کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تيسير الكريم الرحمن

سورة الفاتحة سورة آل عمران سورة المائدة سورة الأنعام تفسير سورة الأعراف تفسير سورة الأنفال تفسير سورة التوبة تفسير سورة يونس تفسير سورة هود تفسير سورة الرعد سورة إبراهيم تفسير سورة الحجر سورة النحل سورة الإسراء سورة الكهف تفسير سورة مريم سورة طه تفسير سورة الأنبياء تفسير سورة الحج تفسير سورة المؤمنون تفسير سورة النور تفسير سورة الفرقان تفسير سورة الشعراء تفسير سورة النمل تفسير سورة العنكبوت تفسير سورة الروم تفسير سورة لقمان تفسير سورة السجدة سورة الأحزاب سورة سبأ تفسير سورة فاطر تفسير سورة يس تفسير سورة الصافات تفسير سورة الزمر تفسير سورة فصلت سورة الشورى سورة الزخرف تفسير سورة الدخان سورة الجاثية سورة الأحقاف سورة محمد تفسير سورة الحجرات تفسير سورة ق سورة الطور تفسير سورة النجم سورة القمر سورة الرحمن سورة الواقعة تفسير سورة الحديد تفسير سورة المجادلة تفسير سورة الحشر تفسير سورة الممتحنة تفسير سورة الصف سورة الجمعة تفسير سورة المنافقون تفسير سورة التغابن تفسير سورة الطلاق تفسير سورة التحريم تفسير سورة الملك تفسير سورة القلم سورة الحاقة سورة المعارج سورة نوح سورة الجن تفسير سورة المزمل سورة المدثر تفسير سورة القيامة سورة الإنسان سورة المرسلات تفسير سورة النبأ سورة النازعات سورة عبس تفسير سورة التكوير سورة الإنفطار سورة المطففين تفسير سورة الإنشقاق سورة البروج سورة الطارق سورة الأعلى تفسير سورة الغاشية تفسير سورة الفجر تفسير سورة البلد سورة الشمس سورة الليل تفسير سورة الضحى سورة الشرح سورة التين تفسير سورة العلق سورة القدر تفسير سورة البينة تفسير سورة الزلزلة تفسير سورة العاديات تفسير سورة القارعة سورة التكاثر سورة العصر تفسير سورة الهمزة سورة الفيل تفسير سورة قريش سورة الماعون سورة الكوثر تفسير سورة الكافرون سورة النصر تفسير سورة المسد تفسير سورة الإخلاص سورة الفلق تفسير سورة الناس محتوى تفسير الإمام السعدي

تيسير الكريم الرحمن


صفحه قبل

تيسير الكريم الرحمن، ص: 904

بها. و إما بتحريفها عن معناها الحقيقي، و إثبات معان لها، ما أرادها اللّه منها. فتوعّد تعالى من ألحد فيها، بأنه لا يخفى عليه، بل هو مطلع على ظاهره و باطنه، و سيجازيه على إلحاده بما كان يعمل، و لهذا قال: أَ فَمَنْ يُلْقى‏ فِي النَّارِ مثل الملحد بآيات اللّه‏ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ من عذاب اللّه مستحقا لثوابه؟ من المعلوم أن هذا خير. لما تبين الحقّ من الباطل، و الطريق المنجي من عذابه من الطريق المهلك قال:

اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ‏ إن شئتم فاسلكوا طريق الرشد، الموصلة إلى رضا ربكم و جنته. و إن شئتم فاسلكوا طريق الغيّ، المسخطة لربكم، الموصلة إلى دار الشقاء. إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ يجازيكم بحسب أحوالكم و أعمالكم، كقوله تعالى:

وَ قُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ .

[41] ثمّ قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ أي:

يجحدون القرآن الكريم المذكر للعباد جميع مصالحهم الدينية و الدنيوية و الأخروية، المعلى لقدر من اتبعه. لَمَّا جاءَهُمْ‏ نعمة من ربهم على يد أفضل الخلق و أكملهم. وَ الحال‏ إِنَّهُ لَكِتابٌ‏ جامع لأوصاف الكمال‏ عَزِيزٌ أي: منيع من كل من أراده بتحريف أو سوء. و لهذا قال:

[42] لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ‏ أي: لا يقربه شيطان من شياطين الإنس و الجنّ، لا بسرقة و لا بإدخال ما ليس منه به، و لا بزيادة و لا نقص. فهو محفوظ في تنزيله، محفوظة ألفاظه و معانيه، قد تكفل من أنزله بحفظه كما قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ‏ (9). تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ‏ في خلقه و أمره، يضع كل شي‏ء موضعه، و ينزله منازله. حَمِيدٍ على ما له من صفات الكمال، و نعوت الجلال، و على ما له من العدل و الإفضال، فلهذا كان كتابه مشتملا على تمام الحكمة، و على تحصيل المصالح و المنافع، و دفع المفاسد و المضار، الّتي يحمد عليها.

[43] أي: ما يُقالُ لَكَ‏ أيها الرسول من الأقوال الصادرة، ممن كذبك و عاندك. إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ‏ أي: من جنسها. بل ربما إنهم تكلموا بكلام واحد، كتعجب جميع الأمم المكذبة للرسل، من دعوتهم إلى الإخلاص للّه، و عبادته وحده لا شريك له، وردهم هذا، بكل طريق يقدرون عليه، و قولهم: ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا . و اقتراحهم على رسلهم الآيات، الّتي لا يلزمهم الإتيان بها، و نحو ذلك من أقوال أهل التكذيب، لما تشابهت قلوبهم في الكفر، تشابهت أقوالهم. و صبر الرسل عليهم السّلام على أذاهم، و تكذيبهم، فاصبر كما صبر من قبلك. ثمّ دعاهم إلى التوبة و الإتيان بأسباب المغفرة، و حذرهم من الاستمرار على الغيّ فقال: إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ أي: عظيمة، يمحو بها كل ذنب لمن أقلع و تاب‏ وَ ذُو عِقابٍ أَلِيمٍ‏ لمن: أصر و استكبر.

[44] يخبر تعالى عن فضله و كرمه، حيث أنزل كتابا عربيا، على الرسول العربي، بلسان قومه، ليبين لهم. و هذا مما يوجب لهم زيادة الاعتناء به، و التلقي له و التسليم. و أنه لو جعله قرآنا أعجميا، بلغة غير العرب، لاعترض، المكذبون و قالوا: لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ‏ أي: هلّا بينت آياته، و وضحت و فسرت. ءَ أَعْجَمِيٌّ وَ عَرَبِيٌ‏ أي: كيف يكون محمد عربيا، و الكتاب أعجمي؟ هذا لا يكون. فنفى اللّه تعالى كل أمر، يكون فيه شبهة لأهل الباطل، عن كتابه، و وصفه بكل وصف يوجب لهم الانقياد. و لكن المؤمنون الموفقون انتفعوا به، و ارتفعوا، و غيرهم بالعكس‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 905

من أحوالهم. و لهذا قال: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَ شِفاءٌ أي: يهديهم لطريق الرشد، و الصراط المستقيم و يعلمهم من العلوم النافعة، ما به تحصل الهداية التامة. و شفاء لهم من الأسقام البدنية، و الأسقام القلبية، لأنه يزجر عن مساوئ الأخلاق، و أقبح الأعمال، و يحث على التوبة النصوح، الّتي تغسل الذنوب، و تشفي القلب.

وَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ‏ بالقرآن‏ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ أي: صمم عن استماعه و إعراض، وَ هُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى‏ أي:

لا يبصرون به رشدا، و لا يهتدون به، و لا يزيدهم إلا ضلالا. فإنهم إذا ردوا الحقّ، ازدادوا عمى إلى عماهم، و غيّا إلى غيّهم. أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ أي: ينادون إلى الإيمان، و يدعون إليه، فلا يستجيبون. بمنزلة الذي ينادى و هو في مكان بعيد، لا يسمع داعيا و لا يجيب مناديا. و المقصود: أن الّذين لا يؤمنون بالقرآن، لا ينتفعون بهداه، و لا يبصرون بنوره، و لا يستفيدون منه خيرا؛ لأنهم سدوا على أنفسهم أبواب الهدى، بإعراضهم و كفرهم.

[45] يقول تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ‏ كما آتيناك الكتاب، فصنع به الناس ما صنعوا معك، اختلفوا فيه: فمنهم من آمن به و اهتدى و انتفع، و منهم من كذبه و لم ينتفع به. و إن اللّه تعالى، لو لا حلمه و كلمته السابقة، بتأخير العذاب إلى أجل مسمّى لا يتقدم عليه و لا يتأخر لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ‏ بمجرد ما يتميز المؤمنون من الكافرين، بإهلاك الكافرين في الحال؛ لأن سبب الهلاك، قد وجب و حق. وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ‏ أي: قد بلغ بهم إلى الريب الذي يقلقهم، فلذلك كذبوه و جحدوه.

[46] مَنْ عَمِلَ صالِحاً و هو العمل الذي أمر اللّه به و رسوله‏ فَلِنَفْسِهِ‏ نفعه و ثوابه في الدنيا و الآخرة وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ضرره و عقابه، في الدنيا و الآخرة. و في هذا، حثّ على فعل الخير، و ترك الشر، و انتفاع العاملين، بأعمالهم الحسنة، و ضررهم بأعمالهم السيئة، و أنه لا تزر وازرة وزر أخرى. وَ ما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فيحمّل أحدا فوق سيئاته.

[47] هذا إخبار عن سعة علمه تعالى و اختصاصه بالعلم الذي لا يطلع عليه سواه فقال: إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ أي: جميع الخلق يرد علمهم إلى اللّه تعالى، و يقرون بالعجز عنه، الرسل، و الملائكة، و غيرهم. وَ ما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها أي: وعائها الذي تخرج منه. و هذا شامل لثمرات جميع الأشجار الّتي في البلدان و البراري، فلا تخرج ثمرة شجرة من الأشجار، إلا و هو يعلمها تفصيليا. وَ ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى‏ من بني آدم و غيرهم، من أنواع الحيوانات، إلا بعلمه‏ وَ لا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ‏ . فكيف سوّى المشركون به تعالى، من لا علم عنده، و لا سمع و لا بصر؟ وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ‏ أي: المشركين به يوم القيامة توبيخا و إظهارا لكذبهم فيقول لهم: أَيْنَ شُرَكائِي‏ الّذين زعمتم أنهم شركائي، فعبدتموهم، و جادلتم على ذلك، و عاديتم الرسل لأجلهم؟ قالُوا مقرين ببطلان إلهيتهم و شركتهم مع اللّه: آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ أي: أعلمناك يا ربنا، و أشهد علينا أنه ما منّا أحد يشهد بصحة إلهيتهم و شركتهم، فكلنا الآن رجعنا إلى بطلان عبادتها، و تبرأنا منها، و لهذا قال:

[48] وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ‏ من دون اللّه، أي: ذهبت عقائدهم و أعمالهم، الّتي أفنوا فيها أعمارهم على عبادة غير اللّه، و ظنوا أنها تفيدهم، و تدفع عنهم العذاب، و تشفع لهم عند اللّه. فخاب سعيهم، و انتقض ظنهم، و لم تغن عنهم شركاؤهم شيئا وَ ظَنُّوا أي: أيقنوا في تلك الحال‏ ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ‏ أي: منقذ ينقذهم، و لا مغيث، و لا ملجأ. فهذه عاقبة من أشرك باللّه غيره، بيّنها اللّه لعباده، ليحذروا الشرك به.

[49- 51] هذا إخبار عن طبيعة الإنسان من حيث هو، و عدم صبره و جلده، لا على الخير، و لا على الشر، إلا من نقله اللّه من هذه الحال، إلى حال الكمال، فقال: لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ أي: لا يمل دائما، من دعاء اللّه، بالفوز، و المال، و الولد، و غير ذلك، من مطالب الدنيا. و لا يزال يعمل على ذلك، و لا يقتنع بقليل و لا بكثير منها. فلو حصل له من الدنيا ما حصل، لم يزل طالبا للزيادة. وَ إِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ أي: المكروه، كالمرض، و الفقر، و أنواع البلايا فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ أي: ييأس من رحمة اللّه تعالى، و يظن أن هذا البلاء، هو القاضي عليه بالهلاك،

تيسير الكريم الرحمن، ص: 906

و يتشوش من إتيان الأسباب، على غير ما يحب و يطلب. إلا الّذين آمنوا و عملوا الصالحات، فإنهم إذا أصابهم الخير و النعمة و المحاب، شكروا اللّه تعالى، و خافوا أن تكون نعم اللّه عليهم، استدراجا و إمهالا. و إن أصابتهم مصيبة، في أنفسهم، و أموالهم، و أولادهم، صبروا، و رجوا فضل ربهم، فلم ييأسوا. ثمّ قال تعالى: وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ‏ أي:

الإنسان الذي يسأم من دعاء الخير، و إن مسه الشر فيؤوس‏ رَحْمَةً مِنَّا أي: بعد ذلك الشر الذي أصابه، بأن عافاه اللّه من مرضه، أو أغناه من فقره، فإنه لا يشكر اللّه تعالى، بل يبغي، و يطغى، و يقول: هذا لِي‏ أي: أتاني، لأني له أهل، و أنا مستحق له‏ وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً ، و هذا إنكار منه للبعث، و كفر للنعمة و الرحمة، الّتي أذاقها اللّه له.

وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى‏ رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى‏ أي: على تقدير إتيان الساعة، و أني سأرجع إلى ربي، إن لي عنده للحسنى.

فكما حصلت لي النعمة في الدنيا، فإنها ستحصل لي في الآخرة. و هذا من أعظم الجرأة و القول على اللّه بلا علم، فلهذا توعده بقوله: فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ أي: شديد جدا. وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ‏ بصحة، أو رزق، أو غيرهما أَعْرَضَ‏ عن ربه و عن شكره‏ وَ نَأى‏ ترفّع‏ بِجانِبِهِ‏ عجبا و تكبرا.

وَ إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ أي: المرض، أو الفقر، أو غيرهما فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ‏ أي: كثير جدا، لعدم صبره. فلا صبر في الضراء، و لا شكر في الرخاء، إلا من هداه اللّه و منّ عليه.

[52] أي‏ قُلْ‏ لهؤلاء المكذبين بالقرآن المسارعين إلى الكفران: أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ‏ هذا القرآن‏ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ‏ من غير شك و لا ارتياب. ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ أي: معاندة للّه و لرسوله، لأنه تبين لكم الحقّ و الصواب، ثمّ عدلتم عنه، لا إلى حق، بل إلى باطل و جهل. فإذا تكونون أضلّ الناس و أظلمهم.

[53] فإن قلتم، أو شككتم بصحته و حقيقته، فسيقيم اللّه لكم، و يريكم من آياته، حيث قال تعالى:

سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ‏ كالآيات الّتي في السماء و في الأرض، و ما يحدثه اللّه تعالى من الحوادث العظيمة، الدالة للمستبصر على الحقّ. وَ فِي أَنْفُسِهِمْ‏ مما اشتملت عليه أبدانهم، من بديع آيات اللّه، و عجائب صنعته، و باهر قدرته، و في حلول العقوبات و المثلات في المكذبين، و نصر المؤمنين. حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ‏ من تلك الآيات، بيانا لا يقبل الشك‏ أَنَّهُ الْحَقُ‏ و ما اشتمل عليه حق. و قد فعل تعالى، فإنه أرى عباده من الآيات، ما به تبين أنه الحقّ، و لكن اللّه هو الموفق للإيمان من يشاء، و الخاذل لمن يشاء. أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ أي: أ و لم يكفهم على أن القرآن حق، و من جاء به صادق، بشهادة اللّه تعالى، فإنه قد شهد له بالتصديق، و هو أصدق الشاهدين، و أيده، و نصره نصرا متضمنا شهادته القولية، عند من شك فيها.

[54] أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ‏ أي: في شك من البعث و القيامة، و ليس عندهم دار، سوى الدار الدنيا، فلذلك لم يعملوا للآخرة، و لم يلتفتوا لها. أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ مُحِيطٌ علما و قدرة و عزة.

تيسير الكريم الرحمن، ص: 907

سورة الشّورى‏

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

[1- 3] يخبر تعالى، أنه أوحى هذا القرآن العظيم إلى النبي الكريم، كما أوحى إلى من قبله من الأنبياء و المرسلين.

ففيه بيان فضله، بإنزال الكتب، و إرسال الرسل، سابقا و لا حقا، و أن محمدا صلّى اللّه عليه و سلم ليس ببدع من الرسل. و أن طريقته طريقة من قبله، و أحواله تناسب أحوال من قبله من المرسلين. و ما جاء به يشابه ما جاءوا به، لأن الجميع حق و صدق، و هو تنزيل من اتصف بالألوهية، و العزة العظيمة، و الحكمة البالغة. و أن جميع العالم العلوي و السفلي ملكه و تحت تدبيره القدري و الشرعي.

[4- 5] و أنه‏ الْعَلِيُ‏ بذاته، و قدره، و قهره.

الْعَظِيمُ‏ الذي من عظمته‏ تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَ‏ على عظمها و كونها جمادا. وَ الْمَلائِكَةُ الكرام المقربون، خاضعون لعظمته، مستكينون لعزته، مذعنون بربوبيته. يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ‏ و يعظمونه و ينزهونه عن كل نقص، و يصفونه بكل كمال. وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ‏ عمّا يصدر منهم، مما لا يليق بعظمة ربهم و كبريائه. مع أنه تعالى‏ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ‏ الذي لو لا مغفرته و رحمته، لعاجل الخلق بالعقوبة المستأصلة. و في وصفه تعالى بهذه الأوصاف، بعد أن ذكر أنه أوحى إلى الرسل عموما، و إلى محمد- صلوات اللّه و سلامه عليهم أجمعين- خصوصا، إشارة إلى أن هذا القرآن الكريم، فيه الأدلة و البراهين، و الآيات الدالة على كمال الباري تعالى، و وصفه بهذه الأسماء العظيمة الموجبة لامتلاء القلوب، من معرفته، و محبته، و تعظيمه، و إجلاله، و إكرامه، و صرف جميع أنواع العبودية، الظاهرة، و الباطنة، له تعالى. و أن من أكبر الظلم، و أفحش القول، اتخاذ أنداد للّه من دونه، ليس بيدهم نفع و لا ضر. بل هم مخلوقون مفتقرون إلى اللّه في جميع أحوالهم، و لهذا عقبه بقوله:

[6] وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ يتولونهم بالعبادة و الطاعة، كما يعبدون اللّه و يطيعونه، فإنما اتخذوا الباطل، و ليسوا بأولياء على الحقيقة. اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ‏ يحفظ عليهم أعمالهم، فيجازيهم بخيرها و شرها. وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ‏ فتسأل عن أعمالهم، و إنّما أنت مبلغ أديت وظيفتك.

[7] ثمّ ذكر منته على رسوله، و على الناس، حيث أنزل اللّه‏ قُرْآناً عَرَبِيًّا بين الألفاظ و المعاني‏ لِتُنْذِرَ أُمَ‏ و هي مكة المكرمة وَ مَنْ حَوْلَها من قرى العرب ثمّ يسري هذا الإنذار، إلى سائر الخلق. وَ تُنْذِرَ الناس‏ يَوْمَ الْجَمْعِ‏ الذي يجمع اللّه به الأولين و الآخرين، و تخبرهم أنه‏ لا رَيْبَ فِيهِ‏ و أن الخلق ينقسمون فيه فريقين‏ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ و هم الّذين آمنوا باللّه، و صدقوا المرسلين، وَ فَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ و هم أصناف الكفرة المكذبين.

[8] وَ مع هذا لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ‏ أي: جعل الناس كلهم‏ أُمَّةً واحِدَةً على الهدى، لأنه القادر، الذي لا يمتنع عليه شي‏ء، و لكن أراد أن يدخل في رحمته من شاء، من خواص خلقه. و أما الظالمون الّذين لا يصلحون لصالح، فإنهم محرومون من الرحمة، ف ما لَهُمْ‏ من دون اللّه‏ مِنْ وَلِيٍ‏ يتولاهم، فيحصل لهم المحبوب‏ وَ لا نَصِيرٍ يدفع‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 908

عنهم المكروه.

[9] و الّذين‏ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ يتولونهم بعبادتهم إياهم، فقد غلطوا أقبح غلط. فاللّه، هو الولي الذي يتولاه عبده بعبادته و طاعته، و التقرب إليه بما أمكن من أنواع التقربات، و يتولى عباده عموما بتدبيره، و نفوذ القدر فيهم. و يتولى عباده المؤمنين خصوصا، بإخراجهم من الظلمات إلى النور، و تربيتهم بلطفه، و إعانتهم في جميع أمورهم. وَ هُوَ يُحْيِ الْمَوْتى‏ وَ هُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ أي: هو المتصرف بالإحياء و الإماتة، و نفوذ المشيئة و القدرة، فهو الذي يستحق أن يعبد وحده، لا شريك له.

[10] يقول تعالى: وَ مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ من أصول دينكم و فروعه، مما لا تتفقوا عليه‏ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ‏ يرد إلى كتابه، و إلى سنّة رسوله، فما حكما به، فهو الحقّ، و ما خالف ذلك، فباطل. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي‏ أي: فكما أنه تعالى، الرب الخالق الرازق المدبر، فهو تعالى الحاكم بين عباده، بشرعه في جميع أمورهم. و مفهوم الآية الكريمة، أن اتفاق الأمة حجة قاطعة، لأن اللّه تعالى، لم يأمرنا أن نرد إليه إلا ما اختلفنا فيه. فما اتفقنا عليه، يكفي اتفاق الأمة عليه، لأنها معصومة عن الخطأ. و لا بد أن يكون اتفاقها، موافقا لما في كتاب اللّه و سنّة رسوله. و قوله: عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ‏ أي: اعتمدت بقلبي عليه، في جلب المنافع، و دفع المضار، واثقا به تعالى في الإسعاف بذلك، وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ‏ أي: أتوجه بقلبي و بدني إليه، و إلى طاعته و عبادته.

و هذان الأصلان، كثيرا ما يذكرهما اللّه في كتابه، لأنهما يحصل بمجموعهما، كمال العبد، و يفوته الكمال بفوتهما، أو فوت أحدهما، كقوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏ (5) و قوله: فَاعْبُدْهُ وَ تَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏ .

[11] فاطِرُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ‏ أي: خالقهما بقدرته و مشيئته و حكمته. جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لتسكنوا إليها، و تنتشر منكم الذرية، و يحصل لكم من النفع، ما يحصل. وَ مِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً أي: و من جميع أصنافها نوعين، ذكر، و أنثى، لتبقى، و تنمو لمنافعكم الكثيرة، و لهذا عداها باللام، الدالة على التعليل: أي: جعل لكم من أنفسكم، و جعل لكم من الأنعام أزواجا. لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ أي: ليس يشبهه تعالى و لا يماثله شي‏ء من مخلوقاته، لا في ذاته و لا في أسمائه، و لا في صفاته، و لا في أفعاله، لأن أسماءه، كلها حسنى، و صفاته، صفات كمال و عظمة، و أفعاله تعالى، أوجد بها المخلوقات العظيمة، من غير مشارك. فليس كمثله شي‏ء، لانفراده، و توحده بالكمال، من كل وجه. وَ هُوَ السَّمِيعُ‏ لجميع الأصوات، باختلاف اللغات، على تفنن الحاجات.

الْبَصِيرُ يرى دبيب النملة السوداء، في الليلة الظلماء، على الصخرة الصماء. و يرى سريان القوت في أعضاء الحيوانات الصغيرة جدا، و سريان الماء في الأغصان الدقيقة. و هذه الآية و نحوها، دليل لمذاهب أهل السنة و الجماعة، من إثبات الصفات، و نفي مماثلة المخلوقات. و فيها رد، على المشبهة في قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ و على المعطلة في قوله: وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ .

[12] و قوله: لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ‏ أي: له ملك السموات و الأرض و بيده مفاتيح الرحمة و الأرزاق، و النعم الظاهرة و الباطنة. فكل الخلق مفتقرون إلى اللّه، في جلب مصالحهم، و دفع المضار عنهم، في كل الأحوال، ليس بيد أحد من الأمر شي‏ء. و اللّه تعالى هو المعطي المانع، الضار

تيسير الكريم الرحمن، ص: 909

النافع، الذي ما بالعباد من نعمة، إلا منه، و لا يدفع الشر، إلا هو و ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَ ما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ‏ . و لهذا قال هنا: يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ أي: يوسعه و يعطيه من أصناف الرزق، ما شاء وَ يَقْدِرُ أي: يضيق على من يشاء، حتى يكون بقدر حاجته، لا يزيد عنها، و كل هذا تابع لعلمه و حكمته، فلهذا قال: إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ‏ فيعلم أحوال عباده، فيعطي كلّا، ما يليق بحكمته، و تقتضيه مشيئته.

[13] هذه أكبر منة أنعم اللّه بها على عباده، أن شرع لهم من الدين خير الأديان و أفضلها، و أزكاها و أطهرها؛ دين الإسلام، الذي شرعه اللّه للمصطفين المختارين من عباده.

بل شرعه اللّه لخيار الخيار، و صفة الصفوة و هم أولو العزم من المرسلين المذكورون في هذه الآية، أعلى الخلق درجة، و أكملهم من كل وجه. فالدين الذي شرعه اللّه لهم، لا بد أن يكون مناسبا لأحوالهم، و موافقا لكمالهم، بل إنما كملهم اللّه و اصطفاهم، بسبب قيامهم به. فلو لا الدين الإسلامي، ما ارتفع أحد من الخلق، فهو روح السعادة، و قطب رحى الكمال، و هو ما تضمنه هذا الكتاب الكريم، و دعا إليه من التوحيد و الأعمال، و الأخلاق، و الآداب. و قال: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ‏ أي: أمركم أن تقيموا جميع شرائع الدين أصوله و فروعه، تقيمونه بأنفسكم، و تجتهدون في إقامته على غيركم، و تعاونون على البر و التقوى و لا تعاونون على الإثم و العدوان. وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ‏ أي: ليحصل منكم اتّفاق على أصول الدين و فروعه. و احرصوا على أن لا تفرقكم المسائل، و تحزبكم أحزابا و شيعا، يعادي بعضكم بعضا، مع اتفاقكم على أصل دينكم. و من أنواع الاجتماع على الدين و عدم التفرق فيه، ما أمر به الشارع من الاجتماعات العامة، كاجتماع الحج و الأعياد، و الجمع، و الصلوات الخمس، و الجهاد، و غير ذلك، من العبادات، التي لا تتم، و لا تكمل إلا بالاجتماع لها، و عدم التفرق. كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ‏ أي: شق عليهم غاية المشقة، حيث دعوتهم إلى الإخلاص للّه وحده، كما قال عنهم: وَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ إِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ‏ (45) و قولهم: أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ‏ءٌ عُجابٌ‏ (5). اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ أي: يختار من خليقته من يعلم أنه يصلح للاجتباء لرسالته و ولايته. و منه، أن اجتبى هذه الأمة، و فضّلها على سائر الأمم، و اختار لها أفضل الأديان و خيرها. وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ‏ هذا السبب الذي من العبد، يتوصل به إلى هداية اللّه تعالى و هو: إنابته لربه، و انجذاب دواعي قلبه إليه، و كونه قاصدا وجهه. فحسن مقصد العبد، مع اجتهاده في طلب الهداية، من أسباب التيسير لها، كما قال تعالى: يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ‏ . و في هذه الآية، أن اللّه‏ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ‏ مع قوله: وَ اتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَ‏ مع العلم بأحوال الصحابة رضي اللّه عنهم، و أن شدة إنابتهم، دليل على أن قولهم حجة، خصوصا الخلفاء الراشدين، رضي اللّه عنهم أجمعين.

[14] لما أمر تعالى باجتماع المسلمين على دينهم، و نهاهم عن التفرق، أخبرهم أنهم ينبغي لهم أن لا يغتروا بما أنزل اللّه عليهم من الكتاب. فإن أهل الكتاب لم يتفرقوا حتى أنزل اللّه عليهم الكتاب الموجب للاجتماع، ففعلوا ضد

تيسير الكريم الرحمن، ص: 910

ما يأمر به كتابهم، و ذلك كله بغيا و عدوانا منهم. فإنهم تباغضوا و تحاسدوا، و حصلت بينهم المشاحنة و العداوة، فوقع الاختلاف. فاحذروا، أيها المسلمون أن تكونوا مثلهم. وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ‏ أي: بتأخير العذاب القاضي، إلى أجل مسمّى‏ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ‏ و لكن حكمته و حلمه، اقتضى تأخير ذلك عنهم. وَ إِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ‏ أي: الّذين ورثوهم، و صاروا خلفا لهم، ممن ينتسب إلى العلم منهم. لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ‏ أي: لفي اشتباه كثير، يوقع في الاختلاف، حيث اختلف سلفهم، بغيا و عنادا، فإن خلفهم، اختلفوا شكا و ارتيابا، و الجميع، مشتركون في الاختلاف المذموم.

[15] فَلِذلِكَ فَادْعُ‏ أي: فللدين القويم، و الصراط المستقيم، الذي أنزل اللّه به كتبه، و أرسل رسله، فادع إليك أمتك، و حضهم عليه، و جاهد عليه من لم يقبله. وَ اسْتَقِمْ‏ بنفسك‏ كَما أُمِرْتَ‏ أي: استقامة موافقة لأمر اللّه، لا تفريط و لا إفراط، بل امتثالا لأوامر اللّه، و اجتنابا لنواهيه، على وجه الاستمرار على ذلك. فأمره بتكميل نفسه، بلزوم الاستقامة، و بتكميل غيره، بالدعوة إلى ذلك. و من المعلوم أن أمر الرسول صلّى اللّه عليه و سلم، أمر لأمته، إذا لم يرد تخصيص له. وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ‏ أي: أهواء المنحرفين عن الدين، من الكفرة أو المنافقين. إما باتباعهم على بعض دينهم، أو بترك الدعوة إلى اللّه، أو بترك الاستقامة فإنك إن اتبعت أهواءهم، من بعد ما جاءك من العلم، إنك إذا لمن الظالمين. و لم يقل: «و لا تتبع دينهم» لأن حقيقة دينهم، الذي شرعه اللّه لهم، هو دين الرسل كلهم، و لكنهم لم يتبعوه، بل اتبعوا أهواءهم، و اتخذوا دينهم لهوا و لعبا. وَ قُلْ‏ لهم، عند جدالهم و مناظرتهم: آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ‏ أي: لتكن مناظرتك لهم مبنية على هذا الأصل العظيم، الدال على شرف الإسلام و جلالته، و همينته على سائر الأديان، و أن الدين الذي يزعم أهل الكتاب، أنهم عليه، جزء من الإسلام. و في هذا، إرشاد إلى أن أهل الكتاب إن ناظروا مناظرة مبنية على الإيمان، ببعض الكتب، أو ببعض الرسل دون غيره، فلا يسلم لهم ذلك. لأن الكتاب الذي يدعون إليه، و الرسول الذي ينتسبون إليه، من شرطه، أن يكون مصدقا بهذا القرآن، و بمن جاء به.

فكتابنا، و رسولنا، لم يأمرانا، إلّا بالإيمان بموسى، و عيسى، و التوراة، و الإنجيل، التي أخبر بها، و صدق بها، و أخبر أنها مصدقة له و مقرة بصحته. و أما مجرد التوراة و الإنجيل، و موسى، و عيسى، الّذين لم يوصفوا لنا، و لم يوافقوا لكتابنا، فلم يأمرنا بالإيمان بهم. و قوله: وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ‏ أي: في الحكم فيما اختلفتم فيه، فلا تمنعني عداوتكم و بغضكم، يا أهل الكتاب، من العدل بينكم، و من العدل في الحكم، بين أهل الأقوال المختلفة، من أهل الكتاب و غيرهم، أن يقبل ما معهم من الحقّ، و يرد ما معهم من الباطل. اللَّهُ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ‏ أي: هو رب الجميع، لستم بأحق به منّا. لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ‏ من خير و شر لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ‏ أي: بعد ما تبينت الحقائق، و اتضح الحقّ من الباطل، و الهدى من الضلال، لم يبق للجدل و المنازعة محل. لأن المقصود من الجدال، إنّما هو بيان الحقّ من الباطل، ليهتدي الراشد، و لتقوم الحجة على الغاوي. و ليس المراد بهذا، أن أهل الكتاب لا يجادلون، كيف و اللّه يقول: وَ لا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ‏ و إنّما المراد ما ذكرنا. اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ يوم القيامة، فيجزي كلّا بعمله، و يتبين حينئذ الصادق من الكاذب. و هذا تقرير لقوله: لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ‏ .

[16] فأخبر هنا أن‏ الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ‏ بالحجج الباطلة، و الشبه المتناقضة مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ‏ أي:

من بعد ما استجاب للّه أولو الألباب و العقول، لما بين لهم من الآيات القاطعة، و البراهين الساطعة. فهؤلاء المجادلون للحق، من بعد ما تبين‏ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ أي: باطلة مدفوعة عِنْدَ رَبِّهِمْ‏ لأنها مشتملة على رد الحقّ، و كل ما خالف الحقّ، فهو باطل. وَ عَلَيْهِمْ غَضَبٌ‏ لعصيانهم و إعراضهم عن حجج اللّه و بيناته و تكذيبها. وَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ هو أثر غضب اللّه عليهم، فهذه عقوبة كل مجادل للحق بالباطل.

صفحه بعد