کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تيسير الكريم الرحمن

سورة الفاتحة سورة آل عمران سورة المائدة سورة الأنعام تفسير سورة الأعراف تفسير سورة الأنفال تفسير سورة التوبة تفسير سورة يونس تفسير سورة هود تفسير سورة الرعد سورة إبراهيم تفسير سورة الحجر سورة النحل سورة الإسراء سورة الكهف تفسير سورة مريم سورة طه تفسير سورة الأنبياء تفسير سورة الحج تفسير سورة المؤمنون تفسير سورة النور تفسير سورة الفرقان تفسير سورة الشعراء تفسير سورة النمل تفسير سورة العنكبوت تفسير سورة الروم تفسير سورة لقمان تفسير سورة السجدة سورة الأحزاب سورة سبأ تفسير سورة فاطر تفسير سورة يس تفسير سورة الصافات تفسير سورة الزمر تفسير سورة فصلت سورة الشورى سورة الزخرف تفسير سورة الدخان سورة الجاثية سورة الأحقاف سورة محمد تفسير سورة الحجرات تفسير سورة ق سورة الطور تفسير سورة النجم سورة القمر سورة الرحمن سورة الواقعة تفسير سورة الحديد تفسير سورة المجادلة تفسير سورة الحشر تفسير سورة الممتحنة تفسير سورة الصف سورة الجمعة تفسير سورة المنافقون تفسير سورة التغابن تفسير سورة الطلاق تفسير سورة التحريم تفسير سورة الملك تفسير سورة القلم سورة الحاقة سورة المعارج سورة نوح سورة الجن تفسير سورة المزمل سورة المدثر تفسير سورة القيامة سورة الإنسان سورة المرسلات تفسير سورة النبأ سورة النازعات سورة عبس تفسير سورة التكوير سورة الإنفطار سورة المطففين تفسير سورة الإنشقاق سورة البروج سورة الطارق سورة الأعلى تفسير سورة الغاشية تفسير سورة الفجر تفسير سورة البلد سورة الشمس سورة الليل تفسير سورة الضحى سورة الشرح سورة التين تفسير سورة العلق سورة القدر تفسير سورة البينة تفسير سورة الزلزلة تفسير سورة العاديات تفسير سورة القارعة سورة التكاثر سورة العصر تفسير سورة الهمزة سورة الفيل تفسير سورة قريش سورة الماعون سورة الكوثر تفسير سورة الكافرون سورة النصر تفسير سورة المسد تفسير سورة الإخلاص سورة الفلق تفسير سورة الناس محتوى تفسير الإمام السعدي

تيسير الكريم الرحمن


صفحه قبل

تيسير الكريم الرحمن، ص: 1006

أعمالهم الّتي عملوها في دار التكليف.

[51] ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ‏ عن طريق الهدى، التابعون لطريق الردى.

الْمُكَذِّبُونَ‏ بالرسول صلّى اللّه عليه و سلّم و ما جاء به من الحقّ و الوعد و الوعيد،

لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ‏ (52) و هو أقبح الأشجار، و أخسها، و أنتنها ريحا، و أبشعها منظرا،

فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ‏ (53). و الذي أوجب لهم أكلها- مع ما هي عليه من الشناعة- الجوع المفرط، الذي يلتهب في أكبادهم و تكاد تتقطع منه أفئدتهم. هذا الطعام، هو الذي يدفعون به الجوع، و هو لا يسمن و لا يغني من جوع.

[55] و أما شرابهم، فهو بئس الشراب، و هو أنهم يشربون على هذا الطعام من الماء الحميم الذي يغلي في البطون‏ شُرْبَ الْهِيمِ‏ ، و هي الإبل العطاش، الّتي قد اشتد عطشها، أو أن الهيم: داء يصيب الإبل، لا تروى معه من شراب الماء.

[56] هذا الطعام و الشراب‏ نُزُلُهُمْ‏ ، أي: ضيافتهم‏ يَوْمَ الدِّينِ‏ و هي الضيافة الّتي قدموها لأنفسهم، و آثروها على ضيافة اللّه لأوليائه. قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا (108).

[57] ثمّ ذكر الدليل العقلي على البعث، فقال: نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ‏ (57)، أي: نحن الّذين أوجدناكم، بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا، من غير عجز و لا تعب، أ فليس القادر على ذلك، بقادر على أن يحيي الموتى؟ بلى إنه على كلّ شي‏ء قدير، و لهذا وبّخهم على عدم تصديقهم بالبعث، و هم يشاهدون ما هو أعظم منه و أبلغ.

[58] أي: أ فرأيتم ابتداء خلقكم من المني الذي تمنون، فهل أنتم خالقون ذلك المني و ما ينشأ منه؟ أم اللّه تعالى الخالق الذي خلق فيكم الشهوة في الذكر و الأنثى، و هدى كلا منهما لما هنالك، و حبب بين الزوجين، و جعل بينهما من المودة و الرحمة ما هو سبب التناسل.

[62] و لهذا أحالهم اللّه تعالى بالاستدلال بالنشأة الأولى، على النشأة الأخرى، فقال: وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى‏ فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ‏ (62) أن القادر على ابتداء خلقكم، قادر على إعادتكم. و هذا امتنان منه على عباده، يدعوهم به، إلى توحيده و عبادته، و الإنابة إليه، حيث أنعم عليهم بما يسره لهم من الحرث للزروع و الثمار، فتخرج من ذلك، من الأقوات و الأرزاق، و الفواكه، ما هو من ضروراتهم، و حاجاتهم و مصالحهم الّتي لا يقدرون أن يحصوها، فضلا عن شكرها، و أداء حقها، فقررهم بمنته، فقال:

[64] أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ‏ (64)، أي: أنتم أخرجتموه نباتا من الأرض؟ أم أنتم الّذين نميتموه؟ أم أنتم الّذين أخرجتم سنبله و ثمره، حتى صار حبا حصيدا و ثمرا نضيجا؟ أم اللّه الذي انفرد بذلك وحده، و أنعم به عليكم؟ و أنتم غاية ما تفعلون أن تحرثوا الأرض و تشقوها، و تلقوا فيها البذر. ثمّ لا علم عندكم بما يكون بعد ذلك، و لا قدرة لكم على أكثر من ذلك، و مع ذلك، فنبههم على أن ذلك الحرث معرض للأخطار، لو لا حفظ اللّه و إبقاؤه بلغة لكم، و متاعا إلى حين.

[65] لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ‏ ، أي: الزرع المحروث، و ما فيه من الثمار حُطاماً ، أي: فتاتا متحطما، لا نفع فيه و لا رزق. فَظَلْتُمْ‏ ، أي: فصرتم بسبب جعله حطاما، بعد أن تعبتم فيه، و أنفقتم النفقات الكثيرة. تَفَكَّهُونَ‏ ، أي: تندمون و تتحسرون على ما أصابكم، و يزول بذلك فرحكم‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 1007

و سروركم، و تفكهكم فتقولون:

[66] إِنَّا لَمُغْرَمُونَ‏ (66)، أي: إنا قد نقصنا و أصابتنا مصيبة اجتاحتنا.

[67] ثمّ تعرفون بعد ذلك، من أين أتيتم، و بأي سبب دهيتم، فتقولون: بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ‏ (67). فاحمدوا اللّه تعالى حيث زرعه لكم، ثمّ أبقاه و كمله لكم، و لم يرسل عليه من الآفات ما به تحرمون نفعه و خيره.

[68- 70] لما ذكر تعالى نعمته على عباده بالطعام، ذكر نعمته عليهم بالشراب العذب الذي منه يشربون، و أنه لو لا أن اللّه يسره و سهله، لما كان لكم إليه سبيل، و أنه الذي أنزله من المزن، و هو السحاب و المطر، الذي ينزله اللّه تعالى، فتكون منه الأنهار الجارية على وجه الأرض، و في بطنها، و تكون منه الغدران المتدفقة. و من نعمته تعالى أن جعله عذبا فراتا، تسيغه النفوس، و لو شاء لجعله ملحا أجاجا، لا ينتفع به. فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ‏ اللّه تعالى على ما أنعم به عليكم.

[71- 72] و هذه نعمة تدخل في الضروريات، الّتي لا غنى للخلق عنها، فإن الناس محتاجون إليها في كثير من أمورهم و حوائجهم، فقررهم تعالى بالنار الّتي أوجدها في الأشجار، و أن الخلق لا يقدرون أن ينشئوا شجرها، و إنما اللّه تعالى قد أنشأها من الشجر الأخضر، فإذا هي نار توقد، بقدر حاجة العباد، فإذا فرغوا من حاجتهم، أطفأوها و أخمدوها.

[73] نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً للعباد بنعمة ربهم، و تذكرة بنار جهنم، الّتي أعدها اللّه للعاصين، و جعلها سوطا، يسوق به عباده إلى دار النعيم. وَ مَتاعاً لِلْمُقْوِينَ‏ ، أي: المنتفعين أو المسافرين، و خص اللّه المسافرين لأن نفع المسافر أعظم من غيره، و لعل السبب في ذلك؛ لأن الدنيا كلها دار سفر، و العبد من حين ولد، فهو مسافر إلى ربه، فهذه النار، جعلها اللّه متاعا للمسافرين في هذه الدار، و تذكرة لهم بدار القرار.

[74] فلما بين من نعمه ما يوجب الثناء عليه من عباده، و شكره، و عبادته، أمر بتسبيحه و تعظيمه، فقال: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ‏ (74)، أي: نزه ربك العظيم، كامل الأسماء و الصفات، كثير الإحسان و الخيرات. و احمده بقلبك، و لسانك، و جوارحك، لأنه أهل لذلك، و هو المستحق لأن يشكر فلا يكفر، و يذكر فلا ينسى، و يطاع فلا يعصى.

[75] أقسم تعالى بالنجوم و مواقعها، أي: مساقطها في مغاربها، و ما يحدث اللّه في تلك الأوقات، من الحوادث الدالة على عظمته و كبريائه و توحيده.

[76- 77] ثمّ عظم هذا المقسم به، فقال: وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ‏ (76). و إنما كان القسم عظيما، لأن في النجوم و جريانها، و سقوطها عند مغاربها، آيات و عبرا، لا يمكن حصرها. و أما المقسم عليه، فهو إثبات القرآن، و أنه حق لا ريب فيه، و لا شك يعتريه. و أنه كريم، أي: كثير الخير، غزير العلم، و كلّ خير و علم، فإنما يستفاد من كتاب اللّه و يستنبط منه.

[78] فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ‏ (78)، أي: مستور عن أعين الخلق، و هذا الكتاب المكنون هو اللوح المحفوظ، أي: إن هذا القرآن، مكتوب في اللوح المحفوظ، و معظم عند اللّه، و عند ملائكته في الملأ الأعلى. و يحتمل أن المراد بالكتاب المكنون هو الكتاب الذي بأيدي الملائكة الّذين ينزلهم اللّه لوحيه و رسالته، و أن المراد بذلك أنه مستور عن الشياطين، لا قدرة لهم على تغييره، و لا الزيادة و النقص منه و استراقه.

[79] لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ‏ (79)، أي: لا يمس القرآن إلا الملائكة الكرام،

تيسير الكريم الرحمن، ص: 1008

الّذين طهرهم اللّه تعالى من الآفات، و الذنوب، و العيوب.

و إذا كان لا يمسه إلا المطهرون، و أن أهل الخبث و الشياطين، لا استطاعة لهم، و لا يدان إلى مسه، دلت الآية- تنبيها- على أنه لا يجوز أن يمس القرآن إلا طاهر.

[80] تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ‏ (80)، أي: إن هذا القرآن الموصوف بتلك الصفات الجليلة، هو تنزيل رب العالمين، الذي يربي عباده، بنعمه الدينية و الدنيوية. و أجل تربية ربى بها عباده، إنزاله هذا القرآن، الذي قد اشتمل على مصالح الدارين، و رحم اللّه به العباد رحمة، لا يقدرون لها شكورا.

[81] و مما يجب عليهم أن يقوموا به و يعلنوه، و يدعوا إليه و يصدعوا به، و لهذا قال: أَ فَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ‏ (81)، أي: أ فبهذا الكتاب العظيم و الذكر الحكيم‏ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ‏ ، أي: تختفون، و تدلون خوفا من الخلق و عارهم و ألسنتهم؟ هذا لا ينبغي و لا يليق، إنما يليق أن يداهن بالحديث الذي لا يثق صاحبه منه. و أما القرآن الكريم فهو الحقّ الذي لا يغالب به مغالب، إلا غلب، و لا يصول به صائل إلا كان العالي على غيره، و هو الذي لا يداهن به و يختفى، بل يصدع به و يعلن.

[82] و قوله: وَ تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ‏ (82)، أي: تجعلون مقابلة منة اللّه عليكم بالرزق بالتكذيب و الكفر لنعمة اللّه، فتقولون: مطرنا بنوء كذا و كذا، و تضيفون النعمة لغير مسديها و موليها. فهلا شكرتم اللّه على إحسانه، إذ أنزله إليكم، ليزيدكم من فضله، فإن التكذيب و الكفر، داع لرفع النعم، و حلول النقم.

[83- 85] فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَ أَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَ لكِنْ لا تُبْصِرُونَ‏ (85)، أي: فهلا إذا بلغت الروح الحلقوم، و أنتم تنظرون المحتضر في هذه الحالة. و الحال أنا نحن أقرب إليه منكم، بعلمنا و ملائكتنا، و لكن لا تبصرون.

[86] فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ‏ (86)، أي: فهلا إذ كنتم تزعمون، أنكم غير مبعوثين و لا محاسبين و مجزيين‏

تَرْجِعُونَها ، أي: إلى بدنها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ‏ و أنتم تقرون أنكم عاجزون عن ردها إلى موضعها. فحينئذ إما أن تقروا بالحق الذي جاء به محمد صلّى اللّه عليه و سلّم، و إما أن تعاندوا فتعلم حالكم و سوء مآلكم.

[88] ذكر اللّه تعالى أحوال الطوائف الثلاث: المقربين، و أصحاب اليمين، و المكذبين الضالين في أول السورة في دار القرار. ثمّ ذكر أحوالهم في آخرها، عند الاحتضار و الموت، فقال: فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ‏ (88)، أي:

إن كان الميت من المقربين إلى اللّه، المتقربين إليه بأداء الواجبات و المستحبات، و ترك المحرمات و المكروهات، و فضول المباحات.

[89] فلهم روح، أي: راحة و طمأنينة، و سرور و بهجة، و نعيم القلب و الروح. وَ رَيْحانٌ‏ و هو أسم جامع لكل لذة بدنية، من أنواع المآكل و المشارب و غيرها، و قيل: الريحان هو: الطيب المعروف، فيكون من باب التعبير بنوع الشي‏ء عن جنسه العام. وَ جَنَّةُ نَعِيمٍ‏ جامعة للأمرين كليهما، فيها ما لا عين رأت و لا أذن سمعت، و لا خطر على قلب بشر، فيبشر المقربون عند الاحتضار بهذه البشارة، الّتي تكاد تطير منها الأرواح، فرحا و سرورا. كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ وَ لَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَ لَكُمْ فِيها ما

تيسير الكريم الرحمن، ص: 1009

تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ‏ (32). و قد فسر قوله تعالى: لَهُمُ الْبُشْرى‏ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ أن هذه البشارة المذكورة، هي البشرى في الحياة الدنيا.

[90] و قوله: وَ أَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ‏ (90)، و هم الّذين أدوا الواجبات و تركوا المحرمات، و إن حصل منهم بعض التقصير في بعض الحقوق، الّتي لا تخل بإيمانهم و توحيدهم، فيقال لأحدهم: سلام‏ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ‏ (91)، أي: سلام حاصل لك من إخوانك أصحاب اليمين، أي: يسلمون عليه و يحيونه عند وصوله إليهم، و لقائهم له، أو يقال له: سلام لك من الآفات و البليات و العذاب، لأنك من أصحاب اليمين، الّذين سلموا من الموبقات.

[92] وَ أَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ‏ (92)، أي: الّذين كذبوا بالحق، و ضلوا عن الهدى.

[93- 94] فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَ تَصْلِيَةُ جَحِيمٍ‏ (94)، أي: ضيافتهم يوم قدومهم على ربهم تصلية الجحيم، الّتي تحيط بهم، و تصل إلى أفئدتهم. و إذا استغاثوا من شدة العطش و الظمأ يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَ ساءَتْ مُرْتَفَقاً .

[95] إِنَّ هذا الذي ذكره اللّه تعالى، من جزاء العباد بأعمالهم، خيرها و شرها، و تفاصيل ذلك‏ لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ‏ ، أي: الذي لا شك فيه و لا مرية. بل هو الحقّ الثابت، الذي لا بد من وقوعه. و قد أشهد اللّه عباده، الأدلة القواطع على ذلك، حتى صار عند أولي الألباب كأنهم ذائقون له، مشاهدون لحقيقته، فحمدوا اللّه تعالى على ما خصهم من هذه النعمة العظيمة، و المنحة الجسيمة. و لهذا قال تعالى:

[96] فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ‏ (96) فسبحان ربنا العظيم، و تعالى و تنزه عما يقول الظالمون و الجاحدون علوا كبيرا. و الحمد للّه رب العالمين، حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه. تم تفسير سورة الواقعة.

تفسير سورة الحديد

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

[1] يخبر تعالى عن عظمته و جلاله، و سعة سلطانه أن جميع ما في السماوات و الأرض، من الحيوانات الناطقة و غيرها، و الجوامد، تسبّح بحمد ربها، و تنزهه عما لا يليق بجلاله. و أنها قانتة لربها، منقادة لعزته، قد ظهرت فيها آثار حكمته، و لهذا قال: وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏ ، فهذا فيه بيان عموم افتقار المخلوقات العلوية و السفلية لربها، في جميع أحوالها، و عموم عزته و قهره للأشياء كلها، و عموم حكمته في خلقه و أمره.

[2] ثمّ أخبر عن عموم ملكه، فقال: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يُحْيِي وَ يُمِيتُ‏ . أي: هو الخالق للمخلوقات، الرازق المدبر لها، بقدرته‏ وَ هُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ .

[3] هُوَ الْأَوَّلُ‏ الذي ليس قبله شي‏ء، وَ الْآخِرُ الذي ليس بعده شي‏ء. وَ الظَّاهِرُ الذي ليس فوقه شي‏ء، وَ الْباطِنُ‏ الذي ليس دونه شي‏ء. وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ‏ قد أحاط علمه بالظواهر و البواطن، و السرائر و الخفايا، و الأمور المتقدمة و المتأخرة.

[4] هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ‏ أولها يوم الأحد، و آخرها يوم الجمعة. ثُمَّ اسْتَوى‏ عَلَى الْعَرْشِ‏ استواء يليق بجلاله، فوق جميع خلقه. يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ‏ من حب و حيوان، و مطر، و غير ذلك. وَ ما يَخْرُجُ مِنْها من نبت و شجر، و حيوان، و غير ذلك. وَ ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ من الملائكة و الأقدار و الأرزاق. وَ ما يَعْرُجُ فِيها من الملائكة و الأرواح، و الأدعية و الأعمال، و غير ذلك. وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ‏ ، كقوله: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى‏ ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَ لا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَ لا أَدْنى‏ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا . و هذه المعية، معية العلم و الاطلاع، و لهذا توعد و وعد بالمجازاة بالأعمال بقوله: وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي: هو تعالى بصير بما يصدر منكم من الأعمال، و ما صدرت عنه تلك الأعمال، من بر و فجور،

تيسير الكريم الرحمن، ص: 1010

فمجازيكم عليها، و حافظها عليكم.

[5] لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ‏ ملكا، و خلقا، و عبيدا، يتصرف فيهم بما شاءه من أوامره القدرية و الشرعية، الجارية على الحكمة الربانية. وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ من الأعمال و العمال، فيعرض عليه العباد، فيميز الخبيث من الطيب، و يجازي المحسن بإحسانه، و المسي‏ء بإساءته.

[6] يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ‏ ، أي:

يدخل الليل على النهار، فيغشيهم الليل بظلامه، فيسكنون و يهدأون. ثمّ يدخل النهار على الليل، فيزول ما على الأرض من الظلام، و يضي‏ء الكون، فيتحرك العباد و يقومون إلى مصالحهم و معايشهم. و لا يزال اللّه يكور الليل على النهار، و النهار على الليل، و يداول بينهما، في الزيادة و النقص، و الطول و القصر، حتى تقوم بذلك الفصول، و تستقيم الأزمنة، و يحصل من المصالح بذلك ما يحصل. فتبارك اللّه رب العالمين، و تعالى الكريم الجواد، الذي أنعم على عباده بالنعم الظاهرة و الباطنة. وَ هُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ، أي:

بما يكون في صدور العالمين. فيوفق من يعلم أنه أهل لذلك، و يخذل من يعلم أنه لا يصلح لهدايته.

[7] يأمر تعالى عباده بالإيمان به و برسوله، و بما جاء به، و بالنفقة في سبيله، من الأموال الّتي جعلها اللّه في أيديهم، و استخلفهم عليها، لينظر كيف يعملون. ثمّ لما أمرهم بذلك، رغّبهم و حثّهم عليه بذكر ما رتب عليه من الثواب، فقال: فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ أَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ، أي: الّذين جمعوا بين الإيمان باللّه و رسوله، و النفقة في سبيله، لهم أجر كبير، و أعظمه و أجلّه رضا ربهم، و الفوز بدار كرامته، و ما فيها من النعيم المقيم، الذي أعده اللّه للمؤمنين و المجاهدين.

[8] ثمّ ذكر السبب الداعي لهم إلى الإيمان، و عدم المانع منه، فقال: وَ ما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَ قَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏ (8)، أي: و ما الذي يمنعكم من الإيمان، و الحال أن الرسول محمدا صلّى اللّه عليه و سلّم أفضل الرسل و أكرم داع دعا إلى اللّه يدعوكم. فهذا مما يوجب المبادرة إلى إجابة دعوته، و التلبية و الإجابة للحق الذي جاء به، و قد أخذ عليكم العهد و الميثاق بالإيمان، إن كنتم مؤمنين.

[9] و مع ذلك، من لطفه و عنايته بكم، أنه لم يكتف بمجرد دعوة الرسول الذي هو أشرف العالم، بل أيده بالمعجزات، و دلّكم على صدق ما جاء به بالآيات البينات. فلهذا قال: هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى‏ عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ‏ ، أي:

ظاهرات تدل أهل العقول على صحة جميع ما جاء به، و أنه هو الحقّ اليقين. لِيُخْرِجَكُمْ‏ بإرسال الرسول إليكم، و ما أنزله اللّه على يده من الكتاب و الحكمة. مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ، أي: من ظلمات الجهل و الكفر، إلى نور العلم و الإيمان. و هذا من رحمته بكم و رأفته، حيث كان أرحم بعباده من الوالدة بولدها وَ إِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ‏ .

[10] وَ ما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ‏ ، أي: و ما الذي يمنعكم من النفقة في سبيل اللّه، و هي طرق الخير كلها، و يوجب لكم أن تبخلوا. وَ الحال أنه ليس لكم شي‏ء، بل‏ لِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ‏ ، فجميع الأموال، ستنقل من أيديكم، أو تنقلون عنها، ثمّ يعود الملك إلى مالكه، تبارك و تعالى. فاغتنموا الإنفاق، ما دامت الأموال في أيديكم، و انتهزوا الفرصة. ثمّ ذكر تعالى، تفاضل الأعمال بحسب الأحوال و الحكمة الإلهية،

تيسير الكريم الرحمن، ص: 1011

فقال: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَ قاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قاتَلُوا ، المراد بالفتح هنا هو:

فتح الحديبية حين جرى من الصلح بين الرسول و بين قريش مما هو أعظم الفتوحات الّتي حصل فيها نشر الإسلام، و اختلاط المسلمين بالكافرين، و الدعوة إلى الدين من غير معارض، فدخل الناس من ذلك الوقت في دين اللّه أفواجا و اعتز الإسلام عزا عظيما. و كان المسلمون قبل هذا الفتح لا يقدرون على الدعوة إلى الدين في غير البقعة الّتي أسلم أهلها، كالمدينة و توابعها. و كان من أسلم من أهل مكة و غيرها، من ديار المشركين، يؤذى و يخاف، فلذلك كان من أسلم قبل الفتح و قاتل، أعظم درجة و أجرا و ثوابا ممن لم يسلم و يقاتل و ينفق إلا بعد ذلك، كما هو مقتضى الحكمة، و لهذا كان السابقون و فضلاء الصحابة، غالبهم أسلم قبل الفتح. و لما كان التفضيل بين الأمور قد يتوهم منه نقص و قدح في المفضول، احترز تعالى من هذا بقوله: وَ كُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى‏ ، أي: الّذين أسلموا و قاتلوا و أنفقوا من قبل الفتح و بعده، كلهم وعده اللّه الجنة، و هذا يدل على فضل الصحابة كلهم، رضي اللّه عنهم، حيث شهد اللّه لهم بالإيمان، و وعدهم الجنة. وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فيجازي كلا منكم، على ما يعمله من عمله.

[11] ثمّ حث على النفقة في سبيله، لأن الجهاد متوقف على النفقة فيه، و بذل الأموال في التجهز له، فقال:

مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً و هي: النفقة الطيبة الّتي تكون خالصة لوجه اللّه، موافقة لمرضاة اللّه، من مال حلال طيب، طيبة به نفسه، و هذا من كرم اللّه تعالى حيث سماه قرضا، و المال ماله، و العبيد عبيده، و وعد بالمضاعفة عليه أضعافا كثيرة، و هو الكريم الوهاب. و تلك المضاعفة، محلها و مواضعها، يوم القيامة يوم يتبين كلّ إنسان فقره، و يحتاج إلى أقل شي‏ء من الجزاء الحسن، و لهذا قال: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ‏ ، إلى: وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ .

[12] يقول تعالى- مبينا لفضل الإيمان و اغتباط أهله به يوم القيامة-: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ يَسْعى‏ نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ‏ ، أي:

إذا كان يوم القيامة، و كورت الشمس، و خسف القمر، و صار الناس في الظلمة، و نصب الصراط على متن جهنم، فحينئذ ترى المؤمنين و المؤمنات، يسعى نورهم بين أيديهم و بأيمانهم، فيمشون بإيمانهم و نورهم، في ذلك الموقف الهائل الصعب، كل على قدر إيمانه، و يبشرون عند ذلك، بأعظم بشارة، فيقال: بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏ . فللّه ما أحلى هذه البشارة بقلوبهم، و ألذها لنفوسهم، حيث حصل لهم كل مطلوب محبوب، و نجوا من كلّ شر و مرهوب.

[13] فإذا رأى المنافقون المؤمنين يمشون بنورهم، و هم قد طفى‏ء نورهم، و بقوا في الظلمات حائرين، قالوا للمؤمنين: انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ‏ ، أي: أمهلونا، لننال من نوركم ما نمشي به، لننجو من العذاب. قِيلَ‏ لهم: ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً ، أي: إن كان ذلك ممكنا، و الحال أن ذلك غير ممكن، بل هو من المحالات.

فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ‏ ، أي: بين المؤمنين و المنافقين‏ بِسُورٍ ، أي: حائط منيع، و حصن حصين. لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ ، و هو الذي يلي المؤمنين، وَ ظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ‏ و هو الذي يلي المنافقين.

[14] فينادي المنافقون‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 1012

المؤمنين، فيقولون تضرعا و ترحما: أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ‏ في الدنيا بقول «لا إله إلا اللّه»، و نصلي و نصوم، و نجاهد، و نعمل مثل عملكم؟ قالُوا بَلى‏ كنتم معنا في الدنيا، و عملتم في الظاهر، مثل عملنا، و لكن أعمالكم أعمال المنافقين، من غير إيمان، و لا نية صادقة صالحة. وَ لكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَ تَرَبَّصْتُمْ وَ ارْتَبْتُمْ‏ ، أي: شككتم في خبر اللّه الذي لا يقبل شكا. وَ غَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُ‏ الباطلة، حيث تمنيتم أن تنالوا منال المؤمنين، و أنتم غير موقنين. حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ‏ ، أي: حتى جاءكم الموت، و أنتم بتلك الحالة الذميمة. وَ غَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ و هو الشيطان، الذي زين لكم الكفر و الريب، فاطمأننتم به، و وثقتم بوعده، و صدقتم خبره.

[15] فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَ لا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ، و لو افتديتم بمل‏ء الأرض ذهبا، و مثله معه، لما تقبل منكم.

مَأْواكُمُ النَّارُ ، أي: مستقركم‏ هِيَ مَوْلاكُمْ‏ التي تتولاكم، و تضمكم إليها وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ النار. قال تعالى: وَ أَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) وَ ما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ (11).

[16] لما ذكر حال المؤمنين و المؤمنات، و المنافقين و المنافقات في الدار الآخرة، كان ذلك مما يدعو القلوب إلى الخشوع لربها، و الاستكانة لعظمته، فعاتب اللّه المؤمنين على عدم ذلك، فقال: أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَ ما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ‏ . أي: ألم يأت الوقت الذي به تلين قلوبهم، و تخشع لذكر اللّه، الذي هو القرآن، و تنقاد لأوامره و زواجره، و ما نزل من الحق الذي جاء به محمد صلّى اللّه عليه و سلّم؟ و هذا فيه الحث على الاجتهاد، على خشوع القلب للّه تعالى، و لما أنزله من الكتاب و الحكمة، و أن يتذكر المؤمنون المواعظ الإلهية، و الأحكام الشرعية، كل وقت، و يحاسبوا أنفسهم على ذلك. وَ لا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ ، أي: و لا يكونوا كالذين أنزل اللّه عليهم الكتاب الموجب لخشوع القلب، و الانقياد التام، ثم لم يدوموا عليه، و لم يثبتوا، بل طال عليهم الزمان، و استمرت بهم الغفلة، فاضمحل إيمانهم، و زال إيقانهم. فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ‏ فالقلوب تحتاج في كل وقت إلى أن تذكر بما أنزل اللّه، و تناطق بالحكمة، و لا ينبغي الغفلة عن ذلك، فإنه سبب لقسوة القلب، و جمود العين.

[17] اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏ (17) فإن الآيات تدل العقول على المطالب الإلهية، و الذي أحيا الأرض بعد موتها، قادر على أن يحيي الأموات بعد موتهم، فيجازيهم بأعمالهم، و الذي أحيا الأرض بعد موتها بماء المطر، قادر على أن يحيي القلوب الميتة بما أنزله من الحقّ على رسوله. و هذه الآية تدل على أنه لا عقل لمن لم يهتد بآيات اللّه، و لم ينقد لشرائع اللّه.

[18] إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَ الْمُصَّدِّقاتِ‏ بالتشديد، أي: الّذين أكثروا من الصدقات و النفقات المرضية. وَ أَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً بأن قدموا من أموالهم في طرق الخيرات، ما يكون ذخرا لهم عند ربهم‏ يُضاعَفُ لَهُمْ‏ الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة. وَ لَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ‏ و هو ما أعده اللّه لهم في الجنة، مما لا تعلمه النفوس.

صفحه بعد