کتابخانه تفاسیر
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1077
سورة المدثر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] تقدم أن المزمل و المدثر بمعنى واحد، و أن اللّه أمر رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم، بالاجتهاد في عبادات اللّه القاصرة و المتعدية، فتقدم هناك، الأمر له بالعبادات الفاضلة و القاصرة، و الصبر على أذى قومه. و أمره هنا بالإعلان بالدعوة، و الصدع بالإنذار، فقال:
[2] قُمْ ، أي: بجد و نشاط فَأَنْذِرْ الناس، بالأقوال و الأفعال الّتي يحصل بها المقصود، و بيان حال المنذر عنه، ليكون ذلك أدعى لتركه.
[3] وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)، أي: عظمه بالتوحيد، و اجعل قصدك في إنذارك وجه اللّه، و أن يعظمه العباد و يقوموا بعبادته.
[4] وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) يحتمل أن المراد بالثياب، أعماله كلها، و بتطهيرها تخليصها و النصح بها، و إيقاعها على أكمل الوجوه، و تنقيتها عن المبطلات و المفسدات، و المنقصات من شر و رياء، و نفاق، و عجب و تكبر و غفلة، و غير ذلك، مما يؤمر العبد باجتنابه في عباداته. و يدخل في ذلك تطهير الثياب من النجاسة، فإن ذلك من تمام التطهير للأعمال خصوصا في الصلاة، الّتي قال كثير من العلماء: إن إزالة النجاسة عنها، شرط من شروطها:- أي: من شروط صحتها-. و يحتمل أن المراد بثيابه، الثياب المعروفة، و أنه مأمور بتطهيرها عن جميع النجاسات، في جميع الأوقات، خصوصا عند الدخول في الصلوات، و إذا كان مأمورا بطهارة الظاهر، فإن طهارة الظاهر، من تمام طهارة الباطن.
[5] وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) يحتمل أن المراد بالرجز: الأصنام، و الأوثان، الّتي عبدت مع اللّه، فأمره بتركها و البراءة منها، و مما نسب إليها، من قول أو عمل. و يحتمل أن المراد بالرجز: أعمال الشر كلها، و أقواله، فيكون أمرا له بترك الذنوب، صغارها و كبارها، ظاهرها و باطنها، فيدخل في هذا الشرك فما دونه.
[6] وَ لا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)، أي: لا تمنن على الناس، بما أسديت إليهم من النعم الدينية و الدنيوية، فتستكثر بتلك المنة، و ترى الفضل عليهم. بل أحسن إلى الناس، مهما أمكنك، و انس عندهم إحسانك، و اطلب أجرك من اللّه تعالى، و اجعل من أحسنت إليه و غيره، على حد سواء. و قد قيل: إن معنى هذا، ألا تعطي أحدا شيئا، و أنت تريد أن يكافئك عليه بأكثر منه، فيكون هذا خاصا بالنبي صلّى اللّه عليه و سلّم.
[7] وَ لِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)، أي: احتسب بصبرك، و اقصد به وجه اللّه تعالى. فامتثل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لأمر ربه، و بادر فيه، فأنذر الناس، و أوضح لهم بالآيات البينات، جميع المطالب الإلهية. و عظم اللّه تعالى، و دعا الخلق إلى تعظيمه، و طهر أعماله الظاهرة و الباطنة من كلّ سوء. و هجر كلّ ما يعبد من دون اللّه، و ما يعبد معه من الأصنام و أهلها، و الشر و أهله. و له المنة على الناس- بعد منة اللّه- من غير أن يطلب عليهم بذلك جزاء و لا شكورا. و صبر لربه أكمل صبر، فصبر على طاعة اللّه، و عن معاصيه، و صبر على أقداره المؤلمة، حتى فاق أولي العزم من المرسلين، صلوات اللّه و سلامه عليه و عليهم أجمعين.
[8] أي: فإذا نفخ في الصور للقيام من القبور، و جمع الخلائق للبعث و النشور.
[9] فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9)
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1078
لكثرة أهواله و شدائده.
[10] عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) لأنهم قد أيسوا من كلّ خير، و أيقنوا بالهلاك و البوار.
و مفهوم ذلك أنه على المؤمنين يسير، كما قال تعالى: يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ .
[11] هذه الآيات، نزلت في الوليد بن المغيرة، المعاند للحق، المبارز للّه و لرسوله بالمحاربة و المشاقة، فذمه اللّه ذما، لم يذم به غيره، و هذا جزاء كلّ من عاند الحقّ، و نابذه، أن له الخزي في الدنيا و لعذاب الآخرة أخزى، فقال: ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11)، أي: خلقته منفردا، بلا مال، و لا أهل، و لا عشيرة، فلم أزل أربيه و أعطيه.
[12] وَ جَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً (12) أي: كثيرا وَ جعلت له بَنِينَ ، أي: ذكورا شُهُوداً ، أي: حاضرين عنده على الدوام، يتمتع بهم، و يقضي بهم حوائجه، و يستنصر بهم.
[14] وَ مَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14)، أي: مكنته من الدنيا و أسبابها، حتى انقادت له مطالبه، و حصل له ما يشتهي و يريد.
[15] ثُمَ مع هذه النعم و الإمدادات يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ، أي: يطمع أن ينال نعيم الآخرة، كما نال نعيم الدنيا.
[16] كَلَّا ، أي: ليس الأمر كما طمع، بل هو بخلاف مقصوده و مطلوبه. و ذلك إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً عرفها، ثمّ أنكرها، و دعته إلى الحقّ، فلم ينقد لها. و لم يكفه أنه أعرض عنها و تولى، بل جعل يحاربها، و يسعى في إبطالها، و لهذا قال عنه:
[18] إِنَّهُ فَكَّرَ ، أي: في نفسه، وَ قَدَّرَ ما فكر فيه، ليقول قولا، يبطل به القرآن.
[19- 20] فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) لأنه قدر أمرا، ليس في طوره، و تسوّر على ما لا يناله، هو و لا أمثاله.
[21] ثُمَّ نَظَرَ (21) ما يقول،
[22] ثُمَّ عَبَسَ وَ بَسَرَ (22) في وجهه، و ظاهره نفرة عن الحقّ، و بغضا له.
[23] ثُمَّ أَدْبَرَ ، أي: تولى وَ اسْتَكْبَرَ نتيجة سعيه الفكري، و العملي و القولي.
[24- 25] فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)، أي: ما هذا كلام اللّه، بل كلام البشر، و ليس أيضا كلام البشر الأخيار، بل كلام الأشرار منهم، و الفجار، من كلّ كاذب سحار. فتبّا له، ما أبعده من الصواب، و أحراه بالخسارة و التبات!! كيف يدور في الأذهان، أو يتصور ضمير أي إنسان، أن يكون أعلى الكلام و أعظمه، كلام الرب الكريم، الماجد العظيم، يشبه كلام المخلوقين الفقراء الناقصين؟ أم كيف يتجرأ هذا الكاذب العنيد، على وصفه بهذا الوصف لكلام اللّه تعالى؟ فما حقه إلا العذاب الشديد، و لهذا قال تعالى:
[26- 28] سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَ ما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَ لا تَذَرُ (28)، أي: لا تبقي من الشدة، و لا على المعذب شيئا، إلا و بلغته.
[29] لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29)، أي: تلوحهم و تصليهم في عذابها، و تقلقهم بشدة حرها و قرّها.
[30] عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30) من الملائكة خزنة لها، غلاظ شداد، لا يعصون اللّه ما أمرهم، و يفعلون ما يؤمرون.
[31] وَ ما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً و ذلك لشدتهم و قوتهم. وَ ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا ، يحتمل أن المراد: إلا لعذابهم و عقابهم في الآخرة، و لزيادة نكالهم فيها، و العذاب، يسمى فتنة، كما قال تعالى: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13). و يحتمل أن المراد: أنا ما أخبرناكم بعدتهم، إلا لنعلم من يصدق ممن يكذّب، و يدل على هذا، ما
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1079
ذكره بعده في قوله: لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ يَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً ، فإن أهل الكتاب، إذا وافق ما عندهم و طابقه، ازداد يقينهم بالحق، و المؤمنون كلما أنزل اللّه آية، فآمنوا بها، و صدقوا، ازداد إيمانهم. وَ لا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ الْمُؤْمِنُونَ ، أي: ليزول عنهم الريب و الشك. و هذه مقاصد جليلة، يعتني بها أولو الألباب، و هي: السعي في اليقين، و زيادة الإيمان في كلّ وقت، و كلّ مسألة من مسائل الدين، و دفع الشكوك و الأوهام، التي تعرض في مقابلة الحقّ، فجعل ما أنزله على رسوله، محصلا لهذه المقاصد الجليلة، و مميزا للصادقين من الكاذبين. و لهذا قال:
وَ لِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ، أي: شك و شبهة و نفاق. وَ الْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا و هذا على وجه الحيرة و الشك منهم، و الكفر بآيات اللّه، و هذا و ذاك، من هداية اللّه لمن يهديه، و إضلاله لمن يضله، و لهذا قال: كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ فمن هداه اللّه، جعل ما أنزل على رسوله رحمة في حقه، و زيادة في إيمانه و دينه. و من أضله، جعل ما أنزله على رسوله، زيادة شقاء عليه و حيرة، و ظلمه في حقه، و الواجب أن يتلقى ما أخبر اللّه به و رسوله بالتسليم. وَ ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ من الملائكة و غيرهم إِلَّا هُوَ فإذا كنتم جاهلين بجنوده، و أخبركم بها العليم الخبير، فعليكم أن تصدقوا خبره، من غير شك و لا ارتياب. وَ ما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ ، أي: و ما هذه الموعظة و التذكار، مقصودا به العبث و اللعب، و إنما المقصود به، أن يتذكر به البشر ما ينفعهم فيفعلونه، و ما يضرهم فيتركونه.
[32] كَلَّا هنا بمعنى: حقا، أو بمعنى «ألا» الاستفتاحية. فأقسم تعالى بالقمر، و بالليل وقت إدباره، و النهار وقت إسفاره، لاشتمال المذكورات، على آيات اللّه العظيمة، الدالة على كمال قدره اللّه و حكمته، و سعة سلطانه، و عموم رحمته و إحاطة علمه. و المقسم عليه، قوله:
[35] إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35)، أي: إن النار لإحدى العظائم الطامة و الأمور الهامة. فإذا أعلمناكم بها، و كنتم على بصيرة، من أمرها، فمن شاء منكم أن يتقدم، فيعمل بما يقربه إلى اللّه، و يدنيه من رضاه، و يزلفه من دار كرامته. أو يتأخر عما خلق له، و عما يحبه اللّه و يرضاه، فيعمل بالمعاصي، و يتقرب إلى جهنم، كما قال تعالى: وَ قُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ الآية.
[38] كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ من أفعال الشر و أعمال السوء، رَهِينَةٌ بها موثقة بسعيها، قد ألزم عنقها، و غل في رقبتها، و استوجبت به العذاب.
[39] إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فإنهم لم يرتهنوا، بل أطلقوا و فرحوا.
[40] فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41)، أي: في جنات قد حصل لهم فيها جميع مطلوباتهم، و تمت لهم الراحة و الطمأنينة، حتى أقبلوا يتساءلون، فأفضت بهم المحادثة، أن سألوا عن المجرمين: أي حال وصلوا إليها، و هل وجدوا ما وعدهم اللّه؟ فقال بعضهم لبعض: «هل أنتم مطلعون عليهم»، فاطلعوا عليهم في وسط الجحيم، يعذبون، فقالوا لهم:
[42] ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)، أي: أيّ شيء أدخلكم فيها؟ و بأي ذنب استحققتموها؟
[43- 44] قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) فلا إخلاص للمعبود و لا إحسان، و لا نفع للخلق المحتاجين.
[45] وَ كُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45)، أي: نخوض بالباطل، و نجادل به الحقّ.
[46] وَ كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46)، هذه آثار الخوض بالباطل، و هو التكذيب بالحق، و من أحق الحقّ، يوم الدين، الذي هو محل الجزاء على الأعمال، و ظهور ملك اللّه و حكمه العدل لسائر الخلق.
[47] فاستمر عملنا على هذا المذهب الباطل حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47)، أي: الموت: فلما ماتوا على الكفر تعذرت حينئذ عليهم الحيل، و انسدّ في وجوههم باب الأمل.
[48] فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) لأنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى، و هؤلاء لا يرضى اللّه أعمالهم.
[49] فلما بين اللّه مآل المخالفين، و بين ما يفعل بهم، عطف على الموجودين بالعتاب و اللوم، فقال: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49)، أي: صادين غافلين عنها.
[50] كَأَنَّهُمْ في نفرتهم الشديدة منها، حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ ،
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1080
أي: حمر وحش، نفرت فنفر بعضها بعضا، فزاد عدوها.
[51] فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)، أي: من صائد و رام يريدها، أو من أسد و نحوه. و هذا من أعظم ما يكون من النفور عن الحقّ، و مع هذا النفور و الإعراض، يدعون الدعاوى الكبار.
[52] بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً نازلة عليه من السماء، يزعم أنه لا ينقاد للحق إلا بذلك، و قد كذبوا، فإنهم لو جاءتهم كلّ آية لم يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم، لأنهم جاءتهم الآيات البينات التي تبين الحقّ و توضحه، فلو كان فيهم خير لآمنوا.
[53] و لهذا قال:
كَلَّا ، أي: لا نعطيهم ما طلبوا، و هم ما قصدوا بذلك إلا التعجيز. بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ فلو كانوا يخافونها، لما جرى منهم ما جرى.
[54] كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) الضمير إما أن يعود على هذه السورة، أو على ما اشتملت عليه من هذه الموعظة.
[55] فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) لأنه قد بين له السبيل، و وضع له الدليل.
[56] وَ ما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ فإن مشيئة اللّه، نافذة عامة، لا يخرج عنها حادث قليل و لا كثير، ففيها رد على القدرية، الّذين لا يدخلون أفعال العباد تحت مشيئة اللّه، و الجبرية الّذين يزعمون أنه ليس للعبد مشيئة، و لا فعل حقيقة، و إنما هو مجبور على أفعاله. فأثبت اللّه تعالى للعبد مشيئته حقيقة و فعلا، و جعل ذلك تابعا لمشيئته. هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ، أي: هو أهل أن يتقى و يعبد، لأنه الإله الذي لا تنبغي العبادة إلا له، و أهل أن يغفر لمن اتقاه، و اتبع رضاه. تم تفسير سورة المدثر- و للّه الحمد و المنة.
تفسير سورة القيامة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] ليست «لا» هاهنا نافية و لا زائدة، و إنما أتى بها للاستفتاح و الاهتمام بما بعدها، و لكثرة الإتيان بها مع اليمين، لا يستغرب الاستفتاح بها، و إن لم تكن في الأصل موضوعة للاستفتاح. فالمقسم به في هذا الموضع، هو المقسم عليه، و هو: البعث بعد الموت، و قيام الناس من قبورهم، ثمّ وقوفهم ينتظرون ما يحكم به الرب عليهم.
[2] وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) و هي جميع النفوس الخيرة و الفاجرة، سمّيت «لوّامة» لكثيرة تلونها و ترددها، و عدم ثبوتها على حالة من أحوالها، و لأنها عند الموت تلوم صاحبها على ما فعلت، بل نفس المؤمن تلوم صاحبها في الدنيا، على ما حصل منه، من تفريط و تقصير، في حق من الحقوق، أو غفلة. فجمع بين الإقسام بالجزاء، و على الجزاء، و بين مستحق الجزاء. ثمّ أخبر مع هذا، أن بعض المعاندين يكذبون بيوم القيامة، فقال:
[3] أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بعد الموت، كما قال: قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ ؟ فاستبعد من
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1081
جهله و عدوانه، قدرة اللّه على خلق عظامه التي هي عماد البدن، فرد عليه بقوله:
[4] بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4)، أي: أطراف أصابعه و عظامه، و ذلك مستلزم لخلق جميع أجزاء البدن، لأنها إذا وجدت الأنامل و البنان، فقد تمت خلقة الجسد، و ليس إنكاره لقدرة اللّه تعالى قصورا بالدليل الدال على ذلك، و إنما وقع ذلك منه، لأن إرادته و قصده، التكذيب بما أمامه من البعث. و الفجور: الكذب مع التعمد.
[7] ثمّ ذكر أحوال القيامة فقال: فَإِذا بَرِقَ ، إلى:
مَعاذِيرَهُ . أي: فَإِذا كانت القيامة بَرِقَ الْبَصَرُ من الهول العظيم، و شخص فلا يطرف كما قال تعالى: إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَ أَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43).
[8] وَ خَسَفَ الْقَمَرُ (8)، أي: ذهب نوره و سلطانه.
[9] وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ (9) و هما لم يجتمعا منذ خلقهما اللّه تعالى، فيجمع اللّه بينهما يوم القيامة، و يخسف القمر، و تكور الشمس، و يقذفان في النار، ليرى العباد، أنهما عبدان مسخران، و ليرى من عبدهما، أنهم كانوا كاذبين.
[10] يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ ، أي:
حين يرى تلك القلاقل المزعجات: أَيْنَ الْمَفَرُّ ؟ أي: أين الخلاص و الفكاك، مما طرقنا و ألمّ بنا؟
[11] كَلَّا لا وَزَرَ (11)، أي: لا ملجأ لأحد دون اللّه.
[12] إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) لسائر العباد، فليس في إمكان أحد، أن يستتر أو يهرب عن ذلك الموضع، بل لا بد من إيقافه، ليجزى بعمله.
[13] و لهذا قال: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَ أَخَّرَ (13)، أي: بجميع عمله الحسن و السيّء، في أول وقته و آخره، و ينبأ بخبر لا ينكره.
[14] بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14)، أي: شاهد و محاسب.
[15] وَ لَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15) فإنها معاذير لا تقبل، بل يقرر بعمله، فيقرّ به، كما قال تعالى: اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14). فالعبد و إن أنكر، أو اعتذر عما عمله، فإنكاره و اعتذاره، لا يفيدانه شيئا، لأنه يشهد عليه سمعه و بصره، و جميع جوارحه بما كان يعمل، و لأن استعتابه، قد ذهب وقته، و زال نفعه: فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57).
[16] كان النبي صلّى اللّه عليه و سلّم إذا جاءه جبريل بالوحي، و شرع في تلاوته، بادره النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، من الحرص قبل أن يفرغ، و تلاه مع تلاوة جبريل إياه، فنهاه اللّه عن ذلك، و قال: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ . و قال هنا: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16)، ثمّ ضمن له تعالى، أنه لا بد أن يحفظه و يقرأه، و يجمعه اللّه في صدره فقال:
[17] إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ (17) فالحرص الذي في خاطرك، إنما الداعي له حذر الفوات و النسيان، فإذا ضمنه اللّه لك، فلا موجب لذلك.
[18] فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18)، أي: إذا أكمل جبريل ما يوحى إليك، فحينئذ اتبع ما قرأه فاقراه.
[19] ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19)، أي: بيان معانيه، فوعده بحفظ لفظه، و حفظ معانيه، و هذا أعلى ما يكون، فامتثل صلّى اللّه عليه و سلّم لأدب ربه، فكان إذا تلا عليه جبريل القرآن بعد هذا، أنصت له، فإذا فرغ قرأه.
و في هذه الآية، أدب لأخذ العلم، أن لا يبادر المتعلم للعلم، قبل أن يفرغ المعلم من المسألة التي شرع فيها، فإذا فرغ
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1082
منها، سأله عما أشكل عليه. و كذلك إذا كان في أول الكلام ما يوجب الرد أو الاستحسان، أن لا يبادر برده أو قبوله، قبل الفراغ من ذلك الكلام، ليتبين ما فيه من حق أو باطل، و ليفهمه فهما يتمكن فيه من الكلام فيه على وجه الصواب. و فيها: أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، كما بين للأمة ألفاظ الوحي، فإنه قد بين لهم معانيه.
[20- 21] أي: هذا الذي أوجب لكم الغفلة و الإعراض عن وعظ اللّه و تذكيره أنكم تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ و تسعون فيما يحصلها، و في لذاتها و شهواتها، و تؤثرونها على الآخرة، فتذرون العمل لها؛ لأن الدنيا نعيمها و لذاتها عاجلة، و الإنسان مولع بحب العاجل، و الآخرة متأخر ما فيها من النعيم المقيم، فلذلك غفلتم عنها، و تركتموها، كأنكم لم تخلقوا لها، و كأن هذه الدار هي دار القرار، التي تبذل فيها نفائس الأعمار، و يسعى لها آناء الليل و النهار، و بهذا انقلبت عليكم الحقيقة، و حصل من الخسار ما حصل.
فلو آثرتم الآخرة على الدنيا، و نظرتم العواقب نظر البصير العاقل، لنجحتم، و ربحتم ربحا لا خسار معه، و فزتم فوزا لا شقاء يصحبه.
[22] ثمّ ذكر ما يدعو إلى إيثار الآخرة، ببيان حال أهلها و تفاوتهم فيها، فقال في جزاء المؤثرين للآخرة على الدنيا: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22)، أي: حسنة بهية، لها رونق و نور، مما هم فيه من نعيم القلوب، و بهجة النفوس، و لذة الأرواح.
[23] إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) أي: ينظرون إلى ربهم، على حسب مراتبهم. و منهم من ينظره كلّ يوم بكرة و عشيا، و منهم من ينظر كلّ جمعة مرة واحدة، فيتمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم، و جماله الباهر، الذي ليس كمثله شيء، فإذا رأوه نسوا ما هم فيه من النعيم، و حصل لهم من اللذة و السرور، ما لا يمكن التعبير عنه، و نضرت وجوههم، فازدادوا جمالا إلى جمالهم، فنسأل اللّه الكريم أن يجعلنا منهم. و قال في المؤثرين العاجلة على الآجلة:
[24] وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24)، أي: معبسة كدرة، خاشعة ذليلة
[25] تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25)، أي:
عقوبة شديدة، و عذاب أليم، فلذلك تغيرت وجوههم و عبست.
[26] يعظ تعالى عباده، بذكر المحتضر حال السياق، و أنه إذا بلغت روحه التراقي، و هي العظام المكتنفة لثغرة النحر. فحينئذ يشتد الكرب، و يطلب كلّ وسيلة و سبب، يظن أن يحصل به الشفاء و الراحة.
[27] و لهذا قال:
وَ قِيلَ مَنْ راقٍ (27)، أي: من يرقيه، من الرقية، لأنهم انقطعت آمالهم من الأسباب العادية، فتعلقوا بالأسباب الإلهية. و لكن القضاء و القدر، إذا حتم و جاء فلا مرد له.
[28] وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) للدنيا.
[29] وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29)، أي: اجتمعت الشدائد، و التفت، و عظم الأمر و صعب الكرب، و أريد أن تخرج الروح من البدن، الذي ألفته، و لم تزل معه، فتساق إلى اللّه تعالى، ليجازيها بأعمالها و يقررها بفعالها. فهذا الزجر الذي ذكره اللّه، يسوق القلوب إلى ما فيه نجاتها، و يزجرها عما فيه هلاكها. و لكن المعاند الذي لا تنفع فيه الآيات، لا يزال مستمرا على غيه، و كفره و عناده.
[31- 32] فَلا صَدَّقَ ، أي: لا آمن باللّه و ملائكته، و كتبه، و رسله، و اليوم الآخر، و القدر خيره و شره. وَ لا صَلَّى (32) وَ لكِنْ كَذَّبَ بالحق في مقابلة التصديق وَ تَوَلَّى عن الأمر و النهي، هذا و هو
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1083
مطمئن قلبه، غير خائف من ربه.
[33] ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33)، أي: ليس على باله شيء.
[34- 35] ثمّ توعده بقوله: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) و هذه كلمات وعيد كررها لتكرير و عيده.
[36] ثمّ ذكّر الإنسان بخلقه الأول، فقال: أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36)، أي: مهملا، لا يؤمر و لا ينهى، و لا يثاب و لا يعاقب؟ هذا حسبان باطل، و ظن باللّه غير ما يليق بحكمته.
[37- 38] أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ بعد المني عَلَقَةً أي: دما فَخَلَقَ اللّه منها الحيوان فَسَوَّى أي:
أتقنه و أحكمه.
[39- 40] فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى (39) أَ لَيْسَ ذلِكَ ، أي: الذي خلق الإنسان و طوره إلى هذه الأطوار المختلفة بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى ، بلى إنه على كلّ شيء قدير. تم تفسير سورة القيامة.
سورة الإنسان
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] ذكر اللّه في هذه السورة، أول حال الإنسان و منتهاها و متوسطها. فذكر أنه مر عليه حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ طويل، و هو الذي قبل وجوده، و هو معدوم لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً .
[2] ثمّ لما أراد خلقه خلق أباه آدم من طين، ثمّ جعل نسله متسلسلا مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ ، أي: ماء مهين مستقذر نَبْتَلِيهِ بذلك، لنعلم هل يرى حاله الأولى، و يتفطن لها أم ينساها و تغره نفسه؟ فأنشأه اللّه، و خلق له القوى الظاهرة و الباطنة، كالسمع و البصر، و سائر الأعضاء فأتمها له و جعلها سالمة، يتمكن بها من تحصيل مقاصده.
[3] ثمّ أرسل إليه الرسل، و أنزل عليه الكتب، و هداه الطريق الموصلة إليه، و بيّنها، و رغّبه فيها، و أخبره بما له عند الوصول إليه. ثمّ أخبره بالطريق الموصلة إلى الهلاك، و رهّبه عنها، و أخبره بما له، إذا سلكها، و ابتلاه بذلك، فانقسم الناس إلى شاكر لنعمة اللّه عليه، قائم بما حمله اللّه من حقوقه. و إلى كفور للنعم، أنعم اللّه عليه بالنعم الدينية و الدنيوية، فردّها، و كفر بربه، و سلك الطريق الموصلة إلى الهلاك.
[4] أي: إنا هيأنا، و أرصدنا لمن كفر باللّه، و كذب رسله، و تجرأ على معاصيه. سَلاسِلَ في نار جهنم، كما قال تعالى: ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32). وَ أَغْلالًا تغل بها أيديهم إلى أعناقهم، و يوثقون بها.
وَ سَعِيراً ، أي: نارا تستعر بها أجسامهم، و تحرق بها أبدانهم، كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ . و هذا العذاب الدائم، مؤبد لهم، مخلدون فيه سرمدا.