کتابخانه تفاسیر
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1071
سورة الجن
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] أي: قُلْ يا أيها الرسول للناس أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ صرفهم اللّه إلى رسوله، لسماع آياته، لتقوم عليهم الحجة، و تتم عليهم النعمة، و يكونوا منذرين لقومهم. و أمر رسوله، أن يقص نبأهم على الناس، و ذلك:
أنهم لما حضروه، قالوا: أنصتوا، فلما أنصتوا، فهموا معانيه، و وصلت حقائقه إلى قلوبهم. فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً ، أي: من العجائب الغالية، و المطالب العالية.
[2] يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ ، و الرشد: اسم جامع لكل ما يرشد الناس إلى مصالح دينهم و دنياهم. فَآمَنَّا بِهِ وَ لَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً فجمعوا بين الإيمان، الذي يدخل فيه جميع أعمال الخير، و بين التقوى، المتضمنة لترك الشر. و يجعلوا السبب الداعي لهم إلى الإيمان و توابعه، ما علموه من إرشادات القرآن، و ما اشتمل عليه من المصالح و الفوائد، و اجتناب المضار، فإن ذلك آية عظيمة، و حجة قاطعة، لمن استنار به، و اهتدى بهديه. و هذا هو الإيمان النافع، المثمر لكل خير، المبني على هداية القرآن، بخلاف إيمان العوائد، و المربى، و الإلف و نحو ذلك، فإنه إيمان تقليد تحت خطر الشبهات و العوارض الكثيرة.
[3] وَ أَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا ، أي: تعالت عظمته و تقدست أسماؤه. مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَ لا وَلَداً فعلموا من جد اللّه و عظمته، ما دلهم على بطلان من يزعم أن له صاحبة أو ولدا، لأن له العظمة و الجلال في كلّ صفة كمال. و اتخاذ الصاحبة و الولد ينافي ذلك، لأنه يضاد كمال الغنى.
[4] وَ أَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4)، أي: قولا جائرا عن الصواب، متعديا للحد، و ما حمله على ذلك، إلا سفهه، و ضعف عقله، و إلّا فلو كان رزينا مطمئنا، لعرف كيف يقول:
[5] وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5)، أي: كنا مغترين قبل ذلك، غرتنا السادة و الرؤساء من الجن و الإنس، فأحسنا بهم الظن، و حسبناهم لا يتجرأون على الكذب على اللّه، فلذلك كنا قبل ذلك على طريقهم. فاليوم إذ بان لنا الحقّ، سلكنا طريقه، و انقدنا له، و لم نبال بقول أحد من الخلق، يعارض الهدى.
[6] وَ أَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) أي: كان الإنس يعوذون بالجن، عند المخاوف و الأفزاع و يعبدونهم، فزاد الإنس الجن رهقا، أي: طغيانا و تكبرا، لما رأوا الإنس يعبدونهم، و يستعيذون بهم. و يحتمل أن الضمير و هو «الواو» يرجع إلى الجن، أي: زاد الجن الإنس ذعرا و تخويفا لما رأوهم يستعيذون بهم، ليلجئوهم إلى الاستعاذة بهم، و التمسك بما هم عليه، فكان الإنسي إذا نزل بواد مخوف، قال: «أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه».
[7] وَ أَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7)، أي: فلما أنكروا البعث، أقدموا على الشرك و الطغيان.
[8] وَ أَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ ، أي: أتيناها و اختبرناها، فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً عن الوصول إلى أرجائها،
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1072
و الدنو منها. وَ شُهُباً يرمى بها من استرق السمع، و هذا مخالف لعادتنا الأولى، فإنا كنا نتمكن من الوصول إلى خبر السماء.
[9] وَ أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فنتلقف من أخبار السماء ما شاء اللّه. فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً ، أي: مرصدا له، معدا لإتلافه و إحراقه، أي:
و هذا له شأن عظيم، و نبأ جسيم.
[10] و جزموا أن اللّه تعالى، أراد أن يحدث في الأرض حادثا كبيرا، من خير أو شر، فلهذا قالوا: وَ أَنَّا لا نَدْرِي أَ شَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10)، أي: لا بد من هذا أو هذا، لأنهم رأوا الأمر تغير عليهم تغيرا أنكروه، فعرفوا بفطنتهم، أن هذا الأمر يريده اللّه، و يحدثه في الأرض. و في هذا بيان لأدبهم، إذ أضافوا الخير إلى اللّه تعالى، و الشر حذفوا فاعله تأدبا.
[11] وَ أَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَ مِنَّا دُونَ ذلِكَ ، أي: فساق و فجار و كفار. كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً ، أي: فرقا متنوعة، و أهواء متفرقة، كل حزب بما لديهم فرحون.
[12] وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَ لَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12)، أي: و أنا في وقتنا الآن تبين لنا كمال قدرة اللّه، و كمال عجزنا، و أن نواصينا بيد اللّه، فلن نعجزه في الأرض، و لن نعجزه إن هربنا، و سعينا بأسباب الفرار و الخروج عن قدرته، لا ملجأ منه، إلا إليه.
[13] وَ أَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى و هو القرآن الكريم، الهادي إلى الصراط المستقيم، و عرفنا هدايته و إرشاده، أثّر في قلوبنا و آمَنَّا بِهِ . ثمّ ذكروا ما يرغب المؤمن فقالوا: فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَ لا رَهَقاً ، أي: من آمن به إيمانا صادقا، فلا عليه نقص، و لا أذى يلحقه، و إذا سلم من الشر، حصل له الخير، فالإيمان سبب داع إلى كل خير، و انتفاء كلّ شر.
[14] وَ أَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَ مِنَّا الْقاسِطُونَ ، أي: الجائرون، العادلون، عن الصراط المستقيم. فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً ، أي: أصابوا طريق الرشد، الموصل لهم إلى الجنة و نعيمها.
[15] وَ أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) و ذلك جزاء على أعمالهم، لا ظلم من اللّه لهم.
[16] وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ المثلى لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً ، أي: هنيئا مريئا، و لم يمنعهم من ذلك، إلا ظلمهم و عدوانهم.
[17] لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ، أي: لنختبرهم و نمتحنهم ليظهر الصادق من الكاذب. وَ مَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً ، أي: من أعرض عن ذكر اللّه، الذي هو كتابه، فلم يتبعه، و ينقد له، بل لها عنه و غفل، يسلكه عذابا صعدا، أي: بليغا شديدا.
[18] وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18)، أي: لا دعاء عبادة، و لا دعاء مسألة، فإن المساجد، الّتي هي أعظم محالّ للعبادة، مبنية على الإخلاص للّه، و الخضوع لعظمته، و الاستكانة لعزته.
[19] وَ أَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ ، أي: يسأله و يتعبد له، و يقرأ القرآن. كادُوا ، أي: الجن من تكاثرهم عليه يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ، أي: متلبدين متراكمين، حرصا على ما جاء به من الهدى.
[20] قُلْ لهم يا أيها الرسول، مبينا حقيقة ما تدعو إليه: إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَ لا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً ، أي: أوحده، وحده لا شريك له، و أخلع ما دونه من الأنداد و الأوثان، و كلّ ما يتخذه المشركون من دونه.
[21] قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا رَشَداً (21)، فإني
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1073
عبد ليس لي من الأمر و التصرف شيء.
[22] قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ أي: لا أحد أستجير به ينقذني من عذاب اللّه. و إذا كان الرسول الذي هو أكمل الخلق، لا يملك ضرا و لا رشدا، و لا يمنع نفسه من اللّه شيئا، إن أراده بسوء، فغيره من الخلق، من باب أولى و أحرى. وَ لَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً ، أي: ملجأ و منتصرا
[23] إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَ رِسالاتِهِ ، أي: ليس لي مزية على الناس، إلا أن اللّه خصني بإبلاغ رسالاته و دعوة خلقه إليه، و بذلك تقوم الحجة على الناس. وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ، و هذا المراد به المعصية الكفرية، كما قيدتها النصوص الأخر المحكمة. و أما مجرد المعصية، فإنه لا يوجب الخلود في النار، كما دلت على ذلك آيات القرآن، و الأحاديث عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، و أجمع عليه سلف الأمة، و أئمة هذه الآمة.
[24] حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ ، أي: شاهدوه عيانا، و جزموا أنه واقع بهم. فَسَيَعْلَمُونَ في ذلك الوقت حقيقة المعرفة مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَ أَقَلُّ عَدَداً حين لا ينصرهم غيرهم، و لا أنفسهم ينتصرون، و إذ يحشرون فرادى كما خلقوا أول مرة.
[25] قُلْ لهم إن سألوك فقالوا: مَتى هذَا الْوَعْدُ* ؟ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً ، أي: غاية طويلة، فعلم ذلك، عند اللّه.
[26] عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) من الخلق، بل انفرد بعلم الضمائر و الأسرار، و الغيوب.
[27] إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ ، أي: فإنه يخبره بما اقتضت حكمته، أن يخبره به. و ذلك لأن الرسل، ليسوا كغيرهم، فإن اللّه أيدهم بتأييد ما أيده أحدا من الخلق، و حفظ ما أوحاه إليهم حتى يبلغوه على حقيقته، من غير أن تقربه الشياطين، فيزيدوا فيه أو ينقصوا، و لهذا قال: فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ، أي: يحفظونه بأمر اللّه.
[28] لِيَعْلَمَ بذلك أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ بما جعله لهم من الأسباب. وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ ، أي: بما عندهم، و ما أسروه و ما أعلنوه. وَ أَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً .
في هذه السورة فوائد عديدة:
منها: وجود الجن، و أنهم مأمورون منهيون، و مجازون بأعمالهم، كما هو صريح في هذه السورة. و منها: أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم مبعوث إلى الجن، كما هو مبعوث إلى الإنس، فإن اللّه صرف نفرا من الجن، ليستمعوا ما يوحى إليه، و يبلغوا قومهم. و منها: ذكاء الجن، و معرفتهم بالحق، و أن الذي ساقهم إلى الإيمان هو ما تحققوه من هداية القرآن، و حسن أدبهم في خطابهم. و منها: اعتناء اللّه برسوله، و حفظه لما جاء به. فحين ابتدأت بشائر نبوته، و السماء محروسة بالنجوم، و الشياطين قد هربت من أماكنها، و أزعجت عن مراصدها، و أن اللّه رحم به أهل الأرض رحمة ما يقدر لها قدر، و أراد بهم ربهم رشدا، فأراد أن يظهر من دينه و شرعه، و معرفته في الأرض، ما تبتهج به القلوب، و تفرح به أولو الألباب، و تظهر به شعائر الإسلام، و ينقمع به أهل الأوثان و الأصنام. و منها: شدة حرص الجن على استماعهم للرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، و تراكمهم عليه. و منها: أن هذه السورة، قد اشتملت على الأمر بالتوحيد و النهي عن
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1074
الشرك، و بينت حالة الخلق، و أن كلّ أحد منهم لا يستحق من العبادة مثقال ذرة؛ لأن الرسول محمدا صلّى اللّه عليه و سلّم، إذا كان لا يملك لأحد نفعا و لا ضرا، بل و لا يملك لنفسه، علم أن الخلق كلهم كذلك، فمن الخطأ و الظلم اتخاذ من هذا وصفه إلها آخر. و منها: أن علوم الغيوب قد انفرد اللّه بعلمها، فلا يعلمها أحد من الخلق، إلا من ارتضاه و اختصه بعلم شيء منها. تم تفسير سورة الجن- و الحمد للّه رب العالمين.
تفسير سورة المزمل
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] المزمل: المتغطي بثيابه كالمدثر، و هذا الوصف، حصل من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، حين أكرمه اللّه برسالته، و ابتدأه بإنزال وحيه بإرسال جبريل إليه، فرأى أمرا لم ير مثله، و لا يقدر على الثبات عليه إلا المرسلون، فاعتراه عند ذلك انزعاج، حين رأى جبريل عليه السّلام، فأتى إلى أهله فقال: «زملوني زملوني» و هو ترعد فرائصه. ثمّ جاءه جبريل، فقال: «اقرأ»، فقال: «ما أنا بقارئ»، فغطه حتى بلغ منه الجهد، و هو يعالجه على القراءة، فقرأ صلّى اللّه عليه و سلّم. ثمّ ألقى اللّه عليه الثبات، و تابع عليه الوحي، حتى بلغ مبلغا ما بلغه أحد من المرسلين. فسبحان اللّه، ما أعظم التفاوت بين ابتداء نبوته و نهايتها، و لهذا خاطبه اللّه بهذا الوصف، الذي وجد منه أول أمره. فأمره هنا بالعبادات المتعلقة به، ثمّ أمره بالصبر على أذية قومه، ثمّ أمره بالصدع بأمره، و إعلان دعوتهم إلى اللّه.
[2] فأمره هنا بأشرف العبادات، و هي الصلاة، و بآكد الأوقات و أفضلها، و هو قيام الليل. و من رحمته به، أنه لم يأمره بقيام الليل كله، بل قال: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2).
[3] ثمّ قدر ذلك، فقال: نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ ، أي: من النصف قَلِيلًا بأن يكون الثلث و نحوه
[4] أَوْ زِدْ عَلَيْهِ ، أي: على النصف، فيكون نحو الثلثين. وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا فإن ترتيل القرآن به يحصل التدبر و التفكر، و تحريك القلوب به، و التعبد بآياته، و التهيؤ و الاستعداد التام له.
[5] فإنه قال: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)، أي: نوحي إليك هذا القرآن الثقيل، أي: العظيمة معانيه، الجليلة أوصافه، و ما كان بهذا الوصف، حقيق أن يتهيأ له، و يرتل، و يتفكر فيما يشتمل عليه. ثمّ ذكر الحكمة في أمره بقيام الليل، فقال:
[6] إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ ، أي: الصلاة فيه بعد النوم هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلًا ، أي: أقرب إلى حصول مقصود القرآن، يتواطأ عليه القلب و اللسان، و تقل الشواغل، و يفهم ما يقول، و يستقيم له أمره. و هذا بخلاف النهار، فإنه لا تحصل به هذه المقاصد، و لهذا قال:
[7] إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا (7)، أي: ترددا في حوائجك و معاشك، يوجب اشتغال القلب، و عدم تفرغه التفرغ التام.
[8] وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ شامل لأنواع الذكر كلها وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ، أي: انقطع إليه، فإن الانقطاع إلى اللّه، و الإنابة إليه، هو الانفصال بالقلب عن الخلائق، و الاتصاف بمحبة اللّه، و ما يقرب إليه، و يدني من رضاه.
[9] رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ و هذا اسم جنس، يشمل المشارق و المغارب كلها، فهو تعالى رب المشارق و المغارب، و ما يكون فيها من الأنوار، و ما هي مصلحة له من العالم العلوي و السفلي، فهو رب كلّ شيء، و خالقه، و مدبره.
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، أي: لا معبود إلا وجهه الأعلى، الذي يستحق أن يخص بالمحبة و التعظيم، و الإجلال و التكريم، و لهذا قال: فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ، أي: حافظا و مدبرا لأمورك كلها.
[10] فلما أمره اللّه بالصلاة خصوصا، و بالذكر عموما، و بذلك تحصل للعبد ملكة قوية، في تحمل الأثقال، و فعل الشاق من الأعمال، أمره بالصبر، على ما يقوله
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1075
المعاندون له و يسبونه، و يسبون ما جاء به، و أن يمضي على أمر اللّه، لا يصده عنه صاد، و لا يرده راد، و أن يهجرهم هجرا جميلا، و هو الهجر، حيث اقتضت المصلحة الهجر، الذي لا أذية فيه، بل يعاملهم بالهجر و الإعراض عن أقوالهم الّتي تؤذيه، و أمره بجدالهم بالتي هي أحسن.
[11] وَ ذَرْنِي وَ الْمُكَذِّبِينَ ، أي: اتركني و إياهم، فسأنتقم منهم، و إن أمهلتهم، فلا أهملهم. و قوله: أُولِي النَّعْمَةِ ، أي: أصحاب النعمة و الغنى، الّذين طغوا حين وسع اللّه عليهم من رزقه، و أمدهم من فضله كما قال تعالى:
كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7).
[12] ثمّ توعدهم بما عنده من العقاب، فقال: إِنَّ لَدَيْنا إلى فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ . أي: إن عندنا أَنْكالًا ، أي: عذابا شديدا، جعلناه تنكيلا للذي لا يزال مستمرا على ما يغضب اللّه. وَ جَحِيماً ، أي: نارا حامية
[13] وَ طَعاماً ذا غُصَّةٍ و ذلك لمرارته و بشاعته، و كراهة طعمه و ريحه الخبيث المنتن. وَ عَذاباً أَلِيماً ، أي: موجعا مفظعا، و ذلك
[14] يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ من الهول العظيم. وَ كانَتِ الْجِبالُ الراسيات الصم الصلاب كَثِيباً مَهِيلًا ، أي: بمنزله الرمل المنهال المنتثر، ثمّ إنها تبس بعد ذلك، فتكون كالهباء المنثور.
[15] يقول تعالى: احمدوا ربكم، على إرساله هذا النبي الأمي العربي البشير النذير، الشاهد على الأمة بأعمالهم، و اشكروه، و قوموا بهذه النعمة الجليلة.
[16] و إياكم أن تكفروا، فتعصوا رسولكم، فتكونوا كفرعون، حين أرسل اللّه إليه موسى بن عمران، فدعاه إلى اللّه، و أمره بالتوحيد، فلم يصدقه، بل عصاه، فأخذه اللّه أخذا و بيلا، أي: شديدا بليغا.
[17- 18] أي: فكيف يحصل لكم الفكاك و النجاة يوم القيامة، اليوم المهول أمره، العظيم خطره، الذي يشيب الولدان، و تذوب له الجمادات العظام، فتتفطر السماء و تنتثر نجومها كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا ، أي: لا بد من قوعه، و لا حائل دونه.
[19] أي: إن هذه الموعظة الّتي نبأ اللّه بها من أحوال يوم القيامة و أهوالها تذكرة يتذكر بها المتقون، و ينزجر بها المؤمنون. فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا ، أي: طريقا موصلا إليه، و ذلك باتباع شرعه، فإنه قد أبانه كلّ البيان، و أوضحه غاية الإيضاح. و في هذا دليل على أن اللّه تعالى أقدر العباد على أفعالهم، و مكّنهم منها، لا كما يقوله الجبرية: إن أفعالهم تقع بغير مشيئتهم، فإن هذا خلاف النقل و العقل.
[20] ذكر اللّه في أول هذه السورة أنه أمر رسوله بقيام نصف الليل، و ثلثيه، أو ثلثه، و الأصل أن أمته أسوة له في الأحكام. و ذكر في هذا الموضع، أنه امتثل ذلك، هو و طائفة معه من المؤمنين. و لما كان تحرير الوقت المأمور به، مشقة على الناس، أخبر أنه سهل عليهم في ذلك غاية التسهيل، فقال: وَ اللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ ، أي: يعلم مقاديرهما، و ما يمضي، و يبقى منهما. عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ ، أي: لن تعرفوا مقداره من غير زيادة و لا نقص، لكون ذلك يستدعي انتباها، و عناء زائدا. فَتابَ عَلَيْكُمْ ، أي: فخفف عنكم، و أمركم بما تيسر عليكم، سواء زاد على
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1076
المقدر، أو نقص. فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ، أي: مما تعرفون، و لا يشق عليكم، و لهذا كان المصلي بالليل، مأمورا بالصلاة، ما دام نشيطا، فإذا فتر، أو كسل، أو نعس، فليسترح، ليأتي الصلاة بطمأنينة و راحة. ثمّ ذكر بعض الأسباب المناسبة للتخفيف، فقال: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى يشق عليهم صلاة نصف الليل، أو ثلثيه، أو ثلثه، فليصل المريض، ما يسهل عليه، و لا يكون أيضا مأمورا بالصلاة قائما، عند مشقة ذلك، بل لو شقت عليه الصلاة النافلة، فله تركها و له أجر ما كان يعمل صحيحا. وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ، أي: و علم أن منكم مسافرين، يسافرون للتجارة، ليستغنوا عن الخلق، و يتكففوا عنهم، أي: فالمسافر، حاله تناسب التخفيف، و لهذا خفف عنه في صلاة الفرض، فأبيح له جمع الصلاتين في وقت واحد، و قصر الصلاة الرباعية. وَ آخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ ، فذكر تعالى تخفيفين، تخفيفا للصحيح المقيم، يراعي فيه نشاطه، من غير أن يكلف عليه تحرير الوقت، بل يتحرى الصلاة الفاضلة، و هي ثلث الليل بعد نصفه الأول. و تخفيفا للمريض و المسافر، سواء كان سفره للتجارة، أو لعبادة، من جهاد، أو حج، أو غيره، فإنه يراعي ما لا يكلفه. فللّه الحمد و الثناء، حيث لم يجعل علينا في الدين من حرج، بل سهل شرعه، و راعى أحوال عباده، و مصالح دينهم، و أبدانهم و دنياهم. ثمّ أمر العباد بعبادتين، هما أم العبادات و عمادها: إقامة الصلاة، الّتي لا يستقيم الدين إلا بها، و إيتاء الزكاة الّتي هي برهان الإيمان، و بها تحصل المواساة للفقراء و المساكين، فقال: وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ ، أي: بأركانها و حدودها، و شروطها، و جميع مكملاتها. وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ، أي: خالصا لوجه اللّه، بنية صادقة، و تثبيت من النفس، و مال طيب، و يدخل في هذا، الصدقة الواجبة و المستحبة. ثمّ حث على عموم الخير، و أفعاله، فقال: وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَ أَعْظَمَ أَجْراً ، الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة. و ليعلم أن مثقال ذرة في هذه الدار من الخير، يقابله أضعاف أضعاف الدنيا، و ما عليها في دار النعيم المقيم، من اللذات و الشهوات. و إن الخير و البر في هذه الدنيا، مادة الخير و البر في دار القرار، و بذره و أصله و أساسه، فوا أسفاه على أوقات مضت في الغفلات، و وا حسرتاه على أزمان انقضت في غير الأعمال الصالحات، و وا غوثاه من قلوب لم يؤثر فيها وعظ بارئها، و لم ينجع فيها تشويق من هو أرحم بها من نفسها. فلك اللهم الحمد، و إليك المشتكى، و بك المستغاث، و لا حول و لا قوة إلا بك. وَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ و في الأمر بالاستغفار، بعد الحث على أفعال الطاعة و الخير، فائدة كبيرة. و ذلك أن العبد لا يخلو من التقصير فيما أمر به، إما أن لا يفعله أصلا أو يفعله على وجه ناقص. فأمر بترقيع ذلك بالاستغفار، فإن العبد يذنب آناء الليل، و النهار، فمتى لم يتغمده اللّه برحمته، و مغفرته، فإنه هالك. تم تفسير سورة المزمل- و الحمد.
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1077
سورة المدثر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] تقدم أن المزمل و المدثر بمعنى واحد، و أن اللّه أمر رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم، بالاجتهاد في عبادات اللّه القاصرة و المتعدية، فتقدم هناك، الأمر له بالعبادات الفاضلة و القاصرة، و الصبر على أذى قومه. و أمره هنا بالإعلان بالدعوة، و الصدع بالإنذار، فقال:
[2] قُمْ ، أي: بجد و نشاط فَأَنْذِرْ الناس، بالأقوال و الأفعال الّتي يحصل بها المقصود، و بيان حال المنذر عنه، ليكون ذلك أدعى لتركه.
[3] وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)، أي: عظمه بالتوحيد، و اجعل قصدك في إنذارك وجه اللّه، و أن يعظمه العباد و يقوموا بعبادته.
[4] وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) يحتمل أن المراد بالثياب، أعماله كلها، و بتطهيرها تخليصها و النصح بها، و إيقاعها على أكمل الوجوه، و تنقيتها عن المبطلات و المفسدات، و المنقصات من شر و رياء، و نفاق، و عجب و تكبر و غفلة، و غير ذلك، مما يؤمر العبد باجتنابه في عباداته. و يدخل في ذلك تطهير الثياب من النجاسة، فإن ذلك من تمام التطهير للأعمال خصوصا في الصلاة، الّتي قال كثير من العلماء: إن إزالة النجاسة عنها، شرط من شروطها:- أي: من شروط صحتها-. و يحتمل أن المراد بثيابه، الثياب المعروفة، و أنه مأمور بتطهيرها عن جميع النجاسات، في جميع الأوقات، خصوصا عند الدخول في الصلوات، و إذا كان مأمورا بطهارة الظاهر، فإن طهارة الظاهر، من تمام طهارة الباطن.
[5] وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) يحتمل أن المراد بالرجز: الأصنام، و الأوثان، الّتي عبدت مع اللّه، فأمره بتركها و البراءة منها، و مما نسب إليها، من قول أو عمل. و يحتمل أن المراد بالرجز: أعمال الشر كلها، و أقواله، فيكون أمرا له بترك الذنوب، صغارها و كبارها، ظاهرها و باطنها، فيدخل في هذا الشرك فما دونه.
[6] وَ لا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)، أي: لا تمنن على الناس، بما أسديت إليهم من النعم الدينية و الدنيوية، فتستكثر بتلك المنة، و ترى الفضل عليهم. بل أحسن إلى الناس، مهما أمكنك، و انس عندهم إحسانك، و اطلب أجرك من اللّه تعالى، و اجعل من أحسنت إليه و غيره، على حد سواء. و قد قيل: إن معنى هذا، ألا تعطي أحدا شيئا، و أنت تريد أن يكافئك عليه بأكثر منه، فيكون هذا خاصا بالنبي صلّى اللّه عليه و سلّم.
[7] وَ لِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)، أي: احتسب بصبرك، و اقصد به وجه اللّه تعالى. فامتثل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لأمر ربه، و بادر فيه، فأنذر الناس، و أوضح لهم بالآيات البينات، جميع المطالب الإلهية. و عظم اللّه تعالى، و دعا الخلق إلى تعظيمه، و طهر أعماله الظاهرة و الباطنة من كلّ سوء. و هجر كلّ ما يعبد من دون اللّه، و ما يعبد معه من الأصنام و أهلها، و الشر و أهله. و له المنة على الناس- بعد منة اللّه- من غير أن يطلب عليهم بذلك جزاء و لا شكورا. و صبر لربه أكمل صبر، فصبر على طاعة اللّه، و عن معاصيه، و صبر على أقداره المؤلمة، حتى فاق أولي العزم من المرسلين، صلوات اللّه و سلامه عليه و عليهم أجمعين.
[8] أي: فإذا نفخ في الصور للقيام من القبور، و جمع الخلائق للبعث و النشور.