کتابخانه تفاسیر
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1097
و شر، و ذلك أنه إذا كان يوم القيامة تكور الشمس، أي:
تجمع و تلف، و يخسف القمر، و يلقيان في النار.
[2] وَ إِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2)، أي: تغيرت، و تناثرت من أفلاكها.
[3] وَ إِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3)، أي: صارت كثيبا مهيلا، ثم صارت كالعهن المنفوش. ثم تغيرت و صارت هباء منبثا، و أزيلت عن أماكنها.
[4] وَ إِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4)، أي:
عطل الناس يومئذ نفائس أموالهم، الّتي كانوا يهتمون لها و يراعونها في جميع الأوقات، فجاءهم ما يذهلهم عنها، فنبّه بالعشار- و هي: النوق الّتي تتبعها أولادها، و هي أنفس أموال العرب إذ ذاك عندهم- على ما هو في معناها من كل نفيس.
[5] وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5)، أي: جمعت ليوم القيامة، ليقتص اللّه من بعضها لبعض، و يرى العباد كمال عدله، حتى إنه يقتص للشاة الجماء، من الشاة القرناء، ثم يقال لها: كوني ترابا.
[6] وَ إِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6)، أي:
أوقدت فصارت- على عظمها- نارا تتوقد.
[7] وَ إِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7)، أي: قرن كلّ صاحب عمل مع نظيره، فجمع الأبرار مع الأبرار، و الفجار مع الفجار، و زوج المؤمنون بالحور العين، و الكافرون بالشياطين، و هذا كقوله تعالى: وَ سِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً ، وَ سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً ، احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ أَزْواجَهُمْ .
[8] وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8)، و هي: ما كانت الجاهلية الجهلاء تفعله من دفن البنات، و هن أحياء من غير سبب، إلا خشية الفقر، فتسأل: بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)، و من المعلوم أنها ليس لها ذنب، و لكن هذا فيه توبيخ و تقريع لقاتليها.
[10] وَ إِذَا الصُّحُفُ المشتملة على ما عمله العاملون من خير و شر نُشِرَتْ ، و فرقت على أهلها، فآخذ كتابه بيمينه، و آخذ كتابه بشماله، أو من وراء ظهره.
[11] وَ إِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11)، أي: أزيلت، كما قال تعالى: وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ ، يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ، وَ الْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ .
[12] وَ إِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12)، أي: أوقد عليها فاستعرت، و التهبت التهابا لم يكن لها قبل ذلك.
[13] وَ إِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13)، أي: قرّبت للمتقين.
[14] عَلِمَتْ نَفْسٌ ، أي: كل نفس، لإتيانها في سياق الشرط. ما أَحْضَرَتْ ، أي: ما حضر لديها من الأعمال، الّتي قدمتها كما قال تعالى:
وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً . و هذه الأوصاف الّتي وصف بها يوم القيامة، من الأوصاف الّتي تنزعج لها القلوب، و تشتد من أجلها الكروب، و ترتعد الفرائص، و تعم المخاوف، و تحث أولي الألباب للاستعداد لذلك اليوم، و تزجرهم عن كلّ ما يوجب اللوم، و لهذا قال بعض السلف: من أراد أن ينظر ليوم القيامة كأنه رأي عين، فليتدبر سورة إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1).
[15] أقسم تعالى بِالْخُنَّسِ و هي من الكواكب الّتي تخنس، أي: تتأخر عن سير الكواكب المعتاد إلى جهة الشرق، و هي النجوم السبعة السيارة: «الشمس»، و «القمر»، و «الزهرة»، و «المشتري»، و «المريخ»، و «زحل»، و «عطارد»، فهذه السبعة لها سيران: سير إلى جهة المغرب مع سائر الكواكب و الفلك. و سير معاكس لهذا من جهة
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1098
المشرق تختص به هذه السبعة دون غيرها. فأقسم اللّه بها في حال خنوسها، أي: تأخرها، و في حال جريانها، و في حال كنوسها، أي: استتارها بالنهار. و يحتمل أن المراد بها جميع الكواكب السيارة و غيرها.
[17] وَ اللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17)، أي: أقبل، و قيل: أدبر.
[18] وَ الصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18)، أي: بدت علائم الصبح، و انشق النور شيئا فشيئا، حتى يستكمل و تطلع الشمس. و هذه آيات عظام، أقسم اللّه عليها، لقوة سند القرآن و جلالته، و حفظه من كلّ شيطان رجيم، فقال:
[19] إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) و هو أي: جبريل عليه السّلام، نزل به من اللّه تعالى، كما قال تعالى: وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194). و وصفه اللّه بالكريم لكرم أخلاقه، و خصاله الحميدة، فإنه أفضل الملائكة، و أعظمهم رتبة عند ربه.
[20] ذِي قُوَّةٍ على ما أمره اللّه به. و من قوته أنه قلب ديار قوم لوط بهم، فأهلكهم. عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ ، أي:
جبريل مقرب عند اللّه، له منزلة رفيعة و خصيصة من اللّه، اختصه بها. مَكِينٍ ، أي: له مكانة و منزلة، فوق منازل الملائكة كلهم.
[21] مُطاعٍ ثَمَ ، أي: جبريل مطاع في الملأ الأعلى، لأنه من الملائكة المقربين، نافذ فيهم أمره، مطاع رأيه. أَمِينٍ ، أي: ذو أمانة، و قيام بما أمر به، لا يزيد و لا ينقص و لا يتعدى ما حدّ له، و هذا كله يدل على شرف القرآن عند اللّه تعالى، فإنه بعث به هذا الملك الكريم، الموصوف بتلك الصفات الكاملة. و العادة أن الملوك لا ترسل الكريم عليها، إلا في أهم المهمات، و أشرف الرسائل.
[22] و لما ذكر فضل الرسول الملكي الذي جاء بالقرآن، ذكر فضل الرسول البشري الذي نزل عليه القرآن، و دعا إليه الناس، فقال: وَ ما صاحِبُكُمْ و هو محمد صلّى اللّه عليه و سلّم بِمَجْنُونٍ كما يقوله أعداؤه المكذبون برسالته، المتقولون عليه الأقوال، الّتي يريدون أن يطفئوا بها ما جاء به. بل هو أكمل الناس عقلا، و أجزلهم رأيا، و أصدقهم لهجة.
[23] وَ لَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23)، أي: رأى محمد صلّى اللّه عليه و سلّم جبريل عليه السّلام بالأفق البيّن، الذي هو أعلى ما يلوح للبصر.
[24] وَ ما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24)، أي: و ما هو على ما أوحاه اللّه إليه، بشحيح يكتم بعضه، بل هو صلّى اللّه عليه و سلّم أمين أهل السماء، و أهل الأرض، الذي بلغ رسالات ربه، البلاغ المبين، فلم يشح بشيء منه، عن غنيّ و لا فقير، و لا رئيس و لا مرؤوس، و لا ذكر و لا أنثى، و لا حضريّ و لا بدويّ، و لذلك بعثه اللّه في أمة أمية، جاهلة جهلاء.
فلم يمت صلّى اللّه عليه و سلّم، حتى كانوا علماء ربانيين، و أحبارا متفرسين، إليهم الغاية في العلوم، و إليهم المنتهى في استخراج الدقائق و المفهوم، و هم الأساتذة و غيرهم قصاراه أن يكون من تلاميذهم.
[25] وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) لما ذكر جلالة كتابه و فضله، بذكر الرسولين الكريمين، اللذين وصل إلى الناس على أيديهما، و أثنى اللّه عليهما بما أثنى، دفع عنه كلّ آفة و نقص، مما يقدح في صدقه، فقال: وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25)، أي: في غاية البعد عن اللّه و عن قربه.
[26] فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26)، أي: كيف يخطر هذا ببالكم، و أين عزبت عنكم أذهانكم؟ حتى جعلتم الحقّ الذي هو في أعلى درجات الصدق، بمنزلة الكذب، الذي هو أنزل ما يكون، و أرذل و أسفل الباطل؟ هل هذا إلا من انقلاب الحقائق.
[27] إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) يتذكرون به ربهم، و ما له من صفات الكمال، و ما ينزه عنه من النقائص، و الرذائل و الأمثال، و يتذكرون به الأوامر و النواهي و حكمها، و يتذكرون به الأحكام القدرية و الشرعية و الجزائية. و بالجملة، يتذكرون به مصالح الدارين، و ينالون بالعمل به السعادتين.
[28] لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) بعد ما تبين الرشد من الغي، و الهدى من الضلال.
[29] وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29)، أي: فمشيئته نافذة، لا يمكن أن تعارض أو تمانع. و في هذه الآية و أمثالها، ردّ على فرقتي القدرية النفاة، و الجبرية المجبرة كما تقدم من أمثالها، و اللّه أعلم، و الحمد للّه. تم تفسير سورة التكوير.
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1099
سورة الإنفطار
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1- 5] أي: إذا انشقت السماء و انفطرت، و تناثرت نجومها، و زال جمالها، و فجرت البحار، فصارت بحرا واحدا، و بعثرت القبور بأن أخرج ما فيها من الأموات، و حشروا للموقف، بين يدي اللّه، للجزاء على الأعمال.
فحينئذ ينكشف الغطاء، و يزول ما كان خفيا، و تعلم كل نفس ما معها من الأرباح و الخسران. هنالك يعض الظالم على يديه، إذا رأى ما قدمت يداه، و أيقن بالشقاء الأبدي، و العذاب السرمدي. و هنالك يفوز المتقون، المقدمون لصالح الأعمال بالفوز العظيم، و النعيم المقيم، و السلامة من عذاب الجحيم.
[6] يقول تعالى، معاتبا للإنسان المقصر في حقه، المتجرئ على معاصيه: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) أ تهاونا منك في حقوقه؟ أم احتقارا منك لعذابه؟ أم عدم إيمان منك بجزائه؟
[7] أ ليس هو الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ في أحسن تقويم؟ فَعَدَلَكَ و ركبك تركيبا قويما معتدلا، في أحسن الأشكال، و أجمل الهيئات. فهل يليق بك أن تكفر نعمة المنعم، أو تجحد إحسان المحسن؟ إن هذا إلا من جهلك و ظلمك، و عنادك و غشمك، فاحمد اللّه إذ لم يجعل صورتك صورة كلب أو حمار أو نحوهما من الحيوانات.
[8] و لهذا قال تعالى: فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8).
[9] و قوله: كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9)، أي:
مع هذا الوعظ و التذكير، لا تزالوا مستمرين على التكذيب بالجزاء.
[10- 12] و أنتم لا بد أن تحاسبوا على ما عملتم، و قد أقام اللّه عليكم ملائكة كراما يكتبون أقوالكم و أفعالكم و يعلمونها، فدخل في هذا أفعال القلوب، و أفعال الجوارح، فاللائق بكم، أن تكرموهم و تجلوهم.
[13] المراد بالأبرار، هم القائمون بحقوق اللّه، و حقوق عباده، الملازمون للبر، في أعمال القلوب، و أعمال الجوارح، فهؤلاء جزاؤهم النعيم في القلب، و الروح و البدن، في دار الدنيا، و في دار البرزخ، و في دار القرار.
[14] وَ إِنَّ الْفُجَّارَ الّذين قصروا في حقوق اللّه و حقوق عباده، الّذين فجرت قلوبهم ففجرت أعمالهم لَفِي جَحِيمٍ ، أي: عذاب أليم، في دار الدنيا، و دار البرزخ، و في دار القرار.
[15] يَصْلَوْنَها و يعذبون بها أشد العذاب يَوْمَ الدِّينِ ، أي: يوم الجزاء على الأعمال.
[16] وَ ما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16)، أي: بل هم ملازمون لها، لا يخرجون منها.
[17- 18] وَ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (18) في هذا تهويل لذلك اليوم الشديد، الذي يحير الأذهان.
[19] يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً و لو كانت قريبة أو حبيبة مصافية فكل مشتغل بنفسه لا يطلب الفكاك لغيرها. وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ فهو الذي يفصل بين العباد، و يأخذ للمظلوم حقه من ظالمه، و اللّه أعلم.
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1100
سورة المطففين
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1- 2] وَيْلٌ كلمة عذاب و عقاب لِلْمُطَفِّفِينَ و فسر اللّه المطففين بأنهم الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ ، أي:
أخذوا منهم، و فاء لهم عما قبلهم يَسْتَوْفُونَ كاملا من غير نقص.
[3] وَ إِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ ، أي: إذا أعطوا الناس حقهم، الذي لهم عليهم، بكيل أو وزن يُخْسِرُونَ ، أي: ينقصونهم ذلك إما بمكيال و ميزان ناقصين، أو بعدم ملء المكيال و الميزان، أو بغير ذلك، فهذا سرقة لأموال الناس، و عدم إنصاف لهم منهم. و إذا كان هذا وعيدا على الذين يبخسون الناس، بالمكيال و الميزان، فالذي يأخذ أموالهم قهرا و سرقة، أولى بهذا الوعيد من المطففين. و دلت الآية الكريمة، على أن الإنسان كما يأخذ من الناس، الذي له، يجب أن يعطيهم كل ما لهم من الأموال و المعاملات. بل يدخل في عموم هذا، الحجج و المقالات، فإنه كما أن المتناظرين، قد جرت العادة أن كل واحد منهما، يحرص على ما له من الحجج. فيجب عليه أيضا أن يبين ما لخصمه من الحجة، التي لا يعلمها، و أن ينظر في أدلة خصمه، كما ينظر في أدلته هو، و في هذا الموضع، يعرف إنصاف الإنسان، من تعصبه و اعتسافه، و تواضعه من كبره، و عقله من سفهه، نسأل اللّه التوفيق لكل خير. ثم توعد تعالى المطففين، و تعجب من حالهم و إقامتهم على ما هم عليه، فقال:
[4- 6] أَ لا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6)، فالذي جرأهم على التطفيف، عدم إيمانهم باليوم الآخر، و إلا فلو آمنوا به، و عرفوا أنهم سيقومون بين يدي اللّه، فيحاسبهم على القليل و الكثير، لأقلعوا عن ذلك، و تابوا منه.
[7] يقول تعالى: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ و هذا شامل لكل فاجر، من أنواع الكفرة و المنافقين، و الفاسقين لَفِي سِجِّينٍ ، ثم فسّر ذلك بقوله:
[8- 9] وَ ما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9)، أي: كتاب مذكور فيه أعمالهم الخبيثة، و السجّين: المحل الضيق الضنك، و «سجين» ضد «عليين» الذي هو محل كتاب الأبرار، كما سيأتي. و قد قيل: إن «سجين» هو أسفل الأرض السابعة، مأوى الفجار، و مستقرهم في معادهم.
[10- 11] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) ثم بينهم بقوله: الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11)، أي: يوم الجزاء، يوم يدين اللّه الناس فيه بأعمالهم.
[12] وَ ما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ على محارم اللّه، متعد الحلال إلى الحرام. أَثِيمٍ ، أي: كثير الإثم، فهذا يحمله عدوانه على التكذيب، و يوجب له كبره، رد الحق، و لهذا قال:
[13] إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا الدالة على الحق، و على صدق ما جاءت به الرسل، كذبها و عاندها، قالَ : هذه أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ، أي: من ترهات المتقدمين، و أخبار الأمم الغابرين، ليست من عند اللّه، تكبّرا و عنادا. و أما من أنصف، و كان مقصوده الحق المبين، فإنه لا يكذب بيوم الدين، لأن اللّه قد أقام عليه من الأدلة القاطعة، و البراهين، ما يجعله حق اليقين، و صار لبصائرهم، بمنزلة الشمس للأبصار، بخلاف من ران على قلبه كسبه، و غطته معاصيه، فإنه محجوب عن الحق.
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1101
[15] و لهذا جوزي على ذلك، بأن حجب عن اللّه، كما حجب قلبه عن آيات اللّه.
[16] ثُمَّ إِنَّهُمْ مع هذه العقوبة البليغة لَصالُوا الْجَحِيمِ .
[17] ثم يقال لهم توبيخا و تقريعا هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ . فذكر لهم ثلاثة أنواع من العذاب: عذاب الجحيم، و عذاب التوبيخ و اللوم، و عذاب الحجاب عن رب العالمين، المتضمن لسخطه و غضبه عليهم، و هو أعظم عليهم من عذاب النار. و دل مفهوم الآية، على أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة في الجنة، و يتلذذون بالنظر إليه أعظم من سائر اللذات، و يبتهجون بخطابه، و يفرحون بقربه، كما ذكر اللّه ذلك في عدة آيات من القرآن، و تواتر فيه النقل عن رسول صلّى اللّه عليه و سلّم. و في هذه الآيات، التحذير من الذنوب، فإنها ترين على القلب و تغطيه، شيئا فشيئا. حتى ينطمس نوره، و تموت بصيرته، فتنقلب عليه الحقائق، فيرى الباطل حقا، و الحق باطلا، و هذا من أعظم عقوبات الذنوب.
[18] لما ذكر أن كتاب الفجار في أسفل الأمكنة و أضيقها، ذكر أن كتاب الأبرار في أعلاها، و أوسعها، و أفسحها. و أن كتابهم كِتابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) من الملائكة الكرام، و أرواح الأنبياء، و الصديقين و الشهداء، و ينوّه اللّه بذكرهم في الملأ الأعلى. و «عليون» اسم لأعلى الجنة. فلما ذكر كتابهم، ذكر أنهم في نعيم، و هو اسم جامع لنعيم القلب، و الروح، و البدن.
[23] عَلَى الْأَرائِكِ ، أي: على السرر المزينة بالفرش الحسان. يَنْظُرُونَ إلى ما أعد اللّه لهم من النعيم، و ينظرون إلى وجه ربهم الكريم.
[24] تَعْرِفُ أيها الناظر فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ، أي: بهاءه و نضارته و رونقه. فإن توالي اللذات، و المسرات، و الأفراح، يكسب الوجه نورا، و حسنا، و بهجة.
[25] يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ و هو من أطيب ما يكون من الأشربة و ألذها. مَخْتُومٍ ذلك الشراب
[26] خِتامُهُ مِسْكٌ . يحتمل أن المراد مختوم عن أن يداخله شيء ينقص لذته، أو يفسد طعمه، و ذلك الختام، الذي ختم به مسك. و يحتمل أن المراد أنه الذي يكون في آخر الإناء، الذي يشربون منه الرحيق حثالة، و هي المسك الأذفر. فهذا الكدر منه، الذي جرت العادة في الدنيا، أنه يراق، يكون في الجنة بهذه المثابة. وَ فِي ذلِكَ النعيم المقيم، الذي لا يعلم حسنه و مقداره إلا اللّه. فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ ، أي: فليتسابقوا في المبادرة إليه بالأعمال الموصلة إليه، فهذا أولى ما بذلت فيه نفائس الأنفاس، و أحرى ما تزاحمت للوصول إليه فحول الرجال.
[27- 28] وَ هذا الشراب مِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) صرفا و هي أعلى أشربة الجنة على الإطلاق، فلذلك كانت خالصة للمقربين، الذين هم أعلى الخلق منزلة، و ممزوجة لأصحاب اليمين، أي: مخلوطة بالرحيق و غيره من الأشربة اللذيذة.
[29] لما ذكر تعالى جزاء المجرمين، و جزاء المحسنين، و ذكر ما بينهما من التفاوت العظيم، أخبر أن المجرمين كانوا في الدنيا، يسخرون بالمؤمنين، و يستهزئون بهم، و يضحكون منهم، فيتغامزون بهم، عند مرورهم عليهم، احتقارا لهم و ازدراء، و مع هذا تراهم مطمئنين، لا يخطر الخوف على بالهم.
[31] وَ إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ صباحا و مساء انْقَلَبُوا فَكِهِينَ ، أي: مسرورين مغتبطين. و هذا أشد ما يكون من الاغترار، أنهم جمعوا بين غاية الإساءة،
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1102
مع الأمن في الدنيا، حتى كأنهم قد جاءهم كتاب و عهد من اللّه، أنهم من أهل السعادة، و قد حكموا لأنفسهم، أنهم أهل الهدى، و أن المؤمنين ضالون، افتراء على اللّه، و تجرؤا على القول عليه بلا علم. قال تعالى:
[33] وَ ما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33)، أي: و ما أرسلوا وكلاء على المؤمنين، ملزمين بحفظ أعمالهم، حتى يحرصوا على رميهم بالضلال، و ما هذا منهم، إلا تعنت و عناد و تلاعب، ليس له مستند و لا برهان، و لهذا كان جزاؤهم في الآخرة، من جنس عملهم.
[34] قال تعالى:
فَالْيَوْمَ ، أي: يوم القيامة، الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ حين يرونهم في غمرات العذاب يتقلبون، و قد ذهب عنهم ما كانوا يفترون.
[35] و المؤمنون في غاية الراحة و الطمأنينة عَلَى الْأَرائِكِ و هي السرر المزينة.
يَنْظُرُونَ إلى ما أعد اللّه لهم من النعيم، و ينظرون إلى وجه ربهم الكريم.
[36] هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36)، أي: هل جوزوا من جنس عملهم؟ فكما ضحكوا في الدنيا من المؤمنين، و رموهم بالضلال، ضحك المؤمنون منهم في الآخرة، حين رأوهم في العذاب و النكال، الذي هو عقوبة الغي و الضلال. نعم ثوبوا ما كانوا يفعلون، عدلا من اللّه، و حكمة، و اللّه عليم حكيم.
تفسير سورة الإنشقاق
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] يقول تعالى مبينا لما يكون في يوم القيامة من تغير الأجرام العظام: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1)، أي: انفطرت و تمايز بعضها من بعض، و انتثرت نجومها، و خسف شمسها و قمرها.
[2] وَ أَذِنَتْ لِرَبِّها ، أي: استمعت لأمره، و ألقت سمعها، و أصاخت لخطابه. وَ حُقَّتْ ، أي: حق لها ذلك، فإنها مسخرة، مدبرة، تحت مسخر ملك عظيم لا يعصى أمره، و لا يخالف حكمه.
[3] وَ إِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3)، أي: رجفت و ارتجت، و نسفت عليها جبالها، و دك ما عليها من بناء و معلم، فسويت، و مدها اللّه مد الأديم، حتى صارت واسعة جدا، تسع أهل الموقف على كثرتهم، فتصير قاعا صفصفا، لا ترى فيها عوجا، و لا أمتا.
[4] وَ أَلْقَتْ ما فِيها من الأموات و الكنوز. وَ تَخَلَّتْ منهم، فإنه ينفخ في الصور فتخرج الأموات من الأجداث إلى وجه الأرض، و تخرج الأرض كنوزها، حتى تكون كالأسطوان العظيم، يشاهده الخلق و يتحسرون على ما هم فيه يتنافسون.
[5- 6] وَ أَذِنَتْ لِرَبِّها وَ حُقَّتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) أي: إنك ساع إلى اللّه، و عامل بأوامره و نواهيه، و متقرب إليه إما بالخير، و إما
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1103
بالشر، ثم تلاقي اللّه يوم القيامة فلا تعدم منه جزاء بالفضل أو العدل، بالفضل إن كنت سعيدا، و بالعقوبة العادلة إن كنت شقيا.
[7] و لهذا ذكر تفضيل الجزاء، فقال: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7)، و هم أهل السعادة.
[8] فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) و هو العرض اليسير على اللّه، فيقرره اللّه بذنوبه، حتى إذا ظن العبد أنه قد هلك، قال اللّه تعالى: «إني قد سترتها عليك في الدنيا، و أنا أسترها لك اليوم».
[9] وَ يَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ في الجنة. مَسْرُوراً لأنه قد نجا من العذاب و فاز بالثواب.
[10] وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10)، أي: بشماله من وراء ظهره.
[11] فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) من الخزي و الفضيحة، و ما يجد في كتابه من الأعمال التي قدمها و لم يتب منها.
[12- 13] وَ يَصْلى سَعِيراً (12)، أي: تحيط به السعير من كل جانب و يقبل على عذابها، و ذلك إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) لا يخطر البعث على باله، و قد أساء، و لا يظن أنه راجع إلى ربه و موقوف بين يديه.
[15] بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15) فلا يحسن أن يتركه سدى لا يؤمر و لا ينهى و لا يثاب و لا يعاقب.
[16] أقسم في هذا الموضع بآيات الليل، فأقسم بالشفق الذي هو بقية نور الشمس، الذي هو مفتتح الليل.
[17] وَ اللَّيْلِ وَ ما وَسَقَ (17)، أي: احتوى عليه من حيوانات و غيرها.
[18] وَ الْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18)، أي: امتلأ نورا بإبداره، و ذلك أحسن ما يكون و أكثر منافع، و المقسم عليه قوله: لَتَرْكَبُنَ ، أي: أيها الناس طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ ، أي: أطوارا متعددة و أحوالا متباينة من النطفة إلى العلقة، إلى المضغة، إلى نفخ الروح. ثم يكون وليدا و طفلا و مميزا، ثم يجري عليه قلم التكليف، و الأمر و النهي، ثم يموت بعد ذلك، ثم يبعث و يجازى بأعماله. فهذه الطبقات المختلفة الجارية على العبد، دالة على أن اللّه وحده هو المعبود، الموحد، المدبر لعباده، بحكمته و رحمته، و أن العبد فقير، عاجز، تحت تدبير العزيز الرحيم.
[21] و مع هذا، فكثير من الناس لا يؤمنون وَ إِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21)، أي: لا يخضعون للقرآن، و لا ينقادون لأوامره، و نواهيه.
[22] بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22)، أي: يعاندون الحق بعد ما تبين، فلا يستغرب عدم إيمانهم و انقيادهم للقرآن، فإن المكذب بالحق عنادا، لا حيلة فيه.
[23] وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23)، أي: بما يعملونه و ينوونه سرا، فاللّه يعلم سرهم و جهرهم، و سيجازيهم بأعمالهم، و لهذا قال:
[24] فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24)، و سميت البشارة بشارة لأنها تؤثر في البشرة سرورا أو غما. فهذه حال أكثر الناس، التكذيب بالقرآن، و عدم الإيمان به.