏ء، و لا يخفى عليك منه خافية، و لا يعزب عن علمك مثقال ذرة في الأرض و لا في السماء، و لا أصغر من ذلك، و لا أكبر، و رحمتك وسعت كلّ شي‏ء. فالكون علويه و سفليه، قد امتلأ برحمة اللّه تعالى، و وسعتهم، و وصل إلى ما وصل إليه خلقه. فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا من الشرك و المعاصي‏ وَ اتَّبَعُوا سَبِيلَكَ‏ باتباع رسلك، بتوحيدك و طاعتك. وَ قِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ‏ أي: قهم العذاب نفسه، و قهم أسباب العذاب.

تيسير الكريم الرحمن، ص: 882

[8] رَبَّنا وَ أَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ‏ على ألسنة رسلك‏ وَ مَنْ صَلَحَ‏ أي: صلح بالإيمان، و العمل الصالح‏ مِنْ آبائِهِمْ وَ أَزْواجِهِمْ‏ زوجاتهم و أزواجهن، و أصحابهم، و رفقائهم‏ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ القاهر لكل شي‏ء، فبعزتك تغفر ذنوبهم، و تكشف عنهم المحذور، و توصلهم بها إلى كلّ خير الْحَكِيمُ‏ الذي يضع الأشياء مواضعها. فلا نسألك، يا ربنا، أمرا تقتضي حكمتك خلافه. بل من حكمتك، التي أخبرت بها على ألسنة رسلك، و اقتضاها فضلك، المغفرة للمؤمنين.

[9] وَ قِهِمُ السَّيِّئاتِ‏ أي: جنبهم الأعمال السيئة و جزاءها، لأنها تسوء صاحبها. وَ مَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ أي: يوم القيامة فَقَدْ رَحِمْتَهُ‏ لأن رحمتك لم تزل مستمرة على العباد، لا يمنعها إلا ذنوب العباد و سيئاتهم، فمن وقيته السيئات فقد وفقته للحسنات و جزائها الحسن. وَ ذلِكَ‏ أي: زوال المحذور، بوقاية السيئات، و حصول المحبوب، بحصول الرحمة. هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏ الذي لا فوز مثله، و لا يتنافس المتنافسون بأحسن منه. و قد تضمن هذا الدعاء من الملائكة، كمال معرفتهم بربهم، و التوسل إلى اللّه بأسمائه الحسنى، التي يحب من عباده، التوسل بها إليها، و الدعاء بما يناسب ما دعوا اللّه فيه. فلما كان دعاؤهم بحصول الرحمة، و إزالة أثر ما اقتضته النفوس البشرية، التي علم اللّه نقصها، و اقتضاءها لما اقتضته من المعاصي، و نحو ذلك من المبادئ و الأسباب، التي قد أحاط اللّه بها علما، توسلوا بالرحيم العليم. و تضمن كمال أدبهم مع اللّه تعالى بإقرارهم بربوبيته لهم، الربوبية العامة و الخاصة، و أنه ليس لهم من الأمر شي‏ء، و إنّما دعاؤهم لربهم، صدر من فقير بالذات، من جميع الوجوه، لا يدلي على ربه، بحالة من الأحوال، إن هو إلا فضل اللّه، و كرمه و إحسانه. و تضمن موافقتهم لربهم تمام الموافقة، بمحبة ما يحبه من الأعمال، التي هي العبادات التي قاموا بها، و اجتهدوا اجتهاد المحبين، و من العمال، الّذين هم المؤمنون، الّذين يحبهم اللّه تعالى من بين خلقه. فسائر الخلق المكلفين، يبغضهم اللّه إلا المؤمنين منهم. فمن محبة الملائكة لهم، دعوا اللّه، و اجتهدوا في صلاح أحوالهم، لأن الدعاء للشخص، من أدلّ الدلائل على محبته، لأنه لا يدعو إلا لمن يحبه. و تضمن ما شرحه اللّه و فصله من دعائهم بعد قوله: وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا التنبيه اللطيف على كيفية تدبر كتابه، و أن لا يكون المتدبر مقتصرا على مجرد معنى اللفظ بمفرده. بل ينبغي له أن يتدبر معنى اللفظ فإذا فهمه فهما صحيحا على وجهه، نظر بعقله إلى ذلك الأمر، و الطرق الموصلة إليه، و ما لا يتم إلا به، و ما يتوقف عليه، و جزم بأن اللّه أراده، كما يجزم أنه أراد المعنى الخاص، الدال عليه اللفظ. و الذي يوجب الجزم له، بأن اللّه أراده أمران: أحدهما: معرفته و جزمه، بأنه من توابع المعنى، و المتوقف عليه. و الثاني: علمه بأن اللّه بكل شي‏ء عليم، و أن اللّه أمر عباده بالتدبر و التفكر في كتابه. و قد علم تعالى، ما يلزم من تلك المعاني، و هو المخبر بأن كتابه هدى، و نور، و تبيان لكل شي‏ء، و أنه أفصح الكلام، و أجلّه إيضاحا. فبذلك يحصل للعبد، من العلم العظيم، و الخير الكثير، بحسب ما وفقه اللّه له. و قد كان في تفسيرنا هذا، كثير من هذا منّ به اللّه علينا. و قد يخفى في بعض الآيات، مأخذه على غير المتأمل، صحيح الفكرة. و نسأله تعالى، أن يفتح علينا من خزائن رحمته، ما يكون سببا لصلاح أحوالنا، و أحوال المسلمين. فليس لنا، إلا التعلق بكرمه، و التوسّل بإحسانه، الذي لا نزال نتقلب فيه، في كل الآنات، و في جميع اللحظات. و نسأله من فضله، أن يقينا شر أنفسنا المانع و المعوق، لوصول رحمته، إنه الكريم الوهاب، الذي تفضل بالأسباب و مسبباتها. و تضمن ذلك، أن المقارن، من زوج، و ولد، و صاحب، يسعد بقرينه، و يكون اتصاله به، سببا لخير يحصل له، خارج عن عمله، و سبب عمله، كما كانت الملائكة، تدعو للمؤمنين، و لمن صلح من آبائهم، و أزواجهم، و ذرياتهم. و قد يقال: إنه لا بدّ من وجود صلاحهم لقوله: وَ مَنْ صَلَحَ‏ فحينئذ يكون ذلك، من نتيجة عملهم، و اللّه أعلم.

[10] يخبر تعالى، عن الفضيحة و الخزي، الذي يصيب الكافرين، و سؤالهم الرجعة، و الخروج من النار،

تيسير الكريم الرحمن، ص: 883

و امتناع ذلك عليهم، و توبيخهم، فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أطلقه ليشمل أنواع الكفر كلها، من الكفر باللّه، أو بكتبه، أو برسله، أو باليوم الآخر، حين يدخلون النار، و يقرون أنهم يستحقونها، لما فعلوه من الذنوب و الأوزار، فيمقتون أنفسهم لذلك أشد المقت، و يغضبون عليها غاية الغضب، فينادون عند ذلك. و يقال لهم: لَمَقْتُ اللَّهِ‏ أي: إياكم‏ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ‏ أي: حين دعتكم الرسل و أتباعهم، إلى الإيمان، و أقاموا لكم من البينات، ما تبين به الحقّ، فكفرتم، و زهدتم في الإيمان، الذي خلقكم اللّه له، و خرجتم من رحمته الواسعة، فمقتكم و أبغضكم. فهذا أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ‏ أي: فلم يزل هذا المقت، مستمرا عليكم، و السخط من الكريم حالّا بكم، حتى آلت بكم الحال، إلى ما آلت. فاليوم حلّ عليكم غضب اللّه و عقابه، حين نال المؤمنون رضوان اللّه و ثوابه.

[11] فتمنوا الرجوع، و قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ‏ يريدون الموتة الأولى، و ما بين النفختين على ما قيل، أو العدم المحض قبل إيجادهم، ثمّ أماتهم بعد ما أوجدهم. وَ أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ‏ الحياة الدنيا، و الحياة الأخرى. فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى‏ خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ‏ أي: تحسروا و قالوا ذلك، فلم يفد و لم ينجع، و وبخوا على عدم فعل أسباب النجاة، فقيل لهم:

[12] ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ‏ أي: إذا دعي لتوحيده، و إخلاص العمل له، و نهي عن الشرك به‏ كَفَرْتُمْ‏ به، و اشمأزت لذلك قلوبكم، و نفرتم غاية النفور. وَ إِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا أي: هذا الذي أنزلكم هذا المنزل، و بوأكم هذا المقيل و المحل، أنكم تكفرون بالإيمان، و تؤمنون بالكفر. ترضون بما هو شر و فساد في الدنيا و الآخرة، و تكرهون ما هو خير و صلاح، في الدنيا و الآخرة. تؤثرون سبب الشقاوة، و الذل، و الغضب، و تزهدون بما هو سبب الفوز و الفلاح و الظفر وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا . فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِ‏ العلي: الذي له العلو المطلق، من جميع الوجوه، علو الذات، و علو القدر، و علو القهر. و من علو قدره، كمال عدله تعالى، و أنه يضع الأشياء مواضعها، و لا يساوي بين المتقين و الفجار.

الْكَبِيرِ الذي له الكبرياء و العظمة و المجد، في أسمائه، و صفاته، و أفعاله، المتنزه عن كلّ آفة، و عيب، و نقص. فإذا كان الحكم له تعالى، و قد حكم عليكم بالخلود الدائم، فحكمه لا يغير و لا يبدل.

[13] يذكر تعالى نعمه العظيمة، على عباده، بتبيين الحقّ من الباطل، بما يري عباده من آياته النفسية، و الآفاقية، و القرآنية، الدالة على كلّ مطلوب مقصود، الموضحة للهدى من الضلال، بحيث لا يبقى عند الناظر فيها، و المتأمل لها، أدنى شك في معرفة الحقائق. و هذا من أكبر نعمه على عباده، حيث لم يبق الحقّ مشتبها، و لا الصواب ملتبسا. بل نوّع الدلالات، و وضح الآيات، ليهلك من هلك عن بيّنة، و يحيا من حي عن بيّنة. و كلّما كانت المسائل أجلّ و أكبر، كانت الدلائل عليها أكثر و أيسر. فانظر إلى التوحيد، لما كانت مسألته من أكبر المسائل، بل أكبرها، كثرت الأدلة عليها العقلية و النقلية، و تنوعت، و ضرب اللّه لها الأمثال، و أكثر لها من الاستدلال.

صفحه بعد