کتابخانه تفاسیر
تيسير الكريم الرحمن، ص: 827
الحقّ، لزم أن كلّ ما دل عليه من المسائل الإلهية و الغيبية و غيرها، مطابق لما في الواقع، فلا يجوز أن يراد به، ما يخالف ظاهره، و ما دل عليه. مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب و الرسل، لأنها أخبرت به، فلما وجد و ظهر، ظهر به صدقها. فهي بشرت به و أخبرت، و هو مصدقها، و لهذا لا يمكن أحدا، أن يؤمن بالكتب السابقة، و هو كافر بالقرآن أبدا. لأن كفره به ينقض إيمانه بها، لأن من جملة أخبارها الخبر عن القرآن، و لأن أخبارها مطابقة لأخبار القرآن. إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ فيعطي كلّ أمة، و كلّ شخص، ما هو اللائق بحاله. و من ذلك، أن الشرائع السابقة، لا تليق إلا بوقتها و زمانها. و لهذا، ما زال اللّه يرسل الرسل رسولا بعد رسول، حتى ختمهم بمحمد صلّى اللّه عليه و سلم. فجاء بهذا الشرع، الذي يصلح لمصالح الخلق إلى يوم القيامة و يتكفل بما هو الخير في كلّ وقت. و لهذا لما كانت هذه الأمة، أكمل عقولا، و أحسنهم أفكارا، و أرقهم قلوبا و أزكاهم أنفسا.
اصطفاهم تعالى، و اصطفى لهم دين الإسلام، و أورثهم الكتاب المهيمن على سائر الكتب، و لهذا قال:
[32] ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا و هم هذه الأمة. فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ بالمعاصي، الّتي هي دون الكفر. وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ مقتصر على ما يجب عليه، تارك للمحرم. وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ أي: سارع فيها و اجتهد، فسبق غيره، و هو المؤدي للفرائض، المكثر من النوافل، التارك للمحرم و المكروه. فكلهم اصطفاه اللّه تعالى، لوراثة هذا الكتاب، و إن تفاوتت مراتبهم، و تميزت أحوالهم. فلكل منهم، قسط من وراثته، حتى الظالم لنفسه، فإن ما معه من أصل الإيمان، و علوم الإيمان، و أعمال الإيمان، من وراثة الكتاب. لأن المراد بوراثة الكتاب، وراثة علمه و عمله، و دراسة ألفاظه، و استخراج معانيه. و قوله: بِإِذْنِ اللَّهِ راجع إلى السابق إلى الخيرات، لئلا يغتر بعمله، بل ما سبق إلى الخيرات إلا بتوفيق اللّه تعالى و معونته، فينبغي له أن يشتغل بشكر اللّه تعالى، على ما أنعم به عليه. ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ أي: وراثة الكتاب الجليل، لمن اصطفى تعالى من عباده، هو الفضل الكبير، الذي جميع النّعم بالنسبة إليه، كالعدم. فأجل النعم على الإطلاق، و أكبر الفضل، وراثة الكتاب.
[33] ثمّ ذكر جزاء الّذين أورثهم الكتاب فقال: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها أي: جنات مشتملات، على الأشجار، و الظل الظليل، و الحدائق الحسنة، و الأنهار المتدفقة، و القصور العالية، و المنازل المزخرفة، في أبد لا يزول، و عيش لا ينفد. و العدن «الإقامة» فجنات عدن أي: جنات إقامة، أضافها للإقامة، لأن الإقامة و الخلود وصفها و وصف أهلها. يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ و هو الحلي الذي يجعل في اليدين، على ما يحبون، و يرون أنه أحسن من غيره، الرجال و النساء في الحلية في الجنة سواء. وَ يحلون فيها لُؤْلُؤاً ينظم في ثيابهم و أجسادهم. وَ لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ من سندس، و من إستبرق أخضر.
[34] وَ لما تم نعيمهم، و كملت لذتهم قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ و هذا يشمل كلّ حزن، فلا
تيسير الكريم الرحمن، ص: 828
حزن يعرض لهم بسبب نقص في جمالهم، و لا في طعامهم و شرابهم، و لا في لذاتهم و لا في أجسادهم، و لا في دوام لبثهم. فهم في نعيم، ما يرون عليه مزيدا، و هو في تزايد أبد الآباد. إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ حيث غفر لنا الزلات شَكُورٌ حيث قبل منا الحسنات، و ضاعفها، و أعطانا من فضله، ما لم تبلغه أعمالنا و لا أمانينا؛ فبمغفرته نجوا من كل مكروه و مرهوب، و بشكره و فضله، حصل لهم كل مرغوب محبوب.
[35] الَّذِي أَحَلَّنا أي: أنزلنا نزول حلول و استقرار، لا نزول معبر و اعتبار. دارَ الْمُقامَةِ أي:
الدار الّتي تدوم فيها الإقامة، و الدار الّتي يرغب في المقام فيها، لكثرة خيراتها، و توالي مسراتها، و زوال كدوراتها.
و ذلك الإحلال مِنْ فَضْلِهِ علينا، و كرمه، لا بأعمالنا؛ فلو لا فضله، لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه. لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَ لا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ أي: لا تعب في الأبدان و لا في القلب و القوى، و لا في كثرة التمتع. و هذا يدل، على أن اللّه تعالى يجعل أبدانهم، في نشأة كاملة، و يهيّىء لهم من أسباب الراحة على الدوام، ما يكونون بهذه الصفة، بحيث لا يمسهم نصب و لا لغوب، و لا هم و لا حزن. و يدل على أنهم لا ينامون في الجنة؛ لأن النوم فائدته، زوال التعب، و حصول الراحة به، و أهل الجنة بخلاف ذلك. و لأنه موت أصغر، و أهل الجنة لا يموتون، جعلنا اللّه منهم، بمنه و كرمه.
[36- 37] لما ذكر تعالى حال أهل الجنة و نعيمهم، ذكر حال أهل النار و عذابهم فقال: وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي:
جحدوا ما جاءتهم به رسلهم من الآيات، و أنكروا لقاء ربهم. لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ يعذبون فيها أشد العذاب، و أبلغ العقاب. لا يُقْضى عَلَيْهِمْ بالموت فَيَمُوتُوا فيستريحوا. وَ لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها فشدة العذاب و عظمه، مستمر عليهم في جميع الآناء و اللحظات. كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ أي: كذلك نجزي به كلّ متماد في الكفر، مصر عليه وَ هُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها أي: يصرخون و يتصايحون و يستغيثون و يقولون: رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ . فاعترفوا بذنبهم، و عرفوا أن اللّه عدل فيهم، و لكن سألوا الرجعة في غير وقتها. فقال لهم:
أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما أي: دهرا و عمرا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ أي: يتمكن فيه من أراد التذكر من العمل، متعناكم في الدنيا، و أدررنا عليكم الأرزاق، و قيضنا لكم أسباب الراحة، و مددنا لكم في العمر، و تابعنا عليكم الآيات وَ جاءَكُمُ النَّذِيرُ و واصلنا إليكم النذر، و ابتليناكم بالسراء و الضراء، لتنيبوا إلينا، و ترجعوا إلينا. فلم ينجع فيكم إنذار، و لم تفد فيكم موعظة، و أخرنا عنكم العقوبة، حتى إذا انقضت آجالكم، و تمت أعماركم، و رحلتم عن دار الإمكان، بأشرّ الحالات، و وصلتم إلى هذه الدار، دار الجزاء على الأعمال، سألتم الرجعة. هيهات هيهات، فات وقت الإمكان، و غضب عليكم الرحيم الرحمن، و اشتد عليكم عذاب النار، و نسيكم أهل الجنة، فامكثوا في جهنم، خالدين مخلدين، و في العذاب مهانين، و لهذا قال: فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ينصرهم، فيخرجهم منها، أو يخفف عنهم من عذابها.
تيسير الكريم الرحمن، ص: 829
[38] لما ذكر تعالى جزاء أهل الدارين، و ذكر أعمال الفريقين، أخبر عن سعة علمه تعالى، و اطلاعه على غيب السموات و الأرض، الّتي غابت عن أبصار الخلق، و عن علمهم، و أنه عالم بالسرائر، و ما تنطوي عليه الصدور، من الخير و الشر، و الزكاء و غيره، فيعطي كلا ما يستحقه، و ينزل كلّ أحد منزلته.
[39] يخبر تعالى عن كمال حكمته، و رحمته بعباده، أنه قدر بقضائه السابق، أن يجعل بعضهم، يخلف بعضا في الأرض، و يرسل لكلّ أمة من الأمم النذر، فينظر كيف يعملون؛ فمن كفر باللّه، و بما جاءت به رسله، فإن كفره عليه، و عليه إثمه و عقوبته، و لا يحمل عنه أحد، و لا يزداد الكافر بكفره، إلا مقت ربه له، و بغضه إياه. و أي عقوبة، أعظم من مقت الرب الكريم؟ وَ لا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً أي: يخسرون أنفسهم، و أهليهم، و أعمالهم، و منازلهم في الجنة. فالكافر لا يزال في زيادة من الشقاء و الخسران، و الخزي عند اللّه و عند خلقه و الحرمان.
[40] يقول تعالى، معجّزا لآلهة المشركين، و مبينا نقصها، و بطلان شركهم من جميع الوجوه. قُلْ يا أيها الرسول لهم: أَ رَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: أخبروني عنهم، هل هم مستحقون للدعاء و العبادة.
أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ هل خلقوا بحرا، أم خلقوا جبالا، أو خلقوا حيوانا، أو خلقوا جمادا؟ سيقرون أن الخالق لجميع الأشياء، هو اللّه تعالى. أَمْ لَهُمْ أي: لشركائكم شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أي: مشاركة في خلقها و تدبيرها؟ سيقولون: ليس لهم شركة في ذلك. فإذا لم يخلقوا شيئا، و لم يشركوا الخلق في خلقه، فلم عبدتموهم، و دعوتموهم مع إقراركم بعجزهم؟ فانتفى الدليل العقلي، على صحة عبادتهم، و دلّ على بطلانها. ثمّ ذكر الدليل السمعي، و أنه أيضا منتف، فلهذا قال: أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً يتكلم بما كانوا به يشركون، يأمرهم بالشرك، و عبادة الأوثان. فَهُمْ في شركهم عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ أي: من ذلك الكتاب الذي نزل عليهم في صحة الشرك؟ ليس الأمر كذلك؟ فإنهم ما نزل عليهم كتاب قبل القرآن، و لا جاءهم نذير قبل رسول اللّه، محمد صلّى اللّه عليه و سلم. و لو قدر نزول كتاب إليهم، و إرسال رسول إليهم، و زعموا أنه أمرهم بشركهم، فإنا نجزم بكذبهم، لأن اللّه قال: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25). فالرسل و الكتب، كلها متفقة على الأمر بإخلاص الدين للّه تعالى وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ . فإن قيل: إذا كان الدليل العقلي، و الدليل النقلي، قد دلّا على بطلان الشرك، فما الذي حمل المشركين على الشرك، و فيهم ذوو العقول و الذكاء و الفطنة؟ أجاب تعالى بقوله: بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً أي: ذلك الذي مشوا عليه، ليس لهم فيه حجة، و إنّما ذلك، توصية بعضهم لبعض به، و تزيين بعضهم لبعض و اقتداء المتأخر بالمتقدم الضال، و أمانيّ منّاها الشياطين، و زينت لهم سوء أعمالهم. فنشأت في قلوبهم، و صارت صفة من صفاتها، فعسر زوالها، و تعسر انفصالها، فحصل ما حصل، من الإقامة على الكفر، و الشرك الباطل المضمحل.
[41] يخبر تعالى، عن كمال قدرته، و تمام رحمته، و سعة حلمه و مغفرته، و أنه تعالى، يمسك السموات و الأرض عن الزوال، فإنهما لو زالتا ما أمسكهما أحد من الخلق، و لعجزت قدرهم و قواهم عنهما. و لكنه تعالى، قضى أن يكونا كما وجدا، ليحصل للخلق الاستقرار، و النفع، و الاعتبار. و ليعلموا من عظيم سلطانه، و قوة قدرته، ما به تمتلىء قلوبهم له إجلالا و تعظيما، و محبة، و تكريما. و ليعلموا كمال حلمه و مغفرته، بإمهال المذنبين، و عدم معاجلته للعاصين. مع أنه لو أمر السماء، لحصبتهم، و لو أذن للأرض، لابتلعتهم. و لكن وسعتهم مغفرته، و حلمه، و كرمه إِنَّهُ كانَ حَلِيماً في تأخير عقاب الكفار، غَفُوراً لمن تاب.
[42- 43] أي: و أقسم هؤلاء، الّذين كذبوك يا رسول اللّه، قسما اجتهدوا فيه بالأيمان الغليظة. لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ أي: أهدى من اليهود و النصارى، أهل الكتب، فلم يفوا بتلك الأقسام
تيسير الكريم الرحمن، ص: 830
و العهود. فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ لم يهتدوا، و لم يصيروا أهدى من إحدى الأمم، بل لم يدوموا على ضلالهم الذي كان. بل ما زادَهُمْ ذلك إِلَّا نُفُوراً و زيادة ضلال، و بغي، و عناد.
و ليس إقسامهم المذكور، لقصد حسن، و طلب للحق، و إلا لوفقوا له. و لكنه صادر عن استكبار في الأرض على الخلق، و على الحقّ، و بهرجة في كلامهم هذا، يريدون به المكر و الخداع، و أنهم أهل الحقّ، الحريصون على طلبه، فيغتر بهم المغترون، و يمشي خلفهم المقتدون. وَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ الذي مقصوده، مقصود سيّىء، و مآله و ما يرمي إليه، سيّىء باطل إِلَّا بِأَهْلِهِ ، فمكرهم إنّما يعود عليهم. و قد أبان اللّه لعباده في هذه المقالات، و تلك الأقسام، أنهم كذبة في ذلك و مزورون. فاستبان خزيهم، و ظهرت فضيحتهم، و تبين قصدهم السيّء. فعاد مكرهم في نحورهم، و رد اللّه كيدهم في صدورهم. فلم يبق لهم، إلا انتظار ما يحل بهم من العذاب، الذي هو سنّة اللّه في الأولين، الّتي لا تبدل و لا تغير، أن كلّ من سار في الظلم، و العناد، و الاستكبار على العباد، أن تحل به نقمته، و تسلب عنه نعمته، فليترقّب هؤلاء، ما فعل بأولئك.
[44] يحض تعالى الناس، على السير في الأرض، بالقلوب و الأبدان، للاعتبار لا لمجرد النظر و الغفلة، و أن ينظروا إلى عاقبة الّذين من قبلهم، ممن كذبوا الرسل، و كانوا أكثر منهم أموالا و أولادا، و أشد قوة، و عمروا الأرض أكثر مما عمرها هؤلاء. فلما جاءهم العذاب، لم تنفعهم قوتهم، و لم تغن عنهم أموالهم و لا أولادهم من اللّه شيئا، و نفذت فيهم قدرة اللّه و مشيئته. وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ لكمال علمه و قدرته إِنَّهُ كانَ عَلِيماً بالأشياء كلها قَدِيراً عليها.
[45] ثمّ ذكر تعالى، كمال حلمه، و شدة إمهاله و إنظاره، أرباب الجرائم و الذنوب فقال: وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا من الذنوب ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ أي: لاستوعبت العقوبة، حتى الحيوانات غير المكلفة. وَ لكِنْ يمهلهم تعالى و لا يهملهم يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً فيجازيهم بحسب ما علمه منهم، من خير و شر. تم تفسير سورة فاطر.
تفسير سورة يس
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1- 2] هذا قسم من اللّه تعالى بالقرآن الحكيم، الذي وصفه الحكمة، و هي وضع كلّ شيء موضعه: وضع الأمر و النهي، في المحل اللائق بهما. فأحكامه الشرعية و الجزائية كلها مشتملة على غاية الحكمة. و من حكمة هذا
تيسير الكريم الرحمن، ص: 831
القرآن، أنه يجمع بين ذكر الحكم و حكمته، فينبه العقول على المناسبات و الأوصاف المقتضية لترتيب الحكم عليها.
[3] إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) هذا هو المقسم عليه، و هو رسالة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم، و إنك يا محمد، من جملة المرسلين، فلست ببدع من الرسل. و أيضا فجئت بما جاء به الرسل من الأصول الدينية. و أيضا فمن تأمل أحوال المرسلين، و أوصافهم، و عرف الفرق بينهم و بين غيرهم، عرف أنك من خيار المرسلين، بما فيك من الصفات الكاملة، و الأخلاق الفاضلة. و لا يخفى ما بين المقسم به، و هو القرآن الحكيم، و بين المقسم عليه، و هو رسالة الرسول محمد صلّى اللّه عليه و سلّم، من الاتصال، و أنه لو لم يكن لرسالته دليل و لا شاهد، إلا هذا القرآن الحكيم، لكفى به دليلا و شاهدا، على رسالة محمد. بل القرآن العظيم، أقوى الأدلة المتصلة المستمرة، على رسالة الرسول. فأدلة القرآن كلها، أدلة لرسالة محمد صلّى اللّه عليه و سلم.
[4] ثمّ أخبر بأعظم أوصاف الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، الدالة على رسالته، و هو أنه عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) معتدل موصل إلى اللّه و إلى دار كرامته. و ذلك الصراط المستقيم، مشتمل على أعمال، و هي الأعمال الصالحة، و المصلحة للقلب و البدن، و الدنيا و الآخرة، و الأخلاق الفاضلة المزكية للنفس المطهرة للقلب، المنمية للأجر. فهذا الصراط المستقيم، الذي هو وصف الرسول صلّى اللّه عليه و سلم، و وصف دينه الذي جاء به. فتأمل جلالة هذا القرآن الكريم، كيف جمع بين القسم بأشرف الأقسام، على أجل مقسم عليه. و خبر اللّه وحده كاف، و لكنه تعالى أقام من الأدلة الواضحة، و البراهين الساطعة في هذا الموضع، على صحة ما أقسم عليه، من رسالة رسوله، و ما نبهنا عليه، و أشرنا إشارة لطيفة لسلوك طريقه.
[5] و هذا الصراط المستقيم تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) فهو الّذين أنزل به كتابه، و أنزله طريقا لعباده، موصلا لهم إليه، فحماه بعزته، عن التغيير و التبديل، و رحم به عباده، رحمة اتصلت بهم، حتى أوصلتهم إلى دار رحمته.
و لهذا ختم الآية بهذين الاسمين الكريمين، العزيز، الرحيم.
[6- 7] فلما أقسم تعالى على رسالته، و أقام الأدلة عليها، ذكر شدة الحاجة إليها و اقتضاء الضرورة لها فقال:
لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) و هم العرب الأميون، الّذين لم يزالوا خالين من الكتب، عادمين الرسل، قد عمتهم الجهالة، و غمرتهم الضلالة. فأرسل اللّه إليهم رسولا من أنفسهم، يزكيهم، و يعلمهم الكتاب و الحكمة، و إن كانوا من قبل لفي ضلال مبين. فينذر العرب الأميين، و من لحق بهم من كلّ أمي. و يذكر أهل الكتب. بما عندهم من الكتب، فنعمة اللّه به على العرب خصوصا، و على غيرهم عموما. و لكن هؤلاء الّذين بعثت لإنذارهم، بعد ما أنذرتهم، انقسموا قسمين: قسم رد لما جئت به، و لم يقبل النذارة، و هم الّذين قال اللّه فيهم لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) أي: نفذ فيهم القضاء و المشيئة، أنهم لا يزالون في كفرهم و شركهم. و إنّما حق عليهم القول، بعد أن عرض عليهم الحقّ فرفضوه، فحينئذ عوقبوا بالطبع على قلوبهم.
[8] و ذكر الموانع من وصول الإيمان لقلوبهم فقال: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا هي جمع «غل» و «الغل» ما
تيسير الكريم الرحمن، ص: 832
يغل به العنق، فهو للعنق بمنزلة القيد للرجل. و هذه الأغلال، التي في الأعناق، عظيمة فَهِيَ قد وصلت إِلَى الْأَذْقانِ قد رفعت رؤوسهم إلى فوق فَهُمْ مُقْمَحُونَ أي: رافعو رؤوسهم من شدة الغل الذي في أعناقهم، فلا يستطيعون أن يخفضوها.
[9] وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا أي:
حاجزا يحجزهم عن الإيمان. فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ قد غمرهم الجهل و الشقاء، من جميع جوانبهم، فلم تفد فيهم النذارة.
[10] وَ سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) و كيف يأمن من طبع على قلبه، و رأى الحق باطلا، و الباطل حقا؟ و القسم الثاني: الذين قبلوا النذارة، و قد ذكرهم بقوله:
[11] إِنَّما تُنْذِرُ أي: إنما تنفع نذارتك، و يتعظ بنصحك مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ أي: من قصده اتباع الحق، و ما ذكر به وَ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ أي: من اتصف بهذين الأمرين، القصد الحسن في طلب الحق، و خشية اللّه تعالى، فهم الذين ينتفعون برسالتك، و يزكون بتعليمك. و من وفق لهذين الأمرين فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ لذنوبه وَ أَجْرٍ كَرِيمٍ لأعماله الصالحة، و نيته الحسنة.
[12] إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى أي: نبعثهم بعد موتهم لنجازيهم على الأعمال. وَ نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا من الخير و الشر، و هو: أعمالهم الّتي عملوها و باشروها، في حال حياتهم. وَ آثارَهُمْ و هي: آثار الخير، و آثار الشر، الّتي كانوا هم السبب في إيجادها، في حال حياتهم، و بعد وفاتهم و تلك الأعمال الّتي نشأت من أقوالهم و أفعالهم، و أحوالهم. فكل خير عمل به أحد من الناس، بسبب علم العبد، و تعليمه، أو نصحه، أو أمره بالمعروف، أو نهيه عن المنكر. أو علم أودعه عند المتعلمين، أو في كتب ينتفع بها في حياته و بعد موته، أو عمل خيرا، من صلاة، أو زكاة، أو صدقة أو إحسان، فاقتدى به غيره، أو عمل مسجدا، أو محلا من المحال، الّتي يرتفق بها الناس، و ما أشبه ذلك، فإنها من آثاره الّتي تكتب له، و كذلك عمل الشر. و لهذا «من سنّ سنّة حسنة فله أجرها و أجر من عمل بها إلى يوم القيامة، و من سنّ سنّة سيئة فعليه وزرها و وزر من عمل بها إلى يوم القيامة». و هذا الموضع، يبين لك علو مرتبة الدعوة إلى اللّه، و الهداية إلى سبيله، بكل وسيلة و طريق موصل إلى ذلك، و نزول درجة الداعي إلى الشر الإمام فيه، و أنه أسفل الخليقة، و أشدهم جرما، و أعظمهم إثما. وَ كُلَّ شَيْءٍ من الأعمال و النيّات و غيرها أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ أي: كتاب هو أم الكتب و إليه مرجع الكتب، الّتي تكون بأيدي الملائكة، و هو اللوح المحفوظ.
[13] أي: و اضرب لهؤلاء المكذبين برسالتك، الرادين لدعوتك، مثلا يعتبرون به، و يكون لهم موعظة إن و فقوا للخير. و ذلك المثل: أصحاب القرية، و ما جرى منهم من التكذيب لرسل اللّه، و ما جرى عليهم من عقوبته و نكاله. و تعيين تلك القرية، لو كان فيه فائدة، لعينها اللّه، فالتعرض لذلك، و ما أشبهه من باب التكلف، و التكلم بلا علم. و لهذا إذا تكلم أحد في مثل هذا الأمر، تجد عنده من الخبط و الخلط. و الاختلاف الذي لا يستقر له قرار، ما تعرف به، أن طريق العلم الصحيح، الوقوف مع الحقائق، و ترك التعرض لما لا فائدة فيه. و بذلك تزكو النفس،
تيسير الكريم الرحمن، ص: 833
و يزيد العلم، من حيث يظن الجاهل، أن زيادته، بذلك الأقوال الّتي لا دليل عليها، و لا حجة عليها، و لا يحصل منها من الفائدة، إلا تشويش الذهن، و اعتياد الأمور المشكوك فيها. و الشاهد أن هذه القرية جعلها اللّه مثلا للمخاطبين. إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ من اللّه تعالى يأمرونهم بعبادة اللّه وحده، و إخلاص الدين له، و ينهونهم عن الشرك و المعاصي.
[14] إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ أي: قويناهما بثالث، فصاروا ثلاثة رسل، اعتناء من اللّه بهم، و إقامة للحجة، بتوالي الرسل إليهم. فَقالُوا لهم: إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ فأجابوهم بالجواب، الذي ما زال مشهورا عند من رد دعوة الرسل.
[15] قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا أي: فما الذي فضلكم علينا، و خصكم من دوننا؟ قالت الرسل لأممهم:
إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ . وَ ما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ أي: أنكروا عموم الرسالة. ثمّ أنكروا أيضا المخاطبين لهم فقالوا: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ .
[16] فقال هؤلاء الرسل الثلاثة: رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ فلو كنا كاذبين، لأظهر اللّه خزينا، و لبادرنا بالعقوبة.
[17] وَ ما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17) أي: البلاغ المبين الذي يحصل به، توضيح الأمور المطلوب بيانها.
و ما عدا هذا من آيات الاقتراح، أو من سرعة العذاب، فليس إلينا. و إنّما وظيفتنا، الّتي هي البلاغ المبين، قمنا بها، و بيناها لكم. فإن اهتديتم، فهو حظكم و توفيقكم، و إن ضللتم، فليس لنا من الأمر شيء.
[18] فقال أصحاب القرية لرسلهم: إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ أي: لم نر على قدومكم علينا، و اتصالكم بنا، إلا الشر. و هذا من أعجب العجائب، أن يجعل من قدم عليهم بأجل نعمة ينعم اللّه بها على العباد، و أجلّ كرامة يكرمهم بها، و ضرورته إليها فوق كلّ ضرورة، قد قدم بحالة شر، زادت على الشر الذي هم عليه، و استشأموا بها. و لكن الخذلان، و عدم التوفيق، يصنع بصاحبه أعظم مما يصنع به عدوه. ثمّ توعدوهم فقالوا: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ أي: لنقتلنكم رجما بالحجارة، أشنع القتلات وَ لَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ .
[19] فقال لهم رسلهم: طائِرُكُمْ مَعَكُمْ و هو: ما معهم من الشرك و الشر، المقتضي لوقوع المكروه و النقمة، و ارتفاع المحبوب و النعمة. أَ إِنْ ذُكِّرْتُمْ أي: بسبب أنّا ذكرناكم ما فيه صلاحكم و حظكم، قلتم لنا ما قلتم.
بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ متجاوزون للحد، متجرهمون «1» في قولكم. فلم يزدهم دعاؤهم إلا نفورا و استكبارا.
[20] وَ جاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى حرصا على نصح قومه، حين سمع ما دعت إليه الرسل، و آمن به، و علم ما رد به قومه عليهم فقال: يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ فأمرهم باتباعهم، و نصحهم على ذلك، و شهد لهم بالرسالة.
[21] ثمّ ذكر تأييدا لما شهد به و دعا إليه، فقال: اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً أي: اتبعوا من نصحكم نصحا، يعود عليكم بالخير، و ليس يريد منكم أموالكم، و أجرا على نصحه لكم، و إرشاده إياكم، فهذا موجب لاتباع من هذا وصفه. بقي أن يقال: فلعله يدعو و لا يأخذ أجرة، و لكنه ليس على الحقّ. فدفع هذا الاحتراز بقوله: وَ هُمْ مُهْتَدُونَ لأنهم لا يدعون إلا لما يشهد العقل الصحيح بحسنه، و لا ينهون إلا عمّا يشهد العقل الصحيح بقبحه.
[22] فكأن قومه لم يقبلوا نصحه، بل عادوا لائمين له، على اتباع الرسل، و إخلاص الدين للّه وحده فقال:
وَ ما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أي: و ما المانع لي، من عبادة من هو المستحق للعبادة؛ لأنه الذي