کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تيسير الكريم الرحمن

سورة الفاتحة سورة آل عمران سورة المائدة سورة الأنعام تفسير سورة الأعراف تفسير سورة الأنفال تفسير سورة التوبة تفسير سورة يونس تفسير سورة هود تفسير سورة الرعد سورة إبراهيم تفسير سورة الحجر سورة النحل سورة الإسراء سورة الكهف تفسير سورة مريم سورة طه تفسير سورة الأنبياء تفسير سورة الحج تفسير سورة المؤمنون تفسير سورة النور تفسير سورة الفرقان تفسير سورة الشعراء تفسير سورة النمل تفسير سورة العنكبوت تفسير سورة الروم تفسير سورة لقمان تفسير سورة السجدة سورة الأحزاب سورة سبأ تفسير سورة فاطر تفسير سورة يس تفسير سورة الصافات تفسير سورة الزمر تفسير سورة فصلت سورة الشورى سورة الزخرف تفسير سورة الدخان سورة الجاثية سورة الأحقاف سورة محمد تفسير سورة الحجرات تفسير سورة ق سورة الطور تفسير سورة النجم سورة القمر سورة الرحمن سورة الواقعة تفسير سورة الحديد تفسير سورة المجادلة تفسير سورة الحشر تفسير سورة الممتحنة تفسير سورة الصف سورة الجمعة تفسير سورة المنافقون تفسير سورة التغابن تفسير سورة الطلاق تفسير سورة التحريم تفسير سورة الملك تفسير سورة القلم سورة الحاقة سورة المعارج سورة نوح سورة الجن تفسير سورة المزمل سورة المدثر تفسير سورة القيامة سورة الإنسان سورة المرسلات تفسير سورة النبأ سورة النازعات سورة عبس تفسير سورة التكوير سورة الإنفطار سورة المطففين تفسير سورة الإنشقاق سورة البروج سورة الطارق سورة الأعلى تفسير سورة الغاشية تفسير سورة الفجر تفسير سورة البلد سورة الشمس سورة الليل تفسير سورة الضحى سورة الشرح سورة التين تفسير سورة العلق سورة القدر تفسير سورة البينة تفسير سورة الزلزلة تفسير سورة العاديات تفسير سورة القارعة سورة التكاثر سورة العصر تفسير سورة الهمزة سورة الفيل تفسير سورة قريش سورة الماعون سورة الكوثر تفسير سورة الكافرون سورة النصر تفسير سورة المسد تفسير سورة الإخلاص سورة الفلق تفسير سورة الناس محتوى تفسير الإمام السعدي

تيسير الكريم الرحمن


صفحه قبل

تيسير الكريم الرحمن، ص: 883

و امتناع ذلك عليهم، و توبيخهم، فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أطلقه ليشمل أنواع الكفر كلها، من الكفر باللّه، أو بكتبه، أو برسله، أو باليوم الآخر، حين يدخلون النار، و يقرون أنهم يستحقونها، لما فعلوه من الذنوب و الأوزار، فيمقتون أنفسهم لذلك أشد المقت، و يغضبون عليها غاية الغضب، فينادون عند ذلك. و يقال لهم: لَمَقْتُ اللَّهِ‏ أي: إياكم‏ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ‏ أي: حين دعتكم الرسل و أتباعهم، إلى الإيمان، و أقاموا لكم من البينات، ما تبين به الحقّ، فكفرتم، و زهدتم في الإيمان، الذي خلقكم اللّه له، و خرجتم من رحمته الواسعة، فمقتكم و أبغضكم. فهذا أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ‏ أي: فلم يزل هذا المقت، مستمرا عليكم، و السخط من الكريم حالّا بكم، حتى آلت بكم الحال، إلى ما آلت. فاليوم حلّ عليكم غضب اللّه و عقابه، حين نال المؤمنون رضوان اللّه و ثوابه.

[11] فتمنوا الرجوع، و قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ‏ يريدون الموتة الأولى، و ما بين النفختين على ما قيل، أو العدم المحض قبل إيجادهم، ثمّ أماتهم بعد ما أوجدهم. وَ أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ‏ الحياة الدنيا، و الحياة الأخرى. فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى‏ خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ‏ أي: تحسروا و قالوا ذلك، فلم يفد و لم ينجع، و وبخوا على عدم فعل أسباب النجاة، فقيل لهم:

[12] ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ‏ أي: إذا دعي لتوحيده، و إخلاص العمل له، و نهي عن الشرك به‏ كَفَرْتُمْ‏ به، و اشمأزت لذلك قلوبكم، و نفرتم غاية النفور. وَ إِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا أي: هذا الذي أنزلكم هذا المنزل، و بوأكم هذا المقيل و المحل، أنكم تكفرون بالإيمان، و تؤمنون بالكفر. ترضون بما هو شر و فساد في الدنيا و الآخرة، و تكرهون ما هو خير و صلاح، في الدنيا و الآخرة. تؤثرون سبب الشقاوة، و الذل، و الغضب، و تزهدون بما هو سبب الفوز و الفلاح و الظفر وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا . فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِ‏ العلي: الذي له العلو المطلق، من جميع الوجوه، علو الذات، و علو القدر، و علو القهر. و من علو قدره، كمال عدله تعالى، و أنه يضع الأشياء مواضعها، و لا يساوي بين المتقين و الفجار.

الْكَبِيرِ الذي له الكبرياء و العظمة و المجد، في أسمائه، و صفاته، و أفعاله، المتنزه عن كلّ آفة، و عيب، و نقص. فإذا كان الحكم له تعالى، و قد حكم عليكم بالخلود الدائم، فحكمه لا يغير و لا يبدل.

[13] يذكر تعالى نعمه العظيمة، على عباده، بتبيين الحقّ من الباطل، بما يري عباده من آياته النفسية، و الآفاقية، و القرآنية، الدالة على كلّ مطلوب مقصود، الموضحة للهدى من الضلال، بحيث لا يبقى عند الناظر فيها، و المتأمل لها، أدنى شك في معرفة الحقائق. و هذا من أكبر نعمه على عباده، حيث لم يبق الحقّ مشتبها، و لا الصواب ملتبسا. بل نوّع الدلالات، و وضح الآيات، ليهلك من هلك عن بيّنة، و يحيا من حي عن بيّنة. و كلّما كانت المسائل أجلّ و أكبر، كانت الدلائل عليها أكثر و أيسر. فانظر إلى التوحيد، لما كانت مسألته من أكبر المسائل، بل أكبرها، كثرت الأدلة عليها العقلية و النقلية، و تنوعت، و ضرب اللّه لها الأمثال، و أكثر لها من الاستدلال.

و لهذا ذكرها في هذا الموضع، و نبه على جملة من أدلتها، فقال: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ‏ . و لما ذكر أنه يري عباده‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 884

آياته، نبه على آية عظيمة فقال: وَ يُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً أي: مطرا، به ترزقون و تعيشون أنتم و بهائمكم، و ذلك يدل على أن النعم كلها منه. فمنه نعم الدين، و هي المسائل الدينية، و الأدلة عليها، و ما يتبع ذلك، من العمل بها. و النعم الدنيوية كلها، كالنعم الناشئة عن الغيث، الذي تحيا به البلاد و العباد. و هذا يدل دلالة قاطعة، أنه وحده هو المعبود، الذي يتعين إخلاص الدين له، كما أنه- وحده- المنعم. وَ ما يَتَذَكَّرُ بالآيات، حين يذكر بها إِلَّا مَنْ يُنِيبُ‏ إلى اللّه تعالى، بالإقبال على محبته، و خشيته، و طاعته، و التضرع إليه. فهذا الذي ينتفع بالآيات، و تصير رحمة في حقه، و يزداد بها بصيرة.

[14] و لما كانت الآيات، تثمر التذكر، و التذكر يوجب الإخلاص للّه، رتب الأمر على ذلك بالفاء الدالة على السببية فقال: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ‏ . و هذا شامل لدعاء العبادة، و دعاء المسألة. و الإخلاص، معناه:

تخليص القصد للّه تعالى، في جميع العبادات، الواجبة و المستحبة، حقوق اللّه، و حقوق عباده. أي: أخلصوا للّه تعالى، في كلّ ما تدينونه به، و تتقربون به إليه. وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ‏ لذلك، فلا تبالوا بهم، و لا يثنكم ذلك عن دينكم، و لا تأخذكم باللّه لومة لائم، فإن الكافرين، يكرهون الإخلاص للّه وحده، غاية الكراهة كما قال تعالى:

وَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ إِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ‏ (45).

[15] ثمّ ذكر من جلاله و كماله، ما يقتضي إخلاص العبادة له فقال: رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ‏ أي: العلي الأعلى، الذي استوى على العرش، و اختص به، و ارتفعت درجاته ارتفاعا باين به مخلوقاته، و ارتفع به قدره، و جلّت أوصافه، و تعالت ذاته، أن يتقرب إليه إلا بالعمل الزكي الطاهر المطهّر و هو الإخلاص، الذي يرفع درجات أصحابه، و يقربهم إليه، و يجعلهم فوق خلقه. ثمّ ذكر نعمته على عباده بالرسالة و الوحي فقال: يُلْقِي الرُّوحَ‏ أي:

الوحي الذي للأرواح و القلوب بمنزلة الأرواح للأجساد. فكما أن الجسد بدون الروح لا يحيا و لا يعيش، فالروح و القلب، بدون روح الوحي، لا يصلح و لا يفلح، فهو تعالى‏ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ‏ الذي فيه نفع العباد و مصلحتهم. عَلى‏ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ‏ و هم الرسل، الّذين فضلهم، و اختصهم لوحيه، و دعوة عباده. و الفائدة في إرسال الرسل، هو تحصيل سعادة العباد، في دينهم، و دنياهم، و آخرتهم، و إزالة الشقاوة عنهم، في دينهم، و دنياهم، و آخرتهم، و لهذا قال: لِيُنْذِرَ من ألقى إليه الوحي‏ يَوْمَ التَّلاقِ‏ أي: يخوف العباد بذلك، و يحثهم على الاستعداد له، بالأسباب المنجية مما يكون فيه. و سماه «يوم التلاق» لأنه يلتقي فيه الخالق و المخلوق، و المخلوقون بعضهم مع بعض، و العاملون، و أعمالهم و جزاؤهم.

[16] يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ‏ أي: ظاهرون على الأرض، و قد اجتمعوا في صعيد واحد، لا عوج و لا أمت فيه، يسمعهم الداعي، و ينفذهم البصر. لا يَخْفى‏ عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْ‏ءٌ لا من ذواتهم، و لا من أعمالهم، و لا من جزاء تلك الأعمال. لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ‏ أي: من هو المالك لذلك اليوم العظيم، الجامع للأولين و الآخرين، أهل السموات و أهل الأرض الذي، انقطعت فيه الشركة في الملك، و تقطعت الأسباب، و لم يبق إلا الأعمال الصالحة أو السيئة؟

الملك‏ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ أي: المنفرد في ذاته و أسمائه، و صفاته، و أفعاله، فلا شريك له في شي‏ء منها، بوجه من الوجوه. الْقَهَّارِ لجميع المخلوقات، الذي دانت له المخلوقات، و ذلت و خضعت، خصوصا في ذلك اليوم، الذي عنت فيه الوجوه للحي القيوم، يومئذ لا تكلّم نفس إلا بإذنه.

[17] الْيَوْمَ تُجْزى‏ كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ‏ في الدنيا، من خير و شر، قليل و كثير. لا ظُلْمَ الْيَوْمَ‏ على أحد، بزيادة في سيئاته، أو نقص في حسناته. إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ‏ أي: لا تستبطئوا ذلك اليوم، فإنه آت، و كلّ آت قريب. و هو أيضا سريع المحاسبة لعباده يوم القيامة، لإحاطة علمه و كمال قدرته.

[18] يقول تعالى لنبيه محمد صلّى اللّه عليه و سلم: وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ أي: يوم القيامة التي قد أزفت و قربت، و آن الوصول‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 885

إلى أهوالها، و قلاقلها، و زلازلها. إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ أي: قد ارتفعت، و بقيت أفئدتهم هواء، و وصلت القلوب، من الروع و الكرب، إلى الحناجر، شاخصة أبصارهم. كاظِمِينَ‏ لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن و قال صوابا، و كاظمين على ما في قلوبهم، من الروع الشديد، و المزعجات الهائلة. ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ‏ أي: قريب و لا صاحب‏ وَ لا شَفِيعٍ يُطاعُ‏ . لأنه الشفعاء لا يشفعون في الظالم نفسه بالشرك، و لو قدرت شفاعتهم، فاللّه تعالى لا يرضى شفاعتهم، فلا يقبلها.

[19] يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ‏ و هو النظر الذي يخفيه العبد عن جليسه و مقارنه، و هو نظر المسارقة. وَ ما تُخْفِي الصُّدُورُ مما لم يبينه العبد لغيره، فاللّه تعالى يعلم ذلك الخفي، فغيره من الأمور الظاهرة، من باب أولى و أحرى.

[20] وَ اللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِ‏ لأن قوله حق، و حكمه الشرعي حق، و حكمه الجزائي حق. و هو المحيط علما، و كتابة، و حفظا بجميع الأشياء، و هو المنزه عن الظلم و النقص، و سائر العيوب. و هو الذي يقضي قضاءه القدري، الذي إذا شاء شيئا كان، و ما لم يشأ لم يكن. و هو الذي يقضي بين عباده المؤمنين و الكافرين في الدنيا، و يفصل بينهم، بفتح ينصر به أولياءه و أحبابه. وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ‏ و هذا شامل لكل ما عبد من دون اللّه‏ لا يَقْضُونَ بِشَيْ‏ءٍ لعجزهم، و عدم إرادتهم للخير، و عدم استطاعتهم لفعله. إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ‏ لجميع الأصوات، باختلاف اللغات، على تفنن الحاجات. الْبَصِيرُ بما كان و ما يكون، و ما يبصر، و ما لا يبصر، و ما يعلم العباد، و ما لا يعلمون. قال في أول هاتين الآيتين‏ وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ ثمّ وصفها بهذه الأوصاف، المقتضية للاستعداد لذلك اليوم العظيم، لاشتمالها على الترغيب و الترهيب.

[21] يقول تعالى: أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ‏ أي: بقلوبهم و أبدانهم، سير نظر و اعتبار، و تفكر في الآثار.

فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ‏ من المكذبين، فسيجدونها شر العواقب، عاقبة الهلاك و الدمار، و الخزي و الفضيحة. و قد كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً في العدد و العدد و كبر الأجسام. وَ أشد آثاراً فِي الْأَرْضِ‏ من البناء و الغرس. و قوة الآثار تدل على قوة المؤثر فيها، و على تمنعه بها. فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ‏ بعقوبته‏ بِذُنُوبِهِمْ‏ حين أصروا، و استمروا عليها.

[22] إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ‏ فلم تغن قوتهم عند قوة اللّه شيئا. بل من أعظم الأمم قوة، قوم عاد الّذين قالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أرسل اللّه إليهم ريحا، أضعفت قواهم، و دمرتهم كل تدمير. ثمّ ذكر نموذجا من أحوال المكذبين بالرسل، و هو فرعون و جنوده فقال: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى‏ إلى قوله:

أَشَدَّ الْعَذابِ‏ .

[23] أي‏ وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا إلى جنس هؤلاء المكذبين‏ مُوسى‏ ابن عمران. بِآياتِنا العظيمة، الدالة دلالة قطعية، على حقيقة ما أرسل به، و بطلان ما عليه من أرسل إليهم من الشرك، و ما يتبعه.

وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ‏ أي: حجة بيّنة، تتسلط على القلوب، فتذعن لها، كالحية، و العصا، و نحوهما من الآيات البينات، التي أيّد اللّه بها موسى، و مكّنه مما دعا إليه من الحقّ.

تيسير الكريم الرحمن، ص: 886

[24] إِلى‏ المبعوث إليهم‏ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ‏ وزيره‏ وَ قارُونَ‏ الذي كان من قوم موسى، فبغى عليهم بماله. و كلهم ردوا عليه أشد الرد فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ‏ .

[25] فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا و أيده اللّه بالمعجزات الباهرة، الموجبة لتمام الإذعان، لم يقابلوها بذلك، و لم يكفهم مجرد الترك و الإعراض، بل و لا إنكارها و معارضتها بباطلهم. بل وصلت بهم الحال الشنيعة إلى أن‏ قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَ اسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَ ما كَيْدُ الْكافِرِينَ‏ حيث كادوا هذه المكيدة، و زعموا أنهم إذا قتلوا أبناءهم، لم يقووا، و بقوا في رقهم، و تحت عبوديتهم. وَ ما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ‏ حيث لم يتم لهم ما قصدوا، بل أصابهم ضد ما قصدوا، أهلكهم اللّه، و أبادهم عن آخرهم.

قاعدة

و تدبر هذه النكتة، التي يكثر مرورها بكتاب اللّه تعالى.

إذا كان السياق في قصة معينة، أو على شي‏ء معين، و أراد اللّه أن يحكم على ذلك المعين بحكم، لا يختص به ذكر الحكم، و علقه على الوصف العام، ليكون أعم، و تندرج فيه الصورة، التي سبق الكلام لأجلها، و ليندفع الإيهام باختصاص الحكم بذلك المعين. فلهذا لم يقل «و ما كيدهم إلّا في ضلال» بل قال: وَ ما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ‏ .

[26- 28] و قالَ فِرْعَوْنُ‏ متكبرا متجبرا، مغررا لقومه السفهاء: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى‏ وَ لْيَدْعُ رَبَّهُ‏ أي: زعم- قبحه اللّه- أنه لو لا مراعاة خواطر قومه، لقتله، و أنه لا يمنعه من دعاء ربه. ثمّ ذكر الحامل له على إرادة قتله، و أنه نصح لقومه، و إزالة للشر في الأرض فقال: إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ‏ الذي أنتم عليه‏ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ . و هذا من أعجب ما يكون، أن يكون شر الخلق، ينصح الناس عن اتباع خير الخلق. هذا من التمويه و الترويج، الذي لا يدخل إلا عقل من قال اللّه فيهم:

فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ‏ (54). وَ قالَ مُوسى‏ حين قال فرعون تلك المقالة الشنيعة، التي أوجبها له طغيانه، و استعان فيها بقوته و اقتداره، مستعينا موسى بربه: إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ‏ أي: امتنعت بربوبيته، التي دبر بها جميع الأمور. مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ‏ أي: يحمله تكبره، و عدم إيمانه بيوم الحساب، على الشر و الفساد. يدخل فيه فرعون و غيره، كما تقدم قريبا في القاعدة، فمنعه اللّه تعالى بلطفه، من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب. و قيّض له من الأسباب، ما اندفع به عنه شر فرعون و ملئه. و من جملة الأسباب، هذا الرجل المؤمن، الذي من آل فرعون، من بيت المملكة، لا بد أن يكون له كلمة مسموعة، و خصوصا إذا كان يظهر موافقتهم، و يكتم إيمانه، فإنهم يراعونه في الغالب، ما لا يراعونه لو خالفهم في الظاهر. كما منع اللّه رسوله محمدا صلّى اللّه عليه و سلّم، بعمه أبي طالب من قريش، حيث كان أبو طالب كبيرا عندهم، موافقا لهم على دينهم، و لو كان مسلما لم يحصل منه ذلك المنع. فقال ذلك الرجل المؤمن الموفق العاقل الحازم، مقبحا فعل قومه، و شناعة ما عزموا عليه:

أَ تَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ‏ أي: كيف تستحلون قتله، و هذا ذنبه و جرمه، أن يقول ربي اللّه، و لم يكن أيضا

تيسير الكريم الرحمن، ص: 887

قولا مجردا عن البينات، و لهذا قال: وَ قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ‏ لأن بينته اشتهرت عندهم اشتهارا علم به الصغير و الكبير، أي: فهذا لا يوجب قتله. فهلّا أبطلتم قبل ذلك، ما جاء به من الحقّ، و قابلتم البرهان ببرهان يرده، ثمّ بعد ذلك نظرتم، هل يحل قتله إذا ظهرتم عليه بالحجة أم لا؟ فأما و قد ظهرت حجته، و استعلى برهانه، فبينكم و بين حل قتله، مفاوز تنقطع بها أعناق المطي. ثمّ قال لهم مقالة عقلية، تقنع كلّ عاقل، بأي حالة قدرت فقال: وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَ إِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ‏ أي: موسى بين أمرين، إما كاذب في دعواه، أو صادق فيها. فإن كان كاذبا، فكذبه عليه، و ضرره مختص به، و ليس عليكم في ذلك ضرر، حيث امتنعتم من إجابته و تصديقه. و إن كان صادقا، و قد جاءكم بالبينات، و أخبركم أنكم إن لم تجيبوه، عذبكم اللّه عذابا في الدنيا، و عذابا في الآخرة، فإنه لا بد أن يصيبكم بعض الذي يعدكم، و هو عذاب الدنيا. و هذا من حسن عقله، و لطف دفعه عن موسى، حيث أتى بهذا الجواب الذي لا تشويش فيه عليهم، و جعل الأمر دائرا بين تينك الحالتين، و على كلّ تقدير فقتله سفه و جهل منكم. ثمّ انتقل رضي اللّه عنه و أرضاه و غفر له و رحمه- إلى أمر أعلى من ذلك، و بيان قرب موسى من الحقّ فقال: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ‏ أي: متجاوز الحد، بترك الحقّ و الإقبال على الباطل. كَذَّابٌ‏ بنسبته ما أسرف فيه إلى اللّه، فهذا لا يهديه اللّه إلى طريق الصواب، لا في مدلوله، و لا في دليله، و لا يوفقه للصراط المستقيم. أي: و قد رأيتم ما دعا موسى إليه من الحقّ، و ما هداه اللّه إلى بيانه من البراهين العقلية، و الخوارق السماوية. فالذي اهتدى هذا الهدى، لا يمكن أن يكون مسرفا، و لا كاذبا. و هذا دليل على كمال علمه و عقله، و معرفته بربه.

[29] ثمّ حذّر قومه، و نصحهم، و خوفهم عذاب الآخرة و نهاهم عن الاغترار بالملك الظاهر فقال: يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ‏ أي: في الدنيا ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ‏ على رعيتكم، تنفذون فيهم ما شئتم من التدبير. فهبكم حصل لكم ذلك و تم، و لن يتم، فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ‏ أي: عذابه‏ إِنْ جاءَنا ؟ و هذا من حسن دعوته، حيث جعل الأمر مشتركا، بينه و بينهم بقوله: فَمَنْ يَنْصُرُنا و قوله: إِنْ جاءَنا ليفهمهم أنه ينصح لهم، كما ينصح لنفسه، و يرضى لهم ما يرضى لنفسه. قالَ فِرْعَوْنُ‏ معارضا له في ذلك، و مغررا لقومه أن يتبعوا موسى: ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى‏ وَ ما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ و صدق في قوله: ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى‏ ، و لكن ما الذي رأى؟ رأى أن يستخف قومه فيتابعوه، ليقيم بهم رياسته، و لم ير الحقّ معه، بل رأى الحقّ مع موسى، و جحد به، مستيقنا له. و كذب في قوله: وَ ما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ فإن هذا، قلب للحق. فلو أمرهم باتباعه، اتباعا مجردا على كفره و ضلاله، لكان الشر أهون. و لكنه أمرهم باتباعه، و زعم أن في اتباعه، اتباع الحقّ، و في اتباع الحقّ، اتباع الضلال.

[30] وَ قالَ الَّذِي آمَنَ‏ مكررا دعوة قومه، غير آيس من هدايتهم، كما هي حالة الدعاة إلى اللّه تعالى، لا يزالون يدعون إلى ربهم، و لا يردهم عن ذلك راد، و لا يثنيهم عتو من دعوه، عن تكرار الدعوة، فقال لهم: يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ‏ يعني الأمم المكذبين، الّذين تحزبوا على أنبيائهم، و اجتمعوا على معارضتهم. ثمّ بينهم فقال:

[31] مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ وَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ‏ أي: مثل عادتهم في الكفر و التكذيب، و عادة اللّه فيهم، بالعقوبة العاجلة في الدنيا، قبل الآخرة. وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ فيعذبهم بغير ذنب أذنبوه، و لا جرم أسلفوه.

[32] و لما خوفهم العقوبات الدنيوية، خوفهم العقوبات الأخروية، فقال: وَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (32) أي: يوم القيامة، حين ينادي أهل الجنة أهل النار: أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا إلى آخر الآيات.

وَ نادى‏ أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ‏ .

و حين ينادي أهل النار مالكا لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ‏ ، فيقول: إِنَّكُمْ ماكِثُونَ‏ . و حين ينادون ربهم: رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها

تيسير الكريم الرحمن، ص: 888

فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ‏ (107). فيجيبهم: اخْسَؤُا فِيها وَ لا تُكَلِّمُونِ‏ . و حين يقال للمشركين: ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ‏ . فخوفهم رضي اللّه عنه، هذا اليوم المهول، و توجع لهم أن قاموا على شركهم بذلك. و لهذا قال:

[33] يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ‏ أي: قد ذهب بكم إلى النار ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ‏ لا من أنفسكم قوة، تدفعون بها عذاب اللّه، و لا ينصركم من دونه من أحد يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَ لا ناصِرٍ (10). وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ لأن الهدى بيد اللّه تعالى. فإذا منع عبده الهدى، لعلمه أنه غير لائق به، لخبثه، فلا سبيل إلى هدايته.

[34] وَ لَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ‏ بن يعقوب عليهما السلام‏ مِنْ قَبْلُ‏ إتيان موسى، بالبينات الدالة على صدقه، و أمركم بعبادة ربكم وحده لا شريك له. فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ‏ في حياته‏ حَتَّى إِذا هَلَكَ‏ ازداد شككم و شرككم. و قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا أي: ظنكم الباطل، و حسبانكم الذي لا يليق باللّه تعالى، فإنه تعالى لا يترك خلقه سدى، لا يأمرهم و ينهاهم، بل يرسل إليهم رسله. و الظن بأن اللّه لا يرسل رسولا، ظن ضلال، و لهذا قال: كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ‏ و هذا هو وصفهم الحقيقي، الذي وصفوا به موسى، ظلما و علوا. فهم المسرفون، بتجاوزهم الحق، و عدولهم عنه إلى الضلال. و هم الكذبة، حيث نسبوا ذلك إلى اللّه، و كذبوا رسوله. فالذي وصفه السرف و الكذب، لا ينفك عنهما، لا يهديه اللّه، و لا يوفقه للخير، لأنه رد الحق بعد أن وصل إليه و عرفه. فجزاؤه أن يعاقبه، بأن يمنعه الهدى كما قال تعالى: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ‏ وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ نَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ‏ (110) وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏ .

[35] ثم ذكر وصف المسرف المرتاب فقال: الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ‏ التي بينت الحق من الباطل، و صارت- من ظهورها- بمنزلة الشمس للبصر. فهم يجادلون فيها على وضوحها، ليدفعوها و يبطلوها بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ‏ أي: بغير حجة و برهان، و هذا وصف لازم، لكل من جادل في آيات اللّه، فإنه من المحال، أن يجادل بسلطان؛ لأن الحق لا يعارضه معارض، فلا يمكن أن يعارض بدليل شرعي أو عقلي أصلا. كَبُرَ ذلك القول المتضمن لرد الحق بالباطل‏ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَ عِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا . فاللّه أشد بغضا لصاحبه؛ لأنه تضمن التكذيب بالحق، و التصديق بالباطل، و نسبته إليه. و هذه أمور يشتد بغض اللّه لها و لمن اتصف بها، و كذلك عباده المؤمنون يمقتون على ذلك أشد المقت موافقة لربهم، و هؤلاء خواص خلق اللّه تعالى فمقتهم دليل على شناعة من مقتوه، كَذلِكَ‏ أي: كما طبع على قلوب آل فرعون‏ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى‏ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ متكبر في نفسه على الحق برده و على الخلق باحتقارهم، جبار بكثرة ظلمه و عدوانه.

[36- 37] وَ قالَ فِرْعَوْنُ‏ معارضا لموسى، و مكذبا له في دعوته إلى الإقرار برب العالمين، الذي على العرش استوى، و على الخلق اعتلى: يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً أي: بناء عظيما مرتفعا. و القصد منه‏ لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى‏ إِلهِ مُوسى‏ وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً في دعواه أن لنا ربا، و أنه فوق السموات.

تيسير الكريم الرحمن، ص: 889

و لكنه يريد أن يحتاط فرعون، و يختبر الأمر بنفسه، قال اللّه تعالى في بيان الذي حمله على هذا القول: وَ كَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ‏ فزين له العمل السيّ‏ء، فلم يزل الشيطان يزينه، و هو يدعو إليه و يحسنه، حتى رآه حسنا، و دعا إليه و ناظر فيه مناظرة المحقين، و هو من أعظم المفسدين. وَ صُدَّ عَنِ السَّبِيلِ‏ الحق، بسبب الباطل الذي زين له. وَ ما كَيْدُ فِرْعَوْنَ‏ الذي أراد أن يكيد به الحق، و يوهم به الناس أنه محق، و أن موسى مبطل‏ إِلَّا فِي تَبابٍ‏ أي: خسار و بوار، لا يفيده إلا الشقاء، في الدنيا و الآخرة.

[38] وَ قالَ الَّذِي آمَنَ‏ معيدا نصيحته لقومه:

يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ لا كما يقول لكم فرعون، فإنه لا يهديكم إلا طريق الغي و الفساد.

[39] يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ‏ يتمتع بها و يتنعم قليلا، ثم تنقطع و تضمحل. فلا تغرنكم و تخدعنكم عمّا خلقتم له‏ وَ إِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ التي هي محل الإقامة، و منزل السكون و الاستقرار، فينبغي لكم أن تؤثروها، و تعملوا لها عملا يسعدكم فيها.

[40] مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً من شرك أو فسوق أو عصيان‏ فَلا يُجْزى‏ إِلَّا مِثْلَها أي: لا يجازى إلا بما يسوؤه و يحزنه، بقدر إساءته، و ما تستحقه؛ لأن جزاء السيئة السوء. وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ من أعمال القلوب و الجوارح، و أقوال اللسان‏ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ‏ أي: يعطون أجرهم بلا حد و لا وعد، بل يعطيهم اللّه ما لا تبلغه أعمالهم.

[41] وَ يا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ بما قلت لكم‏ وَ تَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ بترك اتباع نبي اللّه موسى عليه السلام. ثم فسر ذلك فقال:

[42] تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَ أُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ‏ أنه يستحق أن يعبد من دون اللّه، و القول على اللّه بلا علم، من أكبر الذنوب و أقبحها. وَ أَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الذي له القوة كلها، و غيره ليس بيده من الأمر شي‏ء. الْغَفَّارِ الذي يسرف العباد على أنفسهم و يتجرؤون على مساخطه. ثم إذا تابوا، و أنابوا إليه، كفّر عنهم السيئات و الذنوب، و دفع موجباتها، من العقوبات الدنيوية و الأخروية.

[43] لا جَرَمَ‏ أي: حقا يقينا أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَ لا فِي الْآخِرَةِ أي: لا يستحق الدعوة إليه و الحق على اللجأ إليه، في الدنيا، و لا في الآخرة، لعجزه و نقصه، و أنه لا يملك نفعا و لا ضرا، و لا موتا و لا حياة، و لا نشورا. وَ أَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ‏ تعالى فسيجازي كل عامل بعمله. وَ أَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ و هم الذين أسرفوا على أنفسهم، بالتجرّؤ على ربهم، بمعاصيه، و الكفر به، دون غيرهم.

صفحه بعد