کتابخانه تفاسیر
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1074
الشرك، و بينت حالة الخلق، و أن كلّ أحد منهم لا يستحق من العبادة مثقال ذرة؛ لأن الرسول محمدا صلّى اللّه عليه و سلّم، إذا كان لا يملك لأحد نفعا و لا ضرا، بل و لا يملك لنفسه، علم أن الخلق كلهم كذلك، فمن الخطأ و الظلم اتخاذ من هذا وصفه إلها آخر. و منها: أن علوم الغيوب قد انفرد اللّه بعلمها، فلا يعلمها أحد من الخلق، إلا من ارتضاه و اختصه بعلم شيء منها. تم تفسير سورة الجن- و الحمد للّه رب العالمين.
تفسير سورة المزمل
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] المزمل: المتغطي بثيابه كالمدثر، و هذا الوصف، حصل من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، حين أكرمه اللّه برسالته، و ابتدأه بإنزال وحيه بإرسال جبريل إليه، فرأى أمرا لم ير مثله، و لا يقدر على الثبات عليه إلا المرسلون، فاعتراه عند ذلك انزعاج، حين رأى جبريل عليه السّلام، فأتى إلى أهله فقال: «زملوني زملوني» و هو ترعد فرائصه. ثمّ جاءه جبريل، فقال: «اقرأ»، فقال: «ما أنا بقارئ»، فغطه حتى بلغ منه الجهد، و هو يعالجه على القراءة، فقرأ صلّى اللّه عليه و سلّم. ثمّ ألقى اللّه عليه الثبات، و تابع عليه الوحي، حتى بلغ مبلغا ما بلغه أحد من المرسلين. فسبحان اللّه، ما أعظم التفاوت بين ابتداء نبوته و نهايتها، و لهذا خاطبه اللّه بهذا الوصف، الذي وجد منه أول أمره. فأمره هنا بالعبادات المتعلقة به، ثمّ أمره بالصبر على أذية قومه، ثمّ أمره بالصدع بأمره، و إعلان دعوتهم إلى اللّه.
[2] فأمره هنا بأشرف العبادات، و هي الصلاة، و بآكد الأوقات و أفضلها، و هو قيام الليل. و من رحمته به، أنه لم يأمره بقيام الليل كله، بل قال: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2).
[3] ثمّ قدر ذلك، فقال: نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ ، أي: من النصف قَلِيلًا بأن يكون الثلث و نحوه
[4] أَوْ زِدْ عَلَيْهِ ، أي: على النصف، فيكون نحو الثلثين. وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا فإن ترتيل القرآن به يحصل التدبر و التفكر، و تحريك القلوب به، و التعبد بآياته، و التهيؤ و الاستعداد التام له.
[5] فإنه قال: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)، أي: نوحي إليك هذا القرآن الثقيل، أي: العظيمة معانيه، الجليلة أوصافه، و ما كان بهذا الوصف، حقيق أن يتهيأ له، و يرتل، و يتفكر فيما يشتمل عليه. ثمّ ذكر الحكمة في أمره بقيام الليل، فقال:
[6] إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ ، أي: الصلاة فيه بعد النوم هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلًا ، أي: أقرب إلى حصول مقصود القرآن، يتواطأ عليه القلب و اللسان، و تقل الشواغل، و يفهم ما يقول، و يستقيم له أمره. و هذا بخلاف النهار، فإنه لا تحصل به هذه المقاصد، و لهذا قال:
[7] إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا (7)، أي: ترددا في حوائجك و معاشك، يوجب اشتغال القلب، و عدم تفرغه التفرغ التام.
[8] وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ شامل لأنواع الذكر كلها وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ، أي: انقطع إليه، فإن الانقطاع إلى اللّه، و الإنابة إليه، هو الانفصال بالقلب عن الخلائق، و الاتصاف بمحبة اللّه، و ما يقرب إليه، و يدني من رضاه.
[9] رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ و هذا اسم جنس، يشمل المشارق و المغارب كلها، فهو تعالى رب المشارق و المغارب، و ما يكون فيها من الأنوار، و ما هي مصلحة له من العالم العلوي و السفلي، فهو رب كلّ شيء، و خالقه، و مدبره.
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، أي: لا معبود إلا وجهه الأعلى، الذي يستحق أن يخص بالمحبة و التعظيم، و الإجلال و التكريم، و لهذا قال: فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ، أي: حافظا و مدبرا لأمورك كلها.
[10] فلما أمره اللّه بالصلاة خصوصا، و بالذكر عموما، و بذلك تحصل للعبد ملكة قوية، في تحمل الأثقال، و فعل الشاق من الأعمال، أمره بالصبر، على ما يقوله
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1075
المعاندون له و يسبونه، و يسبون ما جاء به، و أن يمضي على أمر اللّه، لا يصده عنه صاد، و لا يرده راد، و أن يهجرهم هجرا جميلا، و هو الهجر، حيث اقتضت المصلحة الهجر، الذي لا أذية فيه، بل يعاملهم بالهجر و الإعراض عن أقوالهم الّتي تؤذيه، و أمره بجدالهم بالتي هي أحسن.
[11] وَ ذَرْنِي وَ الْمُكَذِّبِينَ ، أي: اتركني و إياهم، فسأنتقم منهم، و إن أمهلتهم، فلا أهملهم. و قوله: أُولِي النَّعْمَةِ ، أي: أصحاب النعمة و الغنى، الّذين طغوا حين وسع اللّه عليهم من رزقه، و أمدهم من فضله كما قال تعالى:
كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7).
[12] ثمّ توعدهم بما عنده من العقاب، فقال: إِنَّ لَدَيْنا إلى فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ . أي: إن عندنا أَنْكالًا ، أي: عذابا شديدا، جعلناه تنكيلا للذي لا يزال مستمرا على ما يغضب اللّه. وَ جَحِيماً ، أي: نارا حامية
[13] وَ طَعاماً ذا غُصَّةٍ و ذلك لمرارته و بشاعته، و كراهة طعمه و ريحه الخبيث المنتن. وَ عَذاباً أَلِيماً ، أي: موجعا مفظعا، و ذلك
[14] يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ من الهول العظيم. وَ كانَتِ الْجِبالُ الراسيات الصم الصلاب كَثِيباً مَهِيلًا ، أي: بمنزله الرمل المنهال المنتثر، ثمّ إنها تبس بعد ذلك، فتكون كالهباء المنثور.
[15] يقول تعالى: احمدوا ربكم، على إرساله هذا النبي الأمي العربي البشير النذير، الشاهد على الأمة بأعمالهم، و اشكروه، و قوموا بهذه النعمة الجليلة.
[16] و إياكم أن تكفروا، فتعصوا رسولكم، فتكونوا كفرعون، حين أرسل اللّه إليه موسى بن عمران، فدعاه إلى اللّه، و أمره بالتوحيد، فلم يصدقه، بل عصاه، فأخذه اللّه أخذا و بيلا، أي: شديدا بليغا.
[17- 18] أي: فكيف يحصل لكم الفكاك و النجاة يوم القيامة، اليوم المهول أمره، العظيم خطره، الذي يشيب الولدان، و تذوب له الجمادات العظام، فتتفطر السماء و تنتثر نجومها كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا ، أي: لا بد من قوعه، و لا حائل دونه.
[19] أي: إن هذه الموعظة الّتي نبأ اللّه بها من أحوال يوم القيامة و أهوالها تذكرة يتذكر بها المتقون، و ينزجر بها المؤمنون. فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا ، أي: طريقا موصلا إليه، و ذلك باتباع شرعه، فإنه قد أبانه كلّ البيان، و أوضحه غاية الإيضاح. و في هذا دليل على أن اللّه تعالى أقدر العباد على أفعالهم، و مكّنهم منها، لا كما يقوله الجبرية: إن أفعالهم تقع بغير مشيئتهم، فإن هذا خلاف النقل و العقل.
[20] ذكر اللّه في أول هذه السورة أنه أمر رسوله بقيام نصف الليل، و ثلثيه، أو ثلثه، و الأصل أن أمته أسوة له في الأحكام. و ذكر في هذا الموضع، أنه امتثل ذلك، هو و طائفة معه من المؤمنين. و لما كان تحرير الوقت المأمور به، مشقة على الناس، أخبر أنه سهل عليهم في ذلك غاية التسهيل، فقال: وَ اللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ ، أي: يعلم مقاديرهما، و ما يمضي، و يبقى منهما. عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ ، أي: لن تعرفوا مقداره من غير زيادة و لا نقص، لكون ذلك يستدعي انتباها، و عناء زائدا. فَتابَ عَلَيْكُمْ ، أي: فخفف عنكم، و أمركم بما تيسر عليكم، سواء زاد على
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1076
المقدر، أو نقص. فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ، أي: مما تعرفون، و لا يشق عليكم، و لهذا كان المصلي بالليل، مأمورا بالصلاة، ما دام نشيطا، فإذا فتر، أو كسل، أو نعس، فليسترح، ليأتي الصلاة بطمأنينة و راحة. ثمّ ذكر بعض الأسباب المناسبة للتخفيف، فقال: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى يشق عليهم صلاة نصف الليل، أو ثلثيه، أو ثلثه، فليصل المريض، ما يسهل عليه، و لا يكون أيضا مأمورا بالصلاة قائما، عند مشقة ذلك، بل لو شقت عليه الصلاة النافلة، فله تركها و له أجر ما كان يعمل صحيحا. وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ، أي: و علم أن منكم مسافرين، يسافرون للتجارة، ليستغنوا عن الخلق، و يتكففوا عنهم، أي: فالمسافر، حاله تناسب التخفيف، و لهذا خفف عنه في صلاة الفرض، فأبيح له جمع الصلاتين في وقت واحد، و قصر الصلاة الرباعية. وَ آخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ ، فذكر تعالى تخفيفين، تخفيفا للصحيح المقيم، يراعي فيه نشاطه، من غير أن يكلف عليه تحرير الوقت، بل يتحرى الصلاة الفاضلة، و هي ثلث الليل بعد نصفه الأول. و تخفيفا للمريض و المسافر، سواء كان سفره للتجارة، أو لعبادة، من جهاد، أو حج، أو غيره، فإنه يراعي ما لا يكلفه. فللّه الحمد و الثناء، حيث لم يجعل علينا في الدين من حرج، بل سهل شرعه، و راعى أحوال عباده، و مصالح دينهم، و أبدانهم و دنياهم. ثمّ أمر العباد بعبادتين، هما أم العبادات و عمادها: إقامة الصلاة، الّتي لا يستقيم الدين إلا بها، و إيتاء الزكاة الّتي هي برهان الإيمان، و بها تحصل المواساة للفقراء و المساكين، فقال: وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ ، أي: بأركانها و حدودها، و شروطها، و جميع مكملاتها. وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ، أي: خالصا لوجه اللّه، بنية صادقة، و تثبيت من النفس، و مال طيب، و يدخل في هذا، الصدقة الواجبة و المستحبة. ثمّ حث على عموم الخير، و أفعاله، فقال: وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَ أَعْظَمَ أَجْراً ، الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة. و ليعلم أن مثقال ذرة في هذه الدار من الخير، يقابله أضعاف أضعاف الدنيا، و ما عليها في دار النعيم المقيم، من اللذات و الشهوات. و إن الخير و البر في هذه الدنيا، مادة الخير و البر في دار القرار، و بذره و أصله و أساسه، فوا أسفاه على أوقات مضت في الغفلات، و وا حسرتاه على أزمان انقضت في غير الأعمال الصالحات، و وا غوثاه من قلوب لم يؤثر فيها وعظ بارئها، و لم ينجع فيها تشويق من هو أرحم بها من نفسها. فلك اللهم الحمد، و إليك المشتكى، و بك المستغاث، و لا حول و لا قوة إلا بك. وَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ و في الأمر بالاستغفار، بعد الحث على أفعال الطاعة و الخير، فائدة كبيرة. و ذلك أن العبد لا يخلو من التقصير فيما أمر به، إما أن لا يفعله أصلا أو يفعله على وجه ناقص. فأمر بترقيع ذلك بالاستغفار، فإن العبد يذنب آناء الليل، و النهار، فمتى لم يتغمده اللّه برحمته، و مغفرته، فإنه هالك. تم تفسير سورة المزمل- و الحمد.
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1077
سورة المدثر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] تقدم أن المزمل و المدثر بمعنى واحد، و أن اللّه أمر رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم، بالاجتهاد في عبادات اللّه القاصرة و المتعدية، فتقدم هناك، الأمر له بالعبادات الفاضلة و القاصرة، و الصبر على أذى قومه. و أمره هنا بالإعلان بالدعوة، و الصدع بالإنذار، فقال:
[2] قُمْ ، أي: بجد و نشاط فَأَنْذِرْ الناس، بالأقوال و الأفعال الّتي يحصل بها المقصود، و بيان حال المنذر عنه، ليكون ذلك أدعى لتركه.
[3] وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)، أي: عظمه بالتوحيد، و اجعل قصدك في إنذارك وجه اللّه، و أن يعظمه العباد و يقوموا بعبادته.
[4] وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) يحتمل أن المراد بالثياب، أعماله كلها، و بتطهيرها تخليصها و النصح بها، و إيقاعها على أكمل الوجوه، و تنقيتها عن المبطلات و المفسدات، و المنقصات من شر و رياء، و نفاق، و عجب و تكبر و غفلة، و غير ذلك، مما يؤمر العبد باجتنابه في عباداته. و يدخل في ذلك تطهير الثياب من النجاسة، فإن ذلك من تمام التطهير للأعمال خصوصا في الصلاة، الّتي قال كثير من العلماء: إن إزالة النجاسة عنها، شرط من شروطها:- أي: من شروط صحتها-. و يحتمل أن المراد بثيابه، الثياب المعروفة، و أنه مأمور بتطهيرها عن جميع النجاسات، في جميع الأوقات، خصوصا عند الدخول في الصلوات، و إذا كان مأمورا بطهارة الظاهر، فإن طهارة الظاهر، من تمام طهارة الباطن.
[5] وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) يحتمل أن المراد بالرجز: الأصنام، و الأوثان، الّتي عبدت مع اللّه، فأمره بتركها و البراءة منها، و مما نسب إليها، من قول أو عمل. و يحتمل أن المراد بالرجز: أعمال الشر كلها، و أقواله، فيكون أمرا له بترك الذنوب، صغارها و كبارها، ظاهرها و باطنها، فيدخل في هذا الشرك فما دونه.
[6] وَ لا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)، أي: لا تمنن على الناس، بما أسديت إليهم من النعم الدينية و الدنيوية، فتستكثر بتلك المنة، و ترى الفضل عليهم. بل أحسن إلى الناس، مهما أمكنك، و انس عندهم إحسانك، و اطلب أجرك من اللّه تعالى، و اجعل من أحسنت إليه و غيره، على حد سواء. و قد قيل: إن معنى هذا، ألا تعطي أحدا شيئا، و أنت تريد أن يكافئك عليه بأكثر منه، فيكون هذا خاصا بالنبي صلّى اللّه عليه و سلّم.
[7] وَ لِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)، أي: احتسب بصبرك، و اقصد به وجه اللّه تعالى. فامتثل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لأمر ربه، و بادر فيه، فأنذر الناس، و أوضح لهم بالآيات البينات، جميع المطالب الإلهية. و عظم اللّه تعالى، و دعا الخلق إلى تعظيمه، و طهر أعماله الظاهرة و الباطنة من كلّ سوء. و هجر كلّ ما يعبد من دون اللّه، و ما يعبد معه من الأصنام و أهلها، و الشر و أهله. و له المنة على الناس- بعد منة اللّه- من غير أن يطلب عليهم بذلك جزاء و لا شكورا. و صبر لربه أكمل صبر، فصبر على طاعة اللّه، و عن معاصيه، و صبر على أقداره المؤلمة، حتى فاق أولي العزم من المرسلين، صلوات اللّه و سلامه عليه و عليهم أجمعين.
[8] أي: فإذا نفخ في الصور للقيام من القبور، و جمع الخلائق للبعث و النشور.
[9] فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9)
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1078
لكثرة أهواله و شدائده.
[10] عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) لأنهم قد أيسوا من كلّ خير، و أيقنوا بالهلاك و البوار.
و مفهوم ذلك أنه على المؤمنين يسير، كما قال تعالى: يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ .
[11] هذه الآيات، نزلت في الوليد بن المغيرة، المعاند للحق، المبارز للّه و لرسوله بالمحاربة و المشاقة، فذمه اللّه ذما، لم يذم به غيره، و هذا جزاء كلّ من عاند الحقّ، و نابذه، أن له الخزي في الدنيا و لعذاب الآخرة أخزى، فقال: ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11)، أي: خلقته منفردا، بلا مال، و لا أهل، و لا عشيرة، فلم أزل أربيه و أعطيه.
[12] وَ جَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً (12) أي: كثيرا وَ جعلت له بَنِينَ ، أي: ذكورا شُهُوداً ، أي: حاضرين عنده على الدوام، يتمتع بهم، و يقضي بهم حوائجه، و يستنصر بهم.
[14] وَ مَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14)، أي: مكنته من الدنيا و أسبابها، حتى انقادت له مطالبه، و حصل له ما يشتهي و يريد.
[15] ثُمَ مع هذه النعم و الإمدادات يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ، أي: يطمع أن ينال نعيم الآخرة، كما نال نعيم الدنيا.
[16] كَلَّا ، أي: ليس الأمر كما طمع، بل هو بخلاف مقصوده و مطلوبه. و ذلك إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً عرفها، ثمّ أنكرها، و دعته إلى الحقّ، فلم ينقد لها. و لم يكفه أنه أعرض عنها و تولى، بل جعل يحاربها، و يسعى في إبطالها، و لهذا قال عنه:
[18] إِنَّهُ فَكَّرَ ، أي: في نفسه، وَ قَدَّرَ ما فكر فيه، ليقول قولا، يبطل به القرآن.
[19- 20] فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) لأنه قدر أمرا، ليس في طوره، و تسوّر على ما لا يناله، هو و لا أمثاله.
[21] ثُمَّ نَظَرَ (21) ما يقول،
[22] ثُمَّ عَبَسَ وَ بَسَرَ (22) في وجهه، و ظاهره نفرة عن الحقّ، و بغضا له.
[23] ثُمَّ أَدْبَرَ ، أي: تولى وَ اسْتَكْبَرَ نتيجة سعيه الفكري، و العملي و القولي.
[24- 25] فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)، أي: ما هذا كلام اللّه، بل كلام البشر، و ليس أيضا كلام البشر الأخيار، بل كلام الأشرار منهم، و الفجار، من كلّ كاذب سحار. فتبّا له، ما أبعده من الصواب، و أحراه بالخسارة و التبات!! كيف يدور في الأذهان، أو يتصور ضمير أي إنسان، أن يكون أعلى الكلام و أعظمه، كلام الرب الكريم، الماجد العظيم، يشبه كلام المخلوقين الفقراء الناقصين؟ أم كيف يتجرأ هذا الكاذب العنيد، على وصفه بهذا الوصف لكلام اللّه تعالى؟ فما حقه إلا العذاب الشديد، و لهذا قال تعالى:
[26- 28] سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَ ما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَ لا تَذَرُ (28)، أي: لا تبقي من الشدة، و لا على المعذب شيئا، إلا و بلغته.
[29] لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29)، أي: تلوحهم و تصليهم في عذابها، و تقلقهم بشدة حرها و قرّها.
[30] عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30) من الملائكة خزنة لها، غلاظ شداد، لا يعصون اللّه ما أمرهم، و يفعلون ما يؤمرون.
[31] وَ ما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً و ذلك لشدتهم و قوتهم. وَ ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا ، يحتمل أن المراد: إلا لعذابهم و عقابهم في الآخرة، و لزيادة نكالهم فيها، و العذاب، يسمى فتنة، كما قال تعالى: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13). و يحتمل أن المراد: أنا ما أخبرناكم بعدتهم، إلا لنعلم من يصدق ممن يكذّب، و يدل على هذا، ما
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1079
ذكره بعده في قوله: لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ يَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً ، فإن أهل الكتاب، إذا وافق ما عندهم و طابقه، ازداد يقينهم بالحق، و المؤمنون كلما أنزل اللّه آية، فآمنوا بها، و صدقوا، ازداد إيمانهم. وَ لا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ الْمُؤْمِنُونَ ، أي: ليزول عنهم الريب و الشك. و هذه مقاصد جليلة، يعتني بها أولو الألباب، و هي: السعي في اليقين، و زيادة الإيمان في كلّ وقت، و كلّ مسألة من مسائل الدين، و دفع الشكوك و الأوهام، التي تعرض في مقابلة الحقّ، فجعل ما أنزله على رسوله، محصلا لهذه المقاصد الجليلة، و مميزا للصادقين من الكاذبين. و لهذا قال:
وَ لِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ، أي: شك و شبهة و نفاق. وَ الْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا و هذا على وجه الحيرة و الشك منهم، و الكفر بآيات اللّه، و هذا و ذاك، من هداية اللّه لمن يهديه، و إضلاله لمن يضله، و لهذا قال: كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ فمن هداه اللّه، جعل ما أنزل على رسوله رحمة في حقه، و زيادة في إيمانه و دينه. و من أضله، جعل ما أنزله على رسوله، زيادة شقاء عليه و حيرة، و ظلمه في حقه، و الواجب أن يتلقى ما أخبر اللّه به و رسوله بالتسليم. وَ ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ من الملائكة و غيرهم إِلَّا هُوَ فإذا كنتم جاهلين بجنوده، و أخبركم بها العليم الخبير، فعليكم أن تصدقوا خبره، من غير شك و لا ارتياب. وَ ما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ ، أي: و ما هذه الموعظة و التذكار، مقصودا به العبث و اللعب، و إنما المقصود به، أن يتذكر به البشر ما ينفعهم فيفعلونه، و ما يضرهم فيتركونه.
[32] كَلَّا هنا بمعنى: حقا، أو بمعنى «ألا» الاستفتاحية. فأقسم تعالى بالقمر، و بالليل وقت إدباره، و النهار وقت إسفاره، لاشتمال المذكورات، على آيات اللّه العظيمة، الدالة على كمال قدره اللّه و حكمته، و سعة سلطانه، و عموم رحمته و إحاطة علمه. و المقسم عليه، قوله:
[35] إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35)، أي: إن النار لإحدى العظائم الطامة و الأمور الهامة. فإذا أعلمناكم بها، و كنتم على بصيرة، من أمرها، فمن شاء منكم أن يتقدم، فيعمل بما يقربه إلى اللّه، و يدنيه من رضاه، و يزلفه من دار كرامته. أو يتأخر عما خلق له، و عما يحبه اللّه و يرضاه، فيعمل بالمعاصي، و يتقرب إلى جهنم، كما قال تعالى: وَ قُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ الآية.
[38] كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ من أفعال الشر و أعمال السوء، رَهِينَةٌ بها موثقة بسعيها، قد ألزم عنقها، و غل في رقبتها، و استوجبت به العذاب.
[39] إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فإنهم لم يرتهنوا، بل أطلقوا و فرحوا.
[40] فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41)، أي: في جنات قد حصل لهم فيها جميع مطلوباتهم، و تمت لهم الراحة و الطمأنينة، حتى أقبلوا يتساءلون، فأفضت بهم المحادثة، أن سألوا عن المجرمين: أي حال وصلوا إليها، و هل وجدوا ما وعدهم اللّه؟ فقال بعضهم لبعض: «هل أنتم مطلعون عليهم»، فاطلعوا عليهم في وسط الجحيم، يعذبون، فقالوا لهم:
[42] ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)، أي: أيّ شيء أدخلكم فيها؟ و بأي ذنب استحققتموها؟
[43- 44] قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) فلا إخلاص للمعبود و لا إحسان، و لا نفع للخلق المحتاجين.
[45] وَ كُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45)، أي: نخوض بالباطل، و نجادل به الحقّ.
[46] وَ كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46)، هذه آثار الخوض بالباطل، و هو التكذيب بالحق، و من أحق الحقّ، يوم الدين، الذي هو محل الجزاء على الأعمال، و ظهور ملك اللّه و حكمه العدل لسائر الخلق.
[47] فاستمر عملنا على هذا المذهب الباطل حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47)، أي: الموت: فلما ماتوا على الكفر تعذرت حينئذ عليهم الحيل، و انسدّ في وجوههم باب الأمل.
[48] فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) لأنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى، و هؤلاء لا يرضى اللّه أعمالهم.
[49] فلما بين اللّه مآل المخالفين، و بين ما يفعل بهم، عطف على الموجودين بالعتاب و اللوم، فقال: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49)، أي: صادين غافلين عنها.
[50] كَأَنَّهُمْ في نفرتهم الشديدة منها، حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ ،
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1080
أي: حمر وحش، نفرت فنفر بعضها بعضا، فزاد عدوها.
[51] فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)، أي: من صائد و رام يريدها، أو من أسد و نحوه. و هذا من أعظم ما يكون من النفور عن الحقّ، و مع هذا النفور و الإعراض، يدعون الدعاوى الكبار.
[52] بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً نازلة عليه من السماء، يزعم أنه لا ينقاد للحق إلا بذلك، و قد كذبوا، فإنهم لو جاءتهم كلّ آية لم يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم، لأنهم جاءتهم الآيات البينات التي تبين الحقّ و توضحه، فلو كان فيهم خير لآمنوا.
[53] و لهذا قال:
كَلَّا ، أي: لا نعطيهم ما طلبوا، و هم ما قصدوا بذلك إلا التعجيز. بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ فلو كانوا يخافونها، لما جرى منهم ما جرى.
[54] كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) الضمير إما أن يعود على هذه السورة، أو على ما اشتملت عليه من هذه الموعظة.
[55] فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) لأنه قد بين له السبيل، و وضع له الدليل.
[56] وَ ما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ فإن مشيئة اللّه، نافذة عامة، لا يخرج عنها حادث قليل و لا كثير، ففيها رد على القدرية، الّذين لا يدخلون أفعال العباد تحت مشيئة اللّه، و الجبرية الّذين يزعمون أنه ليس للعبد مشيئة، و لا فعل حقيقة، و إنما هو مجبور على أفعاله. فأثبت اللّه تعالى للعبد مشيئته حقيقة و فعلا، و جعل ذلك تابعا لمشيئته. هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ، أي: هو أهل أن يتقى و يعبد، لأنه الإله الذي لا تنبغي العبادة إلا له، و أهل أن يغفر لمن اتقاه، و اتبع رضاه. تم تفسير سورة المدثر- و للّه الحمد و المنة.
تفسير سورة القيامة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] ليست «لا» هاهنا نافية و لا زائدة، و إنما أتى بها للاستفتاح و الاهتمام بما بعدها، و لكثرة الإتيان بها مع اليمين، لا يستغرب الاستفتاح بها، و إن لم تكن في الأصل موضوعة للاستفتاح. فالمقسم به في هذا الموضع، هو المقسم عليه، و هو: البعث بعد الموت، و قيام الناس من قبورهم، ثمّ وقوفهم ينتظرون ما يحكم به الرب عليهم.
[2] وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) و هي جميع النفوس الخيرة و الفاجرة، سمّيت «لوّامة» لكثيرة تلونها و ترددها، و عدم ثبوتها على حالة من أحوالها، و لأنها عند الموت تلوم صاحبها على ما فعلت، بل نفس المؤمن تلوم صاحبها في الدنيا، على ما حصل منه، من تفريط و تقصير، في حق من الحقوق، أو غفلة. فجمع بين الإقسام بالجزاء، و على الجزاء، و بين مستحق الجزاء. ثمّ أخبر مع هذا، أن بعض المعاندين يكذبون بيوم القيامة، فقال: