کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تيسير الكريم الرحمن

سورة الفاتحة سورة آل عمران سورة المائدة سورة الأنعام تفسير سورة الأعراف تفسير سورة الأنفال تفسير سورة التوبة تفسير سورة يونس تفسير سورة هود تفسير سورة الرعد سورة إبراهيم تفسير سورة الحجر سورة النحل سورة الإسراء سورة الكهف تفسير سورة مريم سورة طه تفسير سورة الأنبياء تفسير سورة الحج تفسير سورة المؤمنون تفسير سورة النور تفسير سورة الفرقان تفسير سورة الشعراء تفسير سورة النمل تفسير سورة العنكبوت تفسير سورة الروم تفسير سورة لقمان تفسير سورة السجدة سورة الأحزاب سورة سبأ تفسير سورة فاطر تفسير سورة يس تفسير سورة الصافات تفسير سورة الزمر تفسير سورة فصلت سورة الشورى سورة الزخرف تفسير سورة الدخان سورة الجاثية سورة الأحقاف سورة محمد تفسير سورة الحجرات تفسير سورة ق سورة الطور تفسير سورة النجم سورة القمر سورة الرحمن سورة الواقعة تفسير سورة الحديد تفسير سورة المجادلة تفسير سورة الحشر تفسير سورة الممتحنة تفسير سورة الصف سورة الجمعة تفسير سورة المنافقون تفسير سورة التغابن تفسير سورة الطلاق تفسير سورة التحريم تفسير سورة الملك تفسير سورة القلم سورة الحاقة سورة المعارج سورة نوح سورة الجن تفسير سورة المزمل سورة المدثر تفسير سورة القيامة سورة الإنسان سورة المرسلات تفسير سورة النبأ سورة النازعات سورة عبس تفسير سورة التكوير سورة الإنفطار سورة المطففين تفسير سورة الإنشقاق سورة البروج سورة الطارق سورة الأعلى تفسير سورة الغاشية تفسير سورة الفجر تفسير سورة البلد سورة الشمس سورة الليل تفسير سورة الضحى سورة الشرح سورة التين تفسير سورة العلق سورة القدر تفسير سورة البينة تفسير سورة الزلزلة تفسير سورة العاديات تفسير سورة القارعة سورة التكاثر سورة العصر تفسير سورة الهمزة سورة الفيل تفسير سورة قريش سورة الماعون سورة الكوثر تفسير سورة الكافرون سورة النصر تفسير سورة المسد تفسير سورة الإخلاص سورة الفلق تفسير سورة الناس محتوى تفسير الإمام السعدي

تيسير الكريم الرحمن


صفحه قبل

تيسير الكريم الرحمن، ص: 187

الأمور و أسرارها. فمن علمه و خبره، أن شرع لكم هذه الأحكام الجليلة، و الشرائع الجميلة.

[36] يأمر تعالى عباده بعبادته وحده لا شريك له، و هو الدخول تحت رق عبوديته، و الانقياد لأوامره و نواهيه، محبة، و ذلا، و إخلاصا له، في جميع العبادات الظاهرة و الباطنة. و ينهى عن الشرك به شيئا، لا شركا أصغر، و لا أكبر، لا ملكا، و لا نبيا، و لا وليا و لا غيرهم من المخلوقين، الذين لا يملكون لأنفسهم نفعا و لا ضرا، و لا موتا و لا حياة، و لا نشورا. بل الواجب المتعين، إخلاص العبادة، لمن له الكمال المطلق، من جميع الوجوه، و له التدبير الكامل، الذي لا يشركه، و لا يعينه عليه أحد. ثم بعد ما أمر بعبادته و القيام بحقه، أمر بالقيام بحقوق العباد، الأقرب، فالأقرب. فقال: وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أي: أحسنوا إليهما بالقول الكريم، و الخطاب اللطيف، و الفعل الجميل، بطاعة أمرهما، و اجتناب نهيهما، و الإنفاق عليهما، و إكرام من له تعلق بهما، و صلة الرحم، التي لا رحم لك إلا بهما. و للإحسان ضدان، الإساءة، و عدم الإحسان. و كلاهما منهي عنه. وَ بِذِي الْقُرْبى‏ أيضا إحسانا، و يشمل ذلك جميع الأقارب، قربوا، أو بعدوا، بأن يحسن إليهم، بالقول، و الفعل، و أن لا يقطع رحمه، بقوله أو فعله. وَ الْيَتامى‏ أي: الذين فقدوا آباءهم و هم صغار، فلهم حق على المسلمين، سواء كانوا أقارب أو غيرهم، بكفالتهم، و برهم، و جبر خواطرهم، و تأديبهم، و تربيتهم أحسن تربية، في مصالح دينهم و دنياهم. وَ الْمَساكِينِ‏ و هم الذين أسكنتهم الحاجة و الفقر، فلم يحصلوا على كفايتهم، و لا كفاية من يمونون. فأمر اللّه تعالى بالإحسان إليهم، بسد خلتهم، و بدفع فاقتهم، و الحض على ذلك، و القيام بما يمكن منه. وَ الْجارِ ذِي الْقُرْبى‏ أي: الجار القريب، الذي له حقان، حق الجوار، و حق القرابة، فله على جاره حق، و إحسان، راجع إلى العرف. و كذلك‏ الْجارِ الْجُنُبِ‏ أي: الذي ليس له قرابة. و كلما كان الجار أقرب بابا، كان آكد حقا. فينبغي للجار، أن يتعاهد جاره بالهدية و الصدقة، و الدعوة، و اللطافة بالأقوال و الأفعال، و عدم أذيته، بقول أو فعل. وَ الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ‏ قيل: الرفيق في السفر، و قيل: الزوجة، و قيل الصاحب مطلقا، و لعله أولى، فإنه يشمل الصاحب في الحضر و السفر، و يشمل الزوجة. فعلى الصاحب لصاحبه، حق زائد على مجرد إسلامه، من مساعدته على أمور دينه و دنياه، و النصح له؛ و الوفاء معه، في اليسر و العسر، و المنشط و المكره، و أن يحب له، ما يحب لنفسه، و يكره له، ما يكره لنفسه، و كلما زادت الصحبة، تأكد الحق، و زاد. وَ ابْنِ السَّبِيلِ‏ هو: الغريب الذي احتاج في بلد الغربة، أو لم يحتج، فله حق على المسلمين، لشدة حاجته، و كونه في غير وطنه، بتبليغه إلى مقصوده، أو بعض مقصوده، و بإكرامه، و تأنيسه. وَ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ‏ أي: من الآدميين و البهائم، بالقيام بكفايتهم و عدم تحميلهم، ما يشق عليهم و إعانتهم على ما تحملوه، و تأديبهم لما فيه مصلحتهم. فمن قام بهذه المأمورات، فهو الخاضع لربه، المتواضع لعباد اللّه، المنقاد لأمر اللّه و شرعه، الذي يستحق الثواب الجزيل، و الثناء الجميل. و من لم يقم بذلك، فإنه عبد معرض عن ربه، غير منقاد لأوامره، و لا متواضع للخلق. بل هو متكبر على عباد اللّه، معجب بنفسه، فخور بقوله، و لهذا قال: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا أي: معجبا بنفسه، متكبرا على الخلق. فَخُوراً يثني على نفسه و يمدحها، على وجه الفخر و البطر، على عباد اللّه.

[37] فهؤلاء، ما بهم من الاختيال و الفخر، يمنعهم من القيام بالحقوق. و لهذا ذمهم بقوله: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ‏ أي: يمنعون ما عليهم من الحقوق الواجبة. وَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ‏ بأقوالهم و أفعالهم. وَ يَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ‏ أي: من العلم الذي يهتدي به الضالون و يسترشد به الجاهلون، فيكتمونه عنهم، و يظهرون لهم من الباطل، ما يحول بينهم و بين الحق. فجمعوا بين البخل بالمال، و البخل بالعلم، و بين السعي في خسارة أنفسهم، و خسارة غيرهم، و هذه هي صفات الكافرين، فلهذا قال تعالى: وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً أي:

كما تكبّروا على عباد اللّه، و منعوا حقوقه، و تسببوا في منع غيرهم، من البخل، و عدم الاهتداء، أهانهم بالعذاب‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 188

الأليم، و الخزي الدائم. فعياذا بك اللهم من كل سوء.

[38] ثم أخبر عن النفقة الصادرة، عن رياء و سمعة، و عدم إيمان به، فقال: وَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ‏ أي: ليروهم، و يمدحوهم، و يعظموهم. وَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ أي: ليس إنفاقهم صادرا عن إخلاص و إيمان باللّه، و رجاء ثوابه. أي: فهذا من خطوات الشيطان و أعماله، التي يدعو حزبه إليها، ليكونوا من أصحاب السعير. و صدرت منهم بسبب مقارنته لهم و أزهم إليها، فلهذا قال: وَ مَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً أي: بئس المقارن و الصاحب الذي يريد إهلاك من قارنه، و يسعى فيه أشد السعي. فكما أن من بخل بما أتاه اللّه، و كتم ما منّ اللّه عليه، عاص آثم، مخالف لربه. فكذلك من أنفق و تعبّد لغير اللّه، فإنه آثم عاص لربه، مستوجب للعقوبة. لأن اللّه إنما أمر بطاعته، و امتثال أمره، على وجه الإخلاص، كما قال تعالى: وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ‏ فهذا هو العمل المقبول الذي يستحق صاحبه المدح و الثواب، فلهذا حث تعالى عليه بقوله: وَ ما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ الآية.

[39] أي: أي شي‏ء عليهم، و أي حرج و مشقة، تلحقهم، لو حصل منهم، الإيمان باللّه، الذي هو الإخلاص، و أنفقوا من أموالهم، التي رزقهم اللّه، و أنعم بها عليهم، فجمعوا بين الإخلاص و الإنفاق. و لما كان الإخلاص، سرا بين العبد و ربه، لا يطّلع عليه إلا اللّه، أخبر تعالى بعلمه بجميع الأحوال فقال: وَ كانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً .

[40] يخبر تعالى عن كمال عدله و فضله، و تنزهه عمّا يضاد ذلك، من الظلم القليل، و الكثير فقال: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ أي: ينقصها من حسنات عبده، أو يزيدها في سيئاته. كما قال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ‏ (8). وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها أي: إلى عشرة أمثالها: أي أكثر من ذلك، بحسب حالها و نفعها، و حال صاحبها، إخلاصا و محبة و كمالا. وَ يُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً أي: زيادة على ثواب العمل بنفسه، من التوفيق لأعمال أخر، و إعطاء البر الكثير، و الخير الغزير.

[41] ثم قال تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى‏ هؤُلاءِ شَهِيداً (41) أي: كيف تكون تلك الأحوال، و كيف يكون ذلك الحكم العظيم، الذي جمع أن من حكم به، كامل العلم، كامل العدل، كامل الحكمة، بشهادة أزكى الخلق، و هم الرسل، على أممهم، مع إقرار المحكوم عليه؟ فهذا- و اللّه- الحكم، الذي هو أعم الأحكام، و أعدلها، و أعظمها. و هناك يبقى المحكوم عليهم مقرين له، لكمال الفضل و العدل، و الحمد و الثناء. و هناك يسعد أقوام، بالفوز و الفلاح، و العز و النجاح. و يشقى أقوام، بالخزي و الفضيحة، و العذاب المبين.

[42] و لهذا قال: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ عَصَوُا الرَّسُولَ‏ أي: جمعوا بين الكفر باللّه و رسوله، و معصية الرسول‏ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ‏ أي: تبتلعهم، و يكونون ترابا و عدما، كما قال تعالى: وَ يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً . وَ لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً أي: بل يعترفون له بما عملوا، و تشهد عليهم ألسنتهم، و أيديهم، و أرجلهم، بما

تيسير الكريم الرحمن، ص: 189

كانوا يعملون. يومئذ يوفيهم اللّه دينهم: جزاءهم الحق، و يعلمون أن اللّه هو الحق المبين. فأما ما ورد، من أن الكفار يكتمون كفرهم و جحودهم، فإن ذلك يكون في بعض مواضع القيامة، حين يظنون أن جحودهم ينفعهم من عذاب اللّه. فإذا عرفوا الحقائق، و شهدت عليهم جوارحهم، حينئذ ينجلي الأمر، و لا يبقى للكتمان موضع، و لا نفع، و لا فائدة.

[43] ينهى تعالى عباده المؤمنين، أن يقربوا الصلاة، و هم سكارى، حتى يعلموا ما يقولون. و هذا شامل لقربان مواضع الصلاة، كالمسجد، فإنه لا يمكن السكران من دخوله. و شامل لنفس الصلاة، فإنه، لا يجوز للسكران، صلاة، و لا عبادة، لاختلاط عقله، و عدم علمه بما يقول، و لهذا حدّد تعالى ذلك و غياه إلى وجود العلم، بما يقول السكران. و هذه الآية الكريمة، منسوخة بتحريم الخمر مطلقا. فإن الخمر- في أول الأمر- كان غير محرّم. ثم إن اللّه تعالى عرض لعباده بتحريمه، بقوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما . ثم إنه تعالى، نهاهم عن الخمر، عند حضور الصلاة، كما في هذه الآية. ثم إنه تعالى، حرّمه على الإطلاق في جميع الأوقات في قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ‏ الآية. و مع هذا فإنه يشتد تحريمه وقت حضور الصلاة، لتضمنه هذه المفسدة العظيمة. بعد حصول مقصود الصلاة، الذي هو روحها و لبها، و هو الخشوع و حضور القلب، فإن الخمر يسكر القلب، و يصد عن ذكر اللّه، و عن الصلاة.

و يؤخذ من المعنى، منع الدخول في الصلاة، في حال النعاس، المفرط، الذي لا يشعر صاحبه، بما يقول و يفعل.

بل لعل فيه إشارة، إلى أنه ينبغي لمن أراد الصلاة، أن يقطع عنه كل شاغل، يشغل فكره، كمدافعة الأخبثين، و التوق لطعام و نحوه، ما ورد في ذلك الحديث الصحيح. ثم قال: وَ لا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ‏ أي: لا تقربوا الصلاة، حالة كون أحدكم جنبا إلا في هذه الحال، و هو عابر السبيل أي: تمرون في المسجد، و لا تمكثون فيه. حَتَّى‏ تَغْتَسِلُوا أي: فإذا اغتسلتم، فهو غاية المنع، من قربان الصلاة للجنب. فيحل للجنب، المرور في المسجد فقط.

وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى‏ أَوْ عَلى‏ سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا . فأباح التيمم للمريض مطلقا، مع وجود الماء و عدمه و العلة، هي: المرض، الذي يشق معه استعمال الماء، و كذلك السفر، فإنه مظنة فقد الماء. فإذا فقده المسافر، و وجد ما يتعلق بحاجته، من شرب و نحوه، جاز له التيمم. و كذلك إذا أحدث الإنسان، ببول أو غائط، أو ملامسة النساء، فإنه يباح له التيمم، إذا لم يجد الماء، حضرا و سفرا، كما يدل على ذلك عموم الآية. و الحاصل: أن اللّه تعالى أباح التيمم في حالتين: حال عدم الماء، و هذا مطلقا في الحضر و السفر. و حال المشقة باستعماله، بمرض و نحوه. و اختلف المفسرون في معنى قوله: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ هل المراد بذلك:

الجماع، فتكون الآية نصا في جواز التيمم للجنب، كما تكاثرت بذلك الأحاديث الصحيحة؟ أو المراد بذلك: مجرد اللمس باليد، و يقيد ذلك بما إذا كان مظنة خروج المذي، و هو المس الذي يكون لشهوة، فتكون الآية دالة على نقض الوضوء بذلك؟ و استدل الفقهاء بقوله: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً بوجوب طلب الماء عند دخول الوقت. قالوا: لأنه لا يقال: «لم يجد» لمن لم يطلب، بل لا يكون ذلك إلا بعد الطلب. و استدل بذلك أيضا، على أن الماء المتغير بشي‏ء من الطاهرات، يجوز، بل يتعين التطهر به لدخوله في قوله: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً و هذا ماء. و نوزع في ذلك، أنه ماء غير مطلق، و في ذلك نظر. و في هذه الآية الكريمة مشروعية هذا الحكم العظيم، الذي امتن به اللّه على هذه الأمة، و هو مشروعية التيمم، و قد أجمع على ذلك العلماء، و للّه الحمد. و أن التيمم يكون بالصعيد الطيب، و هو كل ما تصاعد على وجه الأرض، سواء كان له غبار أم لا. و يحتمل أن يختص ذلك، بذي الغبار، لأن اللّه قال في آية الوضوء من سورة المائدة الآية 6: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ‏ . و ما لا غبار له، لا يمسح به. و قوله: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ‏ أي: منه. كما في آية (المائدة) هذا محل المسح في التيمم: الوجه جميعه، و اليدان إلى الكوعين،

تيسير الكريم الرحمن، ص: 190

كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة، و يستحب أن يكون ذلك بضربة واحدة، كما دل على ذلك حديث عمار، و فيه أن تيمم الجنب، كتيمم غيره، بالوجه و اليدين.

فائدة

اعلم أن قواعد الطب، تدور على ثلاث قواعد: حفظ الصحة عن المؤذيات، و الاستفراغ منها، و الحمية عنها. و قد نبه تعالى، عليها في كتابه العزيز. أما حفظ الصحة و الحمية عن المؤذي، فقد أمر بالأكل و الشرب، و عدم الإسراف في ذلك. و أباح للمسافر و المريض الفطر، حفظا لصحتهما، باستعمال ما يصلح البدن، على وجه العدل، و حماية للمريض عمّا يضره. و أما استفراغ المؤذي، فقد أباح تعالى للمحرم المتأذى برأسه، أن يحلقه لإزالة الأبخرة المحتقنة فيه.

ففيه تنبيه على استفراغ ما هو أولى منها، من البول، و الغائط، و القي‏ء، و المني، و الدم، و غير ذلك. نبه على ذلك ابن القيم، رحمه اللّه تعالى. و في الآية وجوب تعميم مسح الوجه و اليدين، و أنه يجوز التيمم، و لو لم يضق الوقت، و أنه لا يخاطب بطلب الماء، إلا بعد وجود سبب الوجوب و اللّه أعلم. ثم ختم الآية بقوله: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً أي: كثير العفو و المغفرة لعباده المؤمنين، بتيسير ما أمرهم به، و تسهيله غاية التسهيل، بحيث لا يشق على العبد امتثاله، فيحرج بذلك. و من عفوه و مغفرته، أن رحم هذه الأمة، بشرع الطهارة بالتراب، بدل الماء، عند تعذر استعماله. و من عفوه و مغفرته، أن فتح للمذنبين باب التوبة و الإنابة، و دعاهم إليه، و وعدهم بمغفرة ذنوبهم. و من عفوه و مغفرته، أن المؤمن لو أتاه بقراب الأرض خطايا، ثم لقيه لا يشرك به شيئا، لأتاه بقرابها مغفرة.

[44] هذا ذم لمن‏ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ‏ و في ضمنه، تحذير عباده عن الاغترار بهم، و الوقوع في أشراكهم. فأخبر أنهم، في أنفسهم‏ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ أي: يحبونها محبة عظيمة، و يؤثرونها إيثار من يبذل المال الكثير، في طلب ما يحبه. فيؤثرون الضلال على الهدى، و الكفر على الإيمان، و الشقاء على السعادة. و مع هذا يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ‏ .

[45] فهم حريصون على إضلالكم، غاية الحرص، باذلون جهدهم في ذلك. و لكن لما كان اللّه ولي عباده المؤمنين، و ناصرهم، بيّن لهم ما اشتملوا عليه من الضلال و الإضلال و لهذا قال: وَ كَفى‏ بِاللَّهِ وَلِيًّا أي: يتولى أحوال عباده، و يلطف بهم، في جميع أمورهم، و ييسر لهم ما به سعادتهم و فلاحهم. وَ كَفى‏ بِاللَّهِ نَصِيراً ينصرهم على أعدائهم، و يبين لهم ما يحذرون منهم و يعينهم عليهم. فولايته تعالى، فيها حصول الخير، و نصره، فيه زوال الشر.

[46] ثم بيّن كيفية ضلالهم و عنادهم، و إيثارهم الباطل على الحق فقال: مِنَ الَّذِينَ هادُوا أي: اليهود، و هم علماء الضلال منهم. يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ‏ إما بتغيير اللفظ أو المعنى، أو هما جميعا. فمن تحريفهم تنزيل الصفات التي ذكرت في كتبهم، التي لا تنطبق و لا تصدق، إلا على محمد صلى اللّه عليه و سلم، على أنه غير مراد بها، و لا مقصود بها، بل أريد بها غيره، و كتمانهم ذلك. فهذا حالهم في العلم، شر حال، قلبوا فيه الحقائق، و نزلوا الحق على‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 191

الباطل، و جحدوا لذلك الحق. و أما حالهم في العمل و الانقياد فإنهم‏ وَ يَقُولُونَ سَمِعْنا وَ عَصَيْنا أي: سمعنا قولك، و عصينا أمرك. و هذا غاية الكفر و العناد، و الشرود عن الانقياد. و كذلك يخاطبون الرسول صلى اللّه عليه و سلم بأقبح خطاب و أبعده عن الأدب، فيقولون: وَ اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ‏ قصدهم: اسمع منا غير مسمع ما تحب، بل مسمع ما تكره. وَ راعِنا قصدهم بذلك الرعونة، بالعيب القبيح. و يظنون أن اللفظ- لما كان محتملا لغير ما أرادوا من الأمور- أنه يروج على اللّه و على رسوله، فتوصلوا بذلك اللفظ الذي يلوون به ألسنتهم، إلى الطعن في الدين، و العيب للرسول، و يصرحون بذلك فيما بينهم، فلهذا قال: لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْناً فِي الدِّينِ‏ . ثم أرشدهم إلى ما هو خير لهم من ذلك فقال: وَ لَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ اسْمَعْ وَ انْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَقْوَمَ‏ . و ذلك لما تضمنه هذا الكلام، من حسن الخطاب و الأدب اللائق في مخاطبة الرسول، و الدخول تحت طاعة اللّه، و الانقياد لأمره، و حسن التلطف في طلبهم العلم، بسماع سؤالهم، و الاعتناء بأمرهم. فهذا هو الذي ينبغي لهم سلوكه. و لكن لما كانت طبائعهم غير زكية، أعرضوا عن ذلك، و طردهم اللّه، بكفرهم و عنادهم. و لهذا قال: وَ لكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا .

[47] يأمر تعالى أهل الكتاب، من اليهود و النصارى، أن يؤمنوا بالرسول محمد صلى اللّه عليه و سلم، و ما أنزل اللّه عليه من القرآن العظيم، المهيمن على غيره، من الكتب السابقة التي صدقها، فإنها أخبرت به. فلما وقع المخبر به، كان تصديقا لذلك الخبر. و أيضا، فإنهم- إن لم يؤمنوا بهذا القرآن، فإنهم لم يؤمنوا بما في أيديهم من الكتب، لأن كتب اللّه يصدق بعضها بعضا، و يوافق بعضها بعضا. فدعوى الإيمان ببعضها، دون بعض، دعوى باطلة، لا يمكن صدقها. و في قوله: آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ‏ حث لهم، و أنهم ينبغي أن يكونوا قبل غيرهم، مبادرين إليه بسبب ما أنعم اللّه عليهم به، من العلم، و الكتاب الذي يوجب أن يكون ما عليهم، أعظم من غيرهم، و لهذا توعدهم على عدم الإيمان فقال: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى‏ أَدْبارِها و هذا جزاء من جنس ما عملوا.

فكما تركوا الحق، و آثروا الباطل، و قلبوا الحقائق، فجعلوا الباطل حقا، و الحق باطلا جوزوا من جنس ذلك، بطمس وجوههم، كما طمسوا الحق، و ردها على أدبارها، بأن تجعل في أقفائهم، و هذا أشنع ما يكون. أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ‏ بأن يطردهم من رحمته، و يعاقبهم بجعلهم قردة، كما فعل بإخوانهم الذين اعتدوا في السبت. فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ‏ . وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا كقوله: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏ (82).

[48] يخبر تعالى أنه لا يغفر لمن أشرك به أحدا من المخلوقين، و يغفر ما دون ذلك، من الذنوب، صغائرها، و كبائرها، و ذلك عند مشيئته مغفرة ذلك، إذا اقتضت حكمته مغفرته. فالذنوب التي دون الشرك، قد جعل اللّه لمغفرتها، أسبابا كثيرة كالحسنات الماحية، و المصائب المكفرة في الدنيا، و البرزخ، و يوم القيامة، و كدعاء المؤمنين، بعضهم لبعض، و بشفاعة الشافعين. و من دون ذلك كله، رحمته، التي أحق بها أهل الإيمان و التوحيد. و هذا بخلاف الشرك فإن المشرك، قد سد على نفسه أبواب المغفرة، و أغلق دونه أبواب الرحمة، فلا تنفعه الطاعات من دون التوحيد، و لا تفيده المصائب شيئا و ما لهم يوم القيامة مِنْ شافِعِينَ (100) وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ‏ (101). و لهذا قال تعالى: وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى‏ إِثْماً عَظِيماً أي: افترى جرما كبيرا. و أي ظلم أعظم ممن سوى المخلوق- من تراب، الناقص من جميع الوجوه، الفقير بذاته من كل وجه. الذي لا يملك لنفسه- فضلا عمّن عبده- نفعا و لا ضرا، و لا موتا و لا حياة و لا نشورا- بالخالق لكل شي‏ء الكامل من جميع الوجوه، الغني بذاته، عن جميع مخلوقاته، الذي بيده النفع و الضر، و العطاء و المنع، الذي ما من نعمة بالمخلوقين، إلا منه تعالى. فهل أعظم من هذا الظلم شي‏ء؟ و لهذا حتم على صاحبه بالخلود بالعذاب و حرمان الثواب‏ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَ مَأْواهُ النَّارُ . و هذه الآية الكريمة في حق غير التائب. و أما التائب، فإنه يغفر له الشرك فما دونه، كما قال تعالى: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 192

أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً أي:

لمن تاب إليه، و أناب.

[49] هذا تعجب من اللّه لعباده، و توبيخ للذين يزكون أنفسهم، من اليهود و النصارى، و من نحا نحوهم، من كل من زكى نفسه، بأمر ليس فيه. و ذلك أن اليهود و النصارى يقولون: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ‏ . و يقولون: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى‏ و هذا مجرد دعوى، لا برهان عليها. و إنما البرهان، ما أخبر به في القرآن في قوله:

بَلى‏ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ‏ (112). فهؤلاء هم الذين زكاهم اللّه، و لهذا قال هنا: بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ أي: بالإيمان و العمل الصالح، بالتخلي عن الأخلاق الرذيلة، و التحلي بالصفات الجميلة. و أما هؤلاء، فهم- و إن زكوا أنفسهم بزعمهم، أنهم على شي‏ء، و أن الثواب لهم وحدهم- فإنهم كذبة في ذلك، ليس لهم من خصال الزاكين نصيب، بسبب ظلمهم و كفرهم، لا بظلم من اللّه لهم، و لهذا قال: وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا . و هذا لتحقيق العموم، أي: لا يظلمون شيئا، و لا مقدار الفتيل الذي في شق النواة، أو الذي يفتل من وسخ اليد و غيرها.

[50] قال تعالى: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ‏ أي: بتزكيتهم أنفسهم، لأن هذا من أعظم الافتراء على اللّه. لأن مضمون تزكيتهم لأنفسهم، الإخبار بأن اللّه جعل ما هم عليه حقا، و ما عليه المؤمنون المسلمون باطلا.

و هذا أعظم الكذب، و قلب الحقائق، بجعل الحق باطلا، و الباطل حقا. و لهذا قال: وَ كَفى‏ بِهِ إِثْماً مُبِيناً أي:

ظاهرا بينا، موجبا للعقوبة البليغة، و العذاب الأليم.

[51] و هذا من قبائح اليهود، و حسدهم للنبي صلى اللّه عليه و سلم و المؤمنين، أن أخلاقهم الرذيلة، و طبعهم الخبيث، حملهم على ترك الإيمان باللّه و رسوله و التعوض عنه بالإيمان بالجبت و الطاغوت، و هو الإيمان بكل عبادة لغير اللّه، أو حكم بغير شرع اللّه. فدخل في ذلك، السحر و الكهانة، و عبادة غير اللّه، و طاعة الشيطان، كل هذا من الجبت و الطاغوت. و كذلك حملهم الكفر و الحسد، على أن فضلوا طريق الكافرين باللّه، عبدة الأصنام، على طريق المؤمنين فقال: وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي: لأجلهم، تملقا لهم و مداهنة، و بغضا للإيمان: هؤُلاءِ أَهْدى‏ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا أي: طريقا. فما أسمجهم، و أشد عنادهم، و أقل عقولهم!! و كيف سلكوا هذا المسلك الوخيم، و الوادي الذميم؟ هل ظنوا أن هذا، يروج على أحد من العقلاء، أو يدخل عقل أحد من الجهلاء. فهل يفضل دين، قام على عبادة الأصنام و الأوثان، و استقام على تحريم الطيبات، و إباحة الخبائث، و إحلال كثير من المحرمات، و إقامة الظلم بين الخلق، و تسوية الخالق بالمخلوقين، و الكفر باللّه، و رسله، و كتبه، على دين قام على عبادة الرحمن، و الإخلاص للّه، في السر و الإعلان و الكفر بما يعبد من دونه، من الأوثان، و الأنداد، و الكاذبين، و على صلة الأرحام، و الإحسان، إلى جميع الخلق، حتى البهائم، و إقامة العدل و القسط بين الناس، و تحريم كل خبيث و ظلم، و مصدق في جميع الأقوال و الأعمال فهل هذا إلا من الهذيان. و صاحب هذا القول، إما من أجهل الناس، و أضعفهم عقلا،

تيسير الكريم الرحمن، ص: 193

و إما من أعظمهم عنادا و تمردا، و مراغمة للحق.

[52] و هذا هو الواقع، و لهذا قال تعالى عنهم:

أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ‏ أي: طردهم عن رحمته، و أحل عليهم نقمته. وَ مَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً أي: يتولاه، و يقوم بمصالحه، و يحفظه عن المكاره، هذا غاية الخذلان.

[53] أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ‏ أي: فيفضلون من شاؤوا على من شاؤوا، بمجرد أهوائهم، فيكونون شركاء للّه في تدبير المملكة. فلو كانوا كذلك، لشحوا و بخلوا أشد البخل، و لهذا قال: فَإِذاً أي: لو كان لهم نصيب من الملك‏ لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً أي: شيئا، و لا قليلا. و هذا وصف لهم، بشدة البخل، على تقدير وجود ملكهم، المشارك لملك اللّه. و أخرج هذا، مخرج الاستفهام المتقرر إنكاره، عند كل أحد.

[54] أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى‏ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ‏ أي: هل الحامل لهم على قولهم، كونهم شركاء للّه، فيفضلون من شاؤوا؟ أم الحامل لهم على ذلك، الحسد للرسول و للمؤمنين، على ما آتاهم اللّه من فضله؟ و ذلك ليس ببدع و لا غريب، على فضل اللّه. فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً و ذلك ما أنعم اللّه به على إبراهيم و ذريته، من النبوة، و الكتاب، و الملك الذي أعطاه من أعطاه، من أنبيائه ك «داود» و «سليمان». فإنعامه لم يزل مستمرا، على عباده المؤمنين. فكيف ينكرون إنعامه، بالنبوة، و النصر، و الملك، لمحمد صلى اللّه عليه و سلم، أفضل الخلق، و أجلهم، و أعظمهم معرفة باللّه، و أخشاهم له؟

[55] فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ‏ أي: بمحمد صلى اللّه عليه و سلم، فنال بذلك السعادة الدنيوية، و الفلاح الأخروي. وَ مِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ‏ عنادا، و بغيا، و صدا، فحصل لهم من شقاء الدنيا و مصائبها، ما هو بعض آثار معاصيهم. وَ كَفى‏ بِجَهَنَّمَ سَعِيراً تسعر على من كفر باللّه، و جحد نبوة أنبيائه، من اليهود، و النصارى، و غيرهم، من أصناف الكفرة.

[56] و لهذا قال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً أي: عظيمة الوقود، شديدة الحرارة. كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ‏ أي: احترقت‏ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ‏ أي: ليبلغ العذاب منهم كل مبلغ. و لما تكرر منهم الكفر و العناد، و صار وصفا لهم و سجية؛ كرر، عليهم العذاب جزاء وفاقا. و لهذا قال: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً أي: له العزة العظيمة، و الحكمة في خلقه و أمره، و ثوابه و عقابه.

[57] وَ الَّذِينَ آمَنُوا أي: باللّه، و ما أوجب الإيمان به‏ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ‏ من الواجبات و المستحبات‏ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ أي: من الأخلاق الرذيلة، و الخلق الذميم، و مما يكون من نساء الدنيا، من كل دنس و عيب‏ وَ نُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا أي: دائم الظل.

صفحه بعد