کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تيسير الكريم الرحمن

سورة الفاتحة سورة آل عمران سورة المائدة سورة الأنعام تفسير سورة الأعراف تفسير سورة الأنفال تفسير سورة التوبة تفسير سورة يونس تفسير سورة هود تفسير سورة الرعد سورة إبراهيم تفسير سورة الحجر سورة النحل سورة الإسراء سورة الكهف تفسير سورة مريم سورة طه تفسير سورة الأنبياء تفسير سورة الحج تفسير سورة المؤمنون تفسير سورة النور تفسير سورة الفرقان تفسير سورة الشعراء تفسير سورة النمل تفسير سورة العنكبوت تفسير سورة الروم تفسير سورة لقمان تفسير سورة السجدة سورة الأحزاب سورة سبأ تفسير سورة فاطر تفسير سورة يس تفسير سورة الصافات تفسير سورة الزمر تفسير سورة فصلت سورة الشورى سورة الزخرف تفسير سورة الدخان سورة الجاثية سورة الأحقاف سورة محمد تفسير سورة الحجرات تفسير سورة ق سورة الطور تفسير سورة النجم سورة القمر سورة الرحمن سورة الواقعة تفسير سورة الحديد تفسير سورة المجادلة تفسير سورة الحشر تفسير سورة الممتحنة تفسير سورة الصف سورة الجمعة تفسير سورة المنافقون تفسير سورة التغابن تفسير سورة الطلاق تفسير سورة التحريم تفسير سورة الملك تفسير سورة القلم سورة الحاقة سورة المعارج سورة نوح سورة الجن تفسير سورة المزمل سورة المدثر تفسير سورة القيامة سورة الإنسان سورة المرسلات تفسير سورة النبأ سورة النازعات سورة عبس تفسير سورة التكوير سورة الإنفطار سورة المطففين تفسير سورة الإنشقاق سورة البروج سورة الطارق سورة الأعلى تفسير سورة الغاشية تفسير سورة الفجر تفسير سورة البلد سورة الشمس سورة الليل تفسير سورة الضحى سورة الشرح سورة التين تفسير سورة العلق سورة القدر تفسير سورة البينة تفسير سورة الزلزلة تفسير سورة العاديات تفسير سورة القارعة سورة التكاثر سورة العصر تفسير سورة الهمزة سورة الفيل تفسير سورة قريش سورة الماعون سورة الكوثر تفسير سورة الكافرون سورة النصر تفسير سورة المسد تفسير سورة الإخلاص سورة الفلق تفسير سورة الناس محتوى تفسير الإمام السعدي

تيسير الكريم الرحمن


صفحه قبل

تيسير الكريم الرحمن، ص: 232

في الإيمان و المضرة، في عدم الإيمان به. فالسبب الموجب، هو: إخباره بأنه جاءهم بالحق. فمجيئه نفسه حق، و ما جاء به من الشرع حق. فإن العاقل، يعرف أن بقاء الخلق في جهلهم يعمهون، و في كفرهم يترددون، و الرسالة قد انقطعت عنهم، غير لائق بحكمة اللّه و رحمته. فمن حكمته و رحمته العظيمة، نفس إرسال الرسول إليهم، ليعرفهم الهدى من الضلال، و الغي من الرشد. فمجرد النظر في رسالته، دليل قاطع على صحة نبوته. و كذلك النظر إلى ما جاء به، من الشرع العظيم، و الصراط المستقيم. فإنه فيه من الإخبار بالغيوب الماضية و المستقبلة، و الخبر عن اللّه، و عن اليوم الآخر- ما لا يعرفه أحد إلا بالوحي و الرسالة. و ما فيه من الأمر، بكل خير و صلاح، و رشد، و عدل، و إحسان، و صدق، و بر، و صلة، و حسن خلق، و من النهي عن الشر و الفساد، و البغي و الظلم، و سوء الخلق، و الكذب و العقوق، مما يقطع به أنه من عند اللّه. و كلما ازداد به العبد بصيرة، ازداد إيمانه و يقينه، فهذا السبب الداعي للإيمان. و أما الفائدة في الإيمان، فأخبر أنه‏ خَيْراً لَكُمْ‏ و الخير، ضد الشر. فالإيمان، خير للمؤمنين، في أبدانهم، و قلوبهم، و أرواحهم، و دنياهم، و أخراهم. و ذلك لما يترتب عليه، من المصالح و الفوائد.

فكل ثواب، عاجل و آجل، فمن ثمرات الإيمان. فالنصر، و الهدى، و العلم، و العمل الصالح، و السرور، و الأفراح، و الجنة، و ما اشتملت عليه، من النعيم- كل ذلك، سبب عن الإيمان. كما أن الشقاء الدنيوي، و الأخروي، من عدم الإيمان، أو نقصه. و أما مضرة عدم الإيمان به صلى اللّه عليه و سلم، فيعرف بضد ما يترتب عليه الإيمان.

و أن العبد لا يضر إلا نفسه، و اللّه تعالى، غني عنه، لا تضره معصية العاصين. و لهذا قال: فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ‏ أي: الجميع خلقه و ملكه، و تحت تدبيره و تصريفه‏ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً بكل شي‏ء حَكِيماً في خلقه و أمره. فهو العليم بمن يستحق الهداية و الغواية، الحكيم في وضع الهداية و الغواية، موضعهما.

[171] ينهى تعالى، أهل الكتاب عن الغلو في الدين، و هو: مجاوزة الحد، و القدر المشروع، إلى ما ليس بمشروع. و ذلك كقول النصارى، في غلوهم بعيسى عليه السلام، و رفعه عن مقام النبوة و الرسالة إلى مقام الربوبية الذي لا يليق بغير اللّه. فكما أن التقصير و التفريط، من المنهيات، فالغلو كذلك. و لهذا قال: وَ لا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَ‏ و هذا الكلام، يتضمن ثلاثة أشياء: أمران منهي عنهما، و هما قول الكذب على اللّه، و القول بلا علم، في أسمائه، و صفاته، و أفعاله، و شرعه، و رسله. و الثالث: مأمور و هو: قول الحق في هذه الأمور. و لما كانت هذه قاعدة عامة كلية، و كان السياق في شأن عيسى عليه السلام، نصا على قول الحق فيه، المخالف للطريقة اليهودية و النصرانية قال: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ‏ أي: غاية المسيح عليه السلام و منتهى ما يصل إليه من مراتب الكمال، أعلى حالة تكون للمخلوقين، و هي درجة الرسالة، التي هي أعلى الدرجات، و أجل المثوبات. و أنه‏ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى‏ مَرْيَمَ‏ أي: كلمة تكلم اللّه بها فكان بها عيسى، و لم يكن تلك الكلمة، و إنما كان بها، و هذا من باب إضافة التشريف و التكريم. و كذلك قوله: وَ رُوحٌ مِنْهُ‏ أي: من الأرواح التي خلقها، و كملها بالصفات الفاضلة، و الأخلاق الكاملة. أرسل اللّه روحه، جبريل عليه السلام، فنفخ في فرج مريم عليها السلام. فحملت بإذن اللّه، بعيسى عليه السلام. فلما بيّن حقيقة عيسى عليه السلام، أمر أهل الكتاب بالإيمان به، و برسله، و نهاهم أن يجعلوا اللّه، ثالث ثلاثة، أحدهم عيسى، و الثاني مريم فهذه مقالة النصارى، قبحهم اللّه. فأمرهم أن ينتهوا، و أخبر أن ذلك، خير لهم، لأنه الذي يتعين، أنه سبيل النجاة، و ما سواه، فهو طرق الهلاك. ثم نزه نفسه عن الشريك و الولد فقال: إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ أي: هو المنفرد بالألوهية، الذي لا تنبغي العبادة إلا له. سُبْحانَهُ‏ أي: تنزه و تقدس‏ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لأن: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ‏ فالكل مملوكون له، مفتقرون إليه، فمحال أن يكون له شريك منهم، أو ولد.

[172] و لما أخبر أن المالك للعالم العلوي و السفلي، أخبر أنه قائم بمصالحهم الدنيوية و الأخروية و حافظها،

تيسير الكريم الرحمن، ص: 233

و مجازيها فقال تعالى: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ‏ إلى قوله:

وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً .

[173] لما ذكر تعالى غلو النصارى في عيسى عليه السلام، و ذكر أنه عبده و رسوله، ذكر هنا، أنه لا يستنكف عن عبادة ربه، أي: لا يمتنع عنها رغبة عنها لا هو وَ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ‏ . فنزههم عن الاستنكاف، و تنزيههم عن الاستكبار، من باب أولى. و نفي الشي‏ء فيه إثبات ضده.

أي: فعيسى و الملائكة المقربون، قد رغبوا في عبادة ربهم، و أحبوها و سعوا فيها، بما يليق بأحوالهم، فأوجب لهم ذلك الشرف العظيم، و الفوز العظيم. فلم يستنكفوا أن يكونوا عبيدا لربوبيته، و لا لإلهيته، بل يرون افتقارهم لذلك، فوق كل افتقار. و لا يظن أن رفع عيسى، أو غيره من الخلق، فوق مرتبته، التي أنزله اللّه فيها، و ترفعه عن العبادة كمالا، بل هو النقص بعينه، و هو محل الذم و العقاب، و لهذا قال: وَ مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً أي: فسيحشر الخلق كلهم إليه، المستنكفين، و المستكبرين و عباده المؤمنين، فيحكم بينهم، بحكمه العدل، و جزائه الفصل. ثم فصل حكمه فيهم فقال: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ‏ أي: جمعوا بين الإيمان المأمور به، و عمل الصالحات، من واجبات، و مستحبات، في حقوق اللّه، و حقوق عباده. فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ‏ أي: الأجور التي رتبها على الأعمال، كل بحسب إيمانه و عمله. وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ‏ من الثواب، الذي لم تنله أعمالهم، و لم تصل إليه أفعالهم، و لم يخطر على قلوبهم. و دخل في ذلك، كل ما في الجنة، من المآكل، و المشارب، و المناكح، و المناظر، و السرور، و نعيم القلب و الروح، و نعيم البدن. بل يدخل في ذلك، كل خير، ديني و دنيوي، رتب على الإيمان، و العمل الصالح.

وَ أَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَ اسْتَكْبَرُوا أي: عن عبادة اللّه تعالى‏ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً و هو سخط اللّه و غضبه، و النار الموقدة، التي تطلع على الأفئدة. وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً أي: لا يجدون أحدا من الخلق، يتولاهم، فيحصل لهم المطلوب، و لا من ينصرهم، فيدفع عنهم المرهوب. بل قد تخلى عنهم، أرحم الراحمين، و تركهم في عذابهم خالدين. و ما حكم به تعالى، فلا راد لحكمه، و لا مغير لقضائه.

[174] يمتن تعالى، على سائر الناس، بما أوصل إليهم، من البراهين القاطعة، و الأنوار الساطعة، و يقيم عليهم الحجة، و يوضح لهم المحجة فقال: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ‏ أي: حجج قاطعة على الحق، تبينه و توضحه، و تبين ضده. و هذا يشمل الأدلة العقلية و النقلية، و الآيات الأفقية و النفسية سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ‏ . و في قوله: مِنْ رَبِّكُمْ‏ ما يدل على شرف هذا البرهان و عظمته، حيث كان من ربكم، الذي رباكم التربية الدينية و الدنيوية. فمن تربيته لكم، التي يحمد عليها و يشكر، أن أوصل إليكم البينات، ليهديكم بها إلى الصراط المستقيم، و الوصول إلى جنات النعيم. وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً و هو هذا القرآن العظيم، الذي قد اشتمل على علوم الأولين و الآخرين، و الأخبار الصادقة النافعة، و الأمر بكل عدل و إحسان و خير، و النهي عن كل ظلم و شر. فالناس في ظلمة، إن لم يستضيئوا بأنواره، و في شقاء عظيم، إن لم يقتبسوا من‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 234

خيره. و لكن انقسم الناس- حسب الإيمان بالقرآن، و الانتفاع به- قسمين.

[175] فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ‏ أي: اعترفوا بوجوده، و اتصافه بكل وصف كامل، و تنزيهه من كل نقص و عيب. وَ اعْتَصَمُوا بِهِ‏ أي: لجأوا إلى اللّه، و اعتمدوا عليه، و تبرأوا من حولهم و قوتهم، و استعانوا بربهم.

فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَ فَضْلٍ‏ أي: فسيتغمدهم بالرحمة الخاصة، فيوفقهم للخيرات، و يجزل لهم المثوبات، و يدفع عنهم البليات. وَ يَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً أي: يوفقهم للعلم و العمل و معرفة الحق و العمل به. أي: و من لم يؤمن باللّه و يعتصم به، و يتمسك بكتابه، منعهم من رحمته، و حرمهم من فضله، و خلى بينهم و بين أنفسهم، فلم يهتدوا، بل ضلوا ضلالا مبينا، عقوبة لهم على تركهم الإيمان، فحصلت لهم الخيبة و الحرمان. نسأله تعالى، العفو، و العافية، و المعافاة.

[176] أخبر تعالى أن الناس استفتوا رسوله صلى اللّه عليه و سلم أي:

في الكلالة بدليل قوله: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ و هي: الميت يموت، و ليس له ولد صلب، و لا ولد ابن، و لا أب، و لا جد، و لهذا قال: إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ أي: لا ذكر و لا أنثى، لا ولد صلب، و لا ولد ابن.

و كذلك، ليس له والد، بدليل أنه ورث فيه الإخوة، و الإخوة بالإجماع، لا يرثون مع الوالد. فإذا هلك، و ليس له ولد، و لا والد وَ لَهُ أُخْتٌ‏ أي: شقيقة، أو لأب، لا لأم، فإنه قد تقدم حكمها. فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ‏ أي:

نصف متروكات أخيها، من نقود، و عقار، و أثاث، و غير ذلك، و ذلك من بعد الدين و الوصية كما تقدم. وَ هُوَ أي: أخوها الشقيق، أو الذي للأب‏ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ و لم يقدر له إرث، لأنه عاصب فيأخذ مالها كله، إن لم يكن صاحب فرض و لا عاصب يشاركه، أو ما أبقت الفروض. فَإِنْ كانَتَا أي الأختان‏ اثْنَتَيْنِ‏ أي: فما فوق‏ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَ إِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَ نِساءً أي: اجتمع الذكور من الإخوة لغير أم، مع الإناث‏ فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ‏ فيسقط فرض الإناث، و يعصبهن إخوتهن. يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا أي: يبين لكم أحكامه التي تحتاجونها، و يوضحها، و يشرحها لكم، فضلا منه و إحسانا، لكي تهتدوا ببيانه، و تعملوا بأحكامه، و لئلا تضلوا عن الصراط المستقيم، بسبب جهلكم، و عدم علمكم. وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ‏ أي: عالم بالغيب و الشهادة، و الأمور الماضية و المستقبلة و يعلم حاجتكم إلى بيانه، و تعليمه، فيعلمكم من علمه الذي ينفعكم على الدوام، في جميع الأزمنة و الأمكنة.

تم بعونه تعالى تفسير سورة النساء. فلله الحمد و الشكر.

تيسير الكريم الرحمن، ص: 235

سورة المائدة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

[1] هذا أمر من اللّه تعالى لعباده المؤمنين، بما يقتضيه الإيمان، بالوفاء بالعقود أي: بإكمالها، و إتمامها، و عدم نقضها و نقصها. و هذا شامل للعقود التي بين العبد و بين ربه، من التزام عبوديته، و القيام بها أتم قيام، و عدم الانتقاص من حقوقها شيئا، و التي بينه و بين الرسول بطاعته و اتباعه، و التي بينه و بين الوالدين، و الأقارب، ببرهم، و صلتهم، و عدم قطيعتهم. و التي بينه و بين أصحابه من القيام بحقوق الصحبة في الغنى و الفقر، و اليسر و العسر، و التي بينه و بين الخلق من عقود المعاملات، كالبيع، و الإجارة، و نحوهما، و عقود التبرعات، كالهبة و نحوها، و القيام بحقوق المسلمين، التي عقدها اللّه بينهم في قوله:

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ بل التناصر على الحق، و التعاون عليه، و التآلف بين المسلمين، و عدم التقاطع. فهذا الأمر شامل لأصول الدين و فروعه، فكلها داخلة في العقود التي أمر اللّه بالقيام بها. ثم قال:- ممتنا على عباده- أُحِلَّتْ لَكُمْ‏ أي لأجلكم، رحمة بكم‏ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ‏ من الإبل و البقر و الغنم. بل ربما دخل في ذلك الوحش منها، و الظباء، و حمر الوحش و نحوها، من الصيود. و استدل بعض الصحابة بهذه الآية، على إباحة الجنين، الذي يموت في بطن أمه، بعد ما تذبح. إِلَّا ما يُتْلى‏ عَلَيْكُمْ‏ تحريمه منها في قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ إلى آخر الآية. فإن هذه المذكورات، و إن كانت من بهيمة الأنعام، فإنها محرمة. و لما كانت إباحة بهيمة الأنعام عامة في جميع الأحوال و الأوقات، استثنى منها الصيد في حال الإحرام فقال: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ‏ أي: أحلت لكم بهيمة الأنعام في كل حال، إلا حيث كنتم متصفين بأنكم، غير محلي الصيد، و أنتم حرم، أي: متجرئون على قتله في حال الإحرام، فإن ذلك لا يحل لكم، إذا كان صيدا، كالظباء و نحوه. و الصيد هو: الحيوان المأكول المتوحش. إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ أي: فمهما أراده تعالى، حكم به حكما موافقا لحكمته، كما أمركم بالوفاء بالعقود، لحصول مصالحكم و دفع المضار عنكم. و أحل لكم بهيمة الأنعام، رحمة بكم، و حرم عليكم ما استثنى منها، من ذوات العوارض، من الميتة و نحوها، صونا لكم، و احتراما، و من صيد الإحرام، احتراما للإحرام، و إعظاما.

[2] يقول تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ‏ أي: محرماته، التي أمركم بتعظيمها، و عدم فعلها.

فالنهي يشمل النهي عن فعلها، و النهي عن اعتقاد حلها؛ فهو يشمل النهي، عن فعل القبيح، و عن اعتقاده.

و يدخل في ذلك، النهي عن محرمات الإحرام، و محرمات الحرم. و يدخل في ذلك ما نص عليه بقوله: وَ لَا الشَّهْرَ الْحَرامَ‏ أي: لا تنتهكوه بالقتال فيه و غيره، من أنواع الظلم كما قال تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ‏ . و الجمهور من العلماء، على أن القتال في الأشهر الحرم، منسوخ بقوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 236

وَجَدْتُمُوهُمْ‏ و غير ذلك من العمومات، التي فيها الأمر بقتال الكفار مطلقا، و الوعيد في التخلف عن قتالهم مطلقا.

و بأن النبي صلى اللّه عليه و سلم، قاتل أهل الطائف، في ذي القعدة، و هو من الأشهر الحرم. و قال آخرون: إن النهي عن القتال في الأشهر الحرم، غير منسوخ لهذه الآية و غيرها، مما فيه النهي عن ذلك بخصوصه. و حملوا النصوص المطلقة الواردة على ذلك، و قال: المطلق يحمل على المقيد. و فصل بعضهم فقال: لا يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم، و أما استدامته، و تكميله، إذا كان أوله في غيرها، فإنه يجوز. و حملوا قتال النبي صلى اللّه عليه و سلم، لأهل الطائف على ذلك، لأن أول قتالهم في «حنين» في «شوال». و كل هذا في القتال الذي ليس المقصود منه الدفع. فأما قتال الدفع- إذا ابتدأ الكفار المسلمين بالقتال- فإنه يجوز للمسلمين القتال، دفعا عن أنفسهم، في الشهر الحرام و غيره، بإجماع العلماء. و قوله:

وَ لَا الْهَدْيَ وَ لَا الْقَلائِدَ أي: و لا تحلوا الهدي الذي يهدى إلى بيت اللّه، في حج، أو عمرة، أو غيرها، من نعم و غيرها، فلا تصدوه عن الوصول إلى محله، و لا تأخذوه بسرقة أو غيرها، و لا تقصروا به، أو تحملوه ما لا يطيق، خوفا من تلفه، قبل وصوله إلى محله، بل عظموه، و عظموا من جاء به. وَ لَا الْقَلائِدَ هذا نوع خاص من أنواع الهدي، و هو الهدي الذي يفتل له قلائد أو عرى، فيجعل في أعناقه، إظهارا لشعائر اللّه، و حملا للناس على الاقتداء، و تعليما لهم للسنة، و ليعرف أنه هدي، فيحرم، و لهذا كان تقليد الهدي من السنّة و الشعائر المسنونة.

وَ لَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ‏ أي: قاصدين له‏ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْواناً أي: من قصد هذا البيت الحرام، و قصده فضل اللّه بالتجارة، و المكاسب المباحة، أو قصده رضوان اللّه، بحجة و عمرة، و الطواف به، و الصلاة، و غيرها من أنواع العبادات، فلا تتعرضوا له بسوء، و لا تهينوه، بل أكرموه، و عظموا الوافدين الزائرين لبيت ربكم. و دخل في هذا، الأمر بتأمين الطرق الموصلة إلى بيت اللّه، و جعل القاصدين له، مطمئنين مستريحين، غير خائفين على أنفسهم من القتل فما دونه، و لا على أموالهم من المكس و النهب و نحو ذلك. و هذه الآية الكريمة مخصوصة بقوله تعالى:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا . فالمشرك، لا يمكّن من الدخول إلى الحرم. و التخصيص في هذه الآية، بالنهي عن التعرض لمن قصد البيت، ابتغاء فضل اللّه أو رضوانه- يدل على أن من قصده، ليلحد فيه بالمعاصي، فإن من تمام احترام الحرم، صد من هذه حاله، عن الإفساد ببيت اللّه، كما قال تعالى: وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ‏ . و لما نهاهم عن الصيد في حال الإحرام قال:

وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا أي: إذا حللتم من الإحرام، بالحج و العمرة، حل لكم الاصطياد، و زال ذلك التحريم.

و الأمر بعد التحريم، يرد الأشياء إلى ما كانت عليه من قبل. وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا أي: لا يحملنكم بغض قوم، و عداوتهم، و اعتداؤهم عليكم، حيث صدوكم عن المسجد، على الاعتداء عليهم، طلبا للاشتفاء منهم، فإن العبد عليه أن يلتزم أمر اللّه، و يسلك طريق العدل، و لو جني عليه، أو ظلم، و اعتدي عليه. فلا يحل له أن يكذب على من كذب عليه، أو يخون من خانه. وَ تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوى‏ أي: ليعن بعضكم بعضا على البر. و هو: اسم جامع لكل من يحبه اللّه و يرضاه، من الأعمال الظاهرة و الباطنة، من حقوق اللّه، و حقوق الآدميين. و التقوى في هذا الموضع: اسم جامع، لترك كل ما يكرهه اللّه و رسوله، من الأعمال الظاهرة و الباطنة. و كل خصلة من خصال الخير المأمور بفعلها، أو خصلة من خصال الشر المأمور بتركها، فإن العبد مأمور بفعلها بنفسه، و بمعاونة غيره عليها من إخوانه المؤمنين، بكل قول يبعث عليها، و ينشط لها، و بكل فعل كذلك.

وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ‏ و هو التجري على المعاصي، التي يأثم صاحبها، و يجرح. وَ الْعُدْوانِ‏ هو: التعدي على الخلق، في دمائهم، و أموالهم، و أعراضهم. فكل معصية و ظلم، يجب على العبد، كف نفسه عنه، ثم إعانة غيره على تركه. وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ‏ على من عصاه، و تجرأ على محارمه. فاحذروا المحارم، لئلا يحل بكم عقابه العاجل و الآجل.

تيسير الكريم الرحمن، ص: 237

[3] هذا الذي حولنا اللّه عليه في قوله: إِلَّا ما يُتْلى‏ عَلَيْكُمْ‏ . و اعلم أن اللّه تبارك و تعالى، لا يحرم ما يحرم، إلا صيانة لعباده، و حماية لهم من الضرر الموجود في المحرمات، و قد يبين للعباد ذلك، و قد لا يبين. فأخبر أنه حرم الميتة، و المراد بالميتة: ما فقدت حياته بغير ذكاة شرعية، فإنها تحرم، لضررها، و هو احتقان الدم في جوفها و لحمها، المضر بآكلها. و كثيرا ما تموت بعلة تكون سببا لهلاكها، فتضر بالآكل. و يستثنى من ذلك، ميتة الجراد، و السمك فإنه حلال. وَ الدَّمُ‏ أي: المسفوح، كما قيد في الآية الأخرى. وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ و ذلك شامل لجميع أجزائه. و إنما نص اللّه عليه من بين سائر الخبائث من السباع، لأن طائفة من أهل الكتاب، من النصارى، يزعمون أن اللّه أحله لهم. أي: فلا تغتروا بهم، بل هو محرم من جملة الخبائث. وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ‏ أي: ذكر عليه اسم غير اللّه، من الأصنام، و الأولياء، و الكواكب، و غير ذلك من المخلوقين. فكما أن ذكر اللّه تعالى يطيب الذبيحة، فذكر اسم غيره عليها، يفيدها خبثا معنويا، لأنه شرك باللّه تعالى. وَ الْمُنْخَنِقَةُ أي: الميتة بخنق، بيد، أو حبل، أو إدخال رأسها بشي‏ء ضيق، فتعجز عن إخراجه، حتى تموت. وَ الْمَوْقُوذَةُ أي: الميتة بسبب الضرب، بعصا، أو حصى، أو خشبة، أو هدم شي‏ء عليها، بقصد، أو بغير قصد. وَ الْمُتَرَدِّيَةُ أي: الساقطة من علو، كجبل، أو جدار، أو سطح و نحوه، فتموت بذلك. وَ النَّطِيحَةُ و هي التي تنطحها غيرها فتموت. وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ‏ من ذئب، أو أسد، أو نمر، أو من الطيور التي تفترس الصيود، فإنها إذا ماتت بسبب أكل السبع، فإنها لا تحل. و قوله:

إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ‏ راجع لهذه المسائل، من منخنقة، و موقوذة، و متردية، و نطيحة، و أكيلة سبع، إذا ذكيت و فيها حياة مستقرة لتتحقق الذكاة فيها. و لهذا قال الفقهاء: «لو أبان السبع أو غيره، حشوتها، أو قطع حلقومها، كان وجود حياتها، كعدمها، لعدم فائدة الذكاة فيها». و بعضهم لم يعتبر فيها إلا وجود الحياة، فإذا ذكاها و فيها حياة، حلت، و لو كانت مبانة الحشوة، و هو ظاهر الآية الكريمة. وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ‏ أي: و حرم عليكم الاستقسام بالأزلام. و معنى الاستقسام: طلب ما يقسم لكم، و يقدر بها. و هي قداح ثلاثة، كانت تستعمل في الجاهلية، مكتوب على أحدها «افعل» و على الثاني «لا تفعل» و الثالث «غفل» لا كتابة فيه. فإذا همّ أحدهم بسفر، أو عرس أو نحوهما، أجال تلك القداح المتساوية في الجرم، ثم أخرج واحدا منها. فإن خرج المكتوب عليه «افعل» مضى في أمره. و إن ظهر المكتوب عليه «لا تفعل» لم يفعل و لم يمض في شأنه. و إن ظهر الآخر، الذي لا شي‏ء عليه، أعادها حتى يخرج أحد القدحين، فيعمل به. فحرّم اللّه عليهم الذي في هذه الصورة، و ما يشبهها، و عوضهم عنه، بالاستخارة لربهم، في جميع أمورهم. ذلِكُمْ فِسْقٌ‏ الإشارة لكل ما تقدم من المحرمات، التي حرمها اللّه، صيانة لعباده، و أنها فسق، أي: خروج عن طاعته، إلى طاعة الشيطان. ثم امتنّ على عباده بقوله: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ‏ الآية. و اليوم المشار إليه، يوم عرفة، إذ أتم اللّه دينه، و نصر عبده و رسوله، و انخذل أهل الشرك انخذالا بليغا، بعد ما كانوا حريصين على رد المؤمنين عن دينهم، طامعين في ذلك. فلما رأوا عز الإسلام و انتصاره و ظهوره، يئسوا كل اليأس من المؤمنين، أن يرجعوا إلى دينهم، و صاروا يخافون منهم و يخشون. و لهذا في هذه السنة، التي حج فيها النبي صلى اللّه عليه و سلم سنة عشر حجة الوداع- لم يحجج فيها مشرك، و لم يطف بالبيت عريان. و لهذا قال:

فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ‏ أي: فلا تخشوا المشركين، و اخشوا اللّه، الذي نصركم عليهم، و خذلهم، و رد كيدهم في نحورهم. الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ‏ بتمام النصر، و تكميل الشرائع، الظاهرة و الباطنة، الأصول و الفروع. و لهذا كان الكتاب و السنّة، كافيين كل الكفاية، في أحكام الدين، و أصوله و فروعه. فكل متكلف يزعم، أنه لا بد للناس في معرفة عقائدهم و أحكامهم، إلى علوم، غير علم الكتاب و السنّة، من علم الكلام و غيره، فهو جاهل، مبطل في دعواه، قد زعم أن الدين لا يكمل، إلا بما قاله، و دعا إليه. و هذا من أعظم الظلم و التجهيل للّه و لرسوله. وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي‏ الظاهرة و الباطنة وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً أي: اخترته و اصطفيته لكم دينا، كما ارتضيتكم له.

تيسير الكريم الرحمن، ص: 238

فقوموا به، شكرا لربكم، و احمدوا الذي منّ عليكم، بأفضل الأديان و أشرفها و أكملها. فَمَنِ اضْطُرَّ أي: ألجأته الضرورة إلى أكل شي‏ء من المحرمات السابقة، في قوله:

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ فِي مَخْمَصَةٍ أي: مجاعة غَيْرَ مُتَجانِفٍ‏ أي: مائل‏ لِإِثْمٍ‏ بأن لا يأكل حتى يضطر، و لا يزيد في الأكل على كفايته. فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏ حيث أباح له الأكل في هذه الحال. و رحمه، بما يقيم به بنيته، من غير نقص يلحقه في دينه.

[4] يقول تعالى لنبيه محمد صلى اللّه عليه و سلم: يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ‏ من الأطعمة؟ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ‏ و هي كل ما فيه نفع أو لذة، من غير ضرر بالبدن، و لا بالعقل. فدخل في ذلك، جميع الحبوب، و الثمار، التي في القرى و البراري. و دخل في ذلك، جميع حيوانات البر، إلا ما استثناه الشارع، كالسباع، و الخبائث منها. و لهذا دلت الآية بمفهومها، على تحريم الخبائث، كما صرح به في قوله تعالى: وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ‏ . وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ‏ أي: أحل لكم ما علمتم من الجوارح إلى آخر الآية. دلت هذه الآية على أمور: أحدها: لطف اللّه بعباده، و رحمته لهم، حيث وسع عليهم طرق الحلال، و أباح لهم، ما لم يذكوه، مما صادته الجوارح. و المراد بالجوارح: الكلاب، و الفهود، و الصقر، و نحو ذلك، مما يصيد بنابه، أو بمخلبه. الثاني: أنه يشترط، أن تكون معلمة، بما يعد في العرف تعليما، بأن يسترسل، إذا أرسل، و ينزجر إذا زجر، و إذا أمسك، لم يأكل، و لهذا قال: تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ‏ أي: أمسكن من الصيد لأجلكم. و ما أكل منه الجارح فإنه لا يعلم أنه أمسكه على صاحبه، و لعله أن يكون أمسكه على نفسه. الثالث: اشتراط أن يجرحه الكلب، أو الطير و نحوهما، لقوله: مِنَ الْجَوارِحِ‏ مع ما تقدم من تحريم المنخنقة. فلو خنقه الكلب أو غيره، أو قتله بثقله، لم يبح. هذا بناء على أن الجوارح اللاتي يجرحن الصيد، بأنيابها، أو مخالبها. و المشهور أن الجوارح، بمعنى الكواسب أي: المحصلات للصيد، و المدركات له. فلا يكون فيها- على هذا- دلالة. و اللّه أعلم. الرابع: جواز اقتناء كلب الصيد، كما ورد في الحديث الصحيح، مع أن اقتناء الكلب محرم لأن من لازم إباحة صيده و تعليمه، جواز اقتنائه. الخامس: طهارة ما أصابه فم الكلب، من الصيد، لأن اللّه أباحه، و لم يذكر له غسلا، فدل على طهارته. السادس: فيه فضيلة العلم، و أن الجارح المعلم- بسبب العلم- يباح صيده، و الجاهل بالتعليم، لا يباح صيده. السابع: أن الاشتغال بتعليم الكلب أو الطير أو نحوهما، ليس مذموما، و ليس من العبث و الباطل. بل هو أمر مقصود، لأنه وسيلة لحل صيده، و الانتفاع به.

الثامن: فيه حجة لمن أباح بيع كلب الصيد، قال: لأنه قد لا يحصل له إلا بذلك. التاسع: فيه اشتراط التسمية عند إرسال الجارح، و أنه إن لم يسم اللّه متعمدا، لم يبح ما قتل الجارح. العاشر: أنه يجوز أكل ما صاده الجارح، سواء قتله الجارح، أم لا. و أنه إن أدركه صاحبه، و فيه حياة مستقرة، فإنه لا يباح إلا بها. ثم حث تعالى على تقواه، و حذر من إتيان الحساب في يوم القيامة، و أن ذلك أمر قد دنا، و اقترب فقال: وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ‏ .

صفحه بعد