کتابخانه تفاسیر
تيسير الكريم الرحمن، ص: 972
و كل منهما قَعِيدٌ بذلك متهيىء لعمله الذي أعد له، ملازم لذلك.
[18] ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ من خير أو شر إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ، أي: مراقب له، حاضر لحاله، كما قال تعالى: وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12).
[19] أي:. وَ جاءَتْ هذا الغافل المكذب بآيات اللّه سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ الذي لا مرد له و لا مناص، ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ، أي: تتأخر و تنكص عنه.
[20] وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20)، أي: اليوم الذي يلحق الظالمين ما أوعدهم اللّه به من العقاب، و المؤمنين ما وعدهم به من الثواب.
[21] وَ جاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ يسوقها إلى موقف القيامة، فلا يمكنها أن تتأخر عنه، وَ شَهِيدٌ يشهد عليها بأعمالها، خيرها و شرها، و هذا يدل على اعتناء اللّه بالعباد، و حفظه لأعمالهم، و مجازاته لهم بالعدل، فهذا الأمر، مما يجب أن يجعله العبد منه على بال.
[22] و لكن أكثر الناس غافلون، و لهذا قال: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا ، أي: يقال للمعرض المكذب يوم القيامة هذا الكلام، توبيخا، و لوما و تعنيفا، أي: لقد كنت مكذبا بهذا، تاركا العمل له (ف) الآن كشفنا عَنْكَ غِطاءَكَ الذي غطى قلبك، فكثر نومك، و استمر إعراضك، فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ينظر ما يزعجه و يروعه، من أنواع العذاب و النكال. أو هذا خطاب من اللّه للعبد، فإنه في الدنيا، في غفلة عما خلق له، و لكنه يوم القيامة ينتبه و يزول عنه و سنه، في وقت لا يمكنه أن يتدارك الفارط، و لا يستدرك الفائت، و هذا كله تخويف من اللّه للعباد، و ترهيب بذكر ما يكون على المكذبين في ذلك اليوم العظيم.
[23] يقول تعالى: وَ قالَ قَرِينُهُ ، أي: قرين هذا المكذب المعرض، من الملائكة، الذين وكلهم اللّه على حفظه، و حفظ أعماله، فيحضره يوم القيامة و يحضر أعماله و يقول: هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ ، أي: قد أحضرت ما جعلت عليه، من حفظه و حفظ عمله، فيجازى بعمله.
[24] و يقال لمن استحق النار: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24)، أي: كثير الكفر و العناد لآيات اللّه، المكثر من المعاصي، المجترئ على المحارم و المآثم.
[25- 26] مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ ، أي: يمنع الخير الذي قبله، الذي أعظمه، الإيمان باللّه، و ملائكته، و كتبه، و رسله، مناع، لنفع ماله و بدنه. مُعْتَدٍ على عباد اللّه، و على حدوده، مُرِيبٍ ، أي: شاك في وعد اللّه و وعيده، فلا إيمان و لا إحسان و لكن وصفه الكفر و العدوان، و الشك و الريب و الشح، و اتخاذ الآلهة من دون الرحمن، و لهذا قال: الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ ، أي: عبد معه غيره، ممن لا يملك لنفسه ضرا و لا نفعا، و لا موتا و لا حياة، و لا نشورا. فَأَلْقِياهُ أيها الملكان القرينان فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ الذي هو معظمها و أشدها و أشنعها.
[27] قالَ قَرِينُهُ الشيطان، متبرئا منه، حاملا عليه إثمه: رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ لأني لم يكن لي عليه سلطان و لا حجة و لا برهان. وَ لكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ، فهو الذي ضل و بعد عن الحق، باختياره. كما قال في الآية الأخرى:
[28] قال اللّه تعالى مجيبا لاختصامهم: لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ ، أي: لا فائدة في اختصامكم عندي، وَ الحال أني قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ،
تيسير الكريم الرحمن، ص: 973
أي: جاءتكم رسلي بالآيات البينات، و الحجج الواضحات، و البراهين الساطعات، فقامت عليكم حجتي، و انقطعت حجتكم، و قدمتم إليّ بما أسلفتم من الأعمال التي وجب جزاؤها.
[29] ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ ، أي: لا يمكن أن يخلف ما قاله اللّه و أخبر به، لأنه لا أصدق من اللّه قيلا، و لا أصدق حديثا. وَ ما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ، بل أجزيهم بما عملوا من خير و شر، فلا يزاد في سيئاتهم، و لا ينقص من حسناتهم.
[30] يقول تعالى مخوفا لعباده: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ ، و ذلك من كثرة ما ألقي فيها. وَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ، أي: لا تزال تطلب الزيادة، من المجرمين العاصين، غضبا لربها، و غيظا على الكافرين. و قد وعدها اللّه ملأها، كما قال تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ* حتى يضع رب العزة عليها قدمه الكريمة المنزهة عن التشبيه، فينزوي بعضها على بعض، و تقول: قط قط، قد اكتفيت و امتلأت.
[31] وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ ، أي: قربت لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ بحيث تشاهد و ينظر ما فيها، من النعيم المقيم، و الحبرة و السرور، و إنما أزلفت و قربت، لأجل المتقين لربهم، التاركين للشرك، كبيره و صغيره، الممتثلين لأوامر ربهم، المنقادين له.
[32] و يقال لهم على وجه التهنئة: هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32)، أي: هذه الجنة و ما فيها، ما تشتهيه الأنفس، و تلذ الأعين، هي التي وعد اللّه كل أواب، أي: رجّاع إلى اللّه، في جميع الأوقات، بذكره و حبه، و الاستعانة به، و دعائه و خوفه و رجائه.
حَفِيظٍ ، أي: محافظ على ما أمر اللّه به، بامتثاله على وجه الإخلاص، و الإكمال له على أتم الوجوه، حفيظ لحدوده.
[33] مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ ، أي: خافه على وجه المعرفة بربه، و الرجاء لرحمته و لازم على خشية اللّه في حال غيبه، أي: مغيبه عن أعين الناس، و هذه هي الخشية الحقيقية. و أما خشيته في حال نظر الناس و حضورهم، فقد تكون رياء و سمعة، فلا تدل على الخشية، و إنما الخشية النافعة، خشيته في الغيب و الشهادة. وَ جاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ، أي: وصفه الإنابة إلى مولاه، و انجذاب دواعيه إلى مراضيه.
[34] و يقال لهؤلاء الأتقياء الأبرار: ادْخُلُوها بِسَلامٍ ، أي: دخولا مقرونا بالسلامة من الآفات و الشرور، مأمونا فيه جميع مكاره الأمور، فلا انقطاع لنعيمهم، و لا كدر، و لا تنغيص. ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ الذي لا زوال له و لا موت، و لا شيء من المكدرات.
[35] لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها ، أي: كل ما تعلقت به مشيئتهم، فهو حاصل فيها. وَ لَدَيْنا فوق ذلك مَزِيدٌ ، أي: ثواب يمدهم به الرحمن الرحيم، مما لا عين رأت، و لا أذن سمعت، و لا خطر على قلب بشر. و أعظم ذلك و أجلّه و أفضله، النظر إلى وجهه الكريم، و التمتع بسماع كلامه، و التنعم بقربه، فنسأله ذلك من فضله.
[36] يقول تعالى- مخوفا للمشركين المكذبين للرسول-: وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ ، أي: أمما كثيرة هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً ، أي: قوة و آثارا في الأرض. و لهذا قال: فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ ، أي: بنوا الحصون المنيعة و المنازل الرفيعة، و غرسوا الأشجار، و أجروا الأنهار، و زرعوا، و عمروا، و دمروا. فلما كذبوا رسل اللّه، و جحدوا آياته، أخذهم اللّه بالعقاب الأليم، و العذاب الشديد. هَلْ مِنْ مَحِيصٍ ، أي: لا مفر لهم من عذاب اللّه، حين نزل بهم،
تيسير الكريم الرحمن، ص: 974
و لا منقذ، فلم تغن عنهم قوتهم، و لا أموالهم، و لا أولادهم.
[37] إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ ، أي: قلب عظيم حيّ، ذكيّ، زكيّ، فهذا إذا ورد عليه شيء من آيات اللّه، تذكر بها، و انتفع، فارتفع. و كذلك من ألقى سمعه إلى آيات اللّه، و استمعها، استماعا يسترشد به، و قلبه شَهِيدٌ ، أي: حاضر، فهذا أيضا له ذكرى و موعظة، و شفاء و هدى. و أما المعرض، الذي لم يصغ سمعه إلى الآيات، فهذا لا تفيده شيئا، لأنه لا قبول عنده، و لا تقتضي حكمة اللّه هداية من هذا نعته.
[38] و هذا إخبار منه تعالى عن قدرته العظيمة، و مشيئته النافذة، التي أوجد بها أعظم المخلوقات خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ، أولها يوم الأحد، و آخرها يوم الجمعة، من غير تعب و لا نصب، و لا لغوب، و لا إعياء. فالذي أوجدها- على كبرها و عظمها- قادر على إحياء الموتى، من باب أولى و أحرى.
[39] فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ من الذم لك و التكذيب بما جئت به، و اشتغل عنهم بطاعة ربك و تسبيحه، أول النهار و آخره، في أوقات الليل، و أدبار الصلوات. فإن ذكر اللّه تعالى مسلّ للنفس، مؤنس لها، مهوّن للصبر.
[41] أي: وَ اسْتَمِعْ بقلبك يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ و هو إسرافيل عليه السلام، أي: حين ينفخ في الصور مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ من الأرض.
[42] يَوْمَ يَسْمَعُونَ تلك الصَّيْحَةَ المزعجة المهولة بِالْحَقِ الذي لا شك فيه و لا متراء. ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ من القبور، الذي انفرد به القادر على كل شيء، و لهذا قال:
[43- 44] إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ وَ إِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ ، أي: عن الخلائق. سِراعاً ، أي:
يسرعون لإجابة الداعي لهم إلى موقف القيامة. ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ ، أي: سهل على اللّه، لا تعب فيه و لا كلفة.
[45] نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ لك، مما يحزنك من الأذى. و إذا كنا أعلم بذلك، فقد علمت كيف اعتناؤنا بك، و تيسيرنا لأمورك، و نصرنا لك على أعدائك، فليفرح قلبك، و لتطمئن نفسك، و لتعلم أننا أرحم بك و أرأف من نفسك. فلم يبق لك إلا انتظار وعد اللّه و التأسّي بأولي العزم، من رسل اللّه. وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ، أي: مسلط عليهم إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ، و لهذا قال: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ و التذكير، هو تذكير بما تقرر في العقول و الفطر، من محبة الخير و إيثاره و فعله، و من بغض الشر و مجانبته، و إنما يتذكر بالتذكير، من يخاف وعيد اللّه. و أما من لم يخف الوعيد و لم يؤمن به، فهذا فائدة تذكيره إقامة الحجة عليه، لئلا يقول: ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَ لا نَذِيرٍ .
آخر تفسير سورة (ق) و الحمد للّه أولا و آخرا و ظاهرا و باطنا.
تيسير الكريم الرحمن، ص: 975
سورة الذاريات
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] هذا قسم من اللّه الصادق في قيله، بهذه المخلوقات العظيمة التي جعل اللّه فيها من المصالح و المنافع، ما جعل على أن وعده صدق، و أن الدين الذي هو يوم الجزاء و المحاسبة على الأعمال، لواقع لا محالة، ما له من دافع.
فإذا أخبر به الصادق العظيم و أقسم عليه، و أقام الأدلة و البراهين عليه، فلم يكذب به المكذبون، و يعرض عن العمل له العاملون. وَ الذَّارِياتِ هي الرياح التي تذور في هبوبها ذَرْواً بلينها، و لطفها، و قوتها، و إزعاجها.
[2] فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2)، هي: السحاب، تحمل الماء الكثير، الذي ينفع اللّه به العباد و البلاد.
[3] فَالْجارِياتِ يُسْراً (3): النجوم التي تجري على وجه اليسر و السهولة، فتتزين بها السماوات، و يهتدى بها في ظلمات البر و البحر، و ينتفع بالاعتبار بها.
[4] فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4) الملائكة التي تقسم الأمر و تدبره بإذنه اللّه، فكل منهم قد جعله اللّه على تدبير أمر من أمور الدنيا و الآخرة، لا يتعدى ما حدّ له و قدر، و رسم، و لا ينقص منه.
[7] وَ السَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7)، أي: ذات الطرائق الحسنة، التي تشبه حبك الرمال، و مياه الغدران، حين يحركها النسيم.
[8] إِنَّكُمْ أيها المكذبون لمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم، لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ منكم من يقول: ساحر، و منكم من يقول: كاهن، و منكم من يقول: مجنون، إلى غير ذلك من الأقوال المختلفة، الدالة على حيرتهم و شكهم، و أن ما هم عليه باطل.
[9] يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)، أي: يصرف عنه من صرف عن الإيمان، و انصرف عن أدلة اللّه اليقينية و براهينه، و اختلاف قولهم، دليل على فساده و بطلانه، كما أن الحق الذي جاء به محمد صلّى اللّه عليه و سلّم متفق، يصدق بعضه بعضا، لا تناقض فيه، و لا اختلاف، و ذلك دليل على صحته، و أنه من عند اللّه وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً .
[10] يقول تعالى: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10)، أي: قاتل اللّه الذين كذبوا على اللّه، و جحدوا آياته، و خاضوا بالباطل، ليدحضوا به الحق، الذين يقولون على اللّه ما لا يعلمون.
[11] الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ، أي: في لجة من الكفر، و الجهل، و الضلال ساهُونَ .
[12] يَسْئَلُونَ عن وجه الشك و التكذيب في أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ ، أي: متى يبعثون، مستبعدين لذلك.
[13] فلا تسأل عن حالهم و سوء مآلهم يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13)، أي:
يعذبون بسبب ما انطووا عليه من خبث الباطن و الظاهر، و يقال لهم:
[14] ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ ، أي: العذاب و النار، الذي هو أثر ما افتتنوا به، من الابتلاء الذي صيرهم إلى الكفر و الضلال. هذَا العذاب، الذي وصلتم إليه، هو الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ . فالآن تمتعوا بأنواع العقاب و النكال، و السلاسل و الأغلال، و السخط و الوبال.
[15] يقول تعالى- في ذكر ثواب المتقين و أعمالهم، التي وصلوا بها إلى ذلك الجزء-: إِنَّ الْمُتَّقِينَ ، أي:
الذين كانت التقوى شعارهم، و طاعة اللّه دثارهم. فِي جَنَّاتٍ مشتملات على جميع أصناف الأشجار و الفواكه التي يوجد لها نظير في الدنيا، و التي لا يوجد لها نظير، مما لم تنظر العيون إلى مثله، و لم يخطر على قلب بشر. وَ عُيُونٍ سارحة، تشرب منها تلك البساتين، و يشرب بها عباد اللّه، يفجرونها تفجيرا.
[16] آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ :
يحتمل أن المعنى أن أهل الجنة قد أعطاهم مولاهم جميع مناهم، من جميع أصناف النعيم، فأخذوا ذلك، راضين به، قد قرت به أعينهم، و فرحت به نفوسهم، و لم يطلبوا منه بدلا، و لا يبغون عنه حولا، و كل قد ناله من النعيم، ما لا يطلب عليه المزيد. و يحتمل أن هذا وصف المتقين في الدنيا، و أنهم آخذون ما آتاهم اللّه، من الأوامر و النواهي، أي:
تيسير الكريم الرحمن، ص: 976
قد تلقوها بالرحب، و انشراح الصدر، منقادين لما أمر اللّه به، بالامتثال على أكمل الوجوه. و لما نهى عنه، بالانزجار عنه للّه، على أكمل وجه، فإن الذين أعطاهم اللّه من الأوامر و النواهي هو أفضل العطايا، التي حقها، أن تتلقى بالشكر للّه عليها، و الانقياد. و المعنى الأول، ألصق بسياق الكلام، لأنه ذكر وصفهم في الدنيا، و أعمالهم بقوله: إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ الوقت الذي وصلوا به إلى النعيم مُحْسِنِينَ . و هذا شامل لإحسانهم بعبادة ربهم، أن يعبدوه كأنهم يرونه، فإن لم يكونوا يرونه، فإنه يراهم، و للإحسان إلى عباد اللّه ببذل النفع و الإحسان، من مال، أو علم، أو جاه، أو نصيحة، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو غير ذلك من وجوه البر، و طرق الخيرات. حتى إنه يدخل في ذلك، الإحسان بالقول، و الكلام اللين و الإحسان إلى المماليك، و البهائم المملوكة، و غير المملوكة.
[17] و من أفضل أنواع الإحسان في عبادة الخالق، صلاة الليل، الدالة على الإخلاص، و تواطؤ القلب و اللسان، و لهذا قال: كانُوا ، أي: المحسنون قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ ، أي: كان هجوعهم، أي: نومهم بالليل، قليلا. و أما أكثر الليل، فإنهم قانتون لربهم، ما بين صلاة، و قراءة، و ذكر، و دعاء، و تضرع.
[18] وَ بِالْأَسْحارِ التي هي قبيل الفجر هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ اللّه تعالى. فمدوا صلاتهم إلى السحر، ثم جلسوا في خاتمة قيامهم بالليل، يستغفرون اللّه تعالى، استغفار المذنب لذنبه، و للاستغفار بالأسحار فضيلة و خصيصة ليست لغيره، كما قال تعالى في وصف أهل الإيمان و الطاعة: وَ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ .
[19] وَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌ واجب و مستحب لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ ، أي: للمحتاجين الذين يطلبون من الناس، و الذين لا يسألونهم.
[20] يقول تعالى- داعيا عباده إلى التفكر و الاعتبار-: وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20)، و ذلك شامل لنفس الأرض، و ما فيها من جبال، و بحار و أنهار، و أشجار و نبات، تدل المتفكر فيها، المتأمل لمعانيها، على عظمة خالقها، و سعة سلطانه، و عميم إحسانه، و إحاطة علمه، بالظواهر و البواطن. و كذلك في نفس العبد من العبر و الحكمة و الرحمة ما يدل على أن اللّه واحد صمد، و أنه لم يخلق الخلق سدى.
[22] و قوله: وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ ، أي: مادة رزقكم من الأمطار، و صنوف الأقدار، الرزق الديني، و الدنيوي. وَ ما تُوعَدُونَ من الجزاء في الدنيا و الآخرة، فإنه ينزل من عند اللّه كسائر الأقدار.
[23] فلما بين الآيات و نبه عليها تنبيها، ينتبه به الذكي اللبيب، أقسم تعالى على أن وعده و جزاءه حق، و شبه ذلك بأظهر الأشياء لنا، و هو النطق، فقال: فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23). فكما أنكم لا تشكون في نطقكم، فكذلك ينبغي أن لا يعتريكم الشك في البعث و الجزاء.
[24] يقول تعالى: هَلْ أَتاكَ ، أي: أما جاءك حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ، و نبأهم الغريب العجيب، و هم الملائكة الذين أرسلهم اللّه لإهلاك قوم لوط، و أمرهم بالمرور على إبراهيم، فجاءوه في صورة أضياف.
[25] إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ مجيبا لهم سَلامٌ ، أي: عليكم قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ، أي: أنتم قوم منكرون، فأحب أن تعرفوني بأنفسكم، و لم يعرفهم إلا بعد ذلك.
[26] فَراغَ إِلى أَهْلِهِ ، أي: ذهب سريعا في خفية، ليحضر لهم
تيسير الكريم الرحمن، ص: 977
قراهم. فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ .
[27] فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ و عرض عليهم الأكل. قالَ أَ لا تَأْكُلُونَ .
[28] فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً حين رأى أيديهم لا تصل إليه. قالُوا لا تَخَفْ و أخبروه بما جاءوا له وَ بَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ و هو: إسحاق عليه السّلام.
[29] (ف) لما سمعت المرأة البشارة أقبلت فرحة مستبشرة فِي صَرَّةٍ ، أي: صيحة فَصَكَّتْ وَجْهَها و هذا من جنس ما يجري للنساء عند السرور و نحوه، من الأقوال و الأفعال المخالفة للطبيعة و العادة. وَ قالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ، أي: أنّى لي الولد، و أنا عجوز، قد بلغت من السن، ما لا تلد معه النساء، و مع ذلك، فأنا عقيم، غير صالح رحمي للولادة أصلا فثمّ مانعان، كل منهما مانع من الولد. و قد ذكرت المانع الثالث في سورة هود في قولها: وَ هذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ .
[30] قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ ، أي: اللّه الذي قدر ذلك و أمضاه، فلا عجب في قدرة اللّه. إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ، أي: الذي وضع الأشياء مواضعها، و قد وسع كل شيء علما فسلموا لحكمه، و اشكروه على نعمته.
[31] * قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31)، أي: قال لهم إبراهيم عليه السّلام: ما شأنكم أيها المرسلون؟
و ما ذا تريدون؟ لأنه استشعر أنهم رسل، أرسلهم اللّه لبعض الشؤون المهمة.
[32] قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) و هم قوم لوط، قد أجرموا بإشراكهم باللّه، و تكذيبهم لرسولهم، و إتيانهم الفاحشة، التي لم يسبقهم إليها أحد من العالمين.
[33] لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33).
[34] مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34)، أي: معلمة، على كل حجر اسم صاحبه، لأنهم أسرفوا، و تجاوزوا الحد. فجعل إبراهيم يجادلهم في قوم لوط، لعل اللّه يدفع عنهم العذاب، فقيل له: يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَ إِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76).
[35- 36] فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) و هم بيت لوط عليه السّلام، إلا امرأته، فإنها من المهلكين.
[37] وَ تَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37) يعتبرون بها و يعلمون، أن اللّه شديد العقاب، و أن رسله صادقون، مصدقون.
فصل في ذكر بعض ما تضمنته هذه القصة من الحكم و الأحكام
منها: أن من الحكمة، أن قص اللّه على عباده، نبأ الأخيار و الفجار، ليعتبروا بهم، و أين وصلت بهم الأحوال.
و منها: فضيلة إبراهيم الخليل، عليه الصلاة و السلام، حيث ابتدأ اللّه قصته، بما يدل على الاهتمام بشأنها، و الاعتناء بها. و منها: مشروعية الضيافة، و أنها من سنن إبراهيم الخليل، الذي أمر اللّه محمدا صلّى اللّه عليه و سلّم و أمته، أن يتبعوا ملته، و ساقها اللّه في هذا الموضع، على وجه المدح له و الثناء. و منها: أن الضيف يكرم بأنواع الإكرام، بالقول و الفعل، لأن اللّه وصف أضياف إبراهيم بأنهم مكرمون، أي: أكرمهم إبراهيم، و وصف اللّه ما صنع بهم من الضيافة قولا
تيسير الكريم الرحمن، ص: 978
و فعلا، و مكرمون أيضا عند اللّه. و منها: أن إبراهيم عليه السّلام، قد كان بيته، مأوى للطارقين و الأضياف، لأنهم دخلوا عليه من غير استئذان، و إنما سلكوا طريق الأدب، في ابتداء السلام، فرد عليهم إبراهيم سلاما، أكمل من سلامهم و أتم، لأنه أتى به جملة اسمية دالة على الثبوت و الاستمرار.
فصل
و منها: مشروعية تعرف من جاء إلى الإنسان، أو صار له فيه نوع اتصال، لأن في ذلك فوائد كثيرة. و منها:
أدب إبراهيم و لطفه في الكلام، حيث قال: قَوْمٌ مُنْكَرُونَ و لم يقل: «أنكرتكم»، و بين اللفظين من الفرق ما لا يخفى. و منها: المبادرة إلى الضيافة و الإسراع بها، لأن خير البر عاجله، و لهذا بادر إبراهيم بإحضار قرى أضيافه.
و منها: أن الذبيحة الحاضرة، الّتي قد أعدت لغير الضيف الحاضر، إذا جعلت له، ليس فيها أقل إهانة، بل ذلك من الإكرام، كما فعل إبراهيم عليه السّلام، و أخبر اللّه أن ضيفه مكرمون. و منها: ما منّ اللّه به على خليله إبراهيم، من الكرم الكثير، و كون ذلك حاضرا لديه، و في بيته معدا، لا يحتاج إلى أن يأتي به من السوق أو الجيران، أو غير ذلك.
و منها: أن إبراهيم، هو الذي خدم أضيافه، و هو خليل الرحمن، و سيد من ضيّف الضيفان. و منها: أنه قرّبه إليهم في المكان الذي هم فيه، فلم يجعله في موضع، و يقول لهم: «تفضلوا، أو ائتوا عليه» لأن هذا أيسر و أحسن.
و منها: حسن ملاطفة الضيف في الكلام اللين، خصوصا عند تقديم الطعام إليه، فإن إبراهيم عرض عليهم عرضا لطيفا، فقال: أَ لا تَأْكُلُونَ ، و لم يقل: «كلوا» و نحوه من الألفاظ، الّتي غيرها أولى منها، بل أتى بأداة العرض، فقال: أَ لا تَأْكُلُونَ . فينبغي للمقتدى به أن يستعمل من الألفاظ الحسنة، ما هو المناسب و اللائق بالحال، كقوله لأضيافه: «أ لا تأكلون» أو: «أ لا تتفضلون» أو «تشرفوننا و تحسنون إلينا»، و نحو ذلك. و منها: أن من خاف من أحد، لسبب من الأسباب، فإن عليه أن يزيل عنه الخوف، و يذكر له ما يؤمن روعه، و يسكّن جأشه، كما قالت الملائكة لإبراهيم لما خافهم: لا تَخَفْ ، و أخبروه بتلك البشارة السارة، بعد الخوف منهم. و منها: شدة فرح سارة، امرأة إبراهيم، حتى جرى منها ما جرى، من صك وجهها، و صرّتها غير المعهود. و منها: ما أكرم اللّه به إبراهيم و زوجته سارة، من البشارة، بغلام عليم.
[38- 39] أي: وَ فِي مُوسى و ما أرسله اللّه به إلى فرعون و ملئه، بالآيات البينات، و المعجزات الظاهرات، آية للذين يخافون العذاب الأليم، فلما أتى موسى بذلك السلطان المبين، تولى فرعون بِرُكْنِهِ ، أي: أعرض بجانبه عن الحقّ، و لم يلتفت إليه، و قدحوا فيه أعظم القدح، فقالوا: ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ، أي: إن موسى، لا يخلو، إما أن يكون ما أتى به سحرا و شعوذة، ليس من الحقّ في شيء، و إما أن يكون مجنونا، لا يؤخذ بما صدر منه لعدم عقله.
هذا، و قد علموا، خصوصا فرعون، أن موسى صادق، كما قال تعالى: وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا .
و قال موسى لفرعون: لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ بَصائِرَ الآية.
[40] فَأَخَذْناهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَ هُوَ مُلِيمٌ (40)، أي: مذنب طاغ، عات على اللّه، فأخذه أخذ عزيز مقتدر.
[41] أي: وَ آية لهم فِي عادٍ القبيلة المعروفة إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ، أي: الّتي لا خير فيها، حين كذبوا نبيهم هودا عليه السّلام.
[42] ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)، أي: كالرمم البالية، فالذي أهلكهم على قوتهم و بطشهم، دليل على كمال قوته و اقتداره، الذي لا يعجزه شيء، المنتقم ممن عصاه.
[43] أي: وَ فِي ثَمُودَ آية عظيمة، حين أرسل اللّه إليهم صالحا عليه السّلام، فكذبوه و عاندوه، و بعث اللّه له الناقة، آية مبصرة، فلم يزدهم ذلك إلا عتوا و نفورا. إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ
[44] فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ ، أي: الصيحة العظيمة المهلكة وَ هُمْ يَنْظُرُونَ إلى عقوبتهم بأعينهم.