کتابخانه تفاسیر
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1084
غاية اللذة، قد سلم من كلّ مكدر و منغص موجود في كافور الدنيا، فإن الآفة الموجودة في الدنيا، تعدم من الأسماء التي ذكرها اللّه في الجنة. كما قال تعالى: فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَ طَلْحٍ مَنْضُودٍ (29)، وَ أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ ، لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ ، وَ فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ .
[6] عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ ، أي: ذلك الكأس اللذيذ، الذي يشربونه، لا يخافون نفاده، بل له مادة لا تنقطع، و هي عين دائمة الفيضان و الجريان، يفجرها عباد اللّه تفجيرا، أنى شاءوا، و كيف أرادوا. فإن شاؤوا صرفوها إلى البساتين الزاهرات، أو إلى الرياض النضرات، أو بين جوانب القصور، و المساكن المزخرفات، أو إلى أي جهة يرونها من الجهات المونقات.
[7] ثمّ ذكر جملة من أعمالهم، فقال: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ، أي: بما ألزموا به أنفسهم من النذور و المعاهدات. و إذا كانوا يوفون بالنذر، الذي هو غير واجب في الأصل عليهم، إلا بإيجابهم على أنفسهم، كان فعلهم و قيامهم بالفروض الأصلية، من باب أولى و أحرى. وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ، أي: قاسيا منتشرا. فخافوا أن ينالهم شره، فتركوا كل سبب موجب لذلك.
[8] وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ أي: و هم في حال يحبون فيها المال و الطعام، و لكنهم قدموا محبة اللّه على محبة نفوسهم، و يتحرون في إطعامهم، أولى الناس و أحوجهم مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً .
[9] و يقصدون بإنفاقهم و إطعامهم، وجه اللّه تعالى، و يقولون بلسان الحال: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً (9)، أي: لا جزاء ماليا، و لا ثناء قوليا.
[10] إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً ، أي: شديد الجهمة و الشر قَمْطَرِيراً ، أي: ضنكا ضيقا.
[11] فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ فلا يحزنهم الفزع الأكبر، و تتلقاهم الملائكة، هذا يومكم الذي كنتم توعدون.
وَ لَقَّاهُمْ ، أي: أكرمهم و أعطاهم نَضْرَةً في وجوههم وَ سُرُوراً في قلوبهم، فجمع لهم بين نعيم الظاهر و الباطن.
[12] وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا على طاعته، فعملوا ما أمكنهم منها، و عن معاصيه، فتركوها، و على أقداره المؤلمة، فلم يتسخطوها. جَنَّةً جامعة لكل نعيم، سالمة من كلّ مكدر و منغص. وَ حَرِيراً كما قال تعالى:
وَ لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ* . و لعل اللّه إنما خص الحرير، لأنه لباسهم الظاهر، الدال على حال صاحبه.
[13] مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ الاتكاء: التمكن من الجلوس، في حال الطمأنينة، و الراحة، و الرفاهية، و الأرائك هي: السرر التي عليها اللباس المزين. لا يَرَوْنَ فِيها ، أي: في الجنة شَمْساً يضرهم حرها، وَ لا زَمْهَرِيراً ، أي:
بردا شديدا، بل جميع أوقاتهم في ظل ظليل، لا حر و لا برد، بحيث تلتذ به الأجساد، و لا تتألم من حر و لا برد.
[14] وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا (14)، أي: قربت ثمراتها من مريدها، تقريبا ينالها و هو قائم، أو قاعد، أو مضطجع.
[15- 16] وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ ، أي: يدور الولدان و الخدم على أهل الجنة بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَ أَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (16) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ ، أي: مادتها فضة، و هي على صفاء القوارير، و هذا من أعجب الأشياء، أن تكون الفضة الكثيفة، من صفاء جوهرها، و طيب معدنها، على صفاء القوارير. قَدَّرُوها تَقْدِيراً ، أي: قدروا الأواني
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1085
المذكورة على قدر ريّهم، لا تزيد و لا تنقص، لأنها لو زادت نقصت لذتها، و لو نقصت لم تكفهم لريهم. و يحتمل أن المراد: قدرها أهل الجنة بمقدار، يوافق لذاتهم، فأتتهم على ما قدروا في خواطرهم.
[17] وَ يُسْقَوْنَ فِيها ، أي: الجنة كَأْساً و هو الإناء من خمر و رحيق، كانَ مِزاجُها ، أي: خلطها زَنْجَبِيلًا ليطيب طعمه و ريحه.
[18] عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) سميت بذلك لسلاستها و لذتها و حسنها.
[19] وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ ، أي: على أهل الجنة، في طعامهم و شرابهم و خدمتهم. وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ ، أي: خلقوا من الجنة للبقاء، لا يتغيرون و لا يكبرون، و هم في غاية الحسن. إِذا رَأَيْتَهُمْ منتشرين في خدمتهم حَسِبْتَهُمْ من حسنهم لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً و هذا من تمام لذة أهل الجنة، أن يكون خدامهم الولدان المخلدون، الّذين تسر رؤيتهم، و يدخلون في مساكنهم، آمنين من تبعتهم، و يأتونهم بما يدعون، و تطلبه نفوسهم.
[20] وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَ ، أي: رمقت ما أهل الجنة عليه من النعيم الكامل. رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً فتجد الواحد منهم، عنده من المساكن و الغرف المزينة المزخرفة، ما لا يدركه الوصف. و لديه من البساتين الزاهرة، و الثمار الدانية، و الفواكه اللذيذة، و الأنهار الجارية، و الرياض المعجبة، و الطيور المطربة المشجية، ما يأخذ بالقلوب، و يفرح النفوس. و عنده من الزوجات، اللاتي في غاية الحسن و الإحسان، الجامعات لجمال الظاهر و الباطن، الخيرات الحسان، ما يملأ القلب سرورا، و لذة و حبورا. و حوله من الولدان المخلدين، و الخدم المؤبدين، ما به تحصل الراحة و الطمأنينة، و تتم لذة العيش، و تكمل الغبطة. ثمّ علاوة ذلك و معظمه، الفوز برضا الرب الرحيم، و سماع خطابه، و لذة قربه، و الابتهاج برضاه، و الخلود الدائم، و تزايد ما هم فيه من النعيم، كل وقت و حين. فسبحان مالك الملك، الحقّ المبين، الذي لا تنفد خزائنه، و لا يقل خيره، فكما لا نهاية لأوصافه، فلا نهاية لبره و إحسانه.
[21] عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ ، أي: قد جللتهم ثياب السندس و الإستبرق الأخضران اللذان هما أجلّ أنواع الحرير، فالسندس: ما غلظ من الحرير، و الإستبرق: ما رقّ منه. وَ حُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ ، أي: حلوا في أيديهم أساور، ذكورهم و إناثهم، و هذا وعد وعدهم اللّه، و كان وعده مفعولا، لأنه لا أصدق منه قيلا و لا حديثا. و قوله:
وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً ، أي: لا كدر فيه بوجه من الوجوه، مطهرا لما في بطونهم من كلّ أذى و قذى.
[22] إِنَّ هذا الجزاء الجزيل كانَ لَكُمْ جَزاءً على ما أسلفتموه، من الأعمال. وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً أي: القليل منه، يجعل اللّه لكم به، من النعيم، ما لا يمكن حصره.
[23] و قوله تعالى لما ذكر نعيم الجنة إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23)، و فيه الوعد و الوعيد، و بيان كلّ ما يحتاجه العباد. و فيه الأمر بالقيام بأوامره و شرائعه أتمّ القيام، و السعي في تنفيذها، و الصبر على ذلك.
[24] و لهذا قال: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24)، أي: اصبر لحكمه القدري، فلا تسخطه، و لحكمه الديني، فامض عليه، و لا يعوقنك عنه عائق. وَ لا تُطِعْ من المعاندين، الّذين يريدون أن يصدوك آثِماً ، أي: فاعلا
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1086
إثما و معصية أَوْ كَفُوراً ، فإن طاعة الكفار و الفجار و الفساق، لا بد أن تكون معصية للّه، فإنهم لا يأمرون إلا بما تهواه أنفسهم.
[25] و لما كان الصبر يستمد من القيام بطاعة اللّه، و الإكثار من ذكره، أمر اللّه بذلك، فقال:
وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا (25)، أي: أول النهار و آخره، فدخل في ذلك الصلوات المكتوبات و ما يتبعها من النوافل، و الذكر، و التسبيح، و التهليل، و التكبير في هذه الأوقات.
[26] وَ مِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ ، أي: أكثر له من السجود، و ذلك متضمن لكثرة الصلاة. وَ سَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا ، و قد تقدم تقييد هذا المطلق بقوله: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ .
[27] و قوله: إِنَّ هؤُلاءِ ، أي: المكذبين لك أيها الرسول، بعد ما بينت لهم الآيات، و رغبوا و رهبوا، و مع ذلك، لم يفد فيهم ذلك شيئا بل لا يزالون يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ و يطمئنون إليها. وَ يَذَرُونَ ، أي: يتركون العمل، و يهملون وَراءَهُمْ أي: أمامهم يَوْماً ثَقِيلًا و هو يوم القيامة، الذي مقداره خمسون ألف سنة مما تعدون. و قال تعالى: يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ . فكأنهم ما خلقوا إلا للدنيا، و الإقامة فيها.
[28] ثم استدل عليهم و على بعثهم بدليل عقلي، و هو دليل الابتداء، فقال: نَحْنُ خَلَقْناهُمْ ، أي: أوجدناهم من العدم وَ شَدَدْنا أَسْرَهُمْ ، أي:
أحكمنا خلقتهم بالأعصاب، و العروق، و الأوتار، و القوى الظاهرة و الباطنة، حتى تم الجسم و استكمل، و تمكن من كل ما يريده. فالذي أوجدهم على هذه الحالة، قادر على أن يعيدهم بعد موتهم، لجزائهم، و الذي نقلهم في هذه الدار إلى هذه الأطوار، لا يليق به أن يتركهم سدى، لا يؤمرون، و لا ينهون، و لا يثابون، و لا يعاقبون، و لهذا قال: وَ إِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا ، أي: أنشأناهم للبعث نشأة أخرى، و أعدناهم بأعيانهم، و هم بأنفسهم أمثالهم.
[29] إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ ، أي: يتذكر بها المؤمن، فينتفع بما فيها، من التخويف و الترغيب. فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا ، أي: طريقا موصلا إليه. فاللّه، يبين الحق و الهدى، ثم يخير الناس بين الاهتداء بها، و النفور عنها، إقامة للحجة لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ
[30] وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ فإن مشيئة اللّه نافذة. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً فله الحكمة في هداية المهتدي، و إضلال الضال.
[31] يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ فيختصه بعنايته، و يوفقه لأسباب السعادة و يهديه لطرقها. وَ الظَّالِمِينَ الذين اختاروا الشقاء على الهدى أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً بظلمهم و عدوانهم. تم تفسير سورة الإنسان- و للّه الحمد.
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1087
سورة المرسلات
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] أقسم تعالى على البعث و الجزاء على الأعمال، بالمرسلات عرفا، و هي: الملائكة التي يرسلها اللّه بشؤونه القدرية، و تدبير العالم و بشؤونه الشرعية، و وحيه إلى رسله.
و عُرْفاً حال من المرسلات، أي: أرسلت بالعرف، و الحكمة، و المصلحة، لا بالنكر و العبث.
[2] فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) و هي أيضا الملائكة التي يرسلها اللّه تعالى، وصفها بالمبادرة لأمره، و سرعة تنفيذ أوامره، كالريح العاصف. أو: أن العاصفات، الرياح الشديدة، التي يسرع هبوبها.
[3] وَ النَّاشِراتِ نَشْراً (3) يحتمل أن المراد بها الملائكة، تنشر ما دبرت على نشره، أو أنها: السحاب التي ينشر بها اللّه الأرض، فيحييها بعد موتها.
[5] فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) هي الملائكة، تلقي أشرف الأوامر، و هي الذكر الذي يرحم اللّه به عباده، و يذكرهم فيه منافعهم و مصالحهم، تلقيه إلى الرسل.
[6] عُذْراً أَوْ نُذْراً (6)، أي: إعذارا، أو إنذارا للناس، تنذر الناس ما أمامهم من المخاوف، و تقطع أعذارهم، فلا يكون لهم حجة على اللّه.
[7] إِنَّما تُوعَدُونَ من البعث و الجزاء على الأعمال لَواقِعٌ ، أي: متحتم وقوعه، من غير شك و لا ارتياب. فإذا وقع حصل من التغير و الأهوال الشديدة للعالم، ما يزعج القلوب و تشتد له الكروب، فتنطمس النجوم، أي: تتناثر و تزول عن أماكنها و تنسف الجبال، فتكون كالهباء المنثور، و تكون هي و الأرض قاعا صفصفا، لا ترى فيها عوجا و لا أمتا. و ذلك اليوم هو اليوم الذي أقتت فيه الرسل، و أجلت للحكم بينها و بين أممها و لهذا قال:
[12] لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) استفهام للتعظيم و التفخيم، و التهويل.
[13] ثم أجاب بقوله: لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13)، أي: بين الخلائق، بعضهم من بعض، و حساب كل منهم منفردا. ثم توعد المكذب بهذا اليوم، فقال: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)، أي: يا حسرتهم و شدة عذابهم، و سوء منقلبهم، أخبرهم اللّه، و أقسم لهم، فلم يصدقوه، فلذلك استحقوا العقوبة البليغة.
[16] أي: أما أهلكنا المكذبين السابقين، ثم نتبعهم بإهلاك من كذب من الآخرين، و هذه سنته السابقة و اللاحقة، في كل مجرم لا بد من عقابه، فلم لا تعتبرون بما ترون و تسمعون؟.
[19] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) بعد ما شاهدوا من الآيات البينات، و العقوبات و المثلات.
[20- 21] أي: أما خلقناكم أيها الآدميون مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ، أي: في غاية الحقارة، خرج من بين الصلب و الترائب، حتى جعله اللّه فِي قَرارٍ مَكِينٍ و هو الرحم، به يستقر و ينمو.
[22] إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) و وقت مقدر.
[23] فَقَدَرْنا ، أي: قدرنا و دبرنا ذلك الجنين، في تلك الظلمات، و نقلناه من النطفة إلى العلقة، إلى المضغة، إلى أن جعله اللّه جسدا، و نفخ فيه الروح و منهم من يموت قبل ذلك. فَنِعْمَ الْقادِرُونَ يعني بذلك، نفسه المقدسة، لأن
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1088
قدره، تابع لحكمته، موافق للحمد.
[24] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24).
[25] أي: أما مننّا عليكم، و أنعمنا، بتسخير الأرض لمصالحكم، فجعلناها كِفاتاً لكم.
[26] أَحْياءً في الدور وَ أَمْواتاً في القبور، فكما أن الدور و القصور من نعم اللّه على عباده و منته، فكذلك القبور، رحمة في حقهم، و ستر لهم، عن كون أجسادهم بادية للسباع و غيرها.
[27] وَ جَعَلْنا فِيها رَواسِيَ ، أي: جبالا ترسي الأرض، لئلا تميد بأهلها، فثبتها اللّه بالجبال الراسيات الشامخات، أي: الطوال العراض. وَ أَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً ، أي: عذبا زلالا، قال تعالى: أَ فَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَ أَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (70).
[28] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) مع ما أراهم اللّه من النعم، الّتي انفرد بها، و اختصهم بها، فقابلوها بالتكذيب.
[29] هذا من الويل، الذي أعد للمجرمين المكذبين، أن يقال لهم يوم القيامة: [29] انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) ثمّ فسر ذلك بقوله: [30] انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30)، أي: إلى ظل نار جهنم، الّتي تتمايز في خلاله ثلاث شعب، أي: قطع من النار، تتعاوره و تتناوبه، و تجتمع به. [31] لا ظَلِيلٍ ذلك الظل، أي: لا راحة فيه، و لا طمأنينة. وَ لا يُغْنِي من مكث فيه مِنَ اللَّهَبِ ، بل اللهب قد أحاط به، يمنة و يسرة، و من كلّ جانب، كما قال تعالى: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَ مِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ، لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَ مِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41). ثمّ ذكر عظيم شرر النار، الدال على عظمها و فظاعتها، و سوء منظرها، فقال:
[32] إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33) و هي: السود الّتي تضرب إلى لون فيه صفرة، و هذا يدل على أن النار مظلمة، لهبها و جمرها و شررها، و أنها سوداء، كريهة المنظر، شديدة الحرارة، نسأل اللّه العافية منها، و من الأعمال المقربة منها. [34] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34).
[35] أي: هذا اليوم العظيم الشديد على المكذبين، لا ينطقون فيه من الخوف و الوجل الشديد.
[36] وَ لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36)، أي: لا تقبل معذرتهم، و لو اعتذروا: فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57).
[38] هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَ الْأَوَّلِينَ (38) لنفصل بينكم، و نحكم بين الخلائق.
[39] فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ تقدرون على الخروج به عن ملكي، و تنجون من عذابي، فَكِيدُونِ ، أي: ليس لكم قدرة و لا سلطان، كما قال تعالى: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ (33).
ففي ذلك اليوم، تبطل حيل الظالمين، و يضمحل مكرهم و كيدهم، و يستسلمون لعذاب اللّه، و يبين لهم كذبهم في تكذيبهم
[40] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40).
[41] لما ذكر عقوبة المكذبين، ذكر مثوبة المحسنين، فقال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ ، أي: للتكذيب، المتصفين بالتصديق، في أقوالهم و أفعالهم و أعمالهم. و لا يكونون كذلك، إلا بأدائهم الواجبات، و تركهم المحرمات. فِي ظِلالٍ من كثرة الأشجار المتنوعة، الزاهرة البهية. وَ عُيُونٍ جارية من السلسبيل، و الرحيق و غيرهما.
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1089
[42] وَ فَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42)، أي: من خيار الفواكه و أطيبها،
و يقال لهم: كُلُوا وَ اشْرَبُوا من المآكل الشهية، و الأشربة اللذيذة، هَنِيئاً ، أي: من غير منغص و لا مكدر. و لا يتم هناؤه، حتى يسلم الطعام و الشراب، من كل آفة و نقص، و حتى يجزموا أنه غير منقطع، و لا زائل.
بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فأعمالكم، هي السبب الموصل لكم إلى جنات النعيم المقيم. و هكذا كلّ من أحسن في عبادة اللّه، و أحسن إلى عباد اللّه، و لهذا قال: [44- 45] إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45)، و لو لم يكن من هذا الويل، إلا فوات هذا النعيم، لكفى به حزنا و حرمانا.
[46] هذا تهديد و وعيد للمكذبين، أنهم و إن أكلوا في الدنيا، و شربوا و تمتعوا باللذات، و غفلوا عن القربات، فإنهم مجرمون، يستحقون ما يستحقه المجرمون، فتنقطع عنهم اللذات، و تبقى عليهم التبعات.
[48] و من إجرامهم أنهم إذا أمروا بالصلاة، الّتي هي أشرف العبادات، و قِيلَ لَهُمُ: ارْكَعُوا امتنعوا من ذلك. فأي إجرام فوق هذا؟
و أي تكذيب يزيد على هذا؟
[49] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49)، و من الويل عليهم أنهم تنسد عنهم أبواب التوفيق، و يحرمون كلّ خير، فإنهم إذا كذبوا هذا القرآن، الذي هو أعلى مراتب الصدق و اليقين على الإطلاق.
[50] فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)، أ بالباطل، الذي هو كاسمه، لا يقوم عليه شبهة فضلا عن الدليل؟ أم بكلام مشرك كذاب، أفاك مبين؟ فليس بعد النور المبين، إلا دياجي الظلمات، و لا بعد التصديق، الذي قامت عليه الأدلة و البراهين القاطعة، إلا الإفك الصراح، و الكذب المبين الذي لا يليق إلا بمن يناسبه. فتبّا لهم، ما أعماهم و ويحا لهم ما أخسرهم و أشقاهم نسأل اللّه العفو و العافية، إنه جواد كريم. تم تفسير سورة المرسلات- و للّه الحمد.
تفسير سورة النبأ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1- 3] أي: عن أي شيء يتساءل المكذبون بآيات اللّه؟ ثمّ بيّن ما يتساءلون عنه فقال: عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3)، أي: عن الخبر العظيم، الذي طال فيه نزاعهم و انتشر فيه خلافهم على وجه التكذيب و الاستبعاد، و هو النبأ الذي لا يقبل الشك، و لا يدخله الريب، و لكن المكذبين بلقاء ربهم لا يؤمنون، و لو جاءتهم كل آية، حتى يروا العذاب الأليم.
[4- 5] و لهذا قال: كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5)، أي: سيعلمون إذا نزل بهم العذاب، ما كانوا به يكذبون، حين يدعّون إلى نار جهنم دعّا. و يقال لهم: هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (14).
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1090
[6] ثمّ ذكر تعالى النعم و الأدلة الدالة على ما جاءت به الرسل، فقال: أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ ، إلى: أَلْفافاً . أي:
أما أنعمنا عليكم بنعم جليلة، فجعلنا لكم الْأَرْضَ مِهاداً ، أي: ممهدة مذللة لكم و لمصالحكم، من الحروث، و المساكن و السبل.
[7] وَ الْجِبالَ أَوْتاداً (7) تمسك الأرض لئلا تضطرب بكم و تميد.
[8] وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8)، أي:
ذكورا و إناثا، من جنس واحد، ليسكن كلّ منهما إلى الآخر، فتتكون المودة و الرحمة، و تنشأ عنهما الذرية، و في ضمن هذا الامتنان، بلذة المنكح.
[9] وَ جَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9)، أي: راحة لكم، و قطعا لأشغالكم، الّتي متى تمادت بكم، أضرت بأبدانكم، فجعل اللّه الليل و النوم، يغشى الناس، لتسكن حركاتهم الضارة، و تحصل راحتهم النافعة.
[12] وَ بَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12)، أي: سبع سموات، في غاية القوة، و الصلابة و الشدة. و قد أمسكها اللّه بقدرته، و جعلها سقفا للأرض، فيها عدة منافع لهم، و لهذا ذكر من منافعها الشمس، فقال:
[13] وَ جَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13) نبه بالسراج على النعمة بنورها الذي صار ضرورة للخلق، و بالوهاج، و هي: حرارتها، على ما فيها من الإنضاج و المنافع.
[14] وَ أَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ، أي: السحاب ماءً ثَجَّاجاً ، أي: كثيرا جدا.
[15] لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا من برّ و شعير، و ذرة، و أرز، و غير ذلك مما يأكله الآدميون. وَ نَباتاً يشمل سائر النبات، الذي جعله اللّه قوتا لمواشيهم.
[16] وَ جَنَّاتٍ أَلْفافاً (16)، أي:
بساتين ملتفة، فيها من جميع أصناف الفواكه اللذيذة. فالذي أنعم بهذه النعم الجليلة، الّتي لا يقدر قدرها، و لا يحصى عددها كيف تكفرون به، و تكذبون ما أخبركم به، من البعث و النشور؟ أم كيف تستعينون بنعمه على معاصيه، و تجحدونها؟
[17] ذكر تعالى ما يكون في يوم القيامة الذي يتساءل عنه المكذبون، و يجحده المعاندون، أنه يوم عظيم، و أن اللّه جعله مِيقاتاً للخلق.
[18] يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً ، و يجري فيه من الزعازع و القلاقل ما يشيب له المولود، و تنزعج له القلوب. فتسير الجبال، حتى تكون كالهباء المبثوث، و تنشق السماء حتى تكون أبوابا، و يفصل اللّه بين الخلائق، بحكمه الذي لا يجور، و توقد نار جهنم الّتي أرصدها اللّه، و أعدها للطاغين و جعلها مثوى لهم و مآبا، و أنهم يلبثون فيها أحقابا كثيرة، و «الحقب» على ما قاله كثير من المفسرين: ثمانون سنة.
[24] فإذا وردوها لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَ لا شَراباً ، أي: لا ما يبرد جلودهم، و لا ما يدفع ظمأهم. إِلَّا حَمِيماً ، أي: ماء حارا، يشوي وجوههم، و يقطع أمعاءهم. وَ غَسَّاقاً و هو صديد أهل النار، الذي هو في غاية النتن، و كراهة المذاق.
[26] و إنّما استحقوا هذه العقوبات الفظيعة جَزاءً وِفاقاً (26) لهم على ما عملوا من الأعمال الموصلة إليها، لم يظلمهم اللّه، و لكن ظلموا أنفسهم، و لهذا ذكر أعمالهم، الّتي استحقوا بها هذا الجزاء، فقال:
[27] إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (27)، أي: لا يؤمنون بالبعث، و لا أن اللّه يجازي الخلق، بالخير و الشر، فلذلك أهملوا العمل للآخرة.