کتابخانه تفاسیر
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1080
أي: حمر وحش، نفرت فنفر بعضها بعضا، فزاد عدوها.
[51] فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)، أي: من صائد و رام يريدها، أو من أسد و نحوه. و هذا من أعظم ما يكون من النفور عن الحقّ، و مع هذا النفور و الإعراض، يدعون الدعاوى الكبار.
[52] بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً نازلة عليه من السماء، يزعم أنه لا ينقاد للحق إلا بذلك، و قد كذبوا، فإنهم لو جاءتهم كلّ آية لم يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم، لأنهم جاءتهم الآيات البينات التي تبين الحقّ و توضحه، فلو كان فيهم خير لآمنوا.
[53] و لهذا قال:
كَلَّا ، أي: لا نعطيهم ما طلبوا، و هم ما قصدوا بذلك إلا التعجيز. بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ فلو كانوا يخافونها، لما جرى منهم ما جرى.
[54] كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) الضمير إما أن يعود على هذه السورة، أو على ما اشتملت عليه من هذه الموعظة.
[55] فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) لأنه قد بين له السبيل، و وضع له الدليل.
[56] وَ ما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ فإن مشيئة اللّه، نافذة عامة، لا يخرج عنها حادث قليل و لا كثير، ففيها رد على القدرية، الّذين لا يدخلون أفعال العباد تحت مشيئة اللّه، و الجبرية الّذين يزعمون أنه ليس للعبد مشيئة، و لا فعل حقيقة، و إنما هو مجبور على أفعاله. فأثبت اللّه تعالى للعبد مشيئته حقيقة و فعلا، و جعل ذلك تابعا لمشيئته. هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ، أي: هو أهل أن يتقى و يعبد، لأنه الإله الذي لا تنبغي العبادة إلا له، و أهل أن يغفر لمن اتقاه، و اتبع رضاه. تم تفسير سورة المدثر- و للّه الحمد و المنة.
تفسير سورة القيامة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] ليست «لا» هاهنا نافية و لا زائدة، و إنما أتى بها للاستفتاح و الاهتمام بما بعدها، و لكثرة الإتيان بها مع اليمين، لا يستغرب الاستفتاح بها، و إن لم تكن في الأصل موضوعة للاستفتاح. فالمقسم به في هذا الموضع، هو المقسم عليه، و هو: البعث بعد الموت، و قيام الناس من قبورهم، ثمّ وقوفهم ينتظرون ما يحكم به الرب عليهم.
[2] وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) و هي جميع النفوس الخيرة و الفاجرة، سمّيت «لوّامة» لكثيرة تلونها و ترددها، و عدم ثبوتها على حالة من أحوالها، و لأنها عند الموت تلوم صاحبها على ما فعلت، بل نفس المؤمن تلوم صاحبها في الدنيا، على ما حصل منه، من تفريط و تقصير، في حق من الحقوق، أو غفلة. فجمع بين الإقسام بالجزاء، و على الجزاء، و بين مستحق الجزاء. ثمّ أخبر مع هذا، أن بعض المعاندين يكذبون بيوم القيامة، فقال:
[3] أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بعد الموت، كما قال: قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ ؟ فاستبعد من
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1081
جهله و عدوانه، قدرة اللّه على خلق عظامه التي هي عماد البدن، فرد عليه بقوله:
[4] بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4)، أي: أطراف أصابعه و عظامه، و ذلك مستلزم لخلق جميع أجزاء البدن، لأنها إذا وجدت الأنامل و البنان، فقد تمت خلقة الجسد، و ليس إنكاره لقدرة اللّه تعالى قصورا بالدليل الدال على ذلك، و إنما وقع ذلك منه، لأن إرادته و قصده، التكذيب بما أمامه من البعث. و الفجور: الكذب مع التعمد.
[7] ثمّ ذكر أحوال القيامة فقال: فَإِذا بَرِقَ ، إلى:
مَعاذِيرَهُ . أي: فَإِذا كانت القيامة بَرِقَ الْبَصَرُ من الهول العظيم، و شخص فلا يطرف كما قال تعالى: إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَ أَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43).
[8] وَ خَسَفَ الْقَمَرُ (8)، أي: ذهب نوره و سلطانه.
[9] وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ (9) و هما لم يجتمعا منذ خلقهما اللّه تعالى، فيجمع اللّه بينهما يوم القيامة، و يخسف القمر، و تكور الشمس، و يقذفان في النار، ليرى العباد، أنهما عبدان مسخران، و ليرى من عبدهما، أنهم كانوا كاذبين.
[10] يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ ، أي:
حين يرى تلك القلاقل المزعجات: أَيْنَ الْمَفَرُّ ؟ أي: أين الخلاص و الفكاك، مما طرقنا و ألمّ بنا؟
[11] كَلَّا لا وَزَرَ (11)، أي: لا ملجأ لأحد دون اللّه.
[12] إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) لسائر العباد، فليس في إمكان أحد، أن يستتر أو يهرب عن ذلك الموضع، بل لا بد من إيقافه، ليجزى بعمله.
[13] و لهذا قال: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَ أَخَّرَ (13)، أي: بجميع عمله الحسن و السيّء، في أول وقته و آخره، و ينبأ بخبر لا ينكره.
[14] بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14)، أي: شاهد و محاسب.
[15] وَ لَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15) فإنها معاذير لا تقبل، بل يقرر بعمله، فيقرّ به، كما قال تعالى: اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14). فالعبد و إن أنكر، أو اعتذر عما عمله، فإنكاره و اعتذاره، لا يفيدانه شيئا، لأنه يشهد عليه سمعه و بصره، و جميع جوارحه بما كان يعمل، و لأن استعتابه، قد ذهب وقته، و زال نفعه: فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57).
[16] كان النبي صلّى اللّه عليه و سلّم إذا جاءه جبريل بالوحي، و شرع في تلاوته، بادره النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، من الحرص قبل أن يفرغ، و تلاه مع تلاوة جبريل إياه، فنهاه اللّه عن ذلك، و قال: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ . و قال هنا: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16)، ثمّ ضمن له تعالى، أنه لا بد أن يحفظه و يقرأه، و يجمعه اللّه في صدره فقال:
[17] إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ (17) فالحرص الذي في خاطرك، إنما الداعي له حذر الفوات و النسيان، فإذا ضمنه اللّه لك، فلا موجب لذلك.
[18] فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18)، أي: إذا أكمل جبريل ما يوحى إليك، فحينئذ اتبع ما قرأه فاقراه.
[19] ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19)، أي: بيان معانيه، فوعده بحفظ لفظه، و حفظ معانيه، و هذا أعلى ما يكون، فامتثل صلّى اللّه عليه و سلّم لأدب ربه، فكان إذا تلا عليه جبريل القرآن بعد هذا، أنصت له، فإذا فرغ قرأه.
و في هذه الآية، أدب لأخذ العلم، أن لا يبادر المتعلم للعلم، قبل أن يفرغ المعلم من المسألة التي شرع فيها، فإذا فرغ
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1082
منها، سأله عما أشكل عليه. و كذلك إذا كان في أول الكلام ما يوجب الرد أو الاستحسان، أن لا يبادر برده أو قبوله، قبل الفراغ من ذلك الكلام، ليتبين ما فيه من حق أو باطل، و ليفهمه فهما يتمكن فيه من الكلام فيه على وجه الصواب. و فيها: أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، كما بين للأمة ألفاظ الوحي، فإنه قد بين لهم معانيه.
[20- 21] أي: هذا الذي أوجب لكم الغفلة و الإعراض عن وعظ اللّه و تذكيره أنكم تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ و تسعون فيما يحصلها، و في لذاتها و شهواتها، و تؤثرونها على الآخرة، فتذرون العمل لها؛ لأن الدنيا نعيمها و لذاتها عاجلة، و الإنسان مولع بحب العاجل، و الآخرة متأخر ما فيها من النعيم المقيم، فلذلك غفلتم عنها، و تركتموها، كأنكم لم تخلقوا لها، و كأن هذه الدار هي دار القرار، التي تبذل فيها نفائس الأعمار، و يسعى لها آناء الليل و النهار، و بهذا انقلبت عليكم الحقيقة، و حصل من الخسار ما حصل.
فلو آثرتم الآخرة على الدنيا، و نظرتم العواقب نظر البصير العاقل، لنجحتم، و ربحتم ربحا لا خسار معه، و فزتم فوزا لا شقاء يصحبه.
[22] ثمّ ذكر ما يدعو إلى إيثار الآخرة، ببيان حال أهلها و تفاوتهم فيها، فقال في جزاء المؤثرين للآخرة على الدنيا: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22)، أي: حسنة بهية، لها رونق و نور، مما هم فيه من نعيم القلوب، و بهجة النفوس، و لذة الأرواح.
[23] إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) أي: ينظرون إلى ربهم، على حسب مراتبهم. و منهم من ينظره كلّ يوم بكرة و عشيا، و منهم من ينظر كلّ جمعة مرة واحدة، فيتمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم، و جماله الباهر، الذي ليس كمثله شيء، فإذا رأوه نسوا ما هم فيه من النعيم، و حصل لهم من اللذة و السرور، ما لا يمكن التعبير عنه، و نضرت وجوههم، فازدادوا جمالا إلى جمالهم، فنسأل اللّه الكريم أن يجعلنا منهم. و قال في المؤثرين العاجلة على الآجلة:
[24] وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24)، أي: معبسة كدرة، خاشعة ذليلة
[25] تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25)، أي:
عقوبة شديدة، و عذاب أليم، فلذلك تغيرت وجوههم و عبست.
[26] يعظ تعالى عباده، بذكر المحتضر حال السياق، و أنه إذا بلغت روحه التراقي، و هي العظام المكتنفة لثغرة النحر. فحينئذ يشتد الكرب، و يطلب كلّ وسيلة و سبب، يظن أن يحصل به الشفاء و الراحة.
[27] و لهذا قال:
وَ قِيلَ مَنْ راقٍ (27)، أي: من يرقيه، من الرقية، لأنهم انقطعت آمالهم من الأسباب العادية، فتعلقوا بالأسباب الإلهية. و لكن القضاء و القدر، إذا حتم و جاء فلا مرد له.
[28] وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) للدنيا.
[29] وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29)، أي: اجتمعت الشدائد، و التفت، و عظم الأمر و صعب الكرب، و أريد أن تخرج الروح من البدن، الذي ألفته، و لم تزل معه، فتساق إلى اللّه تعالى، ليجازيها بأعمالها و يقررها بفعالها. فهذا الزجر الذي ذكره اللّه، يسوق القلوب إلى ما فيه نجاتها، و يزجرها عما فيه هلاكها. و لكن المعاند الذي لا تنفع فيه الآيات، لا يزال مستمرا على غيه، و كفره و عناده.
[31- 32] فَلا صَدَّقَ ، أي: لا آمن باللّه و ملائكته، و كتبه، و رسله، و اليوم الآخر، و القدر خيره و شره. وَ لا صَلَّى (32) وَ لكِنْ كَذَّبَ بالحق في مقابلة التصديق وَ تَوَلَّى عن الأمر و النهي، هذا و هو
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1083
مطمئن قلبه، غير خائف من ربه.
[33] ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33)، أي: ليس على باله شيء.
[34- 35] ثمّ توعده بقوله: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) و هذه كلمات وعيد كررها لتكرير و عيده.
[36] ثمّ ذكّر الإنسان بخلقه الأول، فقال: أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36)، أي: مهملا، لا يؤمر و لا ينهى، و لا يثاب و لا يعاقب؟ هذا حسبان باطل، و ظن باللّه غير ما يليق بحكمته.
[37- 38] أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ بعد المني عَلَقَةً أي: دما فَخَلَقَ اللّه منها الحيوان فَسَوَّى أي:
أتقنه و أحكمه.
[39- 40] فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى (39) أَ لَيْسَ ذلِكَ ، أي: الذي خلق الإنسان و طوره إلى هذه الأطوار المختلفة بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى ، بلى إنه على كلّ شيء قدير. تم تفسير سورة القيامة.
سورة الإنسان
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] ذكر اللّه في هذه السورة، أول حال الإنسان و منتهاها و متوسطها. فذكر أنه مر عليه حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ طويل، و هو الذي قبل وجوده، و هو معدوم لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً .
[2] ثمّ لما أراد خلقه خلق أباه آدم من طين، ثمّ جعل نسله متسلسلا مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ ، أي: ماء مهين مستقذر نَبْتَلِيهِ بذلك، لنعلم هل يرى حاله الأولى، و يتفطن لها أم ينساها و تغره نفسه؟ فأنشأه اللّه، و خلق له القوى الظاهرة و الباطنة، كالسمع و البصر، و سائر الأعضاء فأتمها له و جعلها سالمة، يتمكن بها من تحصيل مقاصده.
[3] ثمّ أرسل إليه الرسل، و أنزل عليه الكتب، و هداه الطريق الموصلة إليه، و بيّنها، و رغّبه فيها، و أخبره بما له عند الوصول إليه. ثمّ أخبره بالطريق الموصلة إلى الهلاك، و رهّبه عنها، و أخبره بما له، إذا سلكها، و ابتلاه بذلك، فانقسم الناس إلى شاكر لنعمة اللّه عليه، قائم بما حمله اللّه من حقوقه. و إلى كفور للنعم، أنعم اللّه عليه بالنعم الدينية و الدنيوية، فردّها، و كفر بربه، و سلك الطريق الموصلة إلى الهلاك.
[4] أي: إنا هيأنا، و أرصدنا لمن كفر باللّه، و كذب رسله، و تجرأ على معاصيه. سَلاسِلَ في نار جهنم، كما قال تعالى: ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32). وَ أَغْلالًا تغل بها أيديهم إلى أعناقهم، و يوثقون بها.
وَ سَعِيراً ، أي: نارا تستعر بها أجسامهم، و تحرق بها أبدانهم، كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ . و هذا العذاب الدائم، مؤبد لهم، مخلدون فيه سرمدا.
[5] و أما الْأَبْرارَ و هم: الّذين برت قلوبهم، بما فيها من معرفة اللّه و محبته، و الأخلاق الجميلة، فبرت أعمالهم، و استعملوها بأعمال البر. فأخبر أنهم يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ ، أي: شراب لذيذ من خمر قد مزج بكافور، أي: خلط به، ليبرده، و يكسر حدته، و هذا الكافور في
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1084
غاية اللذة، قد سلم من كلّ مكدر و منغص موجود في كافور الدنيا، فإن الآفة الموجودة في الدنيا، تعدم من الأسماء التي ذكرها اللّه في الجنة. كما قال تعالى: فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَ طَلْحٍ مَنْضُودٍ (29)، وَ أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ ، لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ ، وَ فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ .
[6] عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ ، أي: ذلك الكأس اللذيذ، الذي يشربونه، لا يخافون نفاده، بل له مادة لا تنقطع، و هي عين دائمة الفيضان و الجريان، يفجرها عباد اللّه تفجيرا، أنى شاءوا، و كيف أرادوا. فإن شاؤوا صرفوها إلى البساتين الزاهرات، أو إلى الرياض النضرات، أو بين جوانب القصور، و المساكن المزخرفات، أو إلى أي جهة يرونها من الجهات المونقات.
[7] ثمّ ذكر جملة من أعمالهم، فقال: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ، أي: بما ألزموا به أنفسهم من النذور و المعاهدات. و إذا كانوا يوفون بالنذر، الذي هو غير واجب في الأصل عليهم، إلا بإيجابهم على أنفسهم، كان فعلهم و قيامهم بالفروض الأصلية، من باب أولى و أحرى. وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ، أي: قاسيا منتشرا. فخافوا أن ينالهم شره، فتركوا كل سبب موجب لذلك.
[8] وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ أي: و هم في حال يحبون فيها المال و الطعام، و لكنهم قدموا محبة اللّه على محبة نفوسهم، و يتحرون في إطعامهم، أولى الناس و أحوجهم مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً .
[9] و يقصدون بإنفاقهم و إطعامهم، وجه اللّه تعالى، و يقولون بلسان الحال: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً (9)، أي: لا جزاء ماليا، و لا ثناء قوليا.
[10] إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً ، أي: شديد الجهمة و الشر قَمْطَرِيراً ، أي: ضنكا ضيقا.
[11] فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ فلا يحزنهم الفزع الأكبر، و تتلقاهم الملائكة، هذا يومكم الذي كنتم توعدون.
وَ لَقَّاهُمْ ، أي: أكرمهم و أعطاهم نَضْرَةً في وجوههم وَ سُرُوراً في قلوبهم، فجمع لهم بين نعيم الظاهر و الباطن.
[12] وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا على طاعته، فعملوا ما أمكنهم منها، و عن معاصيه، فتركوها، و على أقداره المؤلمة، فلم يتسخطوها. جَنَّةً جامعة لكل نعيم، سالمة من كلّ مكدر و منغص. وَ حَرِيراً كما قال تعالى:
وَ لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ* . و لعل اللّه إنما خص الحرير، لأنه لباسهم الظاهر، الدال على حال صاحبه.
[13] مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ الاتكاء: التمكن من الجلوس، في حال الطمأنينة، و الراحة، و الرفاهية، و الأرائك هي: السرر التي عليها اللباس المزين. لا يَرَوْنَ فِيها ، أي: في الجنة شَمْساً يضرهم حرها، وَ لا زَمْهَرِيراً ، أي:
بردا شديدا، بل جميع أوقاتهم في ظل ظليل، لا حر و لا برد، بحيث تلتذ به الأجساد، و لا تتألم من حر و لا برد.
[14] وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا (14)، أي: قربت ثمراتها من مريدها، تقريبا ينالها و هو قائم، أو قاعد، أو مضطجع.
[15- 16] وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ ، أي: يدور الولدان و الخدم على أهل الجنة بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَ أَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (16) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ ، أي: مادتها فضة، و هي على صفاء القوارير، و هذا من أعجب الأشياء، أن تكون الفضة الكثيفة، من صفاء جوهرها، و طيب معدنها، على صفاء القوارير. قَدَّرُوها تَقْدِيراً ، أي: قدروا الأواني
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1085
المذكورة على قدر ريّهم، لا تزيد و لا تنقص، لأنها لو زادت نقصت لذتها، و لو نقصت لم تكفهم لريهم. و يحتمل أن المراد: قدرها أهل الجنة بمقدار، يوافق لذاتهم، فأتتهم على ما قدروا في خواطرهم.
[17] وَ يُسْقَوْنَ فِيها ، أي: الجنة كَأْساً و هو الإناء من خمر و رحيق، كانَ مِزاجُها ، أي: خلطها زَنْجَبِيلًا ليطيب طعمه و ريحه.
[18] عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) سميت بذلك لسلاستها و لذتها و حسنها.
[19] وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ ، أي: على أهل الجنة، في طعامهم و شرابهم و خدمتهم. وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ ، أي: خلقوا من الجنة للبقاء، لا يتغيرون و لا يكبرون، و هم في غاية الحسن. إِذا رَأَيْتَهُمْ منتشرين في خدمتهم حَسِبْتَهُمْ من حسنهم لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً و هذا من تمام لذة أهل الجنة، أن يكون خدامهم الولدان المخلدون، الّذين تسر رؤيتهم، و يدخلون في مساكنهم، آمنين من تبعتهم، و يأتونهم بما يدعون، و تطلبه نفوسهم.
[20] وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَ ، أي: رمقت ما أهل الجنة عليه من النعيم الكامل. رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً فتجد الواحد منهم، عنده من المساكن و الغرف المزينة المزخرفة، ما لا يدركه الوصف. و لديه من البساتين الزاهرة، و الثمار الدانية، و الفواكه اللذيذة، و الأنهار الجارية، و الرياض المعجبة، و الطيور المطربة المشجية، ما يأخذ بالقلوب، و يفرح النفوس. و عنده من الزوجات، اللاتي في غاية الحسن و الإحسان، الجامعات لجمال الظاهر و الباطن، الخيرات الحسان، ما يملأ القلب سرورا، و لذة و حبورا. و حوله من الولدان المخلدين، و الخدم المؤبدين، ما به تحصل الراحة و الطمأنينة، و تتم لذة العيش، و تكمل الغبطة. ثمّ علاوة ذلك و معظمه، الفوز برضا الرب الرحيم، و سماع خطابه، و لذة قربه، و الابتهاج برضاه، و الخلود الدائم، و تزايد ما هم فيه من النعيم، كل وقت و حين. فسبحان مالك الملك، الحقّ المبين، الذي لا تنفد خزائنه، و لا يقل خيره، فكما لا نهاية لأوصافه، فلا نهاية لبره و إحسانه.
[21] عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ ، أي: قد جللتهم ثياب السندس و الإستبرق الأخضران اللذان هما أجلّ أنواع الحرير، فالسندس: ما غلظ من الحرير، و الإستبرق: ما رقّ منه. وَ حُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ ، أي: حلوا في أيديهم أساور، ذكورهم و إناثهم، و هذا وعد وعدهم اللّه، و كان وعده مفعولا، لأنه لا أصدق منه قيلا و لا حديثا. و قوله:
وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً ، أي: لا كدر فيه بوجه من الوجوه، مطهرا لما في بطونهم من كلّ أذى و قذى.
[22] إِنَّ هذا الجزاء الجزيل كانَ لَكُمْ جَزاءً على ما أسلفتموه، من الأعمال. وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً أي: القليل منه، يجعل اللّه لكم به، من النعيم، ما لا يمكن حصره.
[23] و قوله تعالى لما ذكر نعيم الجنة إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23)، و فيه الوعد و الوعيد، و بيان كلّ ما يحتاجه العباد. و فيه الأمر بالقيام بأوامره و شرائعه أتمّ القيام، و السعي في تنفيذها، و الصبر على ذلك.
[24] و لهذا قال: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24)، أي: اصبر لحكمه القدري، فلا تسخطه، و لحكمه الديني، فامض عليه، و لا يعوقنك عنه عائق. وَ لا تُطِعْ من المعاندين، الّذين يريدون أن يصدوك آثِماً ، أي: فاعلا
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1086
إثما و معصية أَوْ كَفُوراً ، فإن طاعة الكفار و الفجار و الفساق، لا بد أن تكون معصية للّه، فإنهم لا يأمرون إلا بما تهواه أنفسهم.
[25] و لما كان الصبر يستمد من القيام بطاعة اللّه، و الإكثار من ذكره، أمر اللّه بذلك، فقال:
وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا (25)، أي: أول النهار و آخره، فدخل في ذلك الصلوات المكتوبات و ما يتبعها من النوافل، و الذكر، و التسبيح، و التهليل، و التكبير في هذه الأوقات.
[26] وَ مِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ ، أي: أكثر له من السجود، و ذلك متضمن لكثرة الصلاة. وَ سَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا ، و قد تقدم تقييد هذا المطلق بقوله: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ .
[27] و قوله: إِنَّ هؤُلاءِ ، أي: المكذبين لك أيها الرسول، بعد ما بينت لهم الآيات، و رغبوا و رهبوا، و مع ذلك، لم يفد فيهم ذلك شيئا بل لا يزالون يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ و يطمئنون إليها. وَ يَذَرُونَ ، أي: يتركون العمل، و يهملون وَراءَهُمْ أي: أمامهم يَوْماً ثَقِيلًا و هو يوم القيامة، الذي مقداره خمسون ألف سنة مما تعدون. و قال تعالى: يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ . فكأنهم ما خلقوا إلا للدنيا، و الإقامة فيها.
[28] ثم استدل عليهم و على بعثهم بدليل عقلي، و هو دليل الابتداء، فقال: نَحْنُ خَلَقْناهُمْ ، أي: أوجدناهم من العدم وَ شَدَدْنا أَسْرَهُمْ ، أي:
أحكمنا خلقتهم بالأعصاب، و العروق، و الأوتار، و القوى الظاهرة و الباطنة، حتى تم الجسم و استكمل، و تمكن من كل ما يريده. فالذي أوجدهم على هذه الحالة، قادر على أن يعيدهم بعد موتهم، لجزائهم، و الذي نقلهم في هذه الدار إلى هذه الأطوار، لا يليق به أن يتركهم سدى، لا يؤمرون، و لا ينهون، و لا يثابون، و لا يعاقبون، و لهذا قال: وَ إِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا ، أي: أنشأناهم للبعث نشأة أخرى، و أعدناهم بأعيانهم، و هم بأنفسهم أمثالهم.
[29] إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ ، أي: يتذكر بها المؤمن، فينتفع بما فيها، من التخويف و الترغيب. فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا ، أي: طريقا موصلا إليه. فاللّه، يبين الحق و الهدى، ثم يخير الناس بين الاهتداء بها، و النفور عنها، إقامة للحجة لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ
[30] وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ فإن مشيئة اللّه نافذة. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً فله الحكمة في هداية المهتدي، و إضلال الضال.