کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تيسير الكريم الرحمن

سورة الفاتحة سورة آل عمران سورة المائدة سورة الأنعام تفسير سورة الأعراف تفسير سورة الأنفال تفسير سورة التوبة تفسير سورة يونس تفسير سورة هود تفسير سورة الرعد سورة إبراهيم تفسير سورة الحجر سورة النحل سورة الإسراء سورة الكهف تفسير سورة مريم سورة طه تفسير سورة الأنبياء تفسير سورة الحج تفسير سورة المؤمنون تفسير سورة النور تفسير سورة الفرقان تفسير سورة الشعراء تفسير سورة النمل تفسير سورة العنكبوت تفسير سورة الروم تفسير سورة لقمان تفسير سورة السجدة سورة الأحزاب سورة سبأ تفسير سورة فاطر تفسير سورة يس تفسير سورة الصافات تفسير سورة الزمر تفسير سورة فصلت سورة الشورى سورة الزخرف تفسير سورة الدخان سورة الجاثية سورة الأحقاف سورة محمد تفسير سورة الحجرات تفسير سورة ق سورة الطور تفسير سورة النجم سورة القمر سورة الرحمن سورة الواقعة تفسير سورة الحديد تفسير سورة المجادلة تفسير سورة الحشر تفسير سورة الممتحنة تفسير سورة الصف سورة الجمعة تفسير سورة المنافقون تفسير سورة التغابن تفسير سورة الطلاق تفسير سورة التحريم تفسير سورة الملك تفسير سورة القلم سورة الحاقة سورة المعارج سورة نوح سورة الجن تفسير سورة المزمل سورة المدثر تفسير سورة القيامة سورة الإنسان سورة المرسلات تفسير سورة النبأ سورة النازعات سورة عبس تفسير سورة التكوير سورة الإنفطار سورة المطففين تفسير سورة الإنشقاق سورة البروج سورة الطارق سورة الأعلى تفسير سورة الغاشية تفسير سورة الفجر تفسير سورة البلد سورة الشمس سورة الليل تفسير سورة الضحى سورة الشرح سورة التين تفسير سورة العلق سورة القدر تفسير سورة البينة تفسير سورة الزلزلة تفسير سورة العاديات تفسير سورة القارعة سورة التكاثر سورة العصر تفسير سورة الهمزة سورة الفيل تفسير سورة قريش سورة الماعون سورة الكوثر تفسير سورة الكافرون سورة النصر تفسير سورة المسد تفسير سورة الإخلاص سورة الفلق تفسير سورة الناس محتوى تفسير الإمام السعدي

تيسير الكريم الرحمن


صفحه قبل

تيسير الكريم الرحمن، ص: 1049

وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ يَعْمَلْ صالِحاً من الواجبات و المستحبات.

[11] وَ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فيها من النعيم المقيم، ما لا عين رأيت، و لا أذن سمعت، و لا خطر على قلب بشر. خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً ، أي:

و من لم يؤمن باللّه و رسوله، فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.

[12] ثمّ أخبر تعالى أنه خلق السماوات و الأرض، و من فيهن، و الأرضين السبع و من فيهن، و ما بينهن، و أنزل الأمر و هو: الشرائع و الأحكام الدينية، الّتي أوحاها إلى رسله لتذكير العباد و وعظهم، و كذلك الأوامر الكونية و القدرية، الّتي يدبر بها الخلق، كل ذلك لأجل أن يعرفه العباد و يعلموا إحاطة قدرته بالأشياء كلها، و إحاطة علمه بجميع الأشياء. فإذا عرفوه بأسمائه الحسنى و أوصافه المقدسة، عبدوه، و أحبوه، و قاموا بحقه، فهذه هي الغاية المقصودة من الخلق و الأمر: معرفة اللّه و عبادته. فقام بذلك الموفقون من عباد اللّه الصالحين، و أعرض عن ذلك، الظالمون المعرضون. تم تفسير سورة الطلاق- و الحمد للّه.

تفسير سورة التحريم‏

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

[1] هذا عتاب من اللّه لنبيه محمد صلّى اللّه عليه و سلّم، حين حرم على نفسه سريته «مارية» أو شرب العسل، مراعاة لخاطر بعض زوجاته، في قصة معروفة. فأنزل اللّه هذه الآيات‏ يا أَيُّهَا النَّبِيُ‏ ، أي: يا أيها الذي أنعم اللّه عليه بالنبوة و الرسالة و الوحي‏ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ‏ من الطيبات الّتي أنعم اللّه بها عليك و على أمتك. تَبْتَغِي‏ بذلك التحريم‏ مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏ . هذا تصريح بأن اللّه قد غفر لرسوله، و رفع عنه اللوم، و رحمه، و صار ذلك التحريم الصادر منه سببا لشرع حكم عام لجميع الأمة، فقال تعالى:

[2] قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ‏ ، و هذا عام في جميع أيمان المؤمنين، أي: قد شرع لكم، و قدر ما به تنحل أيمانكم قبل الحنث، و ما به تتكفر بعد الحنث. و ذلك كما في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ‏ (87) إلى أن قال:

فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ‏ . فكل من حرم حلالا عليه، من طعام أو شراب، أو سرية، أو حلف يمينا باللّه، على فعل أو ترك، ثمّ حنث، و أراد الحنث، فعليه هذه الكفارة المذكورة. و قوله: وَ اللَّهُ مَوْلاكُمْ‏ ، أي: متولي أموركم، و مربيكم أحسن تربية، في أمر دينكم و دنياكم، و ما به يندفع عنكم الشر، فلذلك فرض لكم تحلة أيمانكم، لتبرأ ذممكم. وَ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ‏ الذي أحاط علمه بظواهركم و بواطنكم، و هو الحكيم في جميع ما خلقه و حكم به.

تيسير الكريم الرحمن، ص: 1050

فلذلك شرع لكم من الأحكام، ما يعلم أنه موافق لمصالحكم، و مناسب لأحوالكم.

[3] و قوله: وَ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى‏ بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً قال كثير من المفسرين: هي حفصة، أم المؤمنين رضي اللّه عنها، أسرّ لها النبي صلّى اللّه عليه و سلّم حديثا، و أمر أن لا تخبر به أحدا، فحدثت به عائشة رضي اللّه عنهما. و أخبره اللّه بذلك الخبر، الذي أذاعته، فعرّفها صلّى اللّه عليه و سلّم، ببعض ما قالت، و أعرض عن بعضه، كرما منه صلّى اللّه عليه و سلّم، و حلما. قالَتْ‏ له: مَنْ أَنْبَأَكَ هذا الخبر الذي لم يخرج منا؟ قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ الذي لا تخفى عليه خافية، يعلم السر و أخفى.

[4] و قوله: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما الخطاب للزوجتين الكريمتين حفصة و عائشة رضي اللّه عنهما، كانتا سببا لتحريم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم على نفسه ما يحبه. فعرض اللّه عليهما التوبة، و عاتبهما على ذلك، و أخبرهما أن قلوبكما قد صغت، أي: مالت و انحرفت عما ينبغي لهن، من الورع و الأدب، مع الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، و احترامه، و أن لا يشققن عليه. وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ‏ ، أي: تعاونا على ما يشق عليه، و يستمر هذا الأمر منكن. فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ ، أي: الجميع أعوان للرسول، مظاهرون له، و من كان هؤلاء أنصاره، فهو المنصور، و غيره إن يناوئه فهو مخذول. و في هذا أكبر فضيلة و شرف لسيد المرسلين، حيث جعل الباري نفسه الكريمة، و خواص خلقه، أعوانا لهذا الرسول الكريم. و فيه من التحذير للزوجتين الكريمتين ما لا يخفى.

[5] ثمّ خوفهما أيضا، بحالة تشق على النساء غاية المشقة، و هو الطلاق، الذي هو أكبر شي‏ء عليهن، فقال:

عَسى‏ رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ‏ ، أي: فلا تترفعن عليه، فإنه لو طلقكن، لا يضيق عليه الأمر، و لم يكن مضطرا إليكن، فإنه سيجد، و يبدله اللّه أزواجا خيرا منكن، دينا و جمالا، و هذا من باب التعليق الذي لم يوجد، و لا يلزم وجوده. فإنه ما طلقهن، و لو طلقهن، لكان ما ذكره اللّه من هذه الأزواج الفاضلات. مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ‏ جامعات بين الإسلام، و هو القيام بالشرائع الظاهرة، و الإيمان، و هو: القيام بالشرائع الباطنة، من العقائد و أعمال القلوب. قانِتاتٍ‏ و القنوت هو: دوام الطاعة و استمرارها، تائِباتٍ‏ عما يكرهه اللّه، فوصفهن بالقيام بما يحبه اللّه، و التوبة عما يكرهه اللّه. ثَيِّباتٍ وَ أَبْكاراً ، أي: بعضهن ثيب، و بعضهن أبكار، ليتنوع صلّى اللّه عليه و سلّم فيما يحب. فلما سمعن- رضي اللّه عنهن- هذا التخويف و التأديب، بادرن إلى رضا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فكان هذا الوصف منطبقا عليهن، فصرن أفضل نساء المؤمنين.

[6] أي: يا من منّ اللّه عليهم بالإيمان، قوموا بلوازمه و شروطه. ف قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً موصوفة بهذه الأوصاف الفظيعة، و وقاية الأنفس بإلزامها أمر اللّه، امتثالا، و نهيه اجتنابا، و التوبة عما يسخط اللّه، و يوجب العذاب. و وقاية الأهل و الأولاد، بتأديبهم و تعليمهم، و إجبارهم على أمر اللّه. فلا يسلم العبد إلا إذا قام بما أمر اللّه به في نفسه، و فيمن تحت ولايته و تصرفه. و وصف اللّه النار بهذه الأوصاف، ليزجر عباده عن التهاون بأمره، فقال:

وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ ، كما قال تعالى: إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها

تيسير الكريم الرحمن، ص: 1051

وارِدُونَ‏ (98). عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ ، أي: غليظة أخلاقهم، شديد انتصارهم يفزعون بأصواتهم و يزعجون بمرآهم، و يهينون أصحاب النار بقوتهم، و ينفذون فيهم أمر اللّه، الذي حتّم عليهم بالعذاب، و أوجب عليهم شدة العقاب. لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ‏ و هذا فيه أيضا مدح للملائكة الكرام، و انقيادهم لأمر اللّه، و طاعتهم له في كلّ ما أمرهم به.

[7] أي: يوبخ أهل النار يوم القيامة بهذا التوبيخ، فيقال لهم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ‏ ، أي: فإنه ذهب وقت الاعتذار، و زال نفعه، فلم يبق الآن إلا الجزاء على الأعمال. و أنتم لم تقدموا إلا الكفر باللّه، و التكذيب بآياته و محاربة رسله و أوليائه.

[8] قد أمر اللّه بالتوبة النصوح في هذه الآية، و وعد عليها بتكفير السيئات، و دخول الجنات، و الفوز و الفلاح، حين يسعى المؤمنون يوم القيامة، بنور إيمانهم، و يمشون بضيائه، و يتمتعون بروحه و راحته، و يشفقون إذا طفئت الأنوار، الّتي تعطى المنافقين، و يسألون اللّه، أن يتم لهم نورهم فيستجيب اللّه دعوتهم، و يوصلهم بما معهم من النور و اليقين، إلى جنات النعيم، و جوار الرب الكريم، و كلّ هذا، من آثار التوبة النصوح. و المراد بها: التوبة العامة الشاملة لجميع الذنوب، الّتي عقدها العبد للّه، لا يريد بها إلا وجه اللّه، و القرب منه، و يستمر عليها في جميع أحواله.

[9] يأمر اللّه تعالى نبيه صلّى اللّه عليه و سلّم بجهاد الكفار و المنافقين، و الإغلاظ عليهم في ذلك، و هذا شامل لجهادهم بإقامة الحجة عليهم، و دعوتهم بالموعظة الحسنة، و إبطال ما هم عليه من أنواع الضلال، و جهادهم بالسلاح و القتال، لمن أبى أن يجيب دعوة اللّه، و ينقاد لحكمه، فإن هذا، يجاهد و يغلظ عليه. و أما المرتبة الأولى، فتكون بالتي هي أحسن.

فالكفار و المنافقون، لهم عذاب في الدنيا، بتسليط اللّه لرسوله، و حزبه عليهم، و على جهادهم، و عذاب النار في الآخرة و بئس المصير، الذي يصير إليه كلّ شقي خاسر.

[10] هذان المثلان، اللذان ضربهما اللّه للمؤمنين و الكافرين، ليبين لهم أن اتصال الكافر بالمؤمن، و قربه منه، لا يفيده شيئا، و أن اتصال المؤمن بالكافر، لا يضره شيئا، مع قيامه بالواجب عليه. فكأن في ذلك، إشارة و تحذيرا لزوجات النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، عن المعصية، و أن اتصالهن به صلّى اللّه عليه و سلّم لا ينفعهن شيئا مع الإساءة، فقال: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا ، أي: المرأتان‏ تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ‏ و هما نوح، و لوط، عليهما السّلام. فَخانَتاهُما في الدين، بأن كانتا على غير دين زوجيهما، و هذا هو المراد بالخيانة، لا خيانة النسب و الفراش، فإنه ما بغت امرأة نبي قط، و ما كان اللّه، ليجعل امرأة أحد من أنبيائه بغيا. فَلَمْ يُغْنِيا ، أي: نوح و لوط عَنْهُما ، أي: عن امرأتيهما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَ قِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ‏ .

[11] وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ‏ و هي آسية بنت مزاحم رضي اللّه عنها، إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَ نَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَ عَمَلِهِ وَ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ‏ . فوصفها اللّه بالإيمان و التضرع لربها، و؟؟؟ أجل المطالب، و هو دخول‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 1052

الجنة، و مجاورة الرب الكريم، و سؤالها أن ينجيها من فتنة فرعون و أعماله الخبيثة، و من فتنه كل ظالم. فاستجاب اللّه لها، فعاشت في إيمان كامل، و ثبات تام، و نجاة من الفتن، و لهذا قال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «كمل من الرجال كثير، و لم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، و آسية بنت مزاحم، و خديجة بنت خويلد، و فضل عائشة على النساء، كفضل الثريد على سائر الطعام».

[12] و قوله: وَ مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها ، أي: حفظته و صانته عن الفاحشة، لكمال ديانتها، و عفتها، و نزاهتها. فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا ، بأن نفخ جبريل عليه السّلام في جيب درعها، فوصلت نفخته إلى مريم، فجاء منها عيسى عليه السّلام، الرسول الكريم و السيد العظيم.

وَ صَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَ كُتُبِهِ‏ ، و هذا وصف لها بالعلم و المعرفة، فإن التصديق بكلمات اللّه، يشمل كلماته الدينية و القدرية. و التصديق بكتبه، يقتضي معرفة ما به يحصل التصديق، و لا يكون ذلك إلا بالعلم و العمل، و لهذا قال:

وَ كانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ‏ ، أي: المداومين على طاعة اللّه، بخشية و خشوع. و هذا وصف لها بكمال العمل، فإنها- رضي اللّه عنها- صديقة، و الصديقية هي: كمال العلم و العمل. تم تفسير سورة التحريم- بعون اللّه و تيسيره.

تفسير سورة الملك‏

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

[1] تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ‏ ، أي: تعاظم و تعالى، و كثر خيره، و عم إحسانه. من عظمته أن بيده ملك العالم العلوي و السفلي، فهو الذي خلقه، و يتصرف فيه بما شاء، من الأحكام القدرية، و الأحكام الدينية، التابعة لحكمته. وَ هُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ، أي: و من عظمته، كمال قدرته، الّتي يقدر بها على كلّ شي‏ء، و بها أوجد ما أوجد من المخلوقات العظيمة، كالسموات و الأرض.

[2] الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ أي: قدر لعباده أن يحييهم ثمّ يميتهم. لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ، أي: أخلصه و أصوبه، و ذلك أن اللّه خلق عباده، و أخرجهم لهذه الدار، و أخبرهم أنهم سينتقلون منها، و أمرهم و نهاهم، و ابتلاهم بالشهوات المعارضة لأمره، فمن انقاد لأمر اللّه، أحسن اللّه له الجزاء في الدارين، و من مال مع شهوات النفس، و نبذ أمر اللّه، فله شر الجزاء. وَ هُوَ الْعَزِيزُ الذي له العزة كلها، الّتي قهر بها جميع الأشياء، و انقادت له المخلوقات. الْغَفُورُ عن المسيئين، و المقصرين، و المذنبين، خصوصا إذا تابوا و أنابوا. فإنه يغفر ذنوبهم، و لو بلغت عنان السماء، و يستر عيوبهم، و لو كانت مل‏ء الدنيا.

[3] الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ، أي: كل واحدة فوق الأخرى، و لسن طبقة واحدة، و خلقها في غاية

تيسير الكريم الرحمن، ص: 1053

الحسن و الإتقان‏ ما تَرى‏ فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ‏ ، أي:

خلل و نقص. و إذا انتفى النقص من كلّ وجه، و صارت حسنة كاملة، متناسبة من كلّ وجه، في لونها و هيئتها، و ارتفاعها، و ما فيها من الشمس، و الكواكب النيرات، الثوابت منهن و السيارات. و لما كان كمالها معلوما، أمر اللّه تعالى بتكرار النظر إليها و التأمل في أرجائها، فقال: فَارْجِعِ الْبَصَرَ ، أي: أعده إليها، ناظرا معتبرا هَلْ تَرى‏ مِنْ فُطُورٍ ، أي: نقص و اختلال.

[4] ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ‏ المراد بذلك: كثرة التكرار يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَ هُوَ حَسِيرٌ ، أي: عاجزا عن أن يرى خللا أو فطورا، و لو حرص غاية الحرص.

[5] ثمّ صرح بذكر حسنها، فقال: وَ لَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ ، إلى: لِأَصْحابِ السَّعِيرِ . وَ لَقَدْ زَيَّنَّا ، أي:

و لقد جمّلنا السَّماءَ الدُّنْيا الّتي ترونها و تليكم. بِمَصابِيحَ‏ و هي النجوم، على اختلافها في النور و الضياء، فإنه لو لا ما فيها من النجوم، لكانت سقفا مظلما، لا حسن فيه و لا جمال. و لكن جعل اللّه هذه النجوم زينة للسماء، و جمالا و نورا، و هداية يهتدى بها في ظلمات البر و البحر. و لا ينافي إخباره أنه زين السماء الدنيا بمصابيح، أن يكون كثير من النجوم فوق السماوات السبع، فإن السماوات شفافة، و بذلك تحصل الزينة للسماء الدنيا، و إن لم تكن الكواكب فيها. وَ جَعَلْناها ، أي: المصابيح‏ رُجُوماً لِلشَّياطِينِ‏ الّذين يريدون استراق خبر السماء. فجعل اللّه هذه النجوم، حراسة للسماء عن تلقف الشياطين أخبارها، إلى الأرض، فهذه الشهب، الّتي ترمى من النجوم، أعدها اللّه في الدنيا للشياطين. وَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ لأنهم تمردوا على اللّه، و أضلوا عباده، و لهذا كان أتباعهم من الكفار مثلهم، قد أعد اللّه لهم عذاب السعير، فلهذا قال:

[6] وَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (6) الّتي يهان أهلها، غاية الهوان.

[7] إِذا أُلْقُوا فِيها على وجه الإهانة و الذل‏ سَمِعُوا لَها شَهِيقاً ، أي: صوتا عاليا فظيعا وَ هِيَ تَفُورُ .

[8] تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ ، أي: تكاد على اجتماعها أن يفارق بعضها بعضا، و تتقطع من شدة غيظها على الكفار، فما ظنك ما تفعل بهم، إذا حصلوا فيها؟ ثمّ ذكر توبيخ الخزنة لأهلها، فقال: كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ؟ أي: حالكم هذه و استحقاقكم النار، كأنكم لم تخبروا عنها، و لم تحذركم النذر منها.

[9] قالُوا بَلى‏ قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَ قُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9)، فجمعوا بين تكذيبهم الحاضر، و التكذيب العام بكل ما أنزل اللّه. و لم يكفهم ذلك، حتى أعلنوا بضلال الرسل المنذرين و هم الهداة المهتدون، و لم يكتفوا بمجرد الضلال، بل جعلوا ضلالهم ضلالا كبيرا، فأي عناد و تكبّر و ظلم يشبه هذا؟

[10] وَ قالُوا معترفين بعدم أهليتهم للهدى و الرشاد: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ فنفوا عن أنفسهم طرق الهدى، و هي السمع لما أنزل اللّه، و جاءت به الرسل، و العقل الذي ينفع صاحبه، و يوقفه على حقائق الأشياء، و إيثار الخير، و الانزجار عن كلّ ما عاقبته ذميمة، فلا سمع لهم و لا عقل. و هذا بخلاف أهل اليقين و العرفان، و أرباب الصدق و الإيمان، فإنهم أيدوا إيمانهم بالأدلة السمعية، فسمعوا ما جاء من عند اللّه، و جاء به‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 1054

رسول اللّه علما و معرفة و عملا. و الأدلة العقلية: المعرفة للهدى من الضلال، و الحسن من القبيح، و الخير من الشر.

و هم- في الإيمان- بحسب ما منّ اللّه عليهم به، من الاقتداء بالمعقول و المنقول، فسبحان من يختص بفضله من يشاء، و يمن على من يشاء من عباده، و يخذل من لا يصلح للخير.

قال تعالى عن هؤلاء الداخلين للنار، المعترفين بظلمهم و عنادهم:

[11] فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11)، أي: بعدا لهم و خسارة و شقاء. فما أشقاهم و أرداهم، حيث فاتهم ثواب اللّه، و كانوا ملازمين للسعير، الّتي تستعر في أبدانهم، و تطلع على أفئدتهم!!

[12] لما ذكر حالة الأشقياء الفجار، ذكر وصف الأبرار السعداء، فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ‏ ، أي: في جميع أحوالهم، حتى في الحالة الّتي لا يطلع عليهم فيها إلا اللّه، فلا يقدمون على معاصيه، و لا يقصرون عما أمرهم به.

لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم، و إذا غفر اللّه ذنوبهم، وقاهم شرها، و وقاهم عذاب الجحيم. وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ هو ما أعده لهم في الجنة، من النعيم المقيم، و الملك الكبير، و اللذات المتواصلات، و القصور و المنازل العاليات، و الحور الحسان، و الخدم، و الولدان. و أعظم من ذلك و أكبر رضا الرحمن الذي يحله على ساكني الجنان.

[13] هذا إخبار من اللّه بسعة علمه، و شمول لطفه، فقال: وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ‏ ، أي: كلاهما سواء لديه، لا يخفى عليه منهما خافية. إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ، أي: بما فيها من النيات، و الإرادات، فكيف بالأقوال و الأفعال، الّتي تسمع و ترى؟

[14] ثمّ قال- مستدلا بدليل عقلي على علمه-: أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ‏ ، فمن خلق الخلق و أتقنه، و أحسنه، كيف لا يعلمه؟ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ الذي لطف علمه و خبره، حتى أدرك السرائر و الضمائر، و الخبايا و الخفايا، و الغيوب‏ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَ أَخْفى‏ . و من معاني اللطيف، أنه الذي يلطف بعبده و وليه، فيسوق إليه البر و الإحسان، من حيث لا يشعر، و يعصمه من الشر، من حيث لا يحتسب، و يرقيه إلى أعلى المراتب، بأسباب لا تكون من العبد على بال، حتى إنه يذيقه المكاره، ليوصله بها، إلى المحاب الجليلة، و المطالب النبيلة.

[15] أي: هو الذي سخر لكم الأرض، و ذللها، لتدركوا منها كلّ ما تعلقت به حاجتكم، من غرس و بناء، و حرث، و طرق يتوصل بها إلى الأقطار النائية، و البلدان الشاسعة. فَامْشُوا فِي مَناكِبِها ، أي: لطلب الرزق و المكاسب. وَ كُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَ إِلَيْهِ النُّشُورُ ، أي: بعد أن تنتقلوا من هذه الدار الّتي جعلها اللّه امتحانا، و بلغة يتبلغ بها إلى الدار الآخرة، تبعثون بعد موتكم، و تحشرون إلى اللّه، ليجازيكم بأعمالكم الحسنة و السيئة.

[16] هذا تهديد و وعيد، لمن استمر في طغيانه و تعدّيه، و عصيانه الموجب للنكال، و حلول العقوبة، فقال:

أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ و هو اللّه تعالى، العالي على خلقه. أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ بكم و تضطرب، حتى تهلكوا و تتلفوا.

[17] أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ، أي: عذابا من السماء، يحصبكم، و ينتقم اللّه منكم‏ فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ، أي: كيف يأتيكم ما أنذرتكم به الرسل و الكتب. فلا تحسبوا أن أمنكم من أن يعاقبكم‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 1055

بعقاب من الأرض و من السماء ينفعكم، فستجدون عاقبة أمركم، سواء طال عليكم الأمد أو قصر.

[18] فإن من قبلكم، كذبوا كما كذبتم، فأهلكهم اللّه تعالى، فانظروا كيف إنكار اللّه عليهم، عاجلهم بالعقوبة الدنيوية قبل عقوبة الآخرة، فاحذروا أن يصيبكم ما أصابهم.

[19] و هذا عتاب و حث على النظر إلى حالة الطير، الّتي سخرها اللّه، و سخر لها الجو و الهواء، تصف فيه أجنحتها للطيران، و تقبضها للوقوع، فتظل سابحة في الجو، مترددة فيه، بحسب إرادتها و حاجتها. ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ‏ فإنه الذي سخر لهن الجو، و جعل أجسادها و خلقتها، في حالة مستعدة للطيران. فمن نظر في حالة الطير، و اعتبر فيها، دلته على قدرة الباري، و عنايته الربانية، و أنه الواحد الأحد، الذي لا تنبغي العبادة إلا له. إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ بَصِيرٌ ، فهو المدبر لعباده، بما يليق بهم، و تقتضيه حكمته.

[20] يقول تعالى للعتاة النافرين عن أمره، المعرضين عن الحقّ: أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ‏ ، أي: ينصركم، إذا أراد الرحمن بكم سوءا، فيدفعه عنكم؟ أي: من الذي ينصركم على أعدائكم غير الرحمن؟ فإنه تعالى هو الناصر المعز المذل، و غيره من الخلق لو اجتمعوا على نصر عبد، لم ينفعوه بمثقال ذرة، على أيدي أيّ عدوّ كان. فاستمرار الكافرين على كفرهم، بعد أن علموا أنه لا ينصرهم أحد من دون الرحمن، غرور و سفه.

[21] أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ‏ ، أي: الرزق كله من اللّه، فلو أمسك عنكم الرزق، فمن الذي يرسله لكم؟ فإن الخلق لا يقدرون على رزق أنفسهم، فكيف بغيرهم؟ فالرزاق المنعم، الذي لا يصيب العباد نعمة إلا منه، هو الذي يستحق أن يفرد بالعبادة. و لكن الكافرين‏ لَجُّوا ، أي: استمروا فِي عُتُوٍّ ، أي: قسوة و عدم لين للحق‏ وَ نُفُورٍ ، أي: شرود عن الحقّ.

[22] أَ فَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى‏ وَجْهِهِ أَهْدى‏ أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ‏ (22) أي: أيّ الرجلين أهدى؟ من كان تائها في الضلال، غارقا في الكفر قد انتكس قلبه، فصار الحقّ عنده باطلا، و الباطل حقا؟ أو من كان عالما بالحق، مؤثرا له، عاملا يمشي على الصراط المستقيم في أقواله و أعماله، و جميع أحواله؟ فبمجرد النظر إلى حال الرجلين، يعلم الفرق بينهما، و المهتدي من الضال منهما، و الأحوال أكبر شاهد من الأقوال.

[23] يقول تعالى- مبينا أنه المعبود وحده، و داعيا عباده إلى شكره، و إفراده بالعبادة-: قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ‏ ، أي: أوجدكم من العدم، من غير معاون له و لا مظاهر. و لما أنشأكم، كمل لكم الوجود، إذ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ ، و هذه الثلاثة، هي أفضل أعضاء البدن، و أكمل القوى الجسمانية. و لكنكم مع هذا الإنعام‏ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ‏ اللّه، قليل منكم الشاكر، و قليل منكم الشكر.

[24] قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ‏ ، أي: بثكم في أقطارها، و أسكنكم في أرجائها، و أمركم، و نهاكم، و أسدى إليكم من النعم، ما به تنتفعون، ثمّ بعد ذلك يحشركم ليوم القيامة.

[25] و لكن هذا الوعد بالجزاء، ينكره هؤلاء المعاندون‏ وَ يَقُولُونَ‏ تكذيبا: مَتى‏ هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ‏ ، جعلوا علامة صدقهم، أن يخبروهم بوقت مجيئه، و هذا ظلم و عناد.

صفحه بعد