کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تيسير الكريم الرحمن

سورة الفاتحة سورة آل عمران سورة المائدة سورة الأنعام تفسير سورة الأعراف تفسير سورة الأنفال تفسير سورة التوبة تفسير سورة يونس تفسير سورة هود تفسير سورة الرعد سورة إبراهيم تفسير سورة الحجر سورة النحل سورة الإسراء سورة الكهف تفسير سورة مريم سورة طه تفسير سورة الأنبياء تفسير سورة الحج تفسير سورة المؤمنون تفسير سورة النور تفسير سورة الفرقان تفسير سورة الشعراء تفسير سورة النمل تفسير سورة العنكبوت تفسير سورة الروم تفسير سورة لقمان تفسير سورة السجدة سورة الأحزاب سورة سبأ تفسير سورة فاطر تفسير سورة يس تفسير سورة الصافات تفسير سورة الزمر تفسير سورة فصلت سورة الشورى سورة الزخرف تفسير سورة الدخان سورة الجاثية سورة الأحقاف سورة محمد تفسير سورة الحجرات تفسير سورة ق سورة الطور تفسير سورة النجم سورة القمر سورة الرحمن سورة الواقعة تفسير سورة الحديد تفسير سورة المجادلة تفسير سورة الحشر تفسير سورة الممتحنة تفسير سورة الصف سورة الجمعة تفسير سورة المنافقون تفسير سورة التغابن تفسير سورة الطلاق تفسير سورة التحريم تفسير سورة الملك تفسير سورة القلم سورة الحاقة سورة المعارج سورة نوح سورة الجن تفسير سورة المزمل سورة المدثر تفسير سورة القيامة سورة الإنسان سورة المرسلات تفسير سورة النبأ سورة النازعات سورة عبس تفسير سورة التكوير سورة الإنفطار سورة المطففين تفسير سورة الإنشقاق سورة البروج سورة الطارق سورة الأعلى تفسير سورة الغاشية تفسير سورة الفجر تفسير سورة البلد سورة الشمس سورة الليل تفسير سورة الضحى سورة الشرح سورة التين تفسير سورة العلق سورة القدر تفسير سورة البينة تفسير سورة الزلزلة تفسير سورة العاديات تفسير سورة القارعة سورة التكاثر سورة العصر تفسير سورة الهمزة سورة الفيل تفسير سورة قريش سورة الماعون سورة الكوثر تفسير سورة الكافرون سورة النصر تفسير سورة المسد تفسير سورة الإخلاص سورة الفلق تفسير سورة الناس محتوى تفسير الإمام السعدي

تيسير الكريم الرحمن


صفحه قبل

تيسير الكريم الرحمن، ص: 1062

توحيده، و لهذا قال:

[12] لِنَجْعَلَها ، أي: الجارية، و المراد جنسها تَذْكِرَةً تذكّركم أول سفينة صنعت، و ما قصتها، و كيف نجى اللّه عليها من آمن به، و اتبع رسوله، و أهلك أهل الأرض كلها، فإن جنس الشي‏ء مذكّر بأصله. و قوله:

وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ أي: يعقلها أولو الألباب، و يعرفون المقصود منها و وجه الآية بها. و هذا، بخلاف أهل الإعراض و الغفلة، و أهل البلادة و عدم الفطنة، فإنهم ليس لهم انتفاع بآيات اللّه، لعدم وعيهم عن اللّه، و تفكرهم بآياته.

[13] لما ذكر تعالى ما فعله بالمكذبين لرسله، و كيف جازاهم، و عجل لهم العقوبة في الدنيا، و أن اللّه نجّى الرسل و أتباعهم، كان هذا مقدمة للجزاء الأخروي، و توفية الأعمال كاملة يوم القيامة. فذكر الأمور الهائلة الّتي تقع أمام يوم القيامة، و أن أول ذلك أنه ينفخ إسرافيل‏ فِي الصُّورِ إذا تكاملت الأجساد نابتة. نَفْخَةٌ واحِدَةٌ فخرجت الأرواح، فتدخل كلّ روح في جسدها، فإذا الناس قيام لرب العالمين.

[14] وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14)، أي: فتتت الجبال، و اضمحلت، و خلطت بالأرض، و نسفت عليها، فكان الجميع قاعا صفصفا، لا ترى فيها عوجا و لا أمتا، هذا ما يصنع بالأرض و ما عليها.

[16] و أما ما يصنع بالسماء، فإنها تضطرب و تمور و تشقق و يتغير لونها، و تهي بعد تلك الصلابة و القوة العظيمة، و ما ذاك إلا لأمر عظيم أزعجها، و كرب جسيم هائل، أوهاها و أضعفها.

[17] وَ الْمَلَكُ‏ ، أي:

الملائكة الكرام‏ عَلى‏ أَرْجائِها ، أي: على جوانب السماء و أركانها، خاضعين لربهم، مستكينين لعظمته. وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ أملاك في غاية القوة، إذا أتى للفصل بين العباد و القضاء بينهم، بعدله و قسطه و فضله.

[18] و لهذا قال: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ‏ على اللّه‏ لا تَخْفى‏ مِنْكُمْ خافِيَةٌ لا من أجسادكم و ذواتكم، و لا من أعمالكم و صفاتكم، فإن اللّه تعالى عالم الغيب و الشهادة. و يحشر العباد حفاة، عراة، غرلا، في أرض مستوية، يسمعهم الداعي و ينفذهم البصر، فحينئذ يجازيهم بما عملوا.

[19] و لهذا ذكر كيفية الجزاء، فقال: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ‏ إلى: الْخالِيَةِ . و هؤلاء هم أهل السعادة، يعطون كتبهم الّتي فيها أعمالهم الصالحة بأيمانهم، تمييزا لهم، و تنويها بشأنهم، و رفعا لمقدارهم. و يقول أحدهم عند ذلك من الفرح و السرور، و محبة أن يطلع الخلق على ما منّ اللّه عليه به من الكرامة: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ‏ ، أي: دونكم كتابي، فاقرأوه، فإنه يبشر بالجنات، و أنواع الكرامات، و مغفرة الذنوب، و ستر العيوب. و الذي أوصلني إلى هذه الحال، ما منّ اللّه به عليّ من الإيمان بالبعث و الحساب، و الاستعداد له، بالممكن من العلم، و لهذا قال:

[20] إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ‏ (20)، أي: أيقنت، فالظن- هنا- بمعنى اليقين.

[21] فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21)، أي:

جامعة لما تشتهيه الأنفس، و تلذ الأعين، و قد رضوها، و لم يختاروا عليها غيرها.

[22] فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22) المنازل و القصور، عالية المحل.

[23] قُطُوفُها دانِيَةٌ (23)، أي: ثمرها و جناها، من أنواع الفواكه، قريبة، سهلة التناول على أهلها، ينالها أهلها، قياما و قعودا و متكئين.

[24] و يقول لهم إكراما: كُلُوا وَ اشْرَبُوا ، أي: من كل‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 1063

طعام لذيذ، و شراب شهيّ. هَنِيئاً ، أي: تاما كاملا، من غير مكدر، و لا منغص. و ذلك الجزاء حاصل لكم‏ بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ من الأعمال الصالحة، من صلاة، و صيام، و صدقة، و حج، و إحسان إلى الخلق، و ذكر اللّه، و إنابة إليه، و ترك الأعمال السيئة. فالأعمال جعلها اللّه سببا لدخول الجنة، و مادة لنعيمها، و أصلا لسعادتها.

[25] هؤلاء هم أهل الشقاء، يعطون كتبهم المشتملة على أعمالهم السيئة بشمالهم، تمييزا لهم، و خزيا، و عارا، و فضيحة. فيقول أحدهم من الهم، و الغم، و الحزن:

يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ‏ لأنه يبشر بدخول النار، و الخسارة الأبدية.

[26] وَ لَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ‏ (26)، أي: ليتني كنت نسيا منسيا، و لم أبعث و أحاسب، و لهذا قال:

[27] يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27)، أي: يا ليت موتتي هي الموتة، الّتي لا بعث بعدها.

[28] ثمّ التفت إلى ماله و سلطانه، فإذا هو و بال عليه، لم يقدم منه لآخرته، و لا ينفعه لو افتدى به من العذاب شيئا، فيقول: ما أَغْنى‏ عَنِّي مالِيَهْ‏ (28)، أي: ما نفعني في الدنيا، لأني لم أقدم منه شيئا، و لا في الآخرة، قد ذهب وقت نفعه.

[29] هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ‏ (29)، أي:

ذهب و اضمحل، فلم تنفع الجنود و لا الكثرة، و لا العدد و لا العدد، و لا الجاه العريض، بل ذهب كله أدراج الرياح، و فاتت بسببه المتاجر و الأرباح، و حضرت بدله الهموم و الغموم و الأتراح.

[30] فحينئذ يؤمر بعذابه فيقال للزبانية الغلاظ الشداد: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ‏ (30)، أي: اجعلوا في عنقه غلا يخنقه.

[31] ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ‏ (31)، أي: قلبوه على جمرها و لهبها.

[32] ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً من سلاسل الجحيم في غاية الحرارة، فَاسْلُكُوهُ‏ ، أي: انظموه فيها بأن تدخل في دبره، و تخرج من فمه، و يعلق فيها. فلا يزال يعذب هذا العذاب الفظيع، فبئس العذاب و العقاب، و وا حسرة له من التوبيخ و العتاب، فإن السبب الذي أوصله إلى هذا المحل:

[33] إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ‏ (33)، بأن كان كافرا بربه، معاندا لرسله، رادّا ما جاءوا به من الحقّ.

[34] وَ لا يَحُضُّ عَلى‏ طَعامِ الْمِسْكِينِ‏ (34)، أي: ليس في قلبه رحمة، يرحم بها الفقراء و المساكين، فلا يطعمهم من ماله، و لا يحض غيره على إطعامهم، لعدم الوازع في قلبه. و ذلك لأن مدار السعادة و مادتها أمران: الإخلاص للّه، الذي أصله الإيمان باللّه، و الإحسان إلى الخلق، بجميع وجوه الإحسان، الّتي من أعظمها، دفع ضرورة المحتاجين، بإطعامهم ما يتقوتون به، و هؤلاء لا إخلاص و لا إحسان، فلذلك استحقوا ما استحقوا.

[35] فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا ، أي: يوم القيامة حَمِيمٌ‏ ، أي: قريب أو صديق، يشفع له، لينجو من عذاب اللّه، أو يفوز بثوابه: وَ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ‏ ، ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لا شَفِيعٍ يُطاعُ‏ .

[36] وَ لا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ‏ (36) و هو صديد أهل النار، الذي هو في غاية الحرارة و المرارة، و نتن الريح، و قبح الطعم.

[37] لا يأكل هذا الطعام الذميم‏ إِلَّا الْخاطِؤُنَ‏ الّذين أخطأوا الصراط المستقيم، و سلكوا كلّ طريق يوصلهم إلى الجحيم، فلذلك استحقوا العذاب الأليم.

[38] أقسم تعالى، بما يبصر الخلق من جميع الأشياء، و ما لا يبصرونه.

[39- 42] فدخل في ذلك كلّ الخلق،

تيسير الكريم الرحمن، ص: 1064

بل دخل في ذلك نفسه المقدسة، على صدق الرسول بما جاء به من هذا القرآن الكريم، و أن الرسول الكريم، بلغه عن اللّه تعالى. و نزه اللّه رسوله، عما رماه به أعداؤه، من أنه شاعر أو ساحر، و أن الذي حملهم على ذلك، عدم إيمانهم و تذكرهم، فلو آمنوا و تذكروا، علموا ما ينفعهم و يضرهم.

[43] و من ذلك، أن ينظروا في حال محمد صلّى اللّه عليه و سلّم، و يرمقوا أوصافه و أخلاقه، ليروا أمرا مثل الشمس، يدلهم على أنه رسول اللّه حقا، و أن ما جاء به‏ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ‏ (43)، لا يليق أن يكون قولا للبشر، بل هو كلام دال على عظمة من تكلم به، و جلالة أوصافه، و كمال تربيته للخلق، و علوه فوق عباده. و أيضا، فإن هذا ظن منهم بما لا يليق باللّه و حكمته.

[44- 46] وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا ، و افترى‏ بَعْضَ الْأَقاوِيلِ‏ الكاذبة، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ‏ (46)، و هو عرق متصل بالقلب، إذا انقطع هلك منه الإنسان. فلو قدر أن الرسول- حاشا و كلا- تقوّل على اللّه، لعاجله بالعقوبة، و أخذه أخذ عزيز مقتدر، لأنه حكيم، قدير على كلّ شي‏ء. فحكمته تقتضي أن لا يمهل الكاذب عليه، الذي يزعم أن اللّه أباح له دماء من خالفه و أموالهم، و أنه هو و أتباعه لهم النجاة، و من خالفه فله الهلاك. فإذا كان اللّه قد أيد رسوله بالمعجزات، و برهن على صدق ما جاء به بالآيات البينات، و نصره على أعدائه، و مكنه من نواصيهم، فهو أكبر شهادة منه على رسالته.

[47] و قوله: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ‏ (47)، أي: لو أهلكه، ما امتنع هو بنفسه، و لا قدر أحد أن يمنعه من عذاب اللّه.

[48] وَ إِنَّهُ‏ ، أي: القرآن الكريم‏ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ‏ يتذكرون به مصالح دينهم و دنياهم، فيعرفونها و يعملون عليها، يذكرهم العقائد الدينية، و الأخلاق المرضية، و الأحكام الشرعية، فيكونون من العلماء الربانيين، و العباد العارفين، و الأئمة المهديين.

[49] وَ إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ‏ (49) به، و هذا فيه تهديد، و وعيد للمكذبين، و أنه سيعاقبهم على تكذيبهم، بالعقوبة البليغة.

[50] وَ إِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ‏ (50) فإنهم لما كفروا به، و رأوا ما وعدهم به، تحسروا إذ لم يهتدوا به، و لم ينقادوا لأمره، ففاتهم الثواب، و حصلوا على أشد العذاب، و تقطعت بهم الأسباب.

[51] وَ إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ‏ (51)، أي:

أعلى مراتب العلم، فإن أعلى مراتب العلم: اليقين، و هو: العلم الثابت، الذي لا يتزلزل، و لا يزول. و اليقين مراتبه ثلاث، كل واحدة أعلى مما قبلها: أولها: علم اليقين، و هو: العلم المستفاد من الخبر. ثمّ عين اليقين، و هو:

العلم المدرك بحاسة البصر. ثمّ حق اليقين، و هو العلم المدرك بحاسة الذوق و المباشرة. و هذا القرآن بهذا الوصف، فإن ما فيه من العلوم المؤيدة بالبراهين القطعية، و ما فيه من الحقائق و المعارف الإيمانية، يحصل به لمن ذاقه حق اليقين.

[52] فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ‏ (52)، أي: نزهه عما لا يليق بجلاله، و قدّسه بذكر أوصاف جلاله، و جماله، و كماله. تم تفسير سورة الحاقة- و الحمد للّه رب العالمين.

تيسير الكريم الرحمن، ص: 1065

سورة المعارج‏

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

[1- 3] يقول تعالى- مبينا جهل المعاندين، و استعجالهم لعذاب اللّه، استهزاء و تعنتا و تعجيزا: سَأَلَ سائِلٌ‏ ، أي: دعا داع، و استفتح مستفتح‏ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ‏ لاستحقاقهم له بكفرهم و عنادهم‏ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ‏ ، أي: ليس لهذا العذاب، الذي استعجل به من استعجل، من متمردي المشركين، أحد يدفعه قبل نزوله، أو يرفعه بعد نزوله. و هذا حين دعا النضر بن الحارث القرشي أو غيره من المكذبين، فقال: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك، فأمطر علينا حجارة من السماء، أو ائتنا بعذاب أليم. فالعذاب لا بد أن يقع عليهم من اللّه، فإما أن يعجل لهم في الدنيا، و إما أن يدخر لهم في الآخرة. فلو عرفوا اللّه، و عرفوا عظمته، و سعة سلطانه، و كمال أسمائه و صفاته، لما استعجلوا و لا ستسلموا و تأدبوا، و لهذا ذكر تعالى من عظمته، ما يضاد أقوالهم القبيحة، فقال: ذِي الْمَعارِجِ‏ .

[4] تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ‏ ، أي: ذو العلو و الجلال، و العظمة، و التدبير لسائر الخلق، الذي تعرج إليه الملائكة، بما جعلها على تدبيره، و تعرج إليه الروح. و هذا اسم جنس، يشمل الأرواح كلها، برّها و فاجرها، و هذا عند الوفاة. فأما الأبرار، فتعرج أرواحهم إلى اللّه، فيؤذن لها من سماء إلى سماء، حتى تنتهي إلى السماء التي فيها اللّه عز و جل ربها، فتحيّي و تسلم عليه، و تحظى بقربه، و تبتهج بالدنو منه، و يحصل لها منه الثناء و الإكرام، و البر و الإعظام. و أما أرواح الفجار، فتعرج، فإذا وصلت إلى السماء، استأذنت فلا يؤذن لها، و أعيدت إلى الأرض.

ثمّ ذكر المسافة الّتي تعرج فيها الملائكة و الروح إلى اللّه، و أنها تعرج في يوم بما يسر لها من الأسباب، و أعانها عليه من اللطافة و الخفة، و سرعة السير. مع أن تلك المسافة على السير المعتاد، مقدار خمسين ألف سنة، من ابتداء العروج إلى بلوغها، ما حدّ لها، و ما تنتهي إليه من الملأ الأعلى. فهذا الملك العظيم، و العالم الكبير، علويه و سفليه، جميعه قد تولى خلقه و تدبيره، العلي الأعلى. فعلم أحوالهم الظاهرة و الباطنة، و مستقرهم و مستودعهم، و أوصلهم من رحمته و بره و إحسانه، ما عمهم و شملهم، و أجرى عليهم حكمه القدري و حكمه الشرعي، و حكمه الجزائي.

فبؤسا لأقوام جهلوا عظمته، و لم يقدروه حق قدره، فاستعجلوا بالعذاب على وجه التعجيز و الامتحان. و سبحان الحليم الذي أمهلهم و ما أهملهم، و آذوه فصبر عليهم، و عافاهم و رزقهم. هذا أحد الاحتمالات في تفسير هذه الآية الكريمة، فيكون هذا العروج و الصعود في الدنيا، لأن السياق الأول يدل عليه. و يحتمل أن هذا في يوم القيامة، و أن اللّه تعالى يظهر لعباده في يوم القيامة، من عظمته و جلاله و كبريائه، ما هو أكبر دليل على معرفته، مما يشاهدونه من عروج الأملاك و الأرواح، صاعدة و نازلة، بالتدابير الإلهية، و الشؤون الربانية. فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ من طوله و شدته، لكن اللّه تعالى، يخففه على المؤمن.

[5] و قوله: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا (5)، أي: اصبر على‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 1066

دعوتك لقومك، صبرا جميلا، لا تضجر فيه و لا ملل، بل استمر على أمر اللّه، و ادع عباده إلى توحيده، و لا يمنعك عنهم ما ترى من عدم انقيادهم، و عدم رغبتهم، فإن في الصبر على ذلك خيرا كثيرا.

[6- 7] إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَ نَراهُ قَرِيباً (7) الضمير يعود إلى البعث، الذي فيه عذاب السائلين بالعذاب، أي:

إن حالهم، حال المنكر له، و الذي غلبت عليه الشقوة و السكرة، حتى تباعد جميع ما أمامه، من البعث و النشور.

و اللّه يراه قريبا، لأنه رفيق حليم لا يعجل، و يعلم أنه لا بد أن يكون، و ما هو آت، فهو قريب.

[8] ثمّ ذكر أهوال ذلك اليوم و ما فيه، فقال: يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ إلى: فَأَوْعى‏ . أي: يَوْمَ‏ القيامة، الذي تقع فيه هذه الأمور العظيمة تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ‏ و هو الرصاص المذاب، من تشققها، و بلوغ الهول منها كلّ مبلغ.

[9] وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ‏ (9) و هو الصوف المنفوش، ثمّ تكون بعد ذلك هباء منثورا، فتضمحل. فإذا كان هذا الانزعاج و القلق لهذه الأجرام الكبيرة الشديدة، فما ظنك بالعبد الضعيف، الذي قد أثقل ظهره بالذنوب و الأوزار؟

أ ليس حقيقا أن ينخلع قلبه و لبه، و يذهل عن كلّ أحد؟ و لهذا قال:

[10] وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) يُبَصَّرُونَهُمْ‏ ، أي: يشاهد الحميم، و هو: القريب حميمه، فلا يبقى في قلبه متسع لسؤاله عن حاله، و لا فيما يتعلق بعشرتهم و محبتهم، و لا يهمه إلّا نفسه. يَوَدُّ الْمُجْرِمُ‏ الذي حق عليه العذاب‏ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ‏ .

[12] وَ صاحِبَتِهِ‏ ، أي: زوجته‏ وَ أَخِيهِ‏ .

[13] وَ فَصِيلَتِهِ‏ أي: قرابته‏ الَّتِي تُؤْوِيهِ‏ ، أي: الّتي جرت عادتها في الدنيا أن تتناصر، و يعين بعضها بعضا. ففي القيامة لا ينفع أحد أحدا، و لا يشفع أحد إلّا بإذن اللّه.

[14] بل لو يفتدي المجرم المستحق للعذاب بكل من يعرفه‏ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ‏ (14) ذلك، لم ينفعه.

[15] كَلَّا ، أي: لا حيلة و لا مناصر لهم، قد حقت عليهم كلمة ربك، و ذهب نفع الأقارب و الأصدقاء. إِنَّها لَظى‏ .

[16] نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ (16)، أي: النار الّتي تتلظى، تنزع من شدتها للأعضاء الظاهرة و الباطنة.

[17] تَدْعُوا إلى نفسها مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى‏ .

[18] وَ جَمَعَ فَأَوْعى‏ (18)، أي: أدبر عن اتباع الحقّ، و أعرض عنه، فلا غرض له فيه، و جمع الأموال بعضها فوق بعض، و أوعاها فلم ينفق منها ما ينفعه، و يدفع عنه النار، فالنار تدعو هؤلاء إلى نفسها، و تستعد للالتهاب بهم.

[19] و هذا الوصف للإنسان من حيث هو، وصف طبيعته، أنه هلوع.

[20] و فسر الهلوع بقوله: إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) فيجزع إن أصابه فقر أو مرض، أو ذهاب محبوب له، من مال أو أهل أو أولد، و لا يستعمل في ذلك الصبر و الرضا بما قضى اللّه.

[21] وَ إِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21)، فلا ينفق مما آتاه اللّه، و لا يشكر اللّه على نعمه و بره، فيجزع في الضراء، و يمنع في السراء.

[22] إِلَّا الْمُصَلِّينَ‏ (22) الموصوفين بتلك الأوصاف، فإنهم إذا مسهم الخير، شكروا اللّه و أنفقوا مما خولهم، و إذا مسهم الشر صبروا و احتسبوا.

[23] و قوله في وصفهم: الَّذِينَ هُمْ عَلى‏ صَلاتِهِمْ دائِمُونَ‏ (23)، أي: مداومون عليها في أوقاتها بشروطها و مكملاتها. و ليسوا كمن لا يفعلها، أو

تيسير الكريم الرحمن، ص: 1067

يفعلها وقتا دون وقت، أو يفعلها على وجه ناقص.

[24] وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ‏ (24) من زكاة و صدقة لِلسَّائِلِ‏ الذي يتعرض للسؤال، وَ الْمَحْرُومِ‏ و هو: المسكين الذي لا يسأل الناس فيعطوه، و لا يفطن له فيتصدق عليه.

[26] وَ الَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ‏ (26)، أي: يؤمنون بما أخبر به اللّه، و أخبرت به الرسل، من الجزاء و البعث، و يتيقنون ذلك، فيستعدون للآخرة، و يسعون لها سعيها.

و التصديق بيوم الدين، يلزم منه التصديق بالرسل، و بما جاءوا به من الكتب.

[27] وَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ‏ (27)، أي: خائفون و جلون، فيتركون لذلك كلّ ما يقربهم من عذاب اللّه.

[28] إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ‏ (28)، أي: هو العذاب الذي يخشى و يحذر.

[29] وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ‏ (29) فلا يطأون بها وطئا محرما، من زنا، أو لواط، أو وطء في دبر، أو حيض، و نحو ذلك. و يحفظونها أيضا من النظر إليها و مسها، ممن لا يجوز له ذلك، و يتركون أيضا وسائل المحرمات الداعية لفعل الفاحشة.

[30] إِلَّا عَلى‏ أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ‏ ، أي: سرياتهم‏ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ‏ في وطئهن، في المحل الذي هو محل الحرث.

[31] فَمَنِ ابْتَغى‏ وَراءَ ذلِكَ‏ ، أي: غير الزوجة، و ملك اليمين، فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ‏ ، أي: المتجاوزون ما أحل اللّه إلى ما حرم اللّه. و دلت هذه الآية على تحريم نكاح المتعة، لكونها غير زوجة مقصودة، و لا ملك يمين.

[32] وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ‏ (32)، أي: مراعون لها، حافظون مجتهدون على أدائها، و الوفاء بها. و هذا شامل لجميع الأمانات الّتي بين العبد و بين ربه، كالتكاليف السرية الّتي لا يطلع عليها إلّا اللّه، و الأمانات الّتي بين العبد و بين الخلق، في الأموال و الأسرار. و كذلك العهد، شامل للعهد الذي عاهد عليه اللّه، و العهد الذي عاهد الخلق عليه، فإن العهد يسأل عنه العبد، هل قام به و وفاه، أم رفضه و خانه، فلم يقم به؟

[33] وَ الَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ‏ (33)، أي: لا يشهدون إلّا بما يعلمونه، من غير زيادة و لا نقص، و لا كتمان، و لا يحابي فيها قريبا و لا صديقا و نحوه، و يكون القصد بإقامتها، وجه اللّه. قال تعالى: وَ أَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ‏ ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَ لَوْ عَلى‏ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ‏ .

[34] وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى‏ صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ‏ (34) بالمداومة عليها على أكمل الوجوه.

[35] أُولئِكَ‏ ، أي: الموصوفون بتلك الصفات‏ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ‏ ، أي: قد أوصل اللّه لهم من الكرامة و النعيم المقيم، ما تشتهيه الأنفس، و تلذ الأعين، و هم فيها خالدون.

و حاصل هذا، أن اللّه وصف أهل السعادة و الخير بهذه الأوصاف الكاملة، و الأخلاق المرضية الفاضلة، من العبادات البدنية، كالصلاة، و المداومة عليها، و الأعمال القلبية كخشية اللّه الداعية لكل خير، و العبادات المالية، و العقائد النافعة، و الأخلاق الفاضلة، و معاملة اللّه، و معاملة خلقه، أحسن معاملة: من إنصافهم، و حفظ حقوقهم و أماناتهم، و العفة التامة بحفظ الفروج، عما يكرهه اللّه تعالى.

[36] يقول تعالى، مبينا اغترار الكافرين: فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ‏ (36)، أي: مسرعين.

[37] عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ عِزِينَ‏ (37) أي: قطعا متفرقة و جماعات متنوعة، كل منهم بما لديه فرح.

[38] أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 1068

يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ‏ (38) أيّ سبب أطمعهم، و هم لم يقدموا سوى الكفر و الجحود لرب العالمين، و لهذا قال:

[39] كَلَّا ، أي: ليس الأمر بأمانيهم، و لا إدراك ما يشتهون بقوتهم. إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ‏ ، أي: من ماء دافق، يخرج من بين الصلب و الترائب، فهم ضعفاء، لا يملكون لأنفسهم نفعا و لا ضرا، و لا موتا و لا حياة، و لا نشورا.

[40] هذا إقسام منه تعالى بالمشارق و المغارب، للشمس و القمر و الكواكب، لما فيها من الآيات الباهرات على البعث، و قدرته على تبديل أمثالهم، و هم بأعيانهم، كما قال تعالى:

وَ نُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ‏ . وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ‏ ، أي: ما أحد يسبقنا و يفوتنا و يعجزنا إذا أردنا أن نعيده، فإذا تقرر البعث و الجزاء، و استمروا على تكذيبهم، و عدم انقيادهم لآيات اللّه.

[42] فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَ يَلْعَبُوا ، أي: يخوضوا بالأقوال الباطلة، و العقائد الفاسدة، و يلعبوا بدينهم، و يأكلوا و يشربوا، و يتمتعوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ‏ ، فإن اللّه قد أعد لهم فيه من النكال و الوبال، ما هو عاقبة خوضهم و لعبهم. ثمّ ذكر حال الخلق حين يلاقون اليوم الذي يوعدون، فقال:

[43] يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ‏ ، أي:

القبور سِراعاً مجيبين لدعوة الداعي، مهطعين إليها. كَأَنَّهُمْ إِلى‏ نُصُبٍ يُوفِضُونَ‏ ، أي: كأنهم إلى علم يؤمون و يقصدون، فلا يتمكنون من الاستعصاء على الداعي، و لا الالتواء عن نداء المنادي، بل يأتون أذلاء مقهورين، بين يدي رب العالمين.

[44] خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ و ذلك أن الذلة و القلق، قد ملك قلوبهم، و استولى على أفئدتهم، فخشعت منهم الأبصار، و سكنت الحركات، و انقطعت الأصوات. ذلِكَ‏ الحال و المآل، هو الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ‏ و لا بد من الوفاء بوعد اللّه. تم تفسير سورة المعارج- الحمد.

سورة نوح‏

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

[1] لم يذكر اللّه في هذه السورة، إلا قصة نوح وحدها لطول لبثه في قومه، و تكرار دعوته إلى التوحيد، و نهيه عن الشرك. فأخبر تعالى أنه أرسل نوحا إلى قومه، رحمة بهم و إنذارا من عذاب أليم، خوفا من استمرارهم على كفرهم، فيهلكهم هلاكا أبديا، و يعذبهم عذابا سرمديا.

[2] فامتثل نوح عليه السّلام لذلك، و ابتدر لأمر اللّه، فقال: يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ‏ ، أي: واضح النذارة بيّنها، و ذلك لتوضيحه ما أنذر به، و ما أنذر عنه، و بأي شي‏ء تحصل النجاة، بيّن ذلك بيانا شافيا.

صفحه بعد