کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تيسير الكريم الرحمن

سورة الفاتحة سورة آل عمران سورة المائدة سورة الأنعام تفسير سورة الأعراف تفسير سورة الأنفال تفسير سورة التوبة تفسير سورة يونس تفسير سورة هود تفسير سورة الرعد سورة إبراهيم تفسير سورة الحجر سورة النحل سورة الإسراء سورة الكهف تفسير سورة مريم سورة طه تفسير سورة الأنبياء تفسير سورة الحج تفسير سورة المؤمنون تفسير سورة النور تفسير سورة الفرقان تفسير سورة الشعراء تفسير سورة النمل تفسير سورة العنكبوت تفسير سورة الروم تفسير سورة لقمان تفسير سورة السجدة سورة الأحزاب سورة سبأ تفسير سورة فاطر تفسير سورة يس تفسير سورة الصافات تفسير سورة الزمر تفسير سورة فصلت سورة الشورى سورة الزخرف تفسير سورة الدخان سورة الجاثية سورة الأحقاف سورة محمد تفسير سورة الحجرات تفسير سورة ق سورة الطور تفسير سورة النجم سورة القمر سورة الرحمن سورة الواقعة تفسير سورة الحديد تفسير سورة المجادلة تفسير سورة الحشر تفسير سورة الممتحنة تفسير سورة الصف سورة الجمعة تفسير سورة المنافقون تفسير سورة التغابن تفسير سورة الطلاق تفسير سورة التحريم تفسير سورة الملك تفسير سورة القلم سورة الحاقة سورة المعارج سورة نوح سورة الجن تفسير سورة المزمل سورة المدثر تفسير سورة القيامة سورة الإنسان سورة المرسلات تفسير سورة النبأ سورة النازعات سورة عبس تفسير سورة التكوير سورة الإنفطار سورة المطففين تفسير سورة الإنشقاق سورة البروج سورة الطارق سورة الأعلى تفسير سورة الغاشية تفسير سورة الفجر تفسير سورة البلد سورة الشمس سورة الليل تفسير سورة الضحى سورة الشرح سورة التين تفسير سورة العلق سورة القدر تفسير سورة البينة تفسير سورة الزلزلة تفسير سورة العاديات تفسير سورة القارعة سورة التكاثر سورة العصر تفسير سورة الهمزة سورة الفيل تفسير سورة قريش سورة الماعون سورة الكوثر تفسير سورة الكافرون سورة النصر تفسير سورة المسد تفسير سورة الإخلاص سورة الفلق تفسير سورة الناس محتوى تفسير الإمام السعدي

تيسير الكريم الرحمن


صفحه قبل

تيسير الكريم الرحمن، ص: 1019

[8- 9] ثم قال تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ‏ ، إلى:

تُحْشَرُونَ‏ . النجوى هي: التناجي بين اثنين فأكثر، و قد تكون في الخير، و تكون في الشر. فأمر اللّه المؤمنين أن يتناجوا بالبر، و هو: اسم جامع لكل خير و طاعة، و قيام بحق اللّه، و حق عباده، و التقوى، و هي- هنا-: اسم جامع لترك جميع المحارم و المآثم. فالمؤمن يمتثل هذا الأمر الإلهي، فلا تجده مناجيا و متحدثا، إلا بما يقربه إلى اللّه، و يباعده من سخطه. و الفاجر يتهاون بأمر اللّه و يناجي بالإثم و العدوان، و معصية الرسول، كالمنافقين الّذين هذا دأبهم و حالهم مع الرسول صلّى اللّه عليه و سلم. قال تعالى: وَ إِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ‏ ، أي: يسيئون الأدب في تحيتهم لك. وَ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ‏ ، أي: يسرون فيها ما ذكر عالم الغيب و الشهادة عنهم، و هو قولهم: لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ‏ . و معنى ذلك أنهم يتهاونون بذلك، و يستدلون بعدم تعجيل العقوبة عليهم، أن ما يقولونه غير محذور. و قال تعالى في بيان أنه يمهل و لا يهمل: حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ، أي: تكفيهم جهنم، الّتي جمعت كلّ عذاب و شقاء عليهم، تحيط بهم، و يعذبون بها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ، أي: المرجع و المآل: جهنم. و هؤلاء المذكورون إما أناس من المنافقين، يظهرون الإيمان، و يخاطبون الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم بهذا الخطاب الذي يوهمون أنهم أرادوا به خيرا، و هم كذبة في ذلك، و إما أناس من أهل الكتاب، الّذين سلموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و قالوا: «السام عليك يا محمد» يعنون: الموت.

[10] يقول تعالى: إِنَّمَا النَّجْوى‏ ، أي: تناجي أعداء المؤمنين بالمؤمنين، بالمكر و الخديعة و طلب السوء، مِنَ الشَّيْطانِ‏ ، الذي كيده ضعيف. لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا ، هذا غاية هذا المكر و مقصوده. وَ لَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ‏ فإن اللّه وعد المؤمنين بالكفاية، و النصر على الأعداء، و قال تعالى: وَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ‏ .

فأعداء اللّه و رسوله و المؤمنين، مهما تناجوا و مكروا فإن ضرر ذلك عائد إلى أنفسهم، و لا يضر المؤمنين إلا شي‏ء قدره اللّه و قضاه. وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ‏ ، أي: ليعتمدوا عليه، و يثقوا بوعده، فإن من توكل على اللّه كفاه كيد الأعداء، و كفاه أمر دينه و دنياه.

[11] هذا أدب من اللّه لعباده، إذا اجتمعوا في مجلس من مجالس مجتمعاتهم، و احتاج بعضهم، أو بعض القادمين للتفسح له في المجلس، فإن من الأدب أن يفسحوا له تحصيلا لهذا المقصود. و ليس ذلك بضار للفاسح شيئا، فيحصل مقصود أخيه من غير ضرر يلحقه، و الجزاء من جنس العمل، فإن من فسح لأخيه، فسح اللّه له، و من وسع لأخيه، وسع اللّه عليه. وَ إِذا قِيلَ انْشُزُوا ، أي: ارتفعوا و تنحوا عن مجالسكم، لحاجة تعرض.

فَانْشُزُوا أي: فبادورا للقيام لتحصيل تلك المصلحة. فإن القيام بمثل هذه الأمور من العلم و الإيمان، و اللّه تعالى يرفع أهل العلم و الإيمان، درجات بحسب ما خصهم به من العلم و الإيمان. وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فيجازي كل عامل بعمله، إن خيرا فخير، و إن شرا فشر. و في هذه الآية فضيلة العلم و أن زينته و ثمرته التأدب بآدابه، و العمل بمقتضاه.

تيسير الكريم الرحمن، ص: 1020

[12] يأمر تعالى المؤمنين بالصدقة، أمام مناجاة رسوله محمد صلّى اللّه عليه و سلّم تأديبا لهم، و تعليما، و تعظيما للرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، فإن هذا التعظيم خير للمؤمنين و أطهر. أي: بذلك يكثر خيركم و أجركم، و تحصل لكم الطهارة من الأدناس، الّتي من جملتها ترك احترام الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، و الأدب معه بكثرة المناجاة الّتي لا ثمرة تحتها، فإنه إذا أمر بالصدقة بين يدي مناجاته، صار هذا ميزانا، لمن كان حريصا على العلم و الخير، فلا يبالي بالصدقة. و من لم يكن له حرص و لا رغبة في الخير، و إنّما مقصوده مجرد كثرة الكلام، فينكف بذلك عن الذي يشق على الرسول، هذا في الواجد للصدقة. و أما الذي لا يجد الصدقة، فإن اللّه لم يضيق عليه الأمر، بل عفا عنه و سامحه، و أباح له المناجاة بدون تقديم صدقة لا يقدر عليها.

[13] ثمّ لما رأى تعالى شفقة المؤمنين، و مشقة الصدقات عليهم، عند كلّ مناجاة، سهل الأمر عليهم، و لم يؤاخذهم بترك الصدقة بين يدي المناجاة و بقي التعظيم للرسول و الاحترام بحاله، لم ينسخ؛ لأن هذا من باب المشروع لغيره، ليس مقصودا لنفسه و إنّما المقصود هو الأدب مع الرسول و الإكرام له. و أمرهم تعالى أن يقوموا بالمأمورات الكبار المقصودة بنفسها، فقال: فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا ، أي: لم يهن عليكم تقديم الصدقة، و لا يكفي هذا فإنه ليس من شرط الأمر، أن يكون هينا على العبد، و لهذا قيده بقوله: وَ تابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ‏ ، أي: عفا لكم عن ذلك. فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ بأركانها و شروطها، و جميع حدودها، و لوازمها. وَ آتُوا الزَّكاةَ المفروضة في أموالكم إلى مستحقيها.

و هاتان العبادتان، هما أم العبادات البدنية و المالية، فمن قام بهما على الوجه الشرعي، فقد قام بحقوق اللّه، و حقوق عباده، و لهذا قال بعده: وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ‏ ، و هذا أشمل ما يكون من الأوامر. فيدخل في ذلك طاعة اللّه و طاعة رسوله بامتثال أوامرهما، و اجتناب نواهيهما، و تصديق ما أخبرا به، و الوقوف عند حدود الشرع. و العبرة في ذلك على الإخلاص و الإحسان، فلهذا قال: وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ‏ فيعلم تعالى أعمالهم، و على أي وجه صدرت، فيجازيهم على حسب علمه بما في صدورهم.

[14] يخبر تعالى عن شناعة حال المنافقين الّذين يتولون الكافرين، من اليهود و النصارى و غيرهم ممن غضب اللّه عليهم، و نالوا من لعنة اللّه أوفى نصيب، و أنهم ليسوا من المؤمنين و لا من الكافرين، مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى‏ هؤُلاءِ وَ لا إِلى‏ هؤُلاءِ . فليسوا مؤمنين ظاهرا و باطنا لأن باطنهم مع الكفار، و لا مع الكفار ظاهرا و باطنا لأن ظاهرهم مع المؤمنين، و هذا وصفهم الذي نعتهم اللّه به، و الحال أنهم يحلفون على الذي هو الكذب، فيحلفون أنهم مؤمنون، و الحال أنهم ليسوا مؤمنين. فجزاء هؤلاء الخونة الفجرة الكذبة، أن اللّه أعد لهم عذابا شديدا، لا يقادر قدره، و لا يعلم وصفه، و إنهم ساء ما كانوا يعملون، حيث عملوا بما يسخط اللّه، و يوجب لهم العقوبة و اللعنة.

[16] اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً ، أي: ترسا و وقاية، يتقون بها من لوم اللّه و رسوله و المؤمنين، فبسبب ذلك، صدوا أنفسهم و غيرهم‏ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ‏ عن سبيل اللّه، و هو الصراط الذي من سلكه، أفضى به إلى جنات النعيم، و من صدّ عنه، فليس إلا الصراط الموصل إلى الجحيم. فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ‏ حيث إنهم لما استكبروا عن‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 1021

الإيمان باللّه، و الانقياد لآياته، أهانهم بالعذاب السرمدي، الذي لا يفتّر عنهم ساعة، و لا هم ينظرون.

[17] لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً ، أي: لا تدفع عنهم شيئا من العذاب، و لا تحصل لهم قسطا من الثواب. أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ الملازمون لها، الّذين لا يخرجون عنها. هُمْ فِيها خالِدُونَ‏ و من عاش على شي‏ء، مات عليه.

[18] فكما أن المنافقين في الدنيا يموهون على المؤمنين، و يحلفون لهم أنهم مؤمنين، فإذا كان يوم القيامة و بعثهم اللّه جميعا، حلفوا للّه كما حلفوا للمؤمنين، و يحسبون في حلفهم هذا أنهم على شي‏ء، لأن كفرهم، و نفاقهم، و عقائدهم الباطلة، لم تزل ترسخ في أذهانهم شيئا فشيئا، حتى غرتهم و ظنوا أنهم على شي‏ء يعتد به، و يعلق عليه الثواب، و هم كاذبون في ذلك. و من المعلوم أن الكذب لا يروج على عالم الغيب و الشهادة.

[19] و هذا الذي جرى عليهم من استحواذ الشيطان الذي استولى عليهم، و زين لهم أعمالهم، و أنساهم ذكر اللّه، و هو العدو المبين، الذي لا يريد بهم إلا الشر، إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ . أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ‏ ، الّذين خسروا دينهم و دنياهم و أهليهم.

[20- 21] هذا وعد و وعيد، وعيد لمن حادّ اللّه و رسوله بالكفر و المعاصي، أنه مخذول مذلول، لا عاقبة له حميدة، و لا راية له منصورة. و وعد، لمن آمن به، و برسله، و اتبع ما جاء به المرسلون، فصار من حزب اللّه المفلحين، أن لهم الفتح و النصر و الغلبة، في الدنيا و الآخرة، و هذا وعد لا يخلف، و لا يغيّر، فإنه من الصادق القوي العزيز، الذي لا يعجزه شي‏ء يريده.

[22] يقول تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ‏ ، أي: لا يجتمع هذا و هذا، فلا يكون العبد مؤمنا باللّه و اليوم الآخر حقيقة، إلا كان عاملا على مقتضى إيمانه و لوازمه، من محبة من قام بالإيمان و موالاته، و بغض من لم يقم به و معاداته، و لو كان أقرب الناس إليه. و هذا هو الإيمان على الحقيقة، الذي وجدت ثمرته، و المقصود منه. و أهل هذا الوصف هم الّذين كتب اللّه في قلوبهم الإيمان، أي: رسمه و ثبّته، و غرسه غرسا، لا يتزلزل، و لا تؤثر فيه الشبه و الشكوك. و هم الّذين قواهم اللّه بروح منه، أي: بوحيه و معرفته و مدده الإلهي، و إحسانه الرباني. و هم الّذين لهم الحياة الطيبة في هذه الدار، و لهم جنات النعيم في دار القرار، الّتي فيها كلّ ما تشتهيه الأنفس، و تلذ الأعين، و تختار، و لهم أفضل النعيم و أكبره، و هو أن اللّه يحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبدا، و يرضون عن ربهم بما يعطيهم من أنواع الكرامات، و وافر المثوبات، و جزيل الهبات، و رفيع الدرجات بحيث لا يرون فوق ما أعطاهم مولاهم غاية، و لا وراءه نهاية. و أما من يزعم أنه يؤمن باللّه و اليوم الآخر، و هو مع ذلك موادّ لأعداء اللّه، محب لمن نبذ الإيمان وراء ظهره، فإن هذا إيمان زعميّ، لا حقيقة له، فإن كل أمر لا بد له من برهان يصدقه، فمجرد الدعوى لا تفيد شيئا، و لا يصدق صاحبها. تم تفسير سورة المجادلة- و الحمد للّه.

تيسير الكريم الرحمن، ص: 1022

تفسير سورة الحشر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ هذه السورة تسمى «سورة بني النصير» و هم طائفة كبيرة من اليهود، في جانب المدينة، وقت بعثة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فلما بعث النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، و هاجر إلى المدينة، كفروا به في جملة من كفر من اليهود، فهادن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم طوائف اليهود، الّذين هم جيرانه في المدينة. فلما كان بعد وقعة بدر بستة أشهر أو نحوها، خرج إليهم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، و كلمهم أن يعينوه في دية الكلابيين، الّذين قتلهم عمرو بن أمية الضمري، فقالوا: نفعل يا أبا القاسم، اجلس هاهنا، حتى نقضي حاجتك. فخلا بعضهم ببعض، و سوّل لهم الشيطان الشقاء الذي كتب عليهم، فتأمروا على قتله صلّى اللّه عليه و سلّم، فقالوا: أيكم يأخذ هذه الرحى، فيصعد، فيلقيها على رأسه يشدخه بها؟ فقال أشقاهم عمرو بن جحاش: أنا، فقال لهم سلام بن مشكم: لا تفعلوا، فو اللّه ليخبرن بما هممتم به، و إنه لنقض للعهد الذي بيننا و بينه. و جاء الوحي على الفور إليه من ربه، بما عموا به. فنهض مسرعا، فتوجّه إلى المدينة، و لحقه أصحابه، فقالوا: نهضت، و لم نشعر بك. فأخبرهم بما همت يهود به. و بعث إليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «أن اخرجوا من المدينة و لا تساكنوني بها، و قد أجلتكم عشرا، فمن وجدت بعد ذلك ضربت عنقه». فأقاموا أياما يتجهزون، و أرسل إليهم المنافق عبد اللّه بن أبيّ ابن سلول: (أن لا تخرجوا من دياركم، فإن معي ألفين، يدخلون معكم حصنكم، فيموتون دونكم، و تنصركم قبيلة قريظة و حلفاؤكم من غطفان). و طمع رئيسهم حيي بن أخطب فيما قال له، و بعث إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول: إنا لا نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك. فكبّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و أصحابه، و نهضوا إليهم، و علي بن أبي طالب يحمل اللواء. و أقاموا على حصونهم يرمون بالنبال و الحجارة. و اعتزلتهم قريظة، و خانهم ابن أبي، و حلفاؤهم من غطفان، فحاصرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و قطع نخلهم و حرّق، فأرسلوا إليه: نحن نخرج من المدينة، فأنزلهم على أن يخرجوا منها بنفوسهم و ذراريهم، و أن لهم ما حملت إبلهم إلا السلاح، و قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، الأموال و السلاح. و كانت بنو النضير خالصة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لنوائبه، و مصالح المسلمين، و لم يخمسها، لأن اللّه فاءها عليه، و لم يوجف المسلمون عليها، بخيل و لا ركاب، و أجلاهم إلى خيبر، و فيهم حيي بن أخطب كبيرهم، و استولى على أرضهم و ديارهم، و قبض السلاح، فوجد من السلاح خمسين درعا، و خمسين بيضة، و ثلاثمائة و أربعين سيفا. هذا حاصل قصتهم كما ذكرها أهل السير.

[1] فافتتح تعالى هذه السورة بالإخبار أن جميع من في السماوات و الأرض، تسبح بحمد ربها، و تنزهه عما لا يليق بجلاله، و تعبده، و تخضع لعظمته، لأنه العزيز الذي قد قهر كلّ شي‏ء، فلا يمتنع عليه شي‏ء، و لا يستعصي عليه عسير. الحكيم في خلقه و أمره، فلا يخلق شيئا عبثا، و لا يشرع ما لا مصلحة فيه، و لا يفعل إلا ما هو مقتضى حكمته.

[2] و من ذلك نصره لرسوله صلّى اللّه عليه و سلّم، على الّذين كفروا من أهل الكتاب، من بني النضير، حين غدروا برسوله، فأخرجهم من ديارهم و أوطانهم، الّتي ألفوها و أحبوها. و كان إخراجهم منها أول حشر و جلاء، كتبه اللّه عليهم على يد رسوله محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم إلى خيبر، و دلت الآية الكريمة أن لهم حشرا و جلاء غير هذا. فقد وقع حين أجلاهم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم من خيبر، ثمّ عمر رضى اللّه عنه أخرج بقيتهم منها. ما ظَنَنْتُمْ‏ أيها المسلمون‏ أَنْ يَخْرُجُوا من ديارهم، لحصانتها، و منعتها، و عزهم فيها. وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ‏ فأعجبوا بها، و غرتهم، و حسبوا أنها لا ينالون بها، و لا يقدر عليها أحد، و قدر اللّه وراء ذلك كله، لا تغني عنه الحصون و القلاع، و لا تجدي‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 1023

فيه القوة و الدفاع. و لهذا قال: فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ، أي: من الأمر و الباب، الذي لم يخطر ببالهم، أن يؤتوا منه. و هو أنه تعالى‏ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ‏ و هو الخوف الشديد، الذي هو جند اللّه الأكبر، الذي لا ينفع معه عدد و لا عدة، و لا قوة و لا شدة. فالأمر الذي يحتسبونه و يظنون أن الخلل يدخل عليهم منه إن دخل، هو الحصون الّتي تحصنوا بها، و اطمأنت نفوسهم إليها، و من وثق بغير اللّه فهو مخذول، و من ركن إلى غير اللّه، كان وبالا عليه.

فأتاهم أمر سماوي، نزل على قلوبهم، الّتي هي محل الثبات و الصبر، أو الخور و الضعف، فأزال قوتها و شدتها، و أورثها ضعفا و خورا و جبنا، لا حيلة لهم في دفعه، فصار ذلك عونا عليهم، و لهذا قال: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَ أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ‏ ، و ذلك أنهم صالحوا النبي صلّى اللّه عليه و سلّم على أن لهم ما حملت الإبل. فنقضوا لذلك كثيرا من سقوفهم، الّتي استحسنوها، و سلطوا المؤمنين، بسبب بغيهم على إخراب ديارهم، و هدم حصونهم، فهم الّذين جنوا على أنفسهم، و صاروا أكبر عون عليها. فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ ، أي: البصائر النافذة، و العقول الكاملة، فإن في هذا معتبرا يعرف به صنع اللّه في المعاندين للحق، المتبعين لأهوائهم، الّذين لم تنفعهم عزتهم، و لا منعتهم قوتهم، و لا حصنتهم حصونهم، حين جاءهم أمر اللّه، فوصل إليهم النكال بذنوبهم، و العبرة بعموم المعنى، لا بخصوص السبب. فإن هذه الآية، تدل على الأمر بالاعتبار، و هو اعتبار النظير بنظيره، و قياس الشي‏ء على ما يشابهه، و التفكر فيما تضمنته الأحكام، من المعاني و الحكم، الّتي هي محل العقل و الفكرة، و بذلك يكمل العقل، و تتنور البصيرة، و يزداد الإيمان، و يحصل الفهم الحقيقي.

[3] ثمّ أخبر تعالى أن هؤلاء اليهود لم يصبهم جميع ما يستحقون من العقوبة، و أن اللّه خفف عنهم. وَ لَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ الذي أصابهم و قضاه عليهم، بقدره الذي لا يبدل و لا يغير، لكان لهم شأن آخر من عذاب الدنيا و نكالها. و لكنهم- و إن فاتهم العذاب الشديد الدنيوي- فإن لهم في الآخرة عذاب النار، الذي لا يمكن أن يعلم شدته إلا اللّه. فلا يخطر ببالهم أن عقوبتهم انقضت و فرغت و لم يبق لهم منها بقية، فما أعدّ اللّه لهم من العذاب في الآخرة أعظم و أطمّ.

[4] ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ‏ و عادوهما و حاربوهما، و سعوا في معصيتهما، و هذه سنته و عادته فيمن شاقه‏ وَ مَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ‏ .

[5] و لما لام بنو النضير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و المسلمين في قطع النخيل و الأشجار، و زعموا أن ذلك من الفساد، و توصلوا بذلك إلى الطعن بالمسلمين، أخبر تعالى أن قطع النخيل إن قطعوه أو إبقاءهم إياه، إن أبقوه‏ فَبِإِذْنِ اللَّهِ‏ و أمره‏ وَ لِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ‏ حيث سلطكم على قطع نخلهم و تحريقها، ليكون ذلك نكالا لهم، و خزيا في الدنيا، و ذلا يعرف به عجزهم التام، الذي ما قدروا على استنقاذ نخلهم الذي هو مادة قوتهم. و اللينة: تشمل النخيل كله، على أصح الاحتمالات و أولاها، فهذه حال بني النضير، و كيف عاقبهم اللّه في الدنيا.

[6] ثمّ ذكر من انتقلت إليه أموالهم و أمتعتهم، فقال: وَ ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى‏ رَسُولِهِ مِنْهُمْ‏ ، أي: من أهل هذه‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 1024

القرية، و هم بنو النضير. (ف) إنكم يا معشر المسلمين ما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَ لا رِكابٍ‏ ، أي: ما أجلبتم و لا حشدتم، أي: لم تتعبوا بتحصيلها، لا بأنفسكم و لا بمواشيكم، بل قذف اللّه في قلوبهم الرعب، فأتتكم صفوا عفوا. و لهذا قال: وَ لكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى‏ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ . و من تمام قدرته، أنه لا يمتنع عليه ممتنع، و لا يعزز من دونه قويّ. و تعريف الفي‏ء باصطلاح الفقهاء: هو ما أخذ من مال الكفار بحق، من غير قتال، كهذا المال الذي فرّوا و تركوه خوفا من المسلمين، و سمي فيئا، لأنه رجع من الكفار، الّذين هم غير مستحقين له، إلى المسلمين الّذين لهم الحقّ الأوفر فيه.

[7] و حكمه العام، كما ذكره اللّه بقوله: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى‏ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى‏ عموما، سواء كان في وقت الرسول أو بعده، على من تولى «الإمارة» من بعده من أمته. فَلِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى‏ وَ الْيَتامى‏ وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ‏ ، و هذه الآية نظير الآية الّتي في سورة الأنفال، و هي قوله: وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى‏ وَ الْيَتامى‏ وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ‏ . فهذا الفي‏ء يضم خمسة أقسام: للّه، و لرسوله، يصرف في مصالح المسلمين العامة. و خمس لذي القربى، و هم: بنو هاشم، و بنو المطلب، حيث كانوا، يسوّى فيه بين ذكورهم و إناثهم. و إنّما دخل بنو المطلب في خمس الخمس مع بني هاشم، و لم يدخل بقية بني عبد مناف، لأنهم شاركوا بني هاشم، في دخولهم الشعب، حين تعاقدت قريش على هجرهم و عداوتهم، فنصروا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بخلاف غيرهم، و لهذا قال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم في بني عبد المطلب: «إنهم لم يفارقوني في جاهلية و لا إسلام». و خمس لفقراء اليتامى، و هم: من لا أب له و لم يبلغ. و خمس للمساكين. و خمس لأبناء السبيل، و هم الغرباء المنقطع بهم في غير أوطانهم. و إنّما قدر اللّه هذا التقدير، و حصر الفي‏ء، في هؤلاء المعينين‏ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً ، أي: مداولة و اختصاصا بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ‏ ، فإنه لو لم يقدره، لتداولته الأغنياء الأقوياء، و لما حصل لغيرهم من العاجزين منه شي‏ء، و في ذلك من الفساد، ما لا يعلمه إلا اللّه. كما أن في اتباع أمر اللّه و شرعه من المصالح ما لا يدخل تحت الحصر، و لذلك أمر اللّه بالقاعدة الكلية، و الأصل العام، فقال: وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ، و هذا شامل لأصول الدين و فروعه، و ظاهره و باطنه، و أن ما جاء به الرسول، يتعين على العباد الأخذ به و اتباعه، و لا تحل مخالفته، و أن نص الرسول على حكم الشي‏ء، كنص اللّه تعالى، لا رخصة لأحد و لا عذر له في تركه، و لا يجوز تقديم قول أحد على قوله. ثمّ أمر بتقواه، الّتي بها عمارة القلوب و الأرواح، و الدنيا و الآخرة، و بها السعادة الدائمة، و الفوز العظيم، و بإضاعتها الشقاء الأبدي، و العذاب السرمدي، فقال: وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ‏ على من ترك التقوى، و آثر اتباع الهوى.

[8] ثمّ ذكر تعالى، الحكمة و السبب الموجب لجعله تعالى أموال الفي‏ء، لمن قدرها له، و أنهم حقيقون بالإعانة، مستحقون لأن تجعل لهم، و أنهم ما بين مهاجرين قد هجروا المحبوبات و المألوفات، من الديار و الأوطان، و الأحباب و الخلان، و الأموال، رغبة في اللّه، و محبة لرسول اللّه. فهؤلاء هم الصادقون الّذين عملوا بمقتضى‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 1025

إيمانهم، و صدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة، و العبادات الشاقة، بخلاف من ادعى الإيمان، و هو لم يصدقه بالجهاد و الهجرة و غيرهما من العبادات، و بين أنصارهم الأوس و الخزرج الّذين آمنوا باللّه و رسوله طوعا و محبة و اختيارا و آووا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و منعوه من الأحمر و الأسود، و تبوأوا دار الهجرة و الإيمان حتى صارت موئلا و مرجعا يرجع إليه المؤمنون، و يلجأ إليه المهاجرون، و يسكن بحماه المسلمون إذ كانت البلدان كلها بلدان حرب و شرك و شر. فلم يزل أنصار الدين يأوون إلى الأنصار، حتى انتشر الإسلام، و قوي، و جعل يزداد شيئا فشيئا، حتى فتحوا القلوب بالعلم و الإيمان و القرآن، و البلدان بالسيف و السنان. الّذين من جملة أوصافهم الجميلة أنهم‏ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ‏ ، و هذا لمحبتهم للّه و رسوله، أحبوا أحبابه، و أحبوا من نصر دينه. وَ لا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا ، أي: لا يحسدون المهاجرين على ما آتاهم اللّه من فضله، و خصهم به، من الفضائل و المناقب، الّتي هم أهلها، و هذا يدل على سلامة صدورهم، و انتفاء الغل و الحقد و الحسد عنها. و يدل ذلك على أن المهاجرين أفضل من الأنصار، لأن اللّه قدمهم بالذكر، و أخبر أن الأنصار لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، فدل على أن اللّه تعالى، آتاهم ما لم يؤت الأنصار و لا غيرهم، و لأنهم جمعوا بين النصرة و الهجرة. و قوله: وَ يُؤْثِرُونَ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ ، أي: و من أوصاف الأنصار الّتي فاقوا بها غيرهم، و تميزوا بها عمن سواهم، الإيثار، و هو أكمل أنواع الجود، و هو الإيثار بمحاب النفس، من الأموال و غيرها، و بذلها للغير مع الحاجة إليها، بل مع الضرورة و الخصاصة. و هذا لا يكون إلا من خلق زكي، و محبة للّه تعالى، مقدمة على شهوات النفس و لذاتها، و من ذلك قصة الأنصاري الذي نزلت الآية بسببه، حين آثر ضيفه بطعامه، و طعام أهله و أولاده، و باتوا جياعا. و الإيثار عكسه الأثرة، فالإيثار محمود، و الأثرة مذمومة، لأنها من خصال البخل و الشح. و من رزق الإيثار، فقد وقي شح نفسه‏ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏ ، و وقاية شح النفس، يشمل وقايتها الشح، في جميع ما أمر به، فإنه إذا وقي العبد شحّ نفسه، سمحت نفسه بأوامر اللّه و رسوله، ففعلها طائعا منقادا، منشرحا بها صدره، و سمحت نفسه بترك ما نهى اللّه عنه، و إن كان محبوبا للنفس، تدعو إليه و تتطلع إليه. و سمحت نفسه ببذل الأموال في سبيل اللّه، و ابتغاء مرضاته، و بذلك يحصل الفلاح و الفوز. بخلاف من لم يوق شح نفسه، بل ابتلي بالشح بالخير، الذي هو أصل الشر و مادته.

فهذان الصنفان الفاضلان الزكيان، هم الصحابة الكرام، و الأئمة الأعلام، الّذين حازوا من السوابق و الفضائل و المناقب، ما سبقوا به من بعدهم، و أدركوا به من قبلهم، فصاروا أعيان المؤمنين، و سادات المسلمين، و قادات المتقين.

صفحه بعد