کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تيسير الكريم الرحمن

سورة الفاتحة سورة آل عمران سورة المائدة سورة الأنعام تفسير سورة الأعراف تفسير سورة الأنفال تفسير سورة التوبة تفسير سورة يونس تفسير سورة هود تفسير سورة الرعد سورة إبراهيم تفسير سورة الحجر سورة النحل سورة الإسراء سورة الكهف تفسير سورة مريم سورة طه تفسير سورة الأنبياء تفسير سورة الحج تفسير سورة المؤمنون تفسير سورة النور تفسير سورة الفرقان تفسير سورة الشعراء تفسير سورة النمل تفسير سورة العنكبوت تفسير سورة الروم تفسير سورة لقمان تفسير سورة السجدة سورة الأحزاب سورة سبأ تفسير سورة فاطر تفسير سورة يس تفسير سورة الصافات تفسير سورة الزمر تفسير سورة فصلت سورة الشورى سورة الزخرف تفسير سورة الدخان سورة الجاثية سورة الأحقاف سورة محمد تفسير سورة الحجرات تفسير سورة ق سورة الطور تفسير سورة النجم سورة القمر سورة الرحمن سورة الواقعة تفسير سورة الحديد تفسير سورة المجادلة تفسير سورة الحشر تفسير سورة الممتحنة تفسير سورة الصف سورة الجمعة تفسير سورة المنافقون تفسير سورة التغابن تفسير سورة الطلاق تفسير سورة التحريم تفسير سورة الملك تفسير سورة القلم سورة الحاقة سورة المعارج سورة نوح سورة الجن تفسير سورة المزمل سورة المدثر تفسير سورة القيامة سورة الإنسان سورة المرسلات تفسير سورة النبأ سورة النازعات سورة عبس تفسير سورة التكوير سورة الإنفطار سورة المطففين تفسير سورة الإنشقاق سورة البروج سورة الطارق سورة الأعلى تفسير سورة الغاشية تفسير سورة الفجر تفسير سورة البلد سورة الشمس سورة الليل تفسير سورة الضحى سورة الشرح سورة التين تفسير سورة العلق سورة القدر تفسير سورة البينة تفسير سورة الزلزلة تفسير سورة العاديات تفسير سورة القارعة سورة التكاثر سورة العصر تفسير سورة الهمزة سورة الفيل تفسير سورة قريش سورة الماعون سورة الكوثر تفسير سورة الكافرون سورة النصر تفسير سورة المسد تفسير سورة الإخلاص سورة الفلق تفسير سورة الناس محتوى تفسير الإمام السعدي

تيسير الكريم الرحمن


صفحه قبل

تيسير الكريم الرحمن، ص: 679

استخلف اللّه عليها العباد، و أعطاهم إياها، بأن يؤتوها الفقراء و غيرهم، ممن ذكرهم اللّه، لمصرف الزكاة. فهذان أكبر الطاعات و أجلها، جامعتان لحقه، و حق خلقه للإخلاص للمعبود، و للإحسان إلى العبيد، ثم عطف عليهما الأمر العام، فقال: وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ‏ و ذلك بامتثال أوامره، و اجتناب نواهيه‏ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ‏ .

لَعَلَّكُمْ‏ حين تقومون بذلك‏ تُرْحَمُونَ‏ فمن أراد الرحمة، فهذا طريقها، و من رجاها من دون إقامة الصلاة، و إيتاء الزكاة، و إطاعة الرسول، فهو متمنّ كاذب، و قد منته نفسه الأماني الكاذبة.

[57] لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ‏ فلا يغررك ما متّعوا به في الحياة الدنيا، فإن اللّه، و إن أمهلهم فإنه لا يهملهم‏ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى‏ عَذابٍ غَلِيظٍ (24). و لهذا قال هنا: وَ مَأْواهُمُ النَّارُ وَ لَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي: بئس المآل، مآل الكافرين، مآل الشر و الحسرة، و العقوبة الأبدية.

[58] أمر المؤمنين أن يستأذنهم مماليكهم، و الّذين لم يبلغوا الحلم منهم. قد ذكر اللّه حكمته و أنه ثلاث عورات للمستأذن عليهم، وقت نومهم بالليل بعد العشاء، و عند انتباههم قبل صلاة الفجر، فهذا- في الغالب- أن النائم يستعمل للنوم في الليل، ثوبا غير ثوبه المعتاد، و أما نوم النهار، فلو كان في الغالب قليلا، قد ينام فيه العبد بثيابه المعتادة، قيده بقوله: وَ حِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ أي: للقائلة، وسط النهار. ففي هذه الأحوال الثلاثة، يكون المماليك و الأولاد الصغار، كغيرهم، لا يمكّنون من الدخول إلا بإذن، و أما ما عدا هذا الأحوال الثلاثة فقال: لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَ لا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَ‏ ، أي: ليسوا كغيرهم: فإنهم يحتاج إليهم دائما، فيشق الاستئذان منهم في كل وقت، و لهذا قال: طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى‏ بَعْضٍ‏ أي: يترددون عليكم في قضاء أشغالكم و حوائجكم. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ‏ بيانا مقرونا بحكمته، ليتأكد و يتقوى و يعرف به رحمة شارعه و حكمته. و لهذا قال: وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏ له العلم، المحيط، بالواجبات، و المستحبات، و الممكنات، و الحكمة التي وضعت كل شي‏ء موضعه، فأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به، و أعطى كل حكم شرعي حكمه اللائق به و منه هذه الأحكام، التي بيّنها و بيّن مآخذها و حسنها.

[59] وَ إِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ‏ و هو إنزال المني يقظة أو مناما، فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ‏ أي: في سائر الأوقات، و الّذين من قبلهم، هم الّذين ذكرهم اللّه بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا الآية. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ‏ و يوضحها، و يفصل أحكامها وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏ . و في هاتين الآيتين فوائد. منها: أن السيد، و ولي الصغير، مخاطبان بتعليم عبيدهم، و من تحت ولايتهم من الأولاد، العلم و الآداب الشرعية، لأن اللّه وجه الخطاب إليهم بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ‏ الآية، فلا يمكن ذلك، إلا بالتعليم و التأديب، و لقوله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَ لا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَ‏ . و منها: الأمر بحفظ العورات، و الاحتياط لذلك من كل وجه، و أن المحل و المكان، الذي هو مظنة لرؤية عورة الإنسان فيه، أنه منهيّ عن الاغتسال فيه، و الاستنجاء، و نحو ذلك. و منها: جواز كشف العورة لحاجة،

تيسير الكريم الرحمن، ص: 680

كالحاجة عند النوم، و عند البول و الغائط، و نحو ذلك. و منها: أن المسلمين كانوا معتادين القيلولة وسط النهار، كما اعتادوا نوم الليل، لأن اللّه خاطبهم، ببيان حالهم الموجودة. و منها: أن الصغير الذي دون البلوغ، لا يجوز أن يمكّن من رؤية العورة، و لا يجوز أن ترى عورته، لأن اللّه لم يأمر باستئذانهم، إلا عن أمر ما يجوز. و منها: أن المملوك أيضا، لا يجوز أن يرى عورة سيده، كما أن سيده، لا يجوز أن يرى عورته، كما ذكرنا في الصغير. و منها أنه ينبغي للواعظ و المعلم و نحوهما، ممن يتكلم في مسائل العلم الشرعي، أن يقرن بالحكم، بيان مأخذه و وجهه، و لا يلقيه مجردا عن الدليل و التعليل، لأن اللّه- لما بيّن الحكم المذكور- علله بقوله: ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ‏ . و منها: أن الصغير و العبد، مخاطبان، كما أن وليهما مخاطب لقوله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَ لا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَ‏ . و منها: أن ريق الصبي طاهر، و لو كان بعد نجاسة، كالقي‏ء لقوله تعالى: طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ‏ مع قول النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، حين سئل عن الهرة «إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم و الطوافات». و منها: جواز استخدام الإنسان من تحت يده، من الأطفال على وجه معتاد، لا يشق على الطفل لقوله: طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ‏ . و منها: أن الحكم المذكور المفصل، إنّما هو لما دون البلوغ، و أما ما بعد البلوغ، فليس إلا الاستئذان.

و منها: أن البلوغ يحصل بالإنزال، فكل حكم شرعي رتب على البلوغ، حصل بالإنزال، و هذا مجمع عليه، و إنّما الخلاف، هل يحصل البلوغ بالسن، أو الإنبات للعانة، و اللّه أعلم.

[60] وَ الْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاتي قعدن عن الاستمتاع و الشهوة اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً أي: لا يطمعن في النكاح، و لا يطمع فيهن، و ذلك لكونها عجوزا لا تشتهى و لا تشتهي، أو دميمة الخلقة، لا تشتهى، فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ‏ أي: حرج و إثم‏ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَ‏ أي: الثياب الظاهرة، كالخمار و نحوه، الذي قال اللّه فيه للنساء: وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى‏ جُيُوبِهِنَ‏ . فهؤلاء، يجوز لهن، أن يكشفن وجوههن، لأمن المحذور منها و عليها، و لما كان نفي الحرج عنهن، في وضع الثياب، ربما توهم منه جواز استعمالها لكل شي‏ء، دفع هذا الاحتراز بقوله:

غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ أي: غير مظهرات للناس، زينة من تجمل بثياب ظاهرة، و تستر وجهها، و من ضرب الأرض، ليعلم ما تخفي من زينتها، لأن مجرد الزينة على الأنثى، و لو مع تسترها، و لو كانت لا تشتهى- يفتتن فيها، و يوقع الناظر إليها في الحرج. وَ أَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَ‏ . و الاستعفاف: طلب العفة، بفعل الأسباب المقتضية لذلك، من تزوج و ترك لما يخشى منه الفتنة. وَ اللَّهُ سَمِيعٌ‏ لجميع الأصوات‏ عَلِيمٌ‏ بالنيات و المقاصد، فليحذرن من كل قول و قصد فاسد و ليعلمن أن اللّه يجازي على ذلك.

[61] يخبر تعالى، عن منّته على عباده، و أنه لم يجعل عليهم في الدين من حرج بل يسّره غاية التيسير فقال: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى‏ حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ‏ ، أي: ليس على هؤلاء جناح، في ترك الأمور الواجبة، التي تتوقف على واحد منها. و ذلك كالجهاد و نحوه، مما يتوقف على بصر الأعمى، أو سلامة الأعرج أو صحة المريض، و لهذا المعنى العام، الذي ذكرناه، أطلق الكلام في ذلك، و لم يقيد، كما قيد قوله. وَ لا عَلى‏ أَنْفُسِكُمْ‏ أي: حرج‏ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ‏ أي: بيوت أولادكم، و هذا موافق للحديث الثابت «أنت و مالك لأبيك» و الحديث الآخر «إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، و إن أولادكم من كسبكم». و ليس المراد من قوله: مِنْ بُيُوتِكُمْ‏ بيت الإنسان نفسه، فإن هذا من باب تحصيل الحاصل، الذي ينزه عنه كلام اللّه، و لأنه نفى الحرج عما يظن أو يتوهم فيه الإثم، من هؤلاء المذكورين، و أما بيت الإنسان نفسه، فليس فيه أدنى توهم. أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ‏ و هؤلاء معروفون. أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ‏ أي: البيوت التي أنتم متصرفون فيها بوكالة، أو ولاية و نحو ذلك، و أما تفسيرها بالمملوك، فليس بوجيه، لوجهين: أحدهما: أن المملوك، لا يقال فيه «ملكت مفاتحه»،

تيسير الكريم الرحمن، ص: 681

بل يقال: «ما ملكتموه» أو «ما ملكت أيمانكم» لأنهم مالكون له جملة، لا لمفاتحه فقط. و الثاني: أن بيوت المماليك، غير خارجة عن بيت الإنسان نفسه، لأن المملوك، و ما ملكه، لسيده فلا وجه لنفي الحرج عنه. أَوْ صَدِيقِكُمْ‏ و هذا الحرج المنفي من الأكل، من هذه البيوت كل ذلك، إذا كان بدون إذن، و الحكمة فيه، معلومة من السياق، فبيوت هؤلاء المسمين، قد جرت العادة و العرف، بالمسامحة في الأكل منها، لأجل القرابة القريبة، أو التصرف التام، أو الصداقة، فلو قدّر في أحد من هؤلاء عدم المسامحة و الشح في الأكل المذكور، لم يجز الأكل، و لم يرتفع الحرج، نظرا للحكمة و المعنى. و قوله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فكل ذلك جائز. أكل أهل البيت الواحد جميعا، أو أكل كل واحد منهم وحده. و هذا نفي للحرج، لا نفي للفضيلة، و إلا، فالأفضل، الاجتماع على الطعام. فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً نكرة في سياق الشرط، يشمل بيت الإنسان، و بيت غيره، سواء كان في البيت، ساكن أم لا، فإن دخلها الإنسان‏ فَسَلِّمُوا عَلى‏ أَنْفُسِكُمْ‏ أي: فليسلم بعضكم على بعض، لأن المسلمين، كأنهم شخص واحد، من توادهم، و تراحمهم، و تعاطفهم. فالسلام مشروع، لدخول سائر البيوت، من غير فرق، بين بيت و بيت، و الاستئذان تقدم أن فيه تفصيلا في أحكامه، ثمّ مدح هذا السّلام فقال: تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً أي: سلامكم بقولكم: «السّلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته» أو «السّلام علينا و على عباد اللّه الصالحين» إذ تدخلون البيوت. تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ‏ أي: قد شرعها لكم، و جعلها تحيتكم، مُبارَكَةً لاشتمالها على السلامة من النقص، و حصول الرحمة، و البركة، و النماء، و الزيادة، طَيِّبَةً لأنها من الكلم الطيب المحبوب عند اللّه، الذي فيه طيب نفس للمحيا، و محبة، و جلب مودة. لما بين لنا هذه الأحكام الجليلة قال: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ‏ الدالات على أحكامه الشرعية و حكمها. لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏ عنه، فتفهمونها، و تعقلونها بقلوبكم، و لتكونوا من أهل العقول و الألباب الرزينة، فإن معرفة أحكامه الشرعية، على وجهها، يزيد في العقل، و ينمو به اللب، لكون معانيها، أجل المعاني، و آدابها أجل الآداب، و لأن الجزاء، من جنس العمل، فكما استعمل عقله، للعقل عن ربه، و للتفكر في آياته، التي دعاه إليها، زاده من ذلك. و في هذه الآيات دليل على قاعدة عامة كلية و هي: أن «العرف و العادة مخصص للألفاظ، كتخصيص اللفظ للفظ». فإن الأصل، أن الإنسان، ممنوع من تناول طعام غيره، مع أن اللّه أباح الأكل من بيوت هؤلاء، للعرف و العادة. فكل مسألة، تتوقف على الإذن من مالك الشي‏ء، إذا علم إذنه بالقول، أو العرف، جاز الإقدام عليه. و فيها دليل، على أن الأب، يجوز له أن يأخذ و يتملك، من مال ولده، ما لا يضره، لأن اللّه سمى بيته، بيتا للإنسان. و فيها دليل على أن المتصرف في بيت الإنسان، كزوجته، و أخته و نحوهما، يجوز لهما، الأكل عادة، و إطعام السائل المعتاد. و فيها دليل، على جواز المشاركة في الطعام، سواء أ كانوا مجتمعين، أو متفرقين، و لو أفضى ذلك إلى أن يأكل بعضهم أكثر من بعض.

[62] هذا إرشاد من اللّه، لعباده المؤمنين، أنهم إذا كانوا مع الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، على أمر جامع، أي: من ضرورته أو

تيسير الكريم الرحمن، ص: 682

مصلحته، أن يكونوا فيه جميعا، كالجهاد، و المشاورة، و نحو ذلك من الأمور التي يشترك فيها المؤمنون، فإن المصلحة، تقتضي اجتماعهم عليه، و عدم تفرقهم. فالمؤمن باللّه و رسوله حقا، لا يذهب لأمر من الأمور، و لا يرجع لأهله، و لا يذهب لبعض الحوائج، التي يشذ بها عنهم، إلا بإذن من الرسول، أو نائبه من بعده. فجعل موجب الإيمان، عدم الذهاب إلا بإذن، و مدحهم على فعلهم هذا، و أدبهم مع رسوله، و ولي الأمر منهم فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ‏ ، و لكن هل يأذن لهم أم لا؟ ذكر لإذنه شرطين: أحدهما: أن يكون لشأن من شؤونهم، و شغل من أشغالهم، فأما من يستأذن من غير عذر، فلا يؤذن له. و الثاني: أن يشاء الإذن فتقتضيه المصلحة، من دون مضرة بالإذن فلذلك قال: فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ‏ ، فإذا كان له عذر و استأذن، فإن كان في قعوده و عدم ذهابه، مصلحة برأيه، أو شجاعته، و نحو ذلك، لم يأذن له. و مع هذا إذا استأذن، و أذن له بشرطيه، أمر اللّه رسوله، أن يستغفر له، لما عسى أن يكون مقصرا في الاستئذان و لهذا قال: وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏ يغفر لهم الذنوب، و يرحمهم، بأن جوز لهم الاستئذان مع العذر.

[63] لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً فإذا دعاكم فأجيبوه وجوبا، حتى إنه تجب إجابة الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، في حال الصلاة، و ليس أحد إذا قال قولا، يجب على الأمة قبول قوله، و العمل به، إلا الرسول، لعصمته، و كوننا مخاطبين باتباعه، قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ‏ ، و كذلك لا تجعلوا دعاءكم للرسول كدعاء بعضكم بعضا، فلا تقولوا: «يا محمد» عند ندائكم، أو «يا محمد بن عبد اللّه» كما يقول ذلك بعضكم لبعض، بل من شرفه و فضله و تميزه صلّى اللّه عليه و سلّم عن غيره، أن يقال: يا رسول اللّه، يا نبي اللّه.

قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً لما مدح المؤمنين بالله و رسوله، الّذين إذا كانوا معه على أمر جامع، لم يذهبوا حتى يستأذنوه، توعد من لم يفعل ذلك، و ذهب من غير استئذان. فهو و إن خفي عليكم بذهابه على وجه خفي و هو المراد بقوله‏ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً أي: يلوذون وقت تسللهم و انطلاقهم، بشي‏ء يحجبهم عن العيون، فاللّه يعلمهم و سيجازيهم على ذلك، أتم الجزاء، و لهذا توعدهم بقوله: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ‏ أي:

يذهبون إلى بعض شؤونهم عن أمر اللّه و رسوله، فكيف بمن لم يذهب إلى شأن من شؤونه؟ و إنّما ترك أمر اللّه، من دون شغل له. أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أي: شرك و شر أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ‏ .

[64] أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ‏ ملكا و عبيدا، يتصرف فيهم بحكمه القدري، و حكمه الشرعي.

قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ‏ أي: قد أحاط علمه، بما أنتم عليه، من خير، و شر، و علم جميع أعمالكم، أحصاها علمه، و جرى بها قلمه، و كتبتها عليكم الحفظة الكرام الكاتبون. وَ يَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ‏ أي: يوم القيامة فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يخبرهم بجميع أعمالهم، دقيقها، و جليلها، إخبارا مطابقا، لما وقع منهم و يستشهد عليهم، أعضاءهم، فلا يعدمون منه فضلا، أو عدلا. و لما قيد علمه بأعمالهم، ذكر العموم بعد الخصوص، فقال: وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ‏ . تم تفسير سورة النور و للّه الحمد و الشكر.

تفسير سورة الفرقان‏

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

[1] هذا بيان لعظمته الكاملة، و تفرده بالوحدانية من كل وجه، و كثرة خيراته و إحسانه، فقال: تَبارَكَ‏ أي:

تيسير الكريم الرحمن، ص: 683

تعاظم، و كملت أوصافه، و كثرت خيراته، الَّذِي‏ من أعظم خيراته و نعمه، أن‏ نَزَّلَ الْفُرْقانَ‏ الفارق بين الحلال و الحرام، و الهدى و الضلال، و أهل السعادة من أهل الشقاوة. عَلى‏ عَبْدِهِ‏ محمد صلّى اللّه عليه و سلّم الذي كمل مراتب العبودية، و فاق جميع المرسلين. لِيَكُونَ‏ ذلك الإنزال للفرقان على عبده‏ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً ، ينذرهم بأس اللّه و نقمه، و يبين لهم، مواقع رضا اللّه من سخطه، حتى إن من قبل نذارته، و عمل بها، كان من الناجين في الدنيا و الآخرة، الّذين حصلت لهم السعادة الأبدية، و الملك السرمدي. فهل فوق هذه النعمة، و هذا الفضل و الإحسان، شي‏ء؟ فتبارك الذي هذا بعض إحسانه و بركاته.

[2] الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ‏ أي: له التصرف فيهما وحده، و جميع من فيهما، مماليك و عبيد له، مذعنون لعظمته، خاضعون لربوبيته، فقراء إلى رحمته، الذي‏ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ‏ . و كيف يكون له ولد، أو شريك، و هو المالك، و غيره مملوك، و هو القاهر، و غيره مقهور، و هو الغني بذاته، من جميع الوجوه، و المخلوقون، مفتقرون إليه، فقراء من جميع الوجوه؟ و كيف يكون له شريك في الملك، و نواصي العباد كلهم بيديه، فلا يتحركون أو يسكنون، و لا يتصرفون، إلا بإذنه، فتعالى اللّه عن ذلك، علوا كبيرا، فلم يقدره حق قدره، من قال فيه ذلك، و لهذا قال: وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ شمل العالم العلوي، و العالم السفلي، من حيواناته، و نباتاته، و جماداته. فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً أي: أعطى كل مخلوق منها، ما يليق به، و يناسبه من الخلق، و ما تقتضيه حكمته، من ذلك، بحيث صار كل مخلوق، لا يتصور العقل الصحيح، أن يكون بخلاف شكله، و صورته المشاهدة، بل كل جزء و عضو من المخلوق الواحد، لا يناسبه غير محله، الذي هو فيه. قال تعالى:

سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى‏ (3)، و قال تعالى: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى‏ .

[3] و لما بين كماله و عظمته، و كثرة إحسانه، كان ذلك مقتضيا لأن يكون وحده، المحبوب المألوه، المعظم، المفرد بالإخلاص وحده، لا شريك له- ناسب أن يذكر بطلان عبادة ما سواه فقال: وَ اتَّخَذُوا إلى قوله: وَ لا نُشُوراً . أي: من أعجب العجائب، و أول الدليل على سفههم، و نقص عقولهم، بل أدل على ظلمهم، و جراءتهم على ربهم، أن اتخذوا آلهة بهذه الصفة و بلغ من عجزها، أنها لا تقدر على خلق شي‏ء، بل هم مخلوقون، بل بعضهم مما عملته أيديهم. وَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً أي: لا قليلا و لا كثيرا، لأنه نكرة في سياق النفي فتعم.

وَ لا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لا حَياةً وَ لا نُشُوراً أي: بعثا بعد الموت، فأعظم أحكام العقل، بطلان إلهيتها، و فسادها، و فساد عقل من اتخذها آلهة، و شركاء للخالق لسائر المخلوقات، من غير مشاركة له، في ذلك الذي بيده النفع و الضر، و العطاء و المنع، الذي يحيي و يميت، و يبعث من في القبور، و يجمعهم يوم النشور، و قد جعل لهم دارين، دار الشقاء، و الخزي، و النكال، لمن اتخذ معه آلهة أخرى، و دار الفوز و السعادة، و النعيم المقيم، لمن اتخذه وحده، معبودا.

[4] و لما قرر بالدليل القاطع الواضح، صحة التوحيد و بطلان ضده، قرر صحة الرسالة، و بطلان قول من‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 684

عارضها و اعترضها فقال: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى‏ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً . أي: و قال الكافرون باللّه، الذي أوجب لهم كفرهم، أن قالوا في القرآن و الرسول: إن هذا القرآن كذب، كذبه محمد، و إفك، افتراه على اللّه، و أعانه على ذلك قوم آخرون. فرد اللّه عليهم ذلك، بأن هذا مكابرة منهم، و إقدام على الظلم و الزور، الذي لا يمكن، أن يدخل عقل أحد، و هم أشد الناس معرفة بحالة الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، و كمال صدقه، و أمانته، و بره التام، و أنه لا يمكنه، لا هو، و لا سائر الخلق، أن يأتوا بهذا القرآن، الذي هو أجل الكلام و أعلاه، و أنه لم يجتمع بأحد يعينه، على ذلك، فقد جاؤوا بهذا القول ظلما و زورا.

[5] وَ من جملة أقاويلهم فيه، أن‏ قالُوا : هذا الذي جاء به محمد أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها أي: هذا قصص الأولين و أساطيرهم، التي تتلقاها الأفواه، و ينقلها كل أحد، استنسخها محمد فَهِيَ تُمْلى‏ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا و هذا القول منهم، فيه عدة عظائم: منها: رميهم الرسول، الذي هو أبر الناس و أصدقهم، بالكذب، و الجرأة العظيمة. و منها: إخبارهم عن هذا القرآن، الذي هو أصدق الكلام و أعظمه، و أجله، بأنه كذب و افتراء. و منها: أن في ضمن ذلك، أنهم قادرون أن يأتوا بمثله، و أن يضاهي المخلوق الناقص من كل وجه، للخالق الكامل من كل وجه، بصفة من صفاته، و هي الكلام. و منها: أن الرسول، قد علمت حاله، و هم أشد الناس علما بها، أنه لا يكتب، و لا يجتمع بمن يكتب له، و هم قد زعموا ذلك.

[6] فلذلك رد عليهم ذلك بقوله: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ‏ أي: أنزله من أحاط علمه بما في السموات، و ما في الأرض، من الغيب و الشهادة، و الجهر و السر، لقوله: وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى‏ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ‏ (194). و وجه إقامة الحجة عليهم، أن الذي أنزله، هو المحيط علمه بكل شي‏ء فيستحيل و يمتنع، أن يقول مخلوق، و يتقول عليه، هذا القرآن، و يقول: هو من عند اللّه، و ما هو من عنده، و يستحل دماء من خالفه، و أموالهم، و يزعم أن اللّه قال له ذلك. و اللّه يعلم كل شي‏ء، و مع ذلك فهو يؤيده و ينصره على أعدائه، و يمكنه من رقابهم و بلادهم، فلا يمكن أحدا أن ينكر هذا القرآن، إلا بعد إنكار علم اللّه. و هذا لا تقول به طائفة من بني آدم، سوى الفلاسفة الدهرية. و أيضا، فإن ذكر علمه تعالى العام، ينبههم، و يحضهم على تدبر القرآن، و أنهم لو تدبروا، لرأوا فيه، من علمه و أحكامه، ما يدل دلالة قاطعة، على أنه لا يكون إلا من عالم الغيب و الشهادة. و مع إنكارهم للتوحيد و الرسالة من لطف اللّه بهم، أنه لم يدعهم و ظلمهم، بل دعاهم إلى التوبة و الإنابة إليه، و وعدهم بالمغفرة و الرحمة، إن هم تابوا، و رجعوا فقال: إِنَّهُ كانَ غَفُوراً أي: وصفه المغفرة، لأهل الجرائم و الذنوب، إذا فعلوا أسباب المغفرة، و هي: الرجوع عن معاصيه، و التوبة منها. رَحِيماً بهم، حيث لم يعاجلهم بالعقوبة، و قد فعلوا مقتضاها، و حيث قبل توبتهم بعد المعاصي، و حيث محا، ما سلف من سيئاتهم، و حيث قبل حسناتهم، و حيث أعاد الراجع إليه بعد شروده، و المقبل عليه بعد إعراضه، إلى حالة المطيعين المنيبين إليه.

تيسير الكريم الرحمن، ص: 685

[7] هذا من مقالة المكذبين للرسول، الذين قدحوا في رسالته، و هو: أنهم اعترضوا بأنه، هلا كان ملكا أو ملكا، أو يساعده ملك، ف: قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ‏ أي: ما لهذا الذي ادعى الرسالة؟ تهكما منهم و استهزاء.

يَأْكُلُ الطَّعامَ‏ و هذا من خصائص البشر، فهلا كان ملكا، لا يأكل الطعام، و لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه البشر.

وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ‏ للبيع و الشراء، و هذا- بزعمهم- لا يليق بمن يكون رسولا، مع أن اللّه قال: وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَ يَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ‏ . لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ‏ أي: هلا أنزل معه ملك يساعده و يعاونه. فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً و بزعمهم أنه غير كاف للرسالة، و لا بطوقه و قدرته القيام بها.

[8] أَوْ يُلْقى‏ إِلَيْهِ كَنْزٌ أي: مال مجموع من غير تعب. أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها فيستغني بذلك عن مشيه في الأسواق لطلب الرزق. وَ قالَ الظَّالِمُونَ‏ حملهم على القول، ظلمهم لا اشتباه منهم. إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً هذا، و قد علموا كمال عقله، و حسن حديثه، و سلامته من جميع المطاعن.

[9] و لما كانت هذه الأقوال منهم، عجيبة جدا، قال تعالى: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ‏ و هي: هل كان ملكا، و زالت عنه خصائص البشر؟ أو معه ملك، لأنه غير قادر على ما قال، أو أنزل عليه كنز، أو جعلت له جنة تغنيه عن المشي في الأسواق، أو أنه كان مسحورا. فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا قالوا: أقوالا متناقضة، كلها جهل، و ضلال، و سفه، ليس في شي‏ء منها هداية، بل و لا في شي‏ء منها أدنى شبهة، تقدح في الرسالة. فبمجرد النظر إليها و تصورها، يجزم العاقل ببطلانها، و يكفيه عن ردها. و لهذا أمر تعالى بالنظر إليها، و تدبرها، و النظر: هل توجب التوقف عن الجزم للرسول بالرسالة و الصدق؟ و لهذا أخبر أنه قادر على أن يعطيه خيرا كثيرا في الدنيا فقال:

[10] تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ‏ أي: خيرا مما قالوا، ثمّ فسره بقوله: جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَ يَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً مرتفعة مزخرفة، فقدرته و مشيئته، لا تقصر عن ذلك، و لكنه تعالى- لما كانت الدنيا عنده في غاية البعد و الحقارة- أعطى منها أولياءه و رسله، ما اقتضته حكمته منها. و اقتراح أعدائهم بأنهم، هلا رزقوا منها رزقا كثيرا جدا، ظلم و جراءة.

[11] و لما كانت تلك الأقوال، التي قالوها، معلومة الفساد، و أخبر تعالى أنها لم تصدر منهم لطلب الحقّ، و لا لاتباع البرهان، و إنّما صدرت منهم تعنتا و ظلما، و تكذيبا بالحق، قالوا ما في قلوبهم من ذلك، و لهذا قال: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ ، و المكذب المتعنت، الذي ليس له قصد في اتباع الحقّ، لا سبيل إلى هدايته، و لا حيلة في مجادلته و إنّما له حيلة واحدة، و هي نزول العذاب به، فلهذا قال: وَ أَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً أي: نارا عظيمة، قد اشتد سعيرها، و تغيظت على أهلها، و اشتد زفيرها.

[12] إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ أي: قبل وصولهم، و وصولها إليهم‏ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً عليهم‏ وَ زَفِيراً تقلق منهم الأفئدة، و تتصدع القلوب، و يكاد الواحد منهم، يموت خوفا منها، و ذعرا، قد غضبت عليهم، لغضب خالقها، و قد زاد لهبها، لزيادة كفرهم و شرهم.

[13] وَ إِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ‏ أي: وقت عذابهم، و هم في وسطها، جمع في مكان بين ضيق المكان، و تزاحم السكان و تقرينهم بالسلاسل و الأغلال. فإذا وصلوا لذلك المكان النحس، و حبسوا في أشر حبس‏ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً دعوا على أنفسهم بالثبور، و الخزي و الفضيحة، و علموا أنهم ظالمون معتدون، قد عدل فيهم الخالق، حيث أنزلهم بأعمالهم هذا المنزل، و ليس ذلك الدعاء و الاستغاثة بنافعة لهم، و لا مغنية من عذاب اللّه.

[14] بل يقال لهم: لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَ ادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14) أي: لو زاد ما قلتم أضعاف أضعافه، ما أفادكم إلا الهم، و الغم، و الحزن.

صفحه بعد