کتابخانه تفاسیر
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1119
سورة التين
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] وَ التِّينِ هو التين المعروف، و كذلك وَ الزَّيْتُونِ أقسم بهاتين الشجرتين، لكثرة منافع شجرهما و ثمرهما، و لأن سلطانهما في أرض الشام، محل نبوة عيسى ابن مريم عليه السلام.
[2] وَ طُورِ سِينِينَ (2)، أي: طور سيناء، محل نبوة موسى عليه السلام.
[3] وَ هذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) و هو مكة المكرمة، محل نبوة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم. فأقسم تعالى بهذه المواضع المقدسة، التي اختارها و ابتعث منها أفضل الأنبياء و أشرفهم. و المقسم عليه قوله:
[4] لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)، أي: تام الخلق، متناسب الأعضاء، منتصب القامة، لم يفقد مما يحتاج إليه ظاهرا و باطنا شيئا.
[5] و مع هذه النعم العظيمة، التي ينبغي له القيام بشكرها، فأكثر الخلق منحرفون عن شكر المنعم، مشتغلون باللهو و اللعب، قد رضوا لأنفسهم، بأسافل الأمر، و سفساف الأخلاق. فردهم اللّه في أسفل سافلين، أي: أسفل النار، موضع العصاة المتمردين على ربهم، إلا من منّ اللّه عليه بالإيمان، و العمل الصالح، و الأخلاق الفاضلة العالية.
[6] فَلَهُمْ بذلك المنازل العالية، و أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ، أي: غير مقطوع، بل لذات متوافرة، و أفراح متواترة، و نعم متكاثرة، في أبد لا يزول، و نعيم لا يحول، أكلها دائم و ظلها.
[7] فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7)، أي: أي شيء يكذبك أيها الإنسان، بيوم الجزاء على الأعمال، و قد رأيت من آيات اللّه الكثيرة ما يحصل لك به اليقين، و من نعمه ما يوجب عليك أن لا تكفر بشيء منها؟
[8] أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8)، فهل تقتضي حكمته أن يترك الخلق سدى لا يؤمرون و لا ينهون، و لا يثابون و لا يعاقبون؟ أم الذي خلق بني الإنسان أطوارا بعد أطوار، و أوصل إليهم من النعم و الخير و البر ما لا يحصونه، و رباهم التربية الحسنة، لا بد أن يعيدهم إلى دار هي مستقرهم، و غايتهم التي إليها يقصدون، و نحوها يؤمون. تم تفسير سورة التين- و الحمد.
تفسير سورة العلق
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] هذه السورة أول السور القرآنية نزولا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم. فإنها نزلت في مبادئ النبوة، إذ كان لا يدري ما
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1120
الكتاب و لا الإيمان. فجاءه جبريل عليه السلام بالرسالة، و أمره أن يقرأ، فاعتذر، و قال: «ما أنا بقارئ» فلم يزل به حتى قرأ. فأنزل اللّه: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) عموم الخلق. ثم خص الإنسان، و ذكر ابتداء خلقه مِنْ عَلَقٍ .
فالذي خلق الإنسان، و اعتنى بتدبيره، لا بد أن يدبر بالأمر و النهي، و ذلك بإرسال الرسل، و إنزال الكتب. و لهذا أتى بعد الأمر بالقراءة، بخلقه للإنسان.
[3] ثم قال: اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)، أي: كثير الصفات واسعها، كثير الكرم و الإحسان، واسع الجود، الذي من كرمه أن علم أنواع العلوم.
[4- 5] و الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) فإنه تعالى أخرجه من بطن أمه، لا يعلم شيئا، و جعل له السمع و البصر و الفؤاد، و يسر له أسباب العلم.
فعلمه القرآن، و علمه الحكمة، و علمه بالقلم، الذي به تحفظ العلوم، و تضبط الحقوق، و تكون رسلا للناس، تنوب مناب خطابهم. فلله الحمد و المنة، الذي أنعم على عباده بهذه النعم التي لا يقدرون لها، على جزاء و لا شكور. ثم منّ عليهم بالغنى و سعة الرزق.
[11] و لكن الإنسان- لجهله و ظلمه- إذا رأى نفسه غنيا، طغى و بغى، و تجبر عن الهدى، و نسي أن لربه الرجعى، و لم يخف الجزاء، بل ربما وصلت به الحال إلى أنه يترك الهدى بنفسه، و يدعو غيره إلى تركه، فينهى عن الصلاة التي هي أفضل أعمال الإيمان، يقول اللّه لهذا المتمرد العاتي: أَ رَأَيْتَ أيها الناهي للعبد إذا صلى إِنْ كانَ العبد المصلي عَلَى الْهُدى العلم بالحق، و العمل به.
[12] أَوْ أَمَرَ غيره بِالتَّقْوى . فهل يحسن أن ينهى، من هذا وصفه؟ أ ليس نهيه من أعظم المحادّة للّه، و المحاربة للحق؟ فإن النهي لا يتوجه إلا ممن هو في نفسه على غير الهدى، أو كان يأمر غيره بخلاف التقوى.
[13] أَ رَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ الناهي بالحق وَ تَوَلَّى عن الأمر، أما يخاف اللّه، و يخشى عقابه؟ أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) ما يعمل و يفعل؟
[15- 16] ثم توعده إن استمر على حاله فقال: كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ عما يقول و يفعل لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ ، أي: لنأخذن بناصيته أخذا عنيفا، و هي حقيقة بذلك، فإنها ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16)، أي: كاذبة في قولها، خاطئة في فعلها.
[17] فَلْيَدْعُ هذا الذي حق عليه العذاب نادِيَهُ ، أي: أهل مجلسه و أصحابه، و من حوله، ليعينوه على ما نزل به.
[18] سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18)، أي: خزنة جهنم، لأخذه و عقوبته. فلينظر أي الفريقين أقوى و أقدر؟ فهذه حالة الناهي، و ما توعد به من العقوبة. و أما حالة المنهي، فأمره اللّه أن لا يصغي إلى هذا الناهي، و لا ينقاد لنهيه، فقال:
[19] كَلَّا لا تُطِعْهُ ، أي: فإنه لا يأمر إلا بما فيه الخسار. وَ اسْجُدْ لربك وَ اقْتَرِبْ منه في السجود و غيره من أنواع الطاعات و القربات، فإنها كلها تدني من رضاه، و تقرب منه. و هذا عام لكل ناه عن الخير، و لكل منهي عنه. و إن كانت نازلة في شأن أبي جهل، حين نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عن الصلاة، و عذبه و آذاه. تم تفسير سورة العلق- و الحمد للّه رب العالمين.
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1121
سورة القدر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] يقول تعالى مبينا لفضل القرآن و علو قدره: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) و ذلك أن اللّه تعالى، ابتدأ بإنزال القرآن في رمضان في ليلة القدر، و رحم اللّه بها العباد رحمة عامة، لا يقدر العباد لها شكرا. و سميت ليلة القدر، لعظم قدرها، و فضلها عند اللّه، و لأنه يقدر فيها ما يكون في العام من الأجل و الأرزاق، و المقادير القدرية.
[2] ثم فخّم شأنها، و عظّم مقدارها، فقال: وَ ما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2)، أي: فإن شأنها جليل، و خطرها عظيم.
[3] لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)، أي: تعادل في فضلها ألف شهر، فالعمل الذي يقع فيها، خير من العمل في ألف شهر، خالية منها. و هذا مما تتحير فيه الألباب، و تندهش له العقول، حيث منّ تعالى على هذه الأمة الضعيفة القوة و القوى، بليلة يكون العمل فيها يقابل و يزيد على ألف شهر، عمر رجل معمر عمرا طويلا، نيفا و ثمانين سنة.
[4- 5] تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها ، أي: يكثر نزولهم فيها مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (5) سَلامٌ هِيَ ، أي: سالمة من كل آفة و شر، و ذلك لكثرة خيرها. حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ، أي: مبتداها من غروب الشمس، و منتهاها طلوع الفجر. و قد تواترت الأحاديث في فضلها، و أنها في رمضان، و في العشر الأواخر منه، خصوصا في أوتاره، و هي باقية في كل سنة إلى قيام الساعة. و لهذا كان النبي صلّى اللّه عليه و سلم يعتكف، و يكثر من التعبد في العشر الأواخر من رمضان، رجاء ليلة القدر، و اللّه أعلم. تم تفسير سورة القدر- بعون اللّه تعالى.
تفسير سورة البينة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] يقول تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ، أي: من اليهود و النصارى وَ الْمُشْرِكِينَ من سائر أصناف الأمم. مُنْفَكِّينَ عن كفرهم و ضلالهم، الذي هم عليه، أي: لا يزالون في غيهم و ضلالهم، لا يزيدهم مرور الأوقات إلا كفرا. حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ الواضحة، و البرهان الساطع، ثم فسر تلك البينة فقال:
[2] رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ ، أي: أرسله اللّه، يدعو الناس إلى الحق، و أنزل عليه كتابا يتلوه، ليعلم الناس الحكمة، و يزكيهم، و يخرجهم من
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1122
الظلمات إلى النور، و لهذا قال: يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً ، أي:
محفوظة من قربان الشياطين، لا يمسها إلا المطهرون، لأنها أعلى ما يكون من الكلام.
[3- 4] و لهذا قال عنها:
فِيها ، أي: في تلك الصحف كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ، أي: أخبار صادقة، و أوامر عادلة تهدي إلى الحق، و إلى صراط مستقيم.
فإذا جاءتهم هذه البينة، فحينئذ يتبين طالب الحق، ممن ليس له مقصد في طلبه، فيهلك من هلك عن بينة، و يحيا من حي عن بينة. و إذا لم يؤمن أهل الكتاب بهذا الرسول، و ينقادوا له، فليس ذلك ببدع من ضلالهم و عنادهم، فإنهم ما تفرّقوا و اختلفوا، و صاروا أحزابا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ، التي توجب لأهلها الاجتماع و الاتفاق. و لكنهم لرداءتهم و نذالتهم، لم يزدهم الهدى إلّا ضلالا، و لا البصيرة إلّا عمى، مع أن الكتب كلها، جاءت بأصل واحد، و دين واحد.
[5] وَ ما أُمِرُوا في سائر الشرائع إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ، أي: قاصدين بجميع عباداتهم، الظاهرة و الباطنة، وجه اللّه، و طلب الزلفى لديه. حُنَفاءَ ، أي:
معرضين مائلين عن سائر الأديان، المخالفين لدين التوحيد. و خصّ الصلاة و الزكاة بالذكر، مع أنهما داخلان في قوله: لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لفضلهما و شرفهما، و كونهما العبادتين اللتين من قام بهما، قام بجميع شرائع الدين. وَ ذلِكَ أن التوحيد و الإخلاص في الدين، هما دِينُ الْقَيِّمَةِ ، أي: الدين المستقيم، الموصل إلى جنات النعيم، و ما سواه فطرق موصلة إلى الجحيم.
[6] ثمّ ذكر جزاء الكافرين، بعد ما جاءتهم البينة، فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ الْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ قد أحاط بهم عذابها، و اشتد عليهم عقابها. خالِدِينَ فِيها لا يفتّر عنهم العذاب، و هم فيها مبلسون. أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ لأنهم عرفوا الحقّ و تركوه، و خسروا الدنيا و الآخرة.
[7] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) لأنهم عبدوا اللّه و عرفوه، و فازوا بنعيم الدنيا و الآخرة.
[8] جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ ، أي: جنات إقامة، لا ظعن فيها و لا رحيل، و لا طلب لغاية فوقها.
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ فرضي عنهم بما قاموا به من مراضيه، و رضوا عنه، بما أعد لهم من أنواع الكرامات. ذلِكَ الجزاء الحسن لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ، أي: لمن خاف اللّه فأحجم عن معاصيه، و قام بما أوجب عليه. تم تفسير سورة البينة- بفضل اللّه و توفيقه.
تفسير سورة الزلزلة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] يخبر تعالى، عما يكون يوم القيامة، و أن الأرض تتزلزل و ترجف، و ترتج، حتى يسقط ما عليها من بناء
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1123
و معلم. فتندك جبالها، و تسوّى تلالها، و تكون قاعا صفصفا، لا عوج فيه و لا أمت.
[2] وَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2)، أي: ما في بطنها، من الأموات و الكنوز.
[3] وَ قالَ الْإِنْسانُ إذا رأى ما عراها من الأمر العظيم:
ما لَها ؟، أي: أيّ شيء عرض لها؟
[4] يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ الأرض أَخْبارَها ، أي: تشهد على العاملين بما عملوا على ظهرها، من خير و شر، فإن الأرض من جملة الشهود الذين يشهدون على العباد بأعمالهم.
[5] ذلك بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5)، أي: أمرها أن تخبر بما عمل عليها، فلا تعصي لأمره.
[6] يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ من موقف القيامة أَشْتاتاً ، أي: فرقا متفاوتين. لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ أي: ليريهم اللّه ما عملوا من السيئات و الحسنات، و يريهم جزاءه موفورا.
[7- 8] فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) و هذا شامل عام للخير و الشر كله، لأنه إذا رأى مثقال الذرة، التي هي أحقر الأشياء، و جوزي عليها، فما فوق ذلك من باب أولى و أخرى، كما قال تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً ، وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً . و هذا، فيه الترغيب في فعل الخير و لو قليلا، و الترهيب من فعل الشر و لو حقيرا. تم تفسير سورة الزلزلة- و الحمد للّه.
تفسير سورة العاديات
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] أقسم تعالى بالخيل، لما فيها من آياته الباهرة، و نعمه الظاهرة، ما هو معلوم للخلق. و أقسم تعالى بها في الحال التي لا يشاركها فيه غيرها من أنواع الحيوانات، فقال: وَ الْعادِياتِ ضَبْحاً (1)، أي: العاديات عدوا بليغا قويا، يصدر عنه الضبح، و هو صوت نفسها في صدرها، عند اشتداد عدوها.
[2] فَالْمُورِياتِ بحوافرهن ما يطأن عليه من الأحجار قَدْحاً ، أي: تنقدح النار من صلابة حوافرهن و قوتهن إذا عدون.
[3] فَالْمُغِيراتِ على الأعداء صُبْحاً ، و هذا أمر أغلبي، أن الغارة تكون صباحا.
[4] فَأَثَرْنَ بِهِ ، أي: بعدوهن، و غارتهن نَقْعاً ، أي: غبارا.
[5] فَوَسَطْنَ بِهِ ، أي: براكبهن جَمْعاً ، أي توسطن به جموع الأعداء، الذين أغار عليهم.
[6] و المقسم عليه قوله: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)، أي: منوع للخير، الذي للّه عليه. فطبيعة الإنسان و جبلته، أن نفسه، لا تسمح بما عليه من الحقوق، فتؤديها كاملة موفرة، بل طبيعتها الكسل و المنع لما عليها من
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1124
الحقوق المالية و البدنية، إلّا من هداه اللّه و خرج عن هذا الوصف إلى وصف السماح بأداء الحقوق.
[7] وَ إِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7)، أي: إن الإنسان، على ما يعرف من نفسه من المنع و الكند، لشاهد بذلك، لا يجحده و لا ينكره، لأن ذلك، بيّن واضح. و يحتمل أن الضمير عائد إلى اللّه، أي: إن العبد لربه لكنود، و اللّه شهيد على ذلك، ففيه الوعيد، و التهديد الشديد، لمن هو عليه كنود، بأن اللّه عليه شهيد.
[8] وَ إِنَّهُ ، أي: الإنسان لِحُبِّ الْخَيْرِ ، أي:
المال لَشَدِيدٌ ، أي: كثير الحب للمال. و حبه لذلك، هو الذي أوجب له ترك الحقوق الواجبة عليه، قدم شهوة نفسه على رضا ربه، و كلّ هذا لأنه قصر نظره على هذه الدار، و غفل عن الآخرة. و لهذا قال- حاثا له على خوف يوم الوعيد-:
[9] أَ فَلا يَعْلَمُ ، أي: هلّا يعلم هذا المعتز إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ ، أي: أخرج اللّه الأموات من قبورهم، لحشرهم و نشرهم.
[10] وَ حُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10)، أي: ظهر و بان ما فيها، و ما استتر في الصدور من كمائن الخير و الشر، فصار السر علانية، و الباطن ظاهرا، و بان على وجوه الخلق نتيجة أعمالهم.
[11] إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) بأعمالهم الظاهرة و الباطنة، الخفية و الجلية، و مجازيهم عليها. و خص خبرهم بذلك اليوم، مع أنه خبير بهم في كلّ وقت، لأن المراد بهذا، الجزاء على الأعمال، الناشئ عن علم اللّه، و اطلاعه. تم تفسير سورة العاديات، و للّه الحمد و المنة.
تفسير سورة القارعة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1- 4] الْقارِعَةُ (1) من أسماء يوم القيامة، سميت بذلك، لأنها تقرع الناس و تزعجهم بأهوالها. و لهذا عظم أمرها، و فخمه بقوله: الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَ ما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ من شدة الفزع و الهول. كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ ، أي: كالجراد المنتشر، الذي يموج بعضه في بعض، و الفراش هي: الحيوانات التي تكون في الليل، يموج بعضها ببعض لا تدري أين توجه. فإذا أوقد لها نار، تهافتت إليها، لضعف إدراكها، فهذه حال الناس أهل العقول.
[5] و أما الجبال الصم الصلاب، فتكون كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ، أي: كالصوف المنفوش، الذي بقي ضعيفا جدا، تطير به أدنى ريح. قال تعالى: وَ تَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ . ثمّ بعد ذلك، تكون هباء
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1125
منثورا، فتضمحل و لا يبقى منها شيء يشاهد، فحينئذ تنصب الموازين، و ينقسم الناس قسمين: سعداء و أشقياء.
[6- 7] فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6)، أي: رجحت حسناته على سيئاته فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) في جنات النعيم.
[8] وَ أَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) بأن لم تكن له حسنات تقاوم سيئاته.
[9] فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9)، أي: مأواه و مسكنه النار التي من أسمائها الهاوية، تكون له بمنزلة الأم الملازمة كما قال تعالى: إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً . و قيل: إن معنى ذلك، فأم دماغه هاوية في النار، أي: يلقى في النار على رأسه.
[10] وَ ما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) و هذا تعظيم لأمرها، ثمّ فسرها بقوله: نارٌ حامِيَةٌ (11)، أي: شديدة الحرارة، قد زادت حرارتها، على حرارة نار الدنيا بسبعين ضعفا. نستجير باللّه منها. تم تفسير سورة القارعة- بحمد اللّه و فضله.
سورة التكاثر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] يقول تعالى موبخا عباده عن اشتغالهم عما خلقوا له من عبادته وحده لا شريك له، و معرفته، و الإنابة إليه، و تقديم محبته على كلّ شيء. أَلْهاكُمُ عن ذلك المذكور التَّكاثُرُ ، و لم يذكر المتكاثر به، ليشمل ذلك كلّ ما يتكاثر به المتكاثرون، و يفتخر به المفتخرون، من الأموال، و الأولاد، و الأنصار، و الجنود، و الخدم، و الجاه، و غير ذلك مما يقصد منه مكاثرة كلّ واحد للآخر، و ليس المقصود منه وجه اللّه. فاستمرت غفلتكم، و لهوتكم، و تشاغلكم حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2)، فانكشف حينئذ لكم الغطاء، و لكن بعد ما تعذر عليكم استئنافه.
[2] و دل قوله: حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) أن البرزخ دار، المقصود منها، النفوذ إلى الدار الآخرة، لأن اللّه سماهم زائرين، و لم يسمهم مقيمين.
[3- 5] فدل ذلك على البعث، و الجزاء على الأعمال، في دار باقية غير فانية، و لهذا توعدهم بقوله: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5)، أي: لو تعلمون ما أمامكم، علما يصل إلى القلوب، لما ألهاكم التكاثر، و لبادرتهم إلى الأعمال الصالحة. و لكن عدم العلم الحقيقي، صيّركم إلى ما ترون.
[6] لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6)، أي: لترون القيامة، فلترون الجحيم، التي أعدها اللّه للكافرين.
[7] ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7)، أي: رؤية بصرية، كما قال تعالى: وَ رَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَ لَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53).