کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تيسير الكريم الرحمن

سورة الفاتحة سورة آل عمران سورة المائدة سورة الأنعام تفسير سورة الأعراف تفسير سورة الأنفال تفسير سورة التوبة تفسير سورة يونس تفسير سورة هود تفسير سورة الرعد سورة إبراهيم تفسير سورة الحجر سورة النحل سورة الإسراء سورة الكهف تفسير سورة مريم سورة طه تفسير سورة الأنبياء تفسير سورة الحج تفسير سورة المؤمنون تفسير سورة النور تفسير سورة الفرقان تفسير سورة الشعراء تفسير سورة النمل تفسير سورة العنكبوت تفسير سورة الروم تفسير سورة لقمان تفسير سورة السجدة سورة الأحزاب سورة سبأ تفسير سورة فاطر تفسير سورة يس تفسير سورة الصافات تفسير سورة الزمر تفسير سورة فصلت سورة الشورى سورة الزخرف تفسير سورة الدخان سورة الجاثية سورة الأحقاف سورة محمد تفسير سورة الحجرات تفسير سورة ق سورة الطور تفسير سورة النجم سورة القمر سورة الرحمن سورة الواقعة تفسير سورة الحديد تفسير سورة المجادلة تفسير سورة الحشر تفسير سورة الممتحنة تفسير سورة الصف سورة الجمعة تفسير سورة المنافقون تفسير سورة التغابن تفسير سورة الطلاق تفسير سورة التحريم تفسير سورة الملك تفسير سورة القلم سورة الحاقة سورة المعارج سورة نوح سورة الجن تفسير سورة المزمل سورة المدثر تفسير سورة القيامة سورة الإنسان سورة المرسلات تفسير سورة النبأ سورة النازعات سورة عبس تفسير سورة التكوير سورة الإنفطار سورة المطففين تفسير سورة الإنشقاق سورة البروج سورة الطارق سورة الأعلى تفسير سورة الغاشية تفسير سورة الفجر تفسير سورة البلد سورة الشمس سورة الليل تفسير سورة الضحى سورة الشرح سورة التين تفسير سورة العلق سورة القدر تفسير سورة البينة تفسير سورة الزلزلة تفسير سورة العاديات تفسير سورة القارعة سورة التكاثر سورة العصر تفسير سورة الهمزة سورة الفيل تفسير سورة قريش سورة الماعون سورة الكوثر تفسير سورة الكافرون سورة النصر تفسير سورة المسد تفسير سورة الإخلاص سورة الفلق تفسير سورة الناس محتوى تفسير الإمام السعدي

تيسير الكريم الرحمن


صفحه قبل

تيسير الكريم الرحمن، ص: 944

إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ‏ ، و الخسران: فوات رأس مال الإنسان، و إذا فقد رأس ماله، فالأرباح من باب أولى و أحرى، فهم قد فاتهم الإيمان، و لم يحصلوا شيئا من النعيم، و لا سلموا من عذاب الجحيم.

[19] وَ لِكُلٍ‏ من أهل الخير و أهل الشر دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ، أي: كلّ على حسب مرتبته، من الخير و الشر، و منازلهم في الدار الآخرة، على قدر أعمالهم، و لهذا قال: وَ لِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ‏ بأن لا يزداد في سيئاتهم، و لا ينقص من حسناتهم.

[20] يذكر تعالى حال الكفار عند عرضهم على النار حين يوبخون و يقرعون، فيقال لهم: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا حيث اطمأننتم إلى الدنيا، و اغتررتم بلذاتها، و رضيتم بشهواتها، و ألهتكم طيباتها عن السعي لآخرتكم، وَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِها كما تتمتع الأنعام السارحة، فهي حظكم من آخرتكم. فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ‏ ، أي: العذاب الشديد، الذي يهينكم و يفضحكم، بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ‏ ، أي: تنسبون الطريق الضالة الّتي أنتم عليها إلى اللّه، و إلى حكمه، و أنتم كذبة في ذلك، وَ بِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ‏ ، أي: تتكبرون «و تخرجون» عن طاعته.

فجمعوا بين قول الباطل، و العمل بالباطل، و الكذب على اللّه، و القدح في الحقّ، و الاستكبار عنه، فعوقبوا أشد العقوبة.

[21] أي: وَ اذْكُرْ بالثناء الجميل‏ أَخا عادٍ ، و هو: هود عليه السّلام، حيث كان من الرسل الكرام، الّذين فضلهم اللّه تعالى بالدعوة إلى دينه، و إرشاد الخلق إليه. إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ‏ و هم عاد بِالْأَحْقافِ‏ ، أي: في منازلهم المعروفة بالأحقاف، و هي: الرمال الكثيرة في أرض اليمن. وَ قَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ‏ فلم يكن بدعا منهم، و لا مخالفا لهم، قائلا لهم: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏ . فأمرهم بعبادة اللّه، الجامعة لكل قول سديد و عمل حميد، و نهاهم عن الشرك و التنديد، و خوّفهم- إن لم يطيعوه- العذاب الشديد فلم تفد فيهم تلك الدعوة.

[22] قالُوا أَ جِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا ، أي: ليس لك من القصد، و لا معك من الحقّ، إلا أنك حسدتنا على آلهتنا، فأردت أن تصرفنا عنها. فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ‏ ، و هذا غاية الجهل و العناد.

[23] قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ‏ فهو الذي بيده أزمة الأمور و مقاليدها، و هو الذي يأتيكم بالعذاب إن شاء. وَ أُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ‏ ، أي: ليس عليّ إلا البلاغ المبين، وَ لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ‏ فلذلك صدر منكم ما صدر من هذه الجرأة الشديدة، فأرسل اللّه عليهم العذاب العظيم، و هو الريح الّتي دمرتهم و أهلكتهم.

[24- 25] و لهذا قال: فَلَمَّا رَأَوْهُ‏ ، أي: العذاب‏ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ‏ ، أي: معترضا كالسحاب، قد أقبل على أوديتهم الّتي تسيل، فتسقي مزارعهم، و يشربون من آبارها و غدرانها. قالُوا مستبشرين: هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا ، أي: هذا السحاب سيمطرنا. قال تعالى: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ‏ ، أي: هذا الذي جنيتم به على أنفسكم، حيث قلتم: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ‏ . رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْ‏ءٍ تمر عليه من شدتها و نحسها. فسلطها اللّه عليهم سبع ليالي، و ثمانية أيام حسوما، فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 945

خاوية بِأَمْرِ رَبِّها ، أي: بإذنه و مشيئته. فَأَصْبَحُوا لا يُرى‏ إِلَّا مَساكِنُهُمْ‏ قد تلفت مواشيهم و أموالهم و أنفسهم.

كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ‏ بسبب جرمهم و ظلمهم.

[26] هذا مع أن اللّه قد أدرّ عليهم النعم العظيمة، فلم يشكروه، و لا ذكروه، و لهذا قال: وَ لَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ‏ ، أي: مكناهم في الأرض، ينالون طيباتها، و يتمتعون بشهواتها، و عمرناهم عمرا، يتذكر فيه من تذكر، و يتعظ فيه المهتدي، أي: و لقد مكنا عادا، كما مكناكم يا هؤلاء المخاطبون، أي: فلا تحسبوا أن ما مكناكم فيه مختص بكم، و أنه سيدفع عنكم من عذاب اللّه شيئا، بل غيركم أعظم منكم تمكينا، فلم تغن عنهم أموالهم و لا أولادهم، و لا جنودهم من اللّه شيئا. وَ جَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَ أَبْصاراً وَ أَفْئِدَةً ، أي: لا قصور في أسماعهم، و لا أبصارهم، و لا أذهانهم، حتى يقال: إنهم تركوا الحقّ جهلا منهم، و عدم تمكن من العلم به، و لا خلل في عقولهم، و لكن التوفيق بيد اللّه. فَما أَغْنى‏ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَ لا أَبْصارُهُمْ وَ لا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ لا قليل و لا كثير. إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ‏ الدالة على توحيده و إفراده بالعبادة. وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ‏ ، أي: نزل بهم العذاب، الذي يكذبون بوقوعه، و يستهزئون بالرسل الّذين حذروهم منه.

[27- 28] يحذر تعالى مشركي العرب و غيرهم، بإهلاك الأمم المكذبين، الّذين هم حول ديارهم، بل كثير منهم في جزيرة العرب، كعاد و ثمود و نحوهم، و أن اللّه تعالى صرّف لهم الآيات، أي: نوّعها من كل وجه.

لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏ عما هم عليه من الكفر و التكذيب. فلما لم يؤمنوا أخذهم اللّه أخذ عزيز مقتدر، و لم تنفعهم آلهتهم الّتي يدعون من دون اللّه من شي‏ء، و لهذا قال هنا: فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً ، أي:

يتقربون إليهم، و يتألهونهم لرجاء نفعهم. بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ‏ فلم يجيبوهم و لا دفعوا عنهم‏ وَ ذلِكَ إِفْكُهُمْ وَ ما كانُوا يَفْتَرُونَ‏ من الكذب، الذي يمنون به أنفسهم، حيث يزعمون أنهم على الحقّ، و أن أعمالهم ستنفعهم، فضلت و بطلت.

[29] كان اللّه تعالى قد أرسل رسوله محمدا صلّى اللّه عليه و سلّم إلى الخلق، إنسهم و جنهم، و كان لا بد من إبلاغ الجميع لدعوة النبوة و الرسالة. فالإنس يمكنه، عليه الصلاة و السّلام، دعوتهم و إنذارهم، و أما الجن، فصرفهم اللّه إليه بقدرته، و أرسل إليه‏ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا ، وصّى بعضهم بعضا بذلك. فَلَمَّا قُضِيَ‏ و قد وعوه، و أثّر ذلك فيهم‏ وَلَّوْا إِلى‏ قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ‏ نصحا منهم لهم، و إقامة للحجة عليهم، و قيضهم اللّه، معونة لرسوله صلّى اللّه عليه و سلّم في نشر دعوته في الجن.

[30] قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى‏ لأن كتاب موسى أصل للإنجيل، و عمدة لبني إسرائيل في أحكام الشرع، و إنّما الإنجيل متمم و مكمل و مغير لبعض الأحكام. مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي‏ ، هذا الكتاب الذي سمعناه‏ إِلَى الْحَقِ‏ و هو: الصواب في كل مطلوب و خبر وَ إِلى‏ طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ‏ موصل إلى اللّه، و إلى جنته، من العلم باللّه، و بأحكامه الدينية، و أحكام الجزاء.

[31] فلما مدحوا القرآن و بينوا محله و مرتبته، دعوهم إلى الإيمان‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 946

به، فقالوا: يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ‏ ، أي: الذي لا يدعو إلا إلى ربه، لا يدعوكم إلى غرض من أغراضه، و لا هوى، و إنّما يدعوكم إلى ربكم، ليثيبكم، و يزيل عنكم كل شر و مكروه، و لهذا قالوا: وَ آمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ‏ ، و إذا أجارهم من العذاب الأليم، فما ثمّ بعد ذلك إلا النعيم، فهذا جزاء من أجاب داعي اللّه.

[32] وَ مَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ‏ فإن اللّه على كل شي‏ء قدير، فلا يفوته هارب، و لا يغالبه مغالب. وَ لَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ‏ ، و أيّ ضلال أبلغ من ضلال من نادته الرسل، و وصلت إليه النذر بالآيات البينات، و الحجج المتواترات، فأعرض و استكبر؟

[33] أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى‏ أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى‏ بَلى‏ إِنَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ (33) هذا استدلال منه تعالى على الإعادة بعد الموت، بما هو أبلغ منها، و هو: أنه الذي خلق السماوات و الأرض، على عظمهما و سعتهما، و إتقان خلقهما، من دون أن يكترث بذلك، و لم يعي بخلقهن. فكيف تعجزه إعادتكم بعد موتكم، و هو على كل شي‏ء قدير؟

[34] يخبر تعالى عن حال الكفار الفظيعة عند عرضهم على النار الّتي كانوا يكذبون بها، و أنهم يوبخون، و يقال لهم: أَ لَيْسَ هذا بِالْحَقِ‏ ، فقد حضرتموه و شاهدتموه عيانا؟ قالُوا بَلى‏ وَ رَبِّنا ، فاعترفوا بذنبهم، و تبين كذبهم.

قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ‏ ، أي: عذابا لازما دائما، كما كان كفركم صفة لازمة.

[35] ثمّ أمر تعالى رسوله، أن يصبر على أذية المكذبين المعادين له، و أن لا يزال داعيا لهم إلى اللّه، و أن يقتدي بصبر أولي العزم من المرسلين، سادات الخلق، أولي العزائم و الهمم العالية، الذي عظم صبرهم، و تم يقينهم، فهم أحق الخلق بالأسوة بهم، و القفو لآثارهم، و الاهتداء بمنارهم. فامتثل صلّى اللّه عليه و سلّم لأمر ربه، فصبر صبرا لم يصبره نبي قبله، حتى رماه المعاندون له عن قوس واحدة. قاموا جميعا بصده عن الدعوة إلى اللّه، و فعلوا ما يمكنهم من المعاداة و المحاربة. و هو صلّى اللّه عليه و سلّم لم يزل صادعا بأمر اللّه، و مقيما على جهاد أعداء اللّه، صابرا على ما يناله من الأذى، حتى مكّن اللّه له في الأرض، و أظهر دينه على سائر الأديان، و أمته على سائر الأمم، فصلى اللّه عليه و سلّم تسليما. و قوله: وَ لا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ‏ ، أي:

المكذبين المستعجلين للعذاب، فإن هذا من جهلهم و حمقهم، فلا يستخفنك جهلهم و لا يحملك ما ترى من استعجالهم على أن تدعو اللّه عليهم بذلك، فإن كل ما هو آت قريب. كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا في الدنيا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ ، فلا يحزنك تمتعهم القليل و هم صائرون إلى العذاب الوبيل. بَلاغٌ‏ ، أي: هذه الدنيا، متاعها و شهوتها و لذاتها بلغة منغصة، و دفع وقت حاضر قليل. و هذا القرآن العظيم، الذي بيّنّا لكم فيه البيان التام، بلاغ لكم، و زاد إلى الدار الآخرة. و نعم الزاد و البلغة، زاد يوصل إلى دار النعيم، و يعصم من العذاب الأليم، فهو أفضل زاد يتزوده الخلائق، و أجلّ نعمة أنعم اللّه بها عليهم. فَهَلْ يُهْلَكُ‏ بالعقوبات‏ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ‏ ، أي:

الّذين لا خير فيهم، و قد خرجوا عن طاعة ربهم، و لم يقبلوا الحقّ الذي جاءتهم به الرسل. و أعذر اللّه لهم، و أنذرهم، فاستمروا على تكذيبهم و كفرهم، نسأل اللّه العصمة. تم تفسير سورة الأحقاف- بحول اللّه و توفيقه.

تيسير الكريم الرحمن، ص: 947

سورة محمد

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

[1] هذه الآيات مشتملات على ذكر ثواب المؤمنين و عقاب العاصين، و السبب في ذلك دعوة الخلق إلى الاعتبار بذلك، فقال: الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ‏ و هؤلاء رؤساء الكفر، و أئمة الضلال الّذين جمعوا بين الكفر باللّه و آياته، و الصد لأنفسهم و غيرهم عن سبيل اللّه، الّتي هي الإيمان بما دعت إليه الرسل و اتباعه. فهؤلاء أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ‏ ، أي: أبطلها و أشقاهم بسببها، و هذا يشمل أعمالهم الّتي عملوها ليكيدوا بها الحقّ، و أولياء اللّه. إن اللّه جعل كيدهم في نحورهم، فلم يدركوا مما قصدوا شيئا، و أعمالهم الّتي يرجون أن يثابوا عليها، إن اللّه سيحبطها عليهم، و السبب في ذلك أنهم اتبعوا الباطل، و هو: كل غاية لا يراد بها وجه اللّه من عبادة الأصنام و الأوثان. و الأعمال الّتي في نصر الباطل لما كانت باطلة، كانت الأعمال لأجلها باطلة.

[2] وَ الَّذِينَ آمَنُوا بما أنزل اللّه على رسله عموما، و على محمد صلّى اللّه عليه و سلّم خصوصا، وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ‏ بأن قاموا بما عليهم من حقوق اللّه، و حقوق العباد الواجبة و المستحبة. كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ‏ صغارها و كبارها، و إذا كفّرت سيئاتهم، نجوا من عذاب الدنيا و الآخرة. وَ أَصْلَحَ بالَهُمْ‏ ، أي: أصلح دينهم و دنياهم، و قلوبهم و أعمالهم، و أصلح ثوابهم، بتنميته و تزكيته، و أصلح جميع أحوالهم، و السبب في ذلك أنهم:

[3] اتَّبَعُوا الْحَقَ‏ الذي هو الصدق و اليقين، و ما اشتمل عليه هذا القرآن العظيم الصادر مِنْ رَبِّهِمْ‏ الذي رباهم بنعمته، و دبرهم بلطفه فرباهم تعالى بالحق، فاتبعوه، فصلحت أمورهم. فلما كانت الغاية المقصودة لهم، متعلقة بالحق المنسوب إلى اللّه الباقي، الحقّ المبين، كانت الوسيلة صالحة باقية، باقيا ثوابها. كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ‏ حيث بيّن لهم تعالى أهل الخير و أهل الشر، و ذكر لكل منهم صفة يعرفون بها و يتميزون‏ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى‏ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ .

[4] يقول تعالى- مرشدا عباده إلى ما فيه صلاحهم، و نصرهم على أعدائهم-: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فى الحرب و القتال، فاصدقوهم القتال، و اضربوا منهم الأعناق. حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ‏ و كسرتم شوكتهم، و رأيتم الأسر أولى و أصلح، فَشُدُّوا الْوَثاقَ‏ ، أي: الرباط، و هذا احتياط لأسرهم لئلا يهربوا، فإذا اشتد منهم الوثاق اطمأن المسلمون من حربهم، و من شرهم. فإذا كانوا تحت أسركم، فأنتم بالخيار بين المنّ عليهم، و إطلاقهم بلا مال. فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمَّا فِداءً بأن لا تطلقوهم حتى يشتروا أنفسهم، أو يشتريهم أصحابهم بمال، أو بأسير مسلم عندهم. و هذا الأمر مستمر حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ، أي: حتى لا يبقى حرب. و تبقون في المسألة و المهادنة، فإن لكل مقام مقالا، و لكل حال حكما، فالحال المتقدمة، إنّما هي إذا كان قتال و حرب. فإذا كان في بعض الأوقات، لا حرب فيه لسبب من الأسباب، فلا قتل و لا أسر. ذلِكَ‏ الحكم المذكور في ابتلاء المؤمنين بالكافرين، و مداولة الأيام بينهم، و انتصار بعضهم على بعض‏ وَ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ‏ ، فإنه تعالى على كل شي‏ء قدير، و قادر على أن لا ينتصر

تيسير الكريم الرحمن، ص: 948

الكفار في موضع واحد أبدا، حتى يبيد المسلمون خضراءهم. وَ لكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ‏ ليقوم سوق الجهاد، و تتبين بذلك أحوال العباد، الصادق من الكاذب، و ليؤمن من آمن إيمانا صحيحا، عن تبصرة، لا إيمانا مبنيا على متابعة أهل الغلبة، فإنه إيمان ضعيف جدا، لا يستمر لصاحبه عند المحن و البلايا. وَ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏ لهم ثواب جزيل، و أجر جميل، و هم الّذين قاتلوا من أمروا بقتالهم، لتكون كلمة اللّه هي العليا. فَلَنْ يُضِلَ‏ اللّه‏ أَعْمالَهُمْ‏ ، أي: لن يحبطها و يبطلها، بل يتقبلها و ينميها لهم، و يظهر من أعمالهم نتائجها، في الدنيا و الآخرة.

[5] سَيَهْدِيهِمْ‏ إلى سلوك الطريق الموصلة إلى الجنة، وَ يُصْلِحُ بالَهُمْ‏ ، أي: حالهم و أمورهم، و ثوابهم يكون صالحا كاملا لا نكد فيه، و لا تنغيص، بوجه من الوجوه.

[6] وَ يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ‏ (6)، أي: عرفها أولا، بأن شوّقهم إليها، و نعتها لهم، و ذكر لهم الأعمال الموصلة إليه، الّتي من جملتها الشهادة في سبيل اللّه، و وفقهم للقيام بما أمرهم به و رغّبهم فيه، ثمّ إذا دخلوا الجنة، عرفهم منازلهم، و ما احتوت عليه من النعيم المقيم، و العيش السليم.

[7] هذا أمر منه تعالى للمؤمنين، أن ينصروا اللّه بالقيام بدينه، و الدعوة إليه، و جهاد أعدائه، و أن يقصدوا بذلك وجه اللّه، فإنّهم إذا فعلوا ذلك، نصرهم و ثبّت أقدامهم، أي: يربط على قلوبهم بالصبر، و الطمأنينة و الثبات، و يصبر أجسادهم على ذلك، و يعينهم على أعدائهم. فهذا وعد من كريم صادق الوعد، أن الذي ينصره بالأقوال و الأفعال سينصره مولاه، و ييسر له أسباب النصر، من الثبات و غيره.

[8] و أما الّذين كفروا بربهم، و نصروا الباطل، فَتَعْساً لَهُمْ‏ فإنهم في تعس، أي: انتكاس من أمرهم و خذلان. وَ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ‏ ، أي: أبطل أعمالهم الّتي يكيدون بها الحقّ، فرجع كيدهم في نحورهم، و بطلت أعمالهم الّتي يزعمون أنهم يريدون بها وجه اللّه.

[9] ذلك الإضلال و التعس، للذين كفروا، بسبب أنهم‏ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ‏ من القرآن الذي أنزله، صلاحا للعباد، و فلاحا لهم، فلم يقبلوه، بل أبغضوه و كرهوه‏ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ‏ .

[10] أي: أفلا يسير هؤلاء المكذبون بالرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ‏ ، فإنهم لا يجدون عاقبتهم إلا شر العواقب. فإنهم لا يلتفتون يمنة و لا يسرة إلا وجدوا من كان قبلهم قد بادوا و هلكوا، و استأصلهم التكذيب و الكفر، فخمدوا، و دمّر اللّه عليهم أموالهم و ديارهم، بل دمر أعمالهم و مكرهم. و للكافرين في كل زمان و مكان، أمثال هذه العواقب الوخيمة، و العقوبات الذميمة. و أما المؤمنون، فإن اللّه تعالى ينجيهم من العذاب، و يجزل لهم كثير الثواب.

[11] ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا فتولاهم برحمته، فأخرجهم من الظلمات إلى النور، و تولى جزاءهم، و نصرهم. وَ أَنَّ الْكافِرِينَ‏ باللّه تعالى، حيث قطعوا عنهم ولاية اللّه، و سدوا على أنفسهم رحمته‏ لا مَوْلى‏ لَهُمْ‏ يهديهم إلى سبل السّلام، و لا ينجيهم من عذاب اللّه و عقابه. بل أولياؤهم الطاغوت، يخرجونهم من النور إلى الظلمات، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.

[12] لما ذكر تعالى أنه ولي المؤمنين، ذكر ما يفعل بهم في الآخرة، من دخول الجنات، الّتي تجري من تحتها

تيسير الكريم الرحمن، ص: 949

الأنهار، الّتي تسقي تلك البساتين الزاهرة، و الأشجار الناضرة المثمرة، بكل زوج بهيج، و كل فاكهة لذيذة. و لما ذكر أن الكافرين لا مولى لهم، ذكر أنهم وكلوا إلى أنفسهم، فلم يتصفوا بصفات المروءة، و لا الصفات الإنسانية. بل نزلوا عنها دركات، و صاروا كالأنعام، الّتي لا عقل لها و لا فضل، بل جلّ همهم و مقصدهم التمتع بلذات الدنيا و شهواتها، فترى حركاتهم الظاهرة و الباطنة، دائرة حولها، غير متعدية لها إلى ما فيه الخير و السعادة، و لهذا كانت النار مثوى لهم، أي: منزلا معدا، لا يخرجون منها، و لا يفتر عنهم من عذابها.

[13] أي: و كم من قرية من قرى المكذبين، هي أشد قوة من قريتك، في الأموال و الأولاد و الأعوان، و الأبنية و الآلات. أَهْلَكْناهُمْ‏ ، حين كذبوا رسلنا، و لم تفد فيهم المواعظ، فلا تجد لهم ناصرا، و لم تغن عنهم قوتهم من عذاب اللّه شيئا. فكيف حال هؤلاء الضعفاء، أهل قريتك، إذا أخرجوك عن وطنك و كذبوك، و عادوك و أنت أفضل المرسلين، و خير الأولين و الآخرين؟ أ ليسوا بأحق من غيرهم بالإهلاك و العقوبة، لو لا أن اللّه تعالى بعث رسوله بالرحمة و التأني، بكل كافر و جاحد؟

[14] أي: لا يستوي من هو على بصيرة من أمر دينه، علما و عملا، قد علم الحقّ و اتبعه، و رجا ما وعده اللّه لأهل الحقّ، كمن هو أعمى القلب، قد رفض الحقّ و أضله، و اتبع هواه بغير هدى من اللّه، و مع ذلك، يرى أن ما هو عليه هو الحقّ، فما أبعد الفرق بين الفريقين و ما أعظم التفاوت بين الطائفتين، أهل الحقّ و أهل الغيّ.

[15] مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ‏ ، أي: الّتي أعدها اللّه لعباده، الّذين اتقوا سخطه، و اتبعوا رضوانه، أنها من نعتها، و صفتها الجميلة. فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ‏ ، أي: غير متغير، لا بوخم و لا بريح منتنة، و لا بحرارة، و لا بكدورة، بل هو أعذب المياه و أصفاها، و أطيبها ريحا، و ألذها شربا. وَ أَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ‏ بحموضة و لا غيرها، وَ أَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ‏ ، أي: يلتذ بها لذة عظيمة، لا كخمر الدنيا الّتي يكره مذاقها و تصدع الرأس، و تغول العقل. وَ أَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى‏ من شمعه و سائر أوساخه. وَ لَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ‏ من نخيل، و عنب، و تفاح، و رمان، و أترج، و تين، و غير ذلك مما لا نظير له في الدنيا، فهذا المحبوب المطلوب قد حصل لهم. ثمّ قال: وَ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ‏ يزول بها عنهم المرهوب، فهؤلاء خير أم‏ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ الّتي اشتد حرها، و تضاعف عذابها، وَ سُقُوا فيها ماءً حَمِيماً ، أي: حارا جدا، فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ‏ . فسبحان من فاوت بين الدارين و الجزاءين و العاملين و العملين.

[16] يقول تعالى: و من المنافقين‏ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ‏ ما تقول استماعا، لا عن قبول و انقياد، بل معرضة قلوبهم عنه، و لهذا قال: حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ‏ مستفهمين عما قلت، و ما سمعوا، مما لم يكن لهم فيه رغبة ما ذا قالَ آنِفاً ، أي: قريبا. و هذا في غاية الذم لهم، فإنهم لو كانوا حريصين على الخير لألقوا إليه أسماعهم، و وعته قلوبهم، و انقادت له جوارحهم، و لكنهم بعكس هذه الحال، و لهذا قال: أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ‏ ،

تيسير الكريم الرحمن، ص: 950

أي: ختم عليها، و سد أبواب الخير التي تصل إليها بسبب اتباعهم أهواءهم، التي لا يهوون فيها إلا الباطل. ثم بين حال المهتدين، فقال:

[17] وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا بالإيمان و الانقياد، و اتباع ما يرضي اللّه‏ زادَهُمْ هُدىً‏ شكرا منه تعالى على ذلك، وَ آتاهُمْ تَقْواهُمْ‏ ، أي: وفقهم للخير، و حفظهم من الشر، فذكر للمهتدين جزاءين: العلم النافع، و العمل الصالح.

[18] أي: فهل ينظر هؤلاء المكذبون أو ينتظرون‏ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً ، أي: فجأة، و هم لا يشعرون‏ فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها ، أي: علاماتها الدالة على قربها. فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ‏ ، أي: من أين لهم، إذا جاءتهم الساعة و انقطعت آجالهم أن يتذكروا و يستعتبوا؟ فقد فات ذلك، و ذهب وقت التذكر، فقد عمروا ما يتذكر فيه من تذكر، و جاءهم النذير. ففي هذا الحث على الاستعداد قبل مفاجأة الموت، فإن موت الإنسان قيام ساعته.

[19] العلم لا بد فيه من إقرار القلب و معرفته، بمعنى ما طلب منه علمه، و تمامه أن يعمل بمقتضاه. و هذا العلم الذي أمر اللّه به- و هو العلم بتوحيد اللّه- فرض عين على كل إنسان، لا يسقط عن أحد، كائنا من كان، بل كلّ مضطر إلى ذلك. و الطريق إلى العلم بأنه لا إله إلا اللّه، أمور:

صفحه بعد