کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تيسير الكريم الرحمن

سورة الفاتحة سورة آل عمران سورة المائدة سورة الأنعام تفسير سورة الأعراف تفسير سورة الأنفال تفسير سورة التوبة تفسير سورة يونس تفسير سورة هود تفسير سورة الرعد سورة إبراهيم تفسير سورة الحجر سورة النحل سورة الإسراء سورة الكهف تفسير سورة مريم سورة طه تفسير سورة الأنبياء تفسير سورة الحج تفسير سورة المؤمنون تفسير سورة النور تفسير سورة الفرقان تفسير سورة الشعراء تفسير سورة النمل تفسير سورة العنكبوت تفسير سورة الروم تفسير سورة لقمان تفسير سورة السجدة سورة الأحزاب سورة سبأ تفسير سورة فاطر تفسير سورة يس تفسير سورة الصافات تفسير سورة الزمر تفسير سورة فصلت سورة الشورى سورة الزخرف تفسير سورة الدخان سورة الجاثية سورة الأحقاف سورة محمد تفسير سورة الحجرات تفسير سورة ق سورة الطور تفسير سورة النجم سورة القمر سورة الرحمن سورة الواقعة تفسير سورة الحديد تفسير سورة المجادلة تفسير سورة الحشر تفسير سورة الممتحنة تفسير سورة الصف سورة الجمعة تفسير سورة المنافقون تفسير سورة التغابن تفسير سورة الطلاق تفسير سورة التحريم تفسير سورة الملك تفسير سورة القلم سورة الحاقة سورة المعارج سورة نوح سورة الجن تفسير سورة المزمل سورة المدثر تفسير سورة القيامة سورة الإنسان سورة المرسلات تفسير سورة النبأ سورة النازعات سورة عبس تفسير سورة التكوير سورة الإنفطار سورة المطففين تفسير سورة الإنشقاق سورة البروج سورة الطارق سورة الأعلى تفسير سورة الغاشية تفسير سورة الفجر تفسير سورة البلد سورة الشمس سورة الليل تفسير سورة الضحى سورة الشرح سورة التين تفسير سورة العلق سورة القدر تفسير سورة البينة تفسير سورة الزلزلة تفسير سورة العاديات تفسير سورة القارعة سورة التكاثر سورة العصر تفسير سورة الهمزة سورة الفيل تفسير سورة قريش سورة الماعون سورة الكوثر تفسير سورة الكافرون سورة النصر تفسير سورة المسد تفسير سورة الإخلاص سورة الفلق تفسير سورة الناس محتوى تفسير الإمام السعدي

تيسير الكريم الرحمن


صفحه قبل

تيسير الكريم الرحمن، ص: 958

العبد، عن الخروج إلى الجهاد، فقال: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى‏ حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ‏ ، أي: في التخلف عن الجهاد لعذرهم المانع. وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ‏ في امتثال أمرهما، و اجتناب نهيهما يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، فيها ما تشتهيه الأنفس، و تلذ الأعين. وَ مَنْ يَتَوَلَ‏ عن طاعة اللّه و رسوله‏ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً ، فالسعادة كلها في طاعة اللّه و الشقاوة في معصيته و مخالفته.

[18] يخبر تعالى، بفضله و رحمته، برضاه عن المؤمنين إذ يبايعون الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، تلك المبايعة الّتي بيضت وجوههم، و اكتسبوا بها سعادة الدنيا و الآخرة. و كان سبب هذه البيعة- الّتي يقال لها: «بيعة الرضوان» لرضا اللّه عن المؤمنين فيها، و يقال لها: «بيعة أهل الشجرة»- أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لما دار الكلام بينه و بين المشركين يوم الحديبية، في شأن مجيئه، و أنه لم يجى‏ء لقتال أحد، و إنما جاء زائرا هذا البيت، معظما له.

فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عثمان بن عفان رضي اللّه تعالى عنه لمكة في ذلك. فجاء خبر غير صادق، أن عثمان قتله المشركون.

فجمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم من معه من المؤمنين، و كانوا نحوا من ألف و خمسائة، فبايعوه تحت شجرة، على قتال المشركين، و أن لا يفروا حتى يموتوا. فأخبر تعالى أنه رضي عن المؤمنين في تلك الحال، الّتي هي من أكبر الطاعات و أجلّ القربات‏ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ‏ من الإيمان‏ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ‏ شكرا لهم على ما في قلوبهم، و زادهم هدى. و علم ما في قلوبهم من الجزع، من تلك الشروط الّتي شرطها المشركون على رسوله، فأنزل عليهم السكينة، تثبتهم، و تطمئن بها قلوبهم‏ وَ أَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ، و هو فتح خيبر، لم يحضره سوى أهل الحديبية. فاختصّوا بخيبر و غنائمها، جزاء لهم، و شكرا على ما فعلوه من طاعة اللّه تعالى، و القيام بمرضاته.

[19] وَ مَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19)، أي: له العزة و القدرة، الّتي قهر بها الأشياء، فلو شاء لانتصر من الكفار في كلّ وقعة تكون بينهم و بين المؤمنين. و لكنه حكيم، يبتلي بعضهم ببعض، و يمتحن المؤمن بالكافر.

[20] وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها و هذا يشمل كلّ غنيمة غنمها المسلمون إلى يوم القيامة. فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ‏ ، أي: غنيمة خيبر، أي: فلا تحسبوها وحدها، بل ثمّ شي‏ء كثير من الغنائم سيتبعها. وَ احمدوا اللّه، إذ كَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ‏ القادرين على قتالكم، الحريصين عليه‏ عَنْكُمْ‏ فهي نعمة، و تخفيف عنكم.

وَ لِتَكُونَ‏ هذه الغنيمة آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ‏ يستدلون بها على خبر اللّه الصادق، و وعده الحقّ، و ثوابه للمؤمنين، و أن الذي قدرها، سيقدر غيرها. وَ يَهْدِيَكُمْ‏ بما يقيض لكم من الأسباب‏ صِراطاً مُسْتَقِيماً من العلم و الإيمان و العمل.

[21] وَ أُخْرى‏ ، أي: وعدكم أيضا غنيمة أخرى‏ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها وقت هذا الخطاب. قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها ، أي: هو قادر عليها، و هي تحت تدبيره و ملكه، و قد وعدكموها، فلا بد من وقوع ما وعد به، لكمال اقتدار اللّه تعالى، و لهذا قال: وَ كانَ اللَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيراً .

[22] هذه بشارة من اللّه لعباده المؤمنين، بنصرهم على أعدائهم الكافرين، و أنهم لو قابلوهم و قاتلوهم‏ لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا يتولى أمرهم. وَ لا نَصِيراً ينصرهم، و يعينهم على قتالكم، بل هم مخذولون‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 959

مغلوبون.

[23] و هذه سنة اللّه في الأمم السابقة، أن جند اللّه هم الغالبون: وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا .

[24] يقول تعالى ممتنا على عباده بالعافية، من شر الكفار و من قتالهم، فقال: وَ هُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ‏ ، أي: أهل مكة عَنْكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ‏ ، أي: من بعد ما قدرتم عليهم، و صاروا تحت ولايتكم بلا عقد و لا عهد، و هم نحو ثمانين رجلا، انحدروا على المسلمين ليصيبوا منهم غرة. فوجدوا المسلمين منتبهين فأمسكوهم، فتركوهم، و لم يقتلوهم، رحمة من اللّه بالمؤمنين إذ لم يقتلوهم. وَ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً فيجازي كل عامل بعمله، و يدبركم، أيها المؤمنون، بتدبيره الحسن.

[25] ثمّ ذكر تعالى، الأمور المهيجة على قتال المشركين، و هي: كفرهم باللّه و رسوله، و صدهم رسول اللّه و من معه من المؤمنين، أن يأتوا للبيت الحرام زائرين معظمين له بالحج و العمرة. و هم الّذين أيضا صدوا الْهَدْيَ مَعْكُوفاً ، أي:

محبوسا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ‏ ، و هو محل ذبحه في مكة، حيث تذبح هدايا العمرة، فمنعوه من الوصول إليه ظلما و عدوانا، و كلّ هذه أمور موجبة، و داعية إلى قتالهم. و لكن ثمّ مانع و هو: وجود رجال و نساء من أهل الإيمان، بين أظهر المشركين، و ليسوا بمتميزين بمحلة، أو مكان يمكن أن لا ينالهم أذى. فلو لا هؤلاء الرجال المؤمنون، و النساء المؤمنات، الّذين لا يعلمهم المسلمون أن تطأوهم، أي:

خشية أن تطأوهم‏ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ‏ ، و المعرة: ما يدخل تحت قتالهم، من نيلهم بالأذى و المكروه.

و فائدة أخروية، و هو: أنه‏ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ فيمنّ عليهم بالإيمان بعد الكفر، و بالهدى بعد الضلال، فيمنعكم من قتالهم لهذا السبب. لَوْ تَزَيَّلُوا ، أي: لو زالوا من بين أظهرهم‏ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً بأن نبيح لكم قتالهم، و نأذن فيه، و ننصركم عليهم.

[26] يقول تعالى: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ حيث أنفوا من كتابة «بسم اللّه الرحمن الرحيم» و أنفوا من دخول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و المؤمنين إليهم في تلك السنة، لئلا يقول الناس: «دخلوا مكة قاهرين لقريش». و هذه الأمور و نحوها، من أمور الجاهلية، لم تزل في قلوبهم حتى أوجبت لهم ما أوجبت، من كثير من المعاصي. فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى‏ رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ‏ فلم يحملهم الغضب على مقابلة المشركين بما قابلوهم به، بل صبروا لحكم اللّه، و التزموا الشروط، الّتي فيها تعظيم حرمات اللّه و لو كانت ما كانت، و لم يبالوا بقول القائلين، و لا بلوم اللائمين. وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى‏ و هي «لا إله إلا اللّه» و حقوقها، ألزمهم القيام بها، فالتزموها، و قاموا بها. وَ كانُوا أَحَقَّ بِها من غيرهم‏ وَ كانوا أَهْلَها الّذين استأهلوا لما يعلم اللّه عندهم، و في قلوبهم من الخير، و لهذا قال: وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيماً .

[27] يقول تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِ‏ ، و ذلك أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم رأى في المدينة رؤيا أخبر بها أصحابه، أنهم سيدخلون مكة، و يطوفون بالبيت. فلما جرى يوم الحديبية ما جرى، و رجعوا من غير دخول لمكة، كثر في ذلك الكلام منهم، حتى إنهم قالوا ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: أ لم تخبرنا أنا سنأتي البيت و نطوف به؟ فقال:

تيسير الكريم الرحمن، ص: 960

«أخبرتكم أنه العام؟» قالوا: لا، قال: «فإنكم ستأتونه و تطوفون به». قال اللّه تعالى هنا: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِ‏ ، أي: لا بد من وقوعها و صدقها، و لا يقدح في ذلك تأويلها. لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ‏ ، أي: في هذه الحال، المقتضية لتعظيم هذا البيت الحرام، و أدائكم للنسك، و تكميله بالحلق و التقصير، و عدم الخوف. فَعَلِمَ‏ من المصالح و المنافع‏ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ‏ الدخول بتلك الصفة فَتْحاً قَرِيباً . و لما كانت هذه الواقعة، مما تشوشت به قلوب بعض المؤمنين، و خفيت عليهم حكمتها، فبين تعالى حكمتها و منفعتها، و هكذا سائر أحكامه الشرعية، فإنها كلها هدى و رحمة.

[28] أخبر بحكم عام، فقال: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى‏ الذي هو العلم النافع، الذي يهدي من الضلالة، و يبين طرق الخير و الشر. وَ دِينِ الْحَقِ‏ ، أي: الدين الموصوف بالحق، و هو: العدل، و الإحسان، و الرحمة.

و هو: كل عمل مزكّ للقلوب، مطهّر للنفوس، مربّ للأخلاق، معل للأقدار. لِيُظْهِرَهُ‏ بما بعثه اللّه به‏ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ‏ بالحجة و البرهان، و يكون داعيا لإخضاعهم بالسيف و السنان.

[29] يخبر تعالى عن نبيه‏ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ‏ صلّى اللّه عليه و سلّم‏ وَ الَّذِينَ مَعَهُ‏ من أصحابه من المهاجرين و الأنصار، أنهم بأكمل الصفات، و أجل الأحوال. و أنهم‏ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ ، أي: جادون و مجتهدون في قتالهم‏ «1» ، و ساعون في ذلك بغاية جهدهم، فلم يرى الكفار منهم إلا الغلظة و الشدة. فلذلك ذل أعداؤهم لهم، و انكسروا، و قهرهم المسلمون. رُحَماءُ بَيْنَهُمْ‏ ، أي: متحابون، متراحمون، متعاطفون، كالجسد الواحد، يحب أحدهم لأخيه، ما يحب لنفسه، هذه معاملتهم مع الخلق. و أما معاملتهم مع الخالق فإنك‏ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً ، أي: وصفهم كثرة الصلاة، الّتي أجل أركانها: الركوع و السجود. يَبْتَغُونَ‏ بتلك العبادة فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَ رِضْواناً ، أي: هذا مقصودهم بلوغ رضا ربهم، و الوصول إلى ثوابه. سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ، أي: قد أثرت العبادة- من كثرتها و حسنها- في وجوههم، حتى استنارت. لما استنارت بالصلاة بواطنهم، استنارت بالجلال، ظواهرهم. ذلِكَ‏ المذكور مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ ، أي: هذا وصفهم، الذي وصفهم اللّه به، مذكور في التوراة هكذا. وَ مَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ‏ بوصف آخر، و أنهم في كمالهم و تعاونهم‏ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ‏ ، أي: أخرج أفرخة فوازرته فراخه، في الثبات و الاستواء. فَاسْتَغْلَظَ ذلك الزرع، أي: قوي و غلظ فَاسْتَوى‏ ، أي: قوي و استقام‏ عَلى‏ سُوقِهِ‏ ، جمع ساق، أي: أصوله، و المراد أنه قوي و قام على قضبانه. يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ‏ من كماله و استوائه، و حسنه و اعتداله.

كذلك الصحابة رضي اللّه عنهم، هم كالزرع، في نفعهم للخلق، و احتياج الناس إليهم، فقوة إيمانهم و أعمالهم بمنزلة قوة عروق الزرع، و سوقه. و كون الصغير و المتأخر إسلامه، قد لحق الكبير السابق، و وازره، و عاونه على ما

(1) في المطبوعة (نصرتهم) خطأ، و الله أعلم.

تيسير الكريم الرحمن، ص: 961

هو عليه، من إقامة دين اللّه و الدعوة إليه، كالزرع الذي أخرج شطأه، فآزره فاستغلظ. و لهذا قال: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ حين يرون اجتماعهم، و شدتهم على أعداء دينهم، و حين يتصادمون معهم في معارك النزال، و معامع القتال. وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً ، فالصحابة رضي اللّه عنهم، الّذين جمعوا بين الإيمان و العمل الصالح، قد جمع اللّه لهم بين المغفرة، الّتي من لوازمها، وقاية شرور الدنيا و الآخرة، و الأجر العظيم في الدنيا و الآخرة.

و لنسق قصة الحديبية بطولها، كما ساقها الإمام شمس الدين ابن القيم في «الهدي النبوي» فإن فيها إعانة على فهم هذه السورة، و قد تكلم على معانيها و أسرارها.

فصل في قصة الحديبية

قال رحمه اللّه: قال نافع: كانت سنة ست في ذي القعدة، و هذا هو الصحيح، و هو قول الزهري، و قتادة، و موسى بن عقبة، و محمد بن إسحاق و غيرهم. و قال هشام بن عروة، عن أبيه، خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إلى الحديبية في رمضان، و كانت في شوال، و هذا و هم، و إنما كانت غزاة الفتح في رمضان. و في الصحيحين، عن أنس: أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، اعتمر أربع عمر، كلهن في ذي القعدة، فذكر منهن عمرة الحديبية، و كان معه ألف و خمسمائة، و هكذا في الصحيحين، عن جابر، و عنه فيهما: كانوا ألفا و أربعمائة. و فيهما، عن عبد اللّه بن أبي أوفى: كنا ألفا و ثلاثمائة.

قال قتادة: قلت لسعيد بن المسيب: كم كان الجماعة الّذين شهدوا بيعة الرضوان؟ قال: خمس عشرة مائة، قال:

قلت: فإن جابر بن عبد اللّه قال: كانوا أربع عشرة مائة، قال: يرحمه اللّه، و هم، و هو حدثني أنهم كانوا خمس عشرة مائة، قلت: صح عن جابر القولان، و صح عنه أنهم نحروا عام الحديبية، سبعين بدنة، البدنة عن سبعة، فقيل له:

كم كنتم؟ قال: ألفا و أربعمائة، بخيلنا و رجلنا، يعني: فارسهم و راجلهم. و القلب إلى هذا أميل، و هو قول البراء بن عازب، و معقل بن يسار، و سلمة بن الأكوع، في أصح الروايتين، و قول المسيب بن حزن، قال شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه: كنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم تحت الشجرة ألفا و أربعمائة، و غلط غلطا بيّنا من قال:

كانوا سبعمائة. و عذرهم أنهم نحروا يومئذ، سبعين بدنة، و البدنة قد جاء إجزاؤها عن سبعة، أو عشرة، و هذا لا يدل على ما قاله هذا القائل، فإنه قد صرح بأن البدنة، كانت في هذه الغزوة عن سبعة، فلو كانت السبعون عن جميعهم، لكانوا أربعمائة و تسعين رجلا، و قد قال بتمام الحديث بعينه، أنهم كانوا ألفا و أربعمائة.

فصل‏

فلما كان بذي الحليفة، قلد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم الهدي و أشعره، و أحرم بالعمرة، و بعث عينا له بين يديه من خزاعة، يخبره عن قريش، حتى إذا كانوا قريبا عن عسفان، أتاه عينه، فقال: إني قد تركت كعب بن لؤي، قد جمعوا لك الأحابيش، و جمعوا لك جموعا، و هم مقاتلوك، و صادّوك عن البيت. و استشار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أصحابه أن نميل إلى ذراري هؤلاء، الّذين أعانوهم فنصيبهم، فإن قعدوا، قعدوا موتورين محزونين، و إن نجوا، يكن عنق قطعه اللّه، أم ترون أن نؤم البيت؟ فمن صدنا عنه قاتلناه؟ قال أبو بكر: اللّه و رسوله أعلم، إنما جئنا معتمرين، لم نجى‏ء لقتال أحد، و لكن من حال بيننا و بين البيت، قاتلناه، فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلم: «فروحوا إذا». فراحوا، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال النبي صلّى اللّه عليه و سلم: «إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش، فخذوا ذات اليمين»، فو اللّه ما شعر بهم خالد، حتى إذا هو بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيرا لقريش. و سار النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، حتى إذا كان بالثنية، الّتي يهبط عليهم منها، بركت راحلته، فقال الناس: حل حل، فألحت، فقالوا: خلأت القصواء، فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «ما خلأت‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 962

القصواء، و ما ذاك لها بخلق، و لكن حبسها حابس الفيل»، ثمّ قال: «و الذي نفسي بيده، لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات اللّه إلا أعطيتموها»، ثمّ زجرها، فوثبت به، فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية، على ثمد قليل الماء، إنما يتبرضه الناس تبرضا، فلم يلبث الناس أن نزحوه، فشكوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم العطش. فانتزع سهما من كنانته، ثمّ أمرهم أن يجعلوها فيه، قال: فو اللّه ما زال يجيش لهم بالري، حتى صدروا عنها. و فزعت قريش لنزوله عليهم، فأحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أن يبعث إليهم رجلا من أصحابه، فدعا عمر بن الخطاب ليبعثه إليهم، فقال: يا رسول اللّه، ليس بمكة من بني كعب، أحد يغضب لي، إن أوذيت، فأرسل عثمان بن عفان، فإن عشيرته بها، و إنه مبلغ ما أردت. فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عثمان بن عفان، فأرسله إلى قريش، و قال: «أخبرهم أنا لم نأت لقتال، إنما جئنا عمّارا، وادعهم إلى الإسلام». و أمره أن يأتي رجالا بمكة مؤمنين، و نساء مؤمنات، فيدخل عليهم و يبشرهم بالفتح، و يخبرهم أن اللّه عز و جل مظهر دينه بمكة، حتى لا يستخفى فيها بالإيمان، فانطلق عثمان، فمر على قريش ببلدح، فقالوا: أين تريد؟ فقال: بعثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أدعوكم إلى اللّه، و إلى الإسلام، و يخبركم أنا لم نأت لقتال، و إنما جئنا عمّارا، قالوا: قد سمعنا ما تقول، فانفذ لحاجتك. و قام إليه أبان بن سعيد، فرحب به، و أسرج فرسه، فحمل عثمان على الفرس، فأجاره، و أردفه أبان، حتى جاء مكة، و قال المسلمون قبل أن يرجع عثمان: خلص عثمان قبلنا إلى البيت، و طاف به. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «ما أظنه طاف بالبيت و نحن محصورون»، فقالوا: و ما يمنعه يا رسول اللّه و قد خلص؟ قال: «ذاك ظني به أن لا يطوف بالكعبة حتى نطوف معه»، و اختلط المسلمون بالمشركين في أمر الصلح. فرمى رجل من أحد الفريقين رجلا من الفريق الآخر، و كانت معركة، و تراموا بالنبل و الحجارة، و صاح الفريقان كلاهما، و ارتضى كلّ واحد من الفريقين بمن فيهم، و بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أن عثمان قد قتل، فدعا إلى البيعة. فثار المسلمون إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و هو تحت الشجرة، فبايعوه على أن لا يفروا، فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بيد نفسه، و قال: «هذه عن عثمان»، و لما تمت البيعة، رجع عثمان، فقال له المسلمون: اشتفيت يا أبا عبد اللّه، من الطواف بالبيت، فقال: بئسما ظننتم بي، و الذي نفسي بيده، و لو مكثت بها سنة، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم مقيم بالحديبية، ما طفت بها، حتى يطوف بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و لقد دعتني قريش إلى الطواف بالبيت فأبيت، فقال المسلمون: رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، كان أعلمنا باللّه، و أحسننا ظنا. و كان عمر أخذ بيد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم للبيعة تحت الشجرة، فبايعه المسلمون كلهم إلا الجد بن قيس، و كان معقل بن يسار، أخذ بغصنها، يرفعه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و كان أول من بايعه، أبو سنان الأسدي، و بايعه سلمة بن الأكوع، ثلاث مرات، في أول الناس، و أوسطهم، و آخرهم. فبينما هم كذلك، إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي، في نفر من خزاعة، و كانوا عيبة نصح لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤي، و عامر بن لؤي، نزلوا أعداد مياه الحديبية، معهم العوذ المطافيل، و هم مقاتلوك، و صادوك عن البيت. قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «إنا لم نجى‏ء لقتال أحد، و لكن جئنا معتمرين، و إن قريشا قد نهكتهم الحرب، و أضرت بهم، فإن شاؤوا ماددتهم و يخلوا بيني و بين الناس، و إن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس، فعلوا، و إلا فقد جموا، و إن أبوا إلا القتال، فو الذي نفسي بيده، لأقاتلنهم على أمري هذا، حتى تنفرد سالفتي، أو لينفذن اللّه أمره»، قال بديل: سأبلغهم ما تقول. فانطلق حتى أتى قريشا، فقال: إني قد جئتكم من عند هذا الرجل، و سمعته يقول قولا، فإن شئتم عرضته عليكم، فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشي‏ء، و قال ذوو الرأي منهم:

هات ما سمعته، قال: سمعته يقول كذا و كذا، فقال عروة بن مسعود الثقفي: إن هذا قد عرض عليكم خطة رشد، فاقبلوها، و دعوني آته، فقالوا: ائته. فأتاه، فجعل يكلمه، فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم نحوا من قوله لبديل، فقال له عروة عند ذلك: أي محمد، أ رأيت لو استأصلت قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ و إن تكن الأخرى، فو اللّه إني لأرى وجوها و أرى أوباشا من الناس، خليقا أن يفروا، و يدعوك، فقال له أبو بكر: امصص بظر اللات،

تيسير الكريم الرحمن، ص: 963

أ نحن نفر عنه و ندعه؟ قال: من ذا؟ قال: أبو بكر، قال: أما و الذي نفسي بيده، لو لا يد كانت لك عندي، لم أجزك بها، لأجبتك. و جعل يكلم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، و كلما كلمه أخذ بلحيته، و المغيرة بن شعبة على رأس النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، و معه السيف، و عليه المغفر. فكلما أهوى عروة إلى لحية النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، ضرب يده بنعل السيف، و قال: أخّر يدك عن لحية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فرفع عروة رأسه، و قال: من ذا؟ قال: المغيرة بن شعبة، فقال: أي غدر، أو لست أسعى في غدرتك؟ و كان المغيرة صحب قوما، فقتلهم، و أخذ أموالهم، ثمّ جاء فأسلم. فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «أما الإسلام فأقبل، و أما المال، فلست منه في شي‏ء». ثمّ إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فو اللّه ما تنخم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم نخامة، إلا وقعت في كف رجل منهم، فذلك بها جلده و وجهه. و إذا أمرهم ابتدروا إلى أمره، و إذا توضأ، كادوا يقتتلون على وضوئه، و إذا تكلم، خفضوا أصواتهم عنده، و ما يحدّون إليه النظر، تعظيما له. فرجع عروة إلى أصحابه، فقال: أي قوم، و اللّه، لقد وفدت على الملوك: على كسرى، و قيصر، و النجاشي، و اللّه ما رأيت ملكا يعظمه أصحابه، ما يعظم أصحاب محمد محمدا، و اللّه ما تنخم نخامة، إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه و جلده، و إذا أمرهم ابتدروا أمره، و إذا توضأ، كادوا يقتتلون على وضوئه، و إذا تكلم، خفضوا أصواتهم عنده، و ما يحدّون إليه النظر، تعظيما له، و قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها. فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته، فقالوا:

ائته. فلما أشرف على النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «هذا فلان، و هو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له»، فبعثوها فاستقبله القوم يلبون، فلما رأى ذلك، قال: سبحان اللّه، لا ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت. فرجع إلى أصحابه، فقال: رأيت البدن قد قلدت، و أشعرت، و ما أرى يصدون عن البيت. فقام مكرز بن حفص، و قال:

دعوني آته، فقالوا: ائته. فلما أشرف عليهم، قال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «هذا مكرز بن حفص، و هو رجل فاجر». فجعل يكلم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، فبينما هو يكلمه، إذ جاء سهيل بن عمرو، فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «قد سهل لكم من أمركم»، فقال:

هات، اكتب بيننا و بينك كتابا، فدعا الكاتب، فقال: «اكتب: بسم اللّه الرحمن الرحيم»، فقال سهيل: أما الرحمن، فو اللّه ما ندري ما هو، و لكن اكتب: «باسمك اللهم» كما كنت تكتب. فقال المسلمون: و اللّه ما نكتبها إلا بسم اللّه الرحمن الرحيم. فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «اكتب باسمك اللهم». ثمّ قال: «اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد رسول اللّه»، فقال سهيل: فو اللّه لو نعلم أنك رسول اللّه، ما صددناك عن البيت، و لا قاتلناك، و لكن اكتب: محمد بن عبد اللّه، فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «إني رسول اللّه، و إن كذبتموني، اكتب: محمد بن عبد اللّه»، فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «على أن تخلوا بيننا و بين البيت فنطوف به»، فقال سهيل: و اللّه لا تتحدث العرب، أنا أخذنا ضغطة، و لكن من العام المقبل، فكتب.

فقال سهيل: على أن لا يأتيك منا رجل، و إن كان في دينك، إلا رددته علينا. فقال المسلمون: سبحان اللّه، كيف يرد إلى المشركين، و قد جاء مسلما؟ فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل، يرسف في قيوده، قد خرج من أسفل مكة، حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما قاضيتك عليه، أن ترده، فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «إنا لم نقض الكتاب بعد»، فقال: فو اللّه إذا، لا أصالحك على شي‏ء أبدا، فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «فأجزه لي»، فقال: ما أنا بمجيزه، فقال: «بلى فافعل»، قال: ما أنا بفاعل، قال مكرز: قد أجزناه. فقال أبو جندل: يا معشر المسلمين، أرد إلى المشركين، و قد جئت مسلما، أ لا ترون ما لقيت؟ و كان قد عذب في اللّه عذابا شديدا. قال عمر بن الخطاب: و اللّه ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ، فأتيت النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، فقلت: فقلت: يا رسول اللّه أ لست نبي اللّه؟ قال:

«بلى»، قال: قلت: ألسنا على الحقّ، و عدونا على الباطل؟ قال: «بلى»، فقلت: علام نعطي الدنية في ديننا و نرجع و لما يحكم اللّه بيننا و بين أعدائنا؟ فقال: «إني رسول اللّه، و هو ناصري، و لست أعصيه»، قلت: أ و لست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت و نطوف به؟ قال: «بلى، أ فأخبرتك أنك تأتيه العام؟» قلت: لا، قال: «فإنك آتيه و مطوف به».

قال: فأتيت أبا بكر، فقلت له كما قلت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و رد عليه أبو بكر كما رد عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم سواء، و زاد:

تيسير الكريم الرحمن، ص: 964

فاستمسك بغرزه حتى تموت، فو اللّه إنه لعلى الحق، قال عمر: فعملت لذلك أعمالا. فلما فرغ من قضية الكتاب، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «قوموا و انحروا، ثمّ احلقوا»، فو اللّه ما قام منهم رجل حتى قال ثلاث مرات. فلما لم يقم منهم أحد، قام فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت: يا رسول اللّه أ تحب ذلك؟ اخرج، ثمّ لا تكلم أحدا كلمة، حتى تنحر بدنك، و تدعو حالقك، فيحلق لك، فقام فخرج، فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه، و دعا حالقه فحلقه. فلما رأى الناس ذلك، قاموا فنحروا، و جعل بعضهم يحلق بعضا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما. ثمّ جاءت نسوة مؤمنات، فأنزل اللّه عز و جل: إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ‏ حتى بلغ‏ بِعِصَمِ الْكَوافِرِ ، فطلّق عمر يومئذ امرأتين، كانتا عنده في الشرك، فتزوج إحداهما معاوية، و الأخرى صفوان بن أمية، ثمّ رجع إلى المدينة. و في مرجعه أنزل اللّه عليه: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) إلى آخرها، فقال عمر: أفتح هو يا رسول اللّه؟

فقال: «نعم»، فقال الصحابة: هنيئا لك يا رسول اللّه، فما لنا؟ فأنزل اللّه عز و جل: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ‏ الآية. انتهى. و هذا آخر تفسير سورة الفتح و للّه الحمد، و صلّى اللّه على نبينا محمد و على آله و صحبه. نقلته من خط المفسر رحمه اللّه و عفا عنه، و كان الفراغ من كتابته في 13 ذي الحجة سنة 1345 ه، و صلّى اللّه على نبينا محمد و آله و صحبه و سلّم تسليما كثيرا إلى يوم الدين آمين. بقلم الفقير إلى ربه، سليمان بن حمد العبد اللّه البسام، غفر اللّه له و لوالديه و لجميع المسلمين آمين. و صلّى اللّه على محمد و على آله و صحبه أجمعين و سلّم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، و الحمد للّه الذي بنعمته تتم الصالحات.

تفسير سورة الحجرات‏

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

[1] هذا متضمن للأدب مع اللّه تعالى، و مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و التعظيم و الاحترام له، و إكرامه. فأمر اللّه عباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان باللّه و رسوله، من امتثال أوامر اللّه، و اجتناب نواهيه، و أن يكونوا ماشين، خلف أوامر اللّه، متبعين لسنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في جميع أمورهم، و أن لا يتقدموا بين يدي اللّه و رسوله، فلا يقولوا حتى يقول، و لا يأمروا حتى يأمر. فإن هذا حقيقة الأدب الواجب مع اللّه و رسوله، و هو عنوان سعادة العبد و فلاحه، و بفواته تفوته السعادة الأبدية، و النعيم السرمدي. و في هذا، النهي الشديد عن تقديم قول غير الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم على قوله، فإنه متى.

صفحه بعد