کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تيسير الكريم الرحمن

سورة الفاتحة سورة آل عمران سورة المائدة سورة الأنعام تفسير سورة الأعراف تفسير سورة الأنفال تفسير سورة التوبة تفسير سورة يونس تفسير سورة هود تفسير سورة الرعد سورة إبراهيم تفسير سورة الحجر سورة النحل سورة الإسراء سورة الكهف تفسير سورة مريم سورة طه تفسير سورة الأنبياء تفسير سورة الحج تفسير سورة المؤمنون تفسير سورة النور تفسير سورة الفرقان تفسير سورة الشعراء تفسير سورة النمل تفسير سورة العنكبوت تفسير سورة الروم تفسير سورة لقمان تفسير سورة السجدة سورة الأحزاب سورة سبأ تفسير سورة فاطر تفسير سورة يس تفسير سورة الصافات تفسير سورة الزمر تفسير سورة فصلت سورة الشورى سورة الزخرف تفسير سورة الدخان سورة الجاثية سورة الأحقاف سورة محمد تفسير سورة الحجرات تفسير سورة ق سورة الطور تفسير سورة النجم سورة القمر سورة الرحمن سورة الواقعة تفسير سورة الحديد تفسير سورة المجادلة تفسير سورة الحشر تفسير سورة الممتحنة تفسير سورة الصف سورة الجمعة تفسير سورة المنافقون تفسير سورة التغابن تفسير سورة الطلاق تفسير سورة التحريم تفسير سورة الملك تفسير سورة القلم سورة الحاقة سورة المعارج سورة نوح سورة الجن تفسير سورة المزمل سورة المدثر تفسير سورة القيامة سورة الإنسان سورة المرسلات تفسير سورة النبأ سورة النازعات سورة عبس تفسير سورة التكوير سورة الإنفطار سورة المطففين تفسير سورة الإنشقاق سورة البروج سورة الطارق سورة الأعلى تفسير سورة الغاشية تفسير سورة الفجر تفسير سورة البلد سورة الشمس سورة الليل تفسير سورة الضحى سورة الشرح سورة التين تفسير سورة العلق سورة القدر تفسير سورة البينة تفسير سورة الزلزلة تفسير سورة العاديات تفسير سورة القارعة سورة التكاثر سورة العصر تفسير سورة الهمزة سورة الفيل تفسير سورة قريش سورة الماعون سورة الكوثر تفسير سورة الكافرون سورة النصر تفسير سورة المسد تفسير سورة الإخلاص سورة الفلق تفسير سورة الناس محتوى تفسير الإمام السعدي

تيسير الكريم الرحمن


صفحه قبل

تيسير الكريم الرحمن، ص: 466

عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ‏ . أما يوسف فظاهر فعلهم فيه، و أما أخوه، فلعله- و اللّه أعلم- قولهم: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ‏ ، أو أن الحادث الذي فرّق بينه و بين أبيه، هم السبب فيه، و الأصل الموجب له، إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ‏ و هذا نوع اعتذار لهم بجهلهم، أو توبيخ لهم إذ فعلوا فعل الجاهلين، مع أنه لا ينبغي، و لا يليق منهم.

[90] فعرفوا أن الذي خاطبهم، هو يوسف فقالوا:

أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَ هذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بالإيمان و التقوى. و التمكين في الدنيا، و ذلك بسبب الصبر و التقوى، إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَ يَصْبِرْ أي: يتقي فعل ما حرم اللّه، و يصبر على الآلام و المصائب، و على الأوامر، بامتثالها فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ‏ فإن هذا من الإحسان، و اللّه لا يضيع أجر من أحسن عملا.

[91] قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا أي:

فضلك علينا، بمكارم الأخلاق، و محاسن الشيم، و أسأنا إليك غاية الإساءة، و حرصنا على إيصال الأذى إليك، و التبعيد لك عن أبيك، فآثرك اللّه تعالى، و مكنك مما تريده‏ وَ إِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ‏ .

[92] قالَ‏ لهم يوسف عليه السّلام، كرما وجودا: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ‏ أي: لا أثرب عليكم و لا ألومكم‏ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ‏ ، فسمح لهم سماحا تاما، من غير تعيير لهم على ذكر الذنب السابق، و دعا لهم بالمغفرة و الرحمة، و هذا نهاية الإحسان، الذي لا يتأتى إلّا من خواص الخلق، و خيار المصطفين.

[93] أي: قال يوسف عليه السّلام لإخوته: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى‏ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً لأن كل داء يداوى بضده، فهذا القميص- لما كان فيه أثر ريح يوسف، الذي أودع قلب أبيه من الحزن، و الشوق، ما اللّه به عليم- أراد أن يشمه، فترجع إليه روحه، و تتراجع إليه نفسه، و يرجع إليه بصره، و للّه في ذلك حكم و أسرار، لا يطلع عليها العباد، و قد اطلع يوسف من ذلك على هذا الأمر. وَ أْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ‏ أي: أولادكم و عشيرتكم، و توابعكم كلهم، ليحصل تمام اللقاء، و يزول عنكم نكد المعيشة، و ضنك الرزق.

[94] وَ لَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ عن أرض مصر، مقبلة إلى أرض فلسطين، شمّ يعقوب ريح القميص فقال: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ‏ أي: تسخرون مني، و تزعمون أن هذا الكلام صدر مني، من غير شعور، لأنه رأى منهم من التعجب من حاله، ما أوجب له هذا القول، فوقع ما ظنه بهم فقالوا:

[95] تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ‏ أي: لا تزال تائها في بحر لجيّ لا تدري ما تقول.

[96] فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ بقرب الاجتماع بيوسف و إخوته و أبيهم، أَلْقاهُ‏ أي: القميص‏ عَلى‏ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً أي: رجع إلى حاله الأولى بصيرا، بعد أن ابيضت عيناه من الحزن. فقال لمن حضره من أولاده و أهله، الّذين كانوا يفندون رأيه، و يتعجبون منه منتصرا عليهم، مغتبطا بنعمة اللّه عليه: أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ‏ حيث كنت مترجيا للقاء يوسف، مترقبا لزوال الهم و الغم و الحزن.

[97] فأقروا بذنبهم و قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ‏ (97) حيث فعلنا معك ما فعلنا.

تيسير الكريم الرحمن، ص: 467

[98] قالَ‏ مجيبا لطلبهم، و مسرعا لإجابتهم:

سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ‏ و رجائي به، أن يغفر لكم، و يرحمكم، و يتغمدكم برحمته، و قد قيل:

إنه أخر الاستغفار لهم إلى وقت السحر الفاضل، ليكون أتمّ للاستغفار، و أقرب للإجابة.

[99] أي: فَلَمَّا تجهز يعقوب و أولاده و أهلهم أجمعون، و ارتحلوا من بلادهم، قاصدين الوصول إلى يوسف في مصر و سكناها، فلما وصلوا إليه، و دَخَلُوا عَلى‏ يُوسُفَ آوى‏ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ‏ أي: ضمهما إليه، و اختصهما بقربه، و أبدى لهما من البر و الإحسان، و التبجيل و الإعظام شيئا عظيما، وَ قالَ‏ لجميع أهله: ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ‏ من جميع المكاره و المخاوف، فدخلوا في هذه الحال السارة، و زال عنهم النصب و نكد المعيشة، و حصل السرور و البهجة.

[100] وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ‏ أي: على سرير الملك، و مجلس العز، وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً أي: أبوه، و أمه، و إخوته، سجودا على وجه التعظيم و التبجيل و الإكرام، وَ قالَ‏ لما رأى هذه الحال، و رأى سجودهم له: يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ‏ حين رأى أحد عشر كوكبا، و الشمس و القمر له ساجدين، فهذا وقوعها، الذي آلت إليه و وصلت‏ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا فلم يجعلها أضغاث أحلام. وَ قَدْ أَحْسَنَ بِي‏ إحسانا جسيما إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَ جاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ ، و هذا من لطفه، و حسن خطابه، عليه السّلام، حيث ذكر حاله في السجن، و لم يذكر حاله في الجب، لتمام عفوه عن إخوته، و أنه لا يذكر ذلك الذنب، و أن إتيانكم من البادية، من إحسان اللّه. فلم يقل: جاء بكم من الجوع و النصب، و لا قال: «أحسن بكم» بل قال: أَحْسَنَ بِي‏ ، جعل الإحسان، عائدا إليه، فتبارك من يختص برحمته من يشاء من عباده، و يهب لهم من لدنه رحمة، إنه هو الوهاب.

مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَ بَيْنَ إِخْوَتِي‏ فلم يقل «نزع الشيطان إخوتي» بل كأن الذنب و الجهل، صدر من الطرفين، فالحمد للّه، الذي أخزى الشيطان و دحره، و جمعنا بعد تلك الفرقة الشاقة. إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ يوصل بره و إحسانه إلى العبد، من حيث لا يشعر، و يوصله إلى المنازل الرفيعة من أمور يكرهها، إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ‏ الذي يعلم ظواهر الأمور و بواطنها، و سرائر العباد و ضمائرهم، الْحَكِيمُ‏ في وضعه الأشياء مواضعها، و سوقه الأمور إلى أوقاتها المقدرة لها.

[101] لما أتم اللّه ليوسف ما أتم من التمكين في الأرض و الملك، و أقر عينه بأبويه و إخوته و بعد العلم العظيم الذي أعطاه اللّه إياه، فقال مقرا بنعمة اللّه شاكرا لها داعيا بالثبات على الإسلام: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ‏ و ذلك أنه كان على خزائن الأرض و تدبيرها و وزيرا كبيرا للملك‏ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ‏ أي: من تأويل أحاديث الكتب المنزلة و تأويل الرؤيا و غير ذلك من العلم‏ فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً أي: أدم علي الإسلام و ثبتني عليه حتى تتوفاني عليه، و لم يكن هذا دعاء باستعجال الموت، وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ‏ من الأنبياء الأبرار و الأصفياء الأخيار.

تيسير الكريم الرحمن، ص: 468

[102] لما قص اللّه هذه القصة على محمد صلّى اللّه عليه و سلم قال اللّه له: ذلِكَ‏ النبأ الذي أخبرناك به‏ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ‏ و لو لا إيجاؤنا إليك، لما وصل إليك هذا الخبر الجليل، وَ أنك‏ ما كُنْتَ‏ حاضرا لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ‏ أي: إخوة يوسف‏ وَ هُمْ يَمْكُرُونَ‏ به، حين تعاقدوا على التفريق بينه و بين أبيه، في حالة لا يطلع عليها إلّا اللّه تعالى، و لا يمكن أحدا أن يصل إلى علمها، إلّا بتعليم اللّه له إياها. كما قال تعالى لما قص قصة موسى، و ما جرى له، ذكر الحال التي لا سبيل للخلق إلى علمها إلّا بوحيه فقال:

وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى‏ مُوسَى الْأَمْرَ وَ ما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ‏ (44) الآيات، فهذا أدل دليل، على أن ما جاء به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم حق و صدق.

[103] يقول تعالى لنبيه محمد صلّى اللّه عليه و سلم: وَ ما أَكْثَرُ النَّاسِ وَ لَوْ حَرَصْتَ‏ على إيمانهم‏ بِمُؤْمِنِينَ‏ فإن مداركهم و مقاصدهم، قد أصبحت فاسدة، فلا ينفعهم حرص الناصحين عليهم، و لو عدمت الموانع، بأنهم كانوا يعلمونهم، و يدعونهم إلى ما فيه الخير لهم، و دفع الشر عنهم، من غير أجر و لا عوض، و لو أقاموا لهم من الشواهد و الآيات الدالات على صدقهم ما أقاموا.

[104] و لهذا قال: وَ ما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ‏ (104) يتذكرون به ما ينفعهم، ليفعلوه، و ما يضرهم ليتركوه.

[105] وَ كَأَيِّنْ‏ أي: و كم‏ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها دالة لهم على توحيد اللّه‏ وَ هُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ‏ .

[106] و مع هذا وَ إن وجد منهم بعض الإيمان‏ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ‏ (106)، فهم و إن أقروا بربوبية اللّه تعالى، و أنه الخالق الرازق المدبر لجميع الأمور، فإنهم يشركون في ألوهية اللّه و توحيده، فهؤلاء الّذين وصلوا إلى هذه الحال، لم يبق عليهم إلّا أن يحل بهم العذاب، و يفاجئهم العقاب و هم آمنون.

[107] و لهذا قال: أَ فَأَمِنُوا أي: الفاعلون لتلك الأفعال، المعرضون عن آيات اللّه‏ أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ‏ أي: عذاب، يغشاهم و يعمهم، و يستأصلهم، أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أي: فجأة وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ‏ أي:

فإنهم قد استوجبوا ذلك، فليتوبوا إلى اللّه، و ليتركوا ما يكون سببا في عقابهم.

[108] يقول تعالى لنبيه محمد صلّى اللّه عليه و سلم: قُلْ‏ للناس‏ هذِهِ سَبِيلِي‏ أي: طريقي، التي أدعو إليها، و هي السبيل الموصلة إلى اللّه، و إلى دار كرامته، المتضمنة للعلم بالحق، و العمل به، و إيثاره و إخلاص الدين للّه وحده لا شريك له، أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ‏ أي: أحثّ الخلق و العباد، على الوصول إلى ربهم، و أرهبهم في ذلك، و أرغبهم مما يبعدهم عنه. و مع هذا، فأنا عَلى‏ بَصِيرَةٍ من ديني، أي: على علم و يقين، من غير شك و لا امتراء، و لا مرية، أَنَا وَ كذلك‏ مَنِ اتَّبَعَنِي‏ يدعو إلى اللّه، كما أدعوه، على بصيرة من أمره، وَ سُبْحانَ اللَّهِ‏ عما ينسب إليه، مما لا يليق بجلاله، أو ينافي كماله. وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏ في جميع أموري، بل أعبد اللّه، مخلصا له الدين.

تيسير الكريم الرحمن، ص: 469

[109] ثم قال تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا أي: لم نرسل ملائكة و لا غيرهم من أصناف الخلق، فلأي شي‏ء يستغرب قومك رسالتك و يزعمون أنه ليس عليهم فضل. فلك فيمن قبلك من المرسلين أسوة حسنة نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى‏ أي: لا من البادية، بل من أهل القرى، الّذين هم أكمل عقولا، و أصح آراء، و ليتبين أمرهم، و يتضح شأنهم. أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ‏ إذا لم يصدقوا لقولك، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ‏ كيف أهلكهم اللّه بتكذيبهم، فاحذروا، أن تقيموا على ما قاموا عليه، فيصيبكم ما أصابهم، وَ لَدارُ الْآخِرَةِ أي: الجنة و ما فيها، من النعيم المقيم، خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا اللّه، في امتثال أوامره، و اجتناب نواهيه، فإن نعيم الدنيا منغص منكد، منقطع. و نعيم الآخرة، تام كامل، لا يفنى أبدا، بل هو على الدوام، في تزايد و تواصل، «عطاء غير مجذوذ» أَ فَلا تَعْقِلُونَ‏ أي: أفلا تكون لكم عقول، تؤثر الذي هو خير، على الأدنى.

[110] يخبر تعالى: أنه يرسل الرسل الكرام، فيكذبهم القوم المجرمون اللئام، و أن اللّه تعالى يمهلهم، ليرجعوا إلى الحق، و لا يزال اللّه يمهلهم حتى إنه تصل الحال إلى غاية الشدة منهم على الرسل. حتى إن الرسل- على كمال يقينهم، و شدة تصديقهم بوعد اللّه و وعيده- ربما أنه يخطر بقلوبهم، نوع من الإياس، و نوع من ضعف العلم و التصديق، فإذا بلغ الأمر هذه الحال‏ جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ و هم الرسل و أتباعهم، وَ لا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ‏ أي: و لا يرد عذابنا، عمن اجترم، و تجرأ على اللّه‏ فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَ لا ناصِرٍ .

[111] لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ‏ أي: قصص الأنبياء و الرسل مع قومهم، عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ‏ أي:

يعتبرون بها، أهل الخير، و أهل الشر، و أن من فعل مثل فعلهم، ناله ما نالهم، من كرامة، أو إهانة، و يعتبرون بها أيضا، ما للّه من صفات الكمال و الحكمة العظيمة، و أنه اللّه، الذي لا تنبغي العبادة إلّا له، وحده لا شريك له.

و قوله: ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى‏ أي: ما كان هذا القرآن، الذي قص اللّه به عليكم من أنباء الغيب ما قص، من الأحاديث المفتراة المختلقة، وَ لكِنْ‏ كان‏ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ‏ من الكتب السابقة، يوافقها، و يشهد لها بالصحة، وَ تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْ‏ءٍ يحتاج إليه العباد، من أصول الدين و فروعه، و من الأدلة و البراهين. وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏ فإنهم- بسبب ما يحصل لهم به من العلم بالحق و إيثاره- يحصل لهم الهدى، و بما يحصل لهم من الثواب العاجل و الآجل، تحصل لهم الرحمة.

فصل‏

في ذكر شي‏ء من العبر و الفوائد التي اشتملت عليها هذه القصة العظيمة التي قال اللّه في أولها: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ‏ و قال: * لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَ إِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ‏ (7) و قال في آخرها: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ‏ غير ما تقدم في مطاويها من الفوائد. فمن ذلك، أن هذه القصة، من أحسن القصص و أوضحها، و أبينها، لما فيها من أنواع التنقلات، من حال إلى حال، و من محنة إلى منحة، و من محنة إلى منحة و منّة،

تيسير الكريم الرحمن، ص: 470

و من ذل إلى عز و من رقّ إلى ملك، و من فرقة و شتات، إلى اجتماع و ائتلاف، و من حزن إلى سرور، و من رخاء إلى جدب، و من جدب إلى رخاء، و من ضيق إلى سعة، و من إنكار إلى قرار، فتبارك من قصها، فأحسنها، و وضحها و بيّنها. و منها: أن فيها أصلا لتعبير الرؤيا، فإن علم التعبير، من العلوم المهمة، التي يعطيها اللّه من يشاء من عباده، و إن أغلب ما تبنى عليه، المناسبة و المشابهة في الاسم و الصفة، فإن رؤيا يوسف، التي رأى فيها الشمس و القمر، و أحد عشر كوكبا له ساجدين، وجه المناسبة فيها: أن هذه الأنوار، هي زينة السماء و جمالها، و بها منافعها. فكذلك الأنبياء و العلماء، زينة للأرض و جمال، و بهم يهتدى في الظلمات، كما يهتدى بهذه الأنوار، و لأن الأصل أبوه و أمه، و إخوته هم الفرع، فمن المناسب أن يكون الأصل، أعظم نورا، و جرما، لما هو فرع عنه. فلذلك كانت الشمس أمه، و القمر أباه، و الكواكب إخوته. و من المناسبة أن الشمس، لفظ مؤنث، فلذلك كانت أمه، و القمر و الكواكب، مذاكرات، فكانت لأبيه و إخوته. و من المناسبة، أن الساجد معظم محترم للمسجود له، و المسجود له معظم محترم، فلذلك، دل ذلك، على أن يوسف يكون معظما محترما، عند أبويه و إخوته. و من لازم ذلك، أن يكون مجتبى مفضلا، في العلم و الفضائل، الموجبة لذلك. و لذلك قال أبوه: وَ كَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَ يُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ‏ . و من المناسبة في رؤيا الفتيين، أن الرؤيا الأولى، التي رأى صاحبها، أنه يعصر خمرا، أن الذي يعصر خمرا في العادة، يكون خادما لغيره، و العصر يقصد لغيره، فلذلك أوّله بما يؤول إليه، أنه يسقي ربه، و ذلك متضمن لخروجه من السجن. و أوّل رؤيا الآخر، أي: أنه يحمل فوق رأسه خبزا، تأكل الطير منه، بأن جلدة رأسه و لحمه، و ما في ذلك من إلخ، أنه هو الذي يحمل، و أنه سيبرز للطيور، بمحل تتمكن من الأكل من رأسه، فرأى من حاله أنه سيقتل و يصلب بعد موته فيبرز للطيور فتأكل من رأسه، و ذلك لا يكون إلّا بالصلب بعد القتل. و أوّل رؤيا الملك، للبقرات و السنبلات، بالسنين المخصبة، و السنين المجدبة، و وجه المناسبة، أن الملك، به ترتبط أحوال الرعية و مصالحها، و بصلاحه تصلح، و بفساده تفسد، و كذلك السنون، بها صلاح أحوال الرعية، و استقامة أمر المعاش، أو عدمه. و أما البقر، فإنها تحرث الأرض عليها، و يستقى عليها الماء، و إذا أخصبت السنة، سمنت، و إذا أجدبت، صارت عجافا، و كذلك السنابل في الخصب، تكثر و تخضر، و في الجدب، تقل و تيبس و هي أفضل غلال الأرض. و منها: ما فيها من الأدلة، على صحة نبوة محمد صلّى اللّه عليه و سلم، حيث قص على قومه هذه القصة الطويلة، و هو لم يقرأ كتب الأولين، و لا دارس أحدا. يراه قومه، بين أظهرهم، صباحا و مساء، و هو أمّيّ لا يخط و لا يقرأ، و هي موافقة، لما في الكتب السابقة، و ما كان لديهم، إذ أجمعوا أمرهم و هم يمكرون. و منها: أنه ينبغي البعد عن أسباب الشر، و كتمان ما تخشى مضرته، لقول يعقوب ليوسف: لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى‏ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً ، و منها: أنه يجوز ذكر الإنسان بما يكره على وجه النصيحة لغيره لقوله: فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً . و منها: أن نعمة اللّه على العبد، نعمة على من يتعلق به، من أهل بيته، و أقاربه، و أصحابه، و أنه ربما شملهم، و حصل لهم ما حصل له سببه، كما قال يعقوب في تفسيره لرؤيا يوسف‏ وَ كَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَ يُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ عَلى‏ آلِ يَعْقُوبَ‏ ، و لما تمت النعمة على يوسف، حصل لآل يعقوب، من العز و التمكين في الأرض، و السرور و الغبطة، ما حصل بسبب يوسف. و منها: أن العدل مطلوب في كل الأمور، لا في معاملة السلطان رعيته فقط، و لا فيما دونه، بل حتى في معاملة الوالد لأولاده، في المحبة و الإيثار، و غيره، و أن في الإخلال بذلك، يختل عليه الأمر، و تفسد الأحوال. و لهذا، لما قدم يعقوب يوسف في المحبة، و آثره على إخوته، جرى منهم ما جرى على أنفسهم، و على أبيهم و أخيهم. و منها: الحذر من شؤم الذنوب، و أن الذنب الواحد يستتبع ذنوبا متعددة، و لا يتم لفاعله، إلّا بعد جرائم. فإخوة يوسف، لما أرادوا التفريق بينه و بين أبيه، احتالوا لذلك بأنواع من الحيل‏

، و كذبوا عدة مرات، و زوروا على أبيهم في القميص و الدم، الذي فيه، و في إتيانهم عشاء يبكون، و لا تستبعد أنه قد كثر البحث فيها، في‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 471

تلك المدة، بل لعل ذلك اتصل إلى أن اجتمعوا بيوسف، و كلما صار البحث، حصل من الإخبار بالكذب، و الافتراء، ما حصل، و هذا شؤم الذنب، و آثاره التابعة، و السابقة، و اللاحقة. و منها: أن العبرة في حال العبد، بكمال النهاية، لا بنقص البداية، فإن أولاد يعقوب، عليه السّلام، جرى منهم ما جرى، في أول الأمر، مما هو أكبر أسباب النقص و اللوم، ثم انتهى أمرهم إلى التوبة النصوح، و السماح التام، من يوسف، و من أبيهم، و الدعاء بالمغفرة و الرحمة، و إذا سمح العبد عن حقه، فاللّه خير الراحمين. و لهذا- في أصح الأقوال- أنهم كانوا أنبياء لقوله تعالى: وَ أَوْحَيْنا إِلى‏ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ ، و الأسباط هم: أولاد يعقوب الاثنا عشر، و ذريتهم. و مما يدل على ذلك، أن في رؤيا يوسف، أنه رآهم كواكب نيرة، و الكواكب فيها النور و الهداية، و ذلك من صفات الأنبياء، فإن لم يكونوا أنبياء، فإنهم علماء هداة. و منها: ما منّ اللّه به على يوسف، عليه الصلاة و السّلام، من العلم، و الحلم، و مكارم الأخلاق، و الدعوة إلى اللّه، و إلى دينه، و عفوه عن إخوته الخاطئين، عفوا بادرهم به، و تم ذلك بأن لا يثرب عليهم، و لا يعيرهم به. ثمّ برّه العظيم بأبويه، و إحسانه لإخوته، بل لعموم الخلق. و منها: أن بعض الشر، أهون من بعض، و ارتكاب أخف الضررين، أولى من ارتكاب أعظمهما، فإن إخوة يوسف، لما اتفقوا على قتل يوسف، أو إلقائه أرضا و قال قائل منهم: لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَ أَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ‏ كان قوله أحسن منهم و أخف، و بسببه خف عن إخوته الإثم الكبير. و منها: أن الشي‏ء إذا تداولته الأيدي، و صار من جملة الأموال، و لم يعلم أنه كان على غير الشرع، أنه لا إثم على من باشره، ببيع، أو شراء، أو خدمة، أو انتفاع، أو استعمال. فإن يوسف عليه السّلام، باعه إخوته بيعا حراما، لا يجوز. ثمّ ذهبت به السيارة إلى مصر، فباعوه بها، و بقي عند سيده غلاما رقيقا، و سماه اللّه سيدا، و كان عندهم بمنزلة الغلام الرقيق المكرم. و منها: الحذر من الخلوة بالنساء، اللائي يخشى منهن الفتنة، و الحذر أيضا من المحبة، التي يخشى ضررها. فإن امرأة العزيز، جرى منها ما جرى، بسبب انفرادها بيوسف، و حبها الشديد له، الذي ما تركها، حتى راودته تلك المراودة، ثمّ كذبت عليه، فسجن- بسببها- مدة طويلة. و منها: أن الهمّ الذي، همّ به يوسف بالمرأة، ثمّ تركه للّه، مما يرقيه إلى اللّه زلفى، لأن الهم داع من دواعي النفس، الأمارة بالسوء، و هو طبيعة لأغلب الخلق. فلما قابل بينه و بين محبة اللّه و خشيته، غلبت محبة اللّه و خشيته، داعي النفس، و الهوى، فكان ممن‏ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى‏ ، و من السبعة الّذين يظلهم اللّه في ظل عرشه، يوم لا ظل إلا ظله، أحدهم رجل دعته امرأة ذات منصب و جمال، فقال: إني أخاف اللّه، و إنّما الهم الذي يلام عليه العبد، الهم الذي يساكنه، و يصير عزما، ربما اقترن به الفعل. و منها: أن من دخل الإيمان قلبه، و كان مخلصا للّه، في جميع أموره فإن اللّه يدفع عنه ببرهان إيمانه، و صدق إخلاصه، من أنواع السوء و الفحشاء و أسباب المعاصي، ما هو جزاء لإيمانه و إخلاصه لقوله: وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى‏ بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ‏ على قراءة من قرأها بكسر اللام، و من قرأها بالفتح، فإنه من إخلاص اللّه إياه، و هو متضمن لإخلاصه هو بنفسه، فلما أخلص عمله للّه، أخلصه اللّه، و خلصه من السوء و الفحشاء.

و منها: أنه ينبغي للعبد إذا رأى محلا فيه فتنة و أسباب معصية، أن يفر منه، و يهرب، غاية ما يمكنه، ليتمكن من التخلص من المعصية، لأن يوسف عليه السّلام- لما راودته التي هو في بيتها- فر هاربا، يطلب الباب، ليتخلص من شرها. و منها: أن القرائن يعمل بها، عند الاشتباه، فلو تخاصم رجل و امرأته في شي‏ء من أواني الدار، فما يصلح للرجل، فإنه للرجل، و ما يصلح للمرأة، فهو لها، هذا إذا لم يكن بينة. و كذا لو تنازع نجار و حداد في آلة حرفتهما، من غير بينة، و العمل بالقيافة، في الأشباه و الأثر، من هذا الباب. فإن شاهد يوسف شهد بالقرينة، و حكم بها في قد القميص، و استدل بقدّه من دبره على صدق يوسف و كذبها. و مما يدل على هذه القاعدة، أن استدل بوجود الصّواع في رحل أخيه على الحكم عليه بالسرقة، من غير بينة شهادة، و لا إقرار. فعلى هذا، إذا وجد

تيسير الكريم الرحمن، ص: 472

المسروق في يد السارق، خصوصا إذا كان معروفا بالسرقة، فإنه يحكم عليه بالسرقة، و هذا أبلغ من الشهادة، و كذلك وجود الرجل يتقيأ الخمر، أو وجود المرأة التي لا زوج لها و لا سيد، حاملا فإنه يقام بذلك الحد، ما لم يقع مانع منه، و لهذا سمى اللّه هذا الحكم شاهدا فقال: وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها . و منها: ما عليه يوسف، من الجمال الظاهر و الباطن، فإن جماله الظاهر، أوجب للمرأة التي هو في بيتها ما أوجب. و للنساء اللاتي جمعتهن حين لمنها على ذلك أن قطعن أيديهن و قلن‏ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ‏ . و أما جماله الباطن، فهو العفة العظيمة عن المعصية، مع وجود الدواعي الكثيرة لوقوعها، و شهادة امرأة العزيز و النسوة بعد ذلك ببراءته، و لهذا قالت امرأة العزيز: وَ لَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ‏ ، و قالت بعد ذلك: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ‏ ، و قالت النسوة: حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ . و منها: أن يوسف عليه السّلام، اختار السجن على المعصية. فهكذا ينبغي للعبد، إذا ابتلي بين أمرين- إما فعل معصية، و إما عقوبة دنيوية- أن يختار العقوبة الدنيوية، على مواقعة الذنب الموجب للعقوبة الشديدة، في الدنيا و الآخرة. و لهذا من علامات الإيمان، أن يكره العبد أن يعود في الكفر، بعد أن أنقذه اللّه منه، كما يكره أن يلقى في النار. و منها: أنه ينبغي للعبد، أن يلتجى‏ء إلى اللّه، و يحتمي بحماه عند وجود أسباب المعصية، و يتبرأ من حوله و قوته، لقول يوسف عليه السّلام: وَ إِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ‏ . و منها: أن العلم و العقل يدعوان صاحبهما إلى الخير، و ينهيانه عن الشر، و أن الجهل يدعو صاحبه إلى موافقة هوى النفس، و إن كان معصية ضارا لصاحبه. و منها: أنه كما على العبد عبودية للّه في الرخاء، فعليه عبودية له في الشدة. ف «يوسف» عليه السّلام، لم يزل يدعو إلى اللّه، فلما دخل السجن، استمر على ذلك، و دعا الفتيين إلى التوحيد، و نهاهما عن الشرك. و من فطنته عليه السّلام، أنه لما رأى فيهما قابلية لدعوته، حيث ظنا فيه الظن الحسن و قالا: إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ‏ و أتياه لأن يعبر لهما رؤياهما، فرآهما متشوقين لتعبيرها عنده- رأى ذلك فرصة، فانتهزها، فدعاهما إلى اللّه تعالى، قبل أن يعبر رؤياهما ليكون أنجح لمقصوده، و أقرب لحصول مطلوبه. و بين لهما أولا، أن الذي أوصله إلى الحال التي رأياه فيها، من الكمال و العلم، إيمانه، و توحيده، و تركه ملة من لا يؤمن باللّه و اليوم الآخر، و هذا دعاء لهما بلسان الحال، ثمّ دعاهما بالمقال، و بين فساد الشرك، و برهن عليه، و حقيقة التوحيد، و برهن عليه. و منها: أنه يبدأ بالأهم فالأهم، و أنه إذا سئل المفتي، و كان السائل في حاجة أشد لغير ما سأل عنه، أنه ينبغي له أن يعلمه ما يحتاج إليه قبل أن يجيب سؤاله، فإن هذا علامة على نصح المعلم و فطنته، و حسن إرشاده و تعليمه. فإن يوسف- لما سأله الفتيان عن الرؤيا- قدم لهما قبل تعبيرها- دعوتهما إلى اللّه وحده لا شريك له. و منها: أن من وقع في مكروه و شدة، لا بأس أن يستعين بمن له قدرة على تخليصه، أو الإخبار بحاله، و أن هذا، لا يكون شكوى للمخلوق فإن هذا، من الأمور العادية، التي جرى العرف باستعانة الناس، بعضهم ببعض، و لهذا قال يوسف، للذي ظن أنه ناج من الفتيين: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ‏ . و منها: أنه ينبغي و يتأكد على المعلم، استعمال الإخلاص التام في تعليمه و أن لا يجعل تعليمه، وسيلة لمعاوضة أحد في مال، أو جاه، أو نفع، و أن لا يمتنع من التعليم، أو لا ينصح فيه، إذا لم يفعل السائل ما كلفه به المعلم، فإن يوسف عليه السّلام قد قال، و وصى أحد الفتيين، أن يذكره عند ربه، فلم يذكره و نسي، فلما بدت حاجتهم إلى سؤال يوسف، أرسلوا ذلك الفتى، و جاءه سائلا مستفتيا عن تلك الرؤيا، فلم يعنفه يوسف، و لا وبّخه، لتركه ذكره بل أجابه عن سؤاله، جوابا تاما من كل وجه. و منها: أنه ينبغي للمسؤول أن يدل السائل على أمر ينفعه، مما يتعلق بسؤاله، و يرشده إلى الطريق، التي ينتفع بها، في دينه و دنياه، فإن هذا من كمال نصحه و فطنته، و حسن إرشاده، فإن يوسف، عليه السّلام، لم يقتصر على تعبير رؤيا الملك، بل دلهم- مع ذلك- على ما يصنعون في تلك السنين المخصبات، من كثرة الزرع، و كثرة

صفحه بعد