کتابخانه تفاسیر
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1116
[11] وَ ما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ الذي أطغاه، و استغنى به، و بخل به. إِذا تَرَدَّى ، أي: هلك و مات، فإنه لا يصحب الإنسان إلا عمله الصالح. و أما ماله الذي لم يخرج منه الواجب، فإنه يكون و بالا عليه، إذ لم يقدم منه لآخرته شيئا.
[12] إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12)، أي: إن الهدى المستقيم طريقه يوصل إلى اللّه، و يدني من رضاه. و أما الضلال، فطرقه مسدودة عن اللّه، لا توصل صاحبها إلا للعذاب الشديد.
[13] وَ إِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَ الْأُولى (13) ملكا و تصرفا، ليس له فيهما مشارك، فليرغب الراغبون إليه في الطلب، و لينقطع رجاؤهم عن المخلوقين.
[14] فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14)، أي: تستعر و تتوقد.
[15- 16] لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ بالخبر وَ تَوَلَّى عن الأمر.
[17- 18] وَ سَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) بأن يكون قصده به تزكية نفسه، و تطهيرها من الذنوب و الأدناس، قاصدا به وجه اللّه تعالى. فدل هذا على أنه إذا تضمن الإنفاق المستحب، ترك واجب كدين و نفقة و نحوهما، فإنه غير مشروع، بل تكون عطيته مردودة عند كثير من العلماء، لأنه يتزكى بفعل مستحب يفوت عليه الواجب.
[19] وَ ما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19)، أي: ليس لأحد من الخلق على هذا الأتقى نعمة تجزى، إلا و قد كافأه عليها، و ربما بقي له الفضل و المنة على الناس، فتمحض عبدا للّه، لأنه رقيق إحسانه وحده. و أما من بقيت عليه نعمة الناس، فلم يجزها و يكافئها، فإنه لا بد أن يترك الناس، و يفعل لهم ما ينقص إخلاصه. و هذه الآية و إن كانت متناولة لأبي بكر الصديق رضي اللّه عنه، بل قد قيل: إنها نزلت بسببه، فإنه- رضي اللّه عنه- ما لأحد عنده من نعمة تجزى، حتى و لا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، إلا نعمة الرسول التي لا يمكن جزاؤها، و هي نعمة الدعوة إلى الإسلام، و تعليم الهدى و دين الحق، فإن للّه و رسوله المنة على كل أحد. منة لا يمكن لها جزاء و لا مقابلة، فإنها متناولة لكل من اتصف بهذا الوصف الفاضل. فلم يبق لأحد عليه من الخلق نعمة تجزى، فبقيت أعماله خالصة لوجه اللّه تعالى.
[20- 21] و لهذا قال: إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَ لَسَوْفَ يَرْضى (21) هذا الأتقى بما يعطيه اللّه من أنواع الكرامات و المثوبات. تم تفسير سورة الليل و الحمد للّه رب العالمين.
تفسير سورة الضحى
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1- 2] أقسم تعالى، بالنهار إذا انتشر ضياؤه بالضحى، و بالليل إذا سجى، و ادلهمّت ظلمته، على اعتناء اللّه
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1117
برسوله صلّى اللّه عليه و سلّم، فقال:
[3] ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ ، أي: ما تركك منذ اعتنى بك، و لا أهملك منذ رباك و رعاك، بل لم يزل يربيك أكمل تربية، و يعليك درجة بعد درجة. وَ ما قَلى ك اللّه، أي: ما أبغضك، منذ أحبك، فإن نفي الضد، دليل على ثبوت ضده، و النفي المحض، لا يكون مدحا، إلا إذا تضمن ثبوت كمال. فهذه حال الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم الماضية و الحاضرة، أكمل حال و أتمها، محبة اللّه له، و استمرارها و ترقيته في درجات الكمال، و دوام اعتناء اللّه به.
[4] و أما حاله المستقبلة، فقال: وَ لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4)، أي: كل حالة متأخرة من أحوالك، فإن لها الفضل على الحالة السابقة. فلم يزل صلّى اللّه عليه و سلّم يصعد في درجات المعالي، و يمكن اللّه له دينه، و ينصره على أعدائه، و يسدده في أحواله، حتى مات، و قد وصل إلى حال ما وصل إليها الأولون و الآخرون من الفضائل و النعم، و قرة العين، و سرور القلب.
[5] ثم بعد هذا، لا تسأل عن حاله في الآخرة، من تفاصيل الإكرام، و أنواع الإنعام. و لهذا قال: وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) و هذا أمر لا يمكن التعبير عنه إلا بهذه العبارة الجامعة الشاملة.
[6] ثم امتن عليه بما يعلمه من أحواله الخاصة، فقال: أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6)، أي: وجدك لا أم لك، و لا أب، بل قد مات أبوه، و هو لا يدبر نفسه، فآواه اللّه، و كفله جده عبد المطلب، ثم لما مات جده، كفّله اللّه عمه أبا طالب، حتى أيده بنصره و بالمؤمنين.
[7] وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى (7)، أي: وجدك لا تدري ما الكتاب، و لا الإيمان، فعلّمك ما لم تكن تعلم، و وفّقك لأحسن الأعمال و الأخلاق.
[8] وَ وَجَدَكَ عائِلًا ، أي: فقيرا فَأَغْنى ك اللّه، بما فتح عليك من البلدان، التي جبيت لك أموالها و خراجها.
[9] فالذي أزال عنك هذه النقائص، سيزيل عنك كل نقص، و الذي أوصلك إلى الغنى، و آواك و نصرك، و هداك، قابل نعمته بالشكران. و لهذا قال: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9)، أي: لا تسيء معاملة اليتيم، و لا يضق صدرك عليه، و لا تنهره، بل أكرمه، و أعطه ما تيسر، و اصنع به كما تحب أن يصنع بولدك من بعدك.
[10] وَ أَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10)، أي: لا يصدر منك كلام للسائل، يقتضي رده عن مطلوبه، بنهر و شراسة خلق، بل أعطه ما تيسر عندك أو ردّه بمعروف و إحسان. و يدخل في هذا: السائل للمال، و السائل للعلم، و لهذا كان المعلم مأمورا بحسن الخلق مع المتعلم، و مباشرته بالإكرام، و التحنن عليه، فإنه في ذلك معونة له على مقصده، و إكراما لمن كان يسعى في نفع العباد و البلاد.
[11] وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) و هذا يشمل النعم الدينية و الدنيوية، أي: أثن على اللّه بها، و خصها بالذكر، إن كان هناك مصلحة. و إلا فحدث بنعم اللّه على الإطلاق، فإن التحدث بنعمة اللّه، داع لشكرها، و موجب لتحبيب القلوب إلى من أنعم بها، فإن القلوب مجبولة على محبة المحسن. تم تفسير سورة الضحى- بحمد اللّه و عونه.
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1118
سورة الشرح
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] يقول تعالى- ممتنا على رسوله-: أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)، أي: نوسعه لشرائع الدين و الدعوة إلى اللّه، و الاتصاف بمكارم الأخلاق، و الإقبال على الآخرة، و تسهيل الخيرات. فلم يكن ضيقا حرجا، حتى لا يكاد ينقاد لخير، و لا تكاد تجده منبسطا.
[2- 3] وَ وَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2)، أي: ذنبك الَّذِي أَنْقَضَ ، أي: أثقل ظَهْرَكَ كما قال تعالى:
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ .
[4] وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4)، أي: أعلينا قدرك، و جعلنا لك الثناء الحسن العالي، الذي لم يصل إليه أحد من الخلق. فلا يذكر اللّه إلا ذكر معه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، كما في الدخول في الإسلام، و في الأذان، و الإقامة، و الخطب، و غير ذلك من الأمور التي أعلى اللّه بها، ذكر رسوله محمد صلّى اللّه عليه و سلّم. و له في قلوب أمته، من المحبة، و الإجلال، و التعظيم، ما ليس لأحد غيره، بعد اللّه تعالى. فجزاه اللّه عن أمته أفضل ما جزى نبيا عن أمته.
[5- 6] و قوله: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) بشارة عظيمة، أنه كلما وجد عسر و صعوبة، فإن اليسر يقارنه و يصاحبه، حتى لو دخل العسر جحر ضب، لدخل عليه اليسر، فأخرجه كما قال تعالى: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً . و كما قال النبي صلى اللّه عليه و سلّم: «و إن الفرج مع الكرب، و إن مع العسر يسرا». و تعريف «العسر» في الآيتين، يدل على أنه واحد، و تنكير «اليسر» يدل على تكراره، فلن يغلب عسر يسرين. و في تعريفه بالألف و اللام، الدال على الاستغراق و العموم دلالة على أن كل عسر، و إن بلغ من الصعوبة ما بلغ، فإنه في آخره التيسير، ملازم له. ثم أمر رسوله أصلا، و المؤمنين تبعا، بشكره و القيام بواجب نعمه، فقال:
[7] فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7)، أي:
إذا تفرغت من أشغالك، و لم يبق في قلبك ما يعوقه، فاجتهد في العبادة و الدعاء.
[8] وَ إِلى رَبِّكَ وحده فَارْغَبْ ، أي: أعظم الرغبة في إجابة دعائك، و قبول دعواتك. و لا تكن ممن إذا فرغوا لعبوا و أعرضوا عن ربهم، و عن ذكره، فتكون من الخاسرين. و قد قيل: إن معنى هذا: فإذا فرغت من الصلاة و أكملتها، فانصب في الدعاء. و إلى ربك فارغب في سؤال مطالبك. و استدل من قال هذا القول، على مشروعية الدعاء و الذكر، عقب الصلوات المكتوبات، و اللّه أعلم. تم تفسير سورة الشرح و «الإنشراح».
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1119
سورة التين
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] وَ التِّينِ هو التين المعروف، و كذلك وَ الزَّيْتُونِ أقسم بهاتين الشجرتين، لكثرة منافع شجرهما و ثمرهما، و لأن سلطانهما في أرض الشام، محل نبوة عيسى ابن مريم عليه السلام.
[2] وَ طُورِ سِينِينَ (2)، أي: طور سيناء، محل نبوة موسى عليه السلام.
[3] وَ هذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) و هو مكة المكرمة، محل نبوة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم. فأقسم تعالى بهذه المواضع المقدسة، التي اختارها و ابتعث منها أفضل الأنبياء و أشرفهم. و المقسم عليه قوله:
[4] لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)، أي: تام الخلق، متناسب الأعضاء، منتصب القامة، لم يفقد مما يحتاج إليه ظاهرا و باطنا شيئا.
[5] و مع هذه النعم العظيمة، التي ينبغي له القيام بشكرها، فأكثر الخلق منحرفون عن شكر المنعم، مشتغلون باللهو و اللعب، قد رضوا لأنفسهم، بأسافل الأمر، و سفساف الأخلاق. فردهم اللّه في أسفل سافلين، أي: أسفل النار، موضع العصاة المتمردين على ربهم، إلا من منّ اللّه عليه بالإيمان، و العمل الصالح، و الأخلاق الفاضلة العالية.
[6] فَلَهُمْ بذلك المنازل العالية، و أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ، أي: غير مقطوع، بل لذات متوافرة، و أفراح متواترة، و نعم متكاثرة، في أبد لا يزول، و نعيم لا يحول، أكلها دائم و ظلها.
[7] فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7)، أي: أي شيء يكذبك أيها الإنسان، بيوم الجزاء على الأعمال، و قد رأيت من آيات اللّه الكثيرة ما يحصل لك به اليقين، و من نعمه ما يوجب عليك أن لا تكفر بشيء منها؟
[8] أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8)، فهل تقتضي حكمته أن يترك الخلق سدى لا يؤمرون و لا ينهون، و لا يثابون و لا يعاقبون؟ أم الذي خلق بني الإنسان أطوارا بعد أطوار، و أوصل إليهم من النعم و الخير و البر ما لا يحصونه، و رباهم التربية الحسنة، لا بد أن يعيدهم إلى دار هي مستقرهم، و غايتهم التي إليها يقصدون، و نحوها يؤمون. تم تفسير سورة التين- و الحمد.
تفسير سورة العلق
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] هذه السورة أول السور القرآنية نزولا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم. فإنها نزلت في مبادئ النبوة، إذ كان لا يدري ما
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1120
الكتاب و لا الإيمان. فجاءه جبريل عليه السلام بالرسالة، و أمره أن يقرأ، فاعتذر، و قال: «ما أنا بقارئ» فلم يزل به حتى قرأ. فأنزل اللّه: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) عموم الخلق. ثم خص الإنسان، و ذكر ابتداء خلقه مِنْ عَلَقٍ .
فالذي خلق الإنسان، و اعتنى بتدبيره، لا بد أن يدبر بالأمر و النهي، و ذلك بإرسال الرسل، و إنزال الكتب. و لهذا أتى بعد الأمر بالقراءة، بخلقه للإنسان.
[3] ثم قال: اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)، أي: كثير الصفات واسعها، كثير الكرم و الإحسان، واسع الجود، الذي من كرمه أن علم أنواع العلوم.
[4- 5] و الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) فإنه تعالى أخرجه من بطن أمه، لا يعلم شيئا، و جعل له السمع و البصر و الفؤاد، و يسر له أسباب العلم.
فعلمه القرآن، و علمه الحكمة، و علمه بالقلم، الذي به تحفظ العلوم، و تضبط الحقوق، و تكون رسلا للناس، تنوب مناب خطابهم. فلله الحمد و المنة، الذي أنعم على عباده بهذه النعم التي لا يقدرون لها، على جزاء و لا شكور. ثم منّ عليهم بالغنى و سعة الرزق.
[11] و لكن الإنسان- لجهله و ظلمه- إذا رأى نفسه غنيا، طغى و بغى، و تجبر عن الهدى، و نسي أن لربه الرجعى، و لم يخف الجزاء، بل ربما وصلت به الحال إلى أنه يترك الهدى بنفسه، و يدعو غيره إلى تركه، فينهى عن الصلاة التي هي أفضل أعمال الإيمان، يقول اللّه لهذا المتمرد العاتي: أَ رَأَيْتَ أيها الناهي للعبد إذا صلى إِنْ كانَ العبد المصلي عَلَى الْهُدى العلم بالحق، و العمل به.
[12] أَوْ أَمَرَ غيره بِالتَّقْوى . فهل يحسن أن ينهى، من هذا وصفه؟ أ ليس نهيه من أعظم المحادّة للّه، و المحاربة للحق؟ فإن النهي لا يتوجه إلا ممن هو في نفسه على غير الهدى، أو كان يأمر غيره بخلاف التقوى.
[13] أَ رَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ الناهي بالحق وَ تَوَلَّى عن الأمر، أما يخاف اللّه، و يخشى عقابه؟ أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) ما يعمل و يفعل؟
[15- 16] ثم توعده إن استمر على حاله فقال: كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ عما يقول و يفعل لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ ، أي: لنأخذن بناصيته أخذا عنيفا، و هي حقيقة بذلك، فإنها ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16)، أي: كاذبة في قولها، خاطئة في فعلها.
[17] فَلْيَدْعُ هذا الذي حق عليه العذاب نادِيَهُ ، أي: أهل مجلسه و أصحابه، و من حوله، ليعينوه على ما نزل به.
[18] سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18)، أي: خزنة جهنم، لأخذه و عقوبته. فلينظر أي الفريقين أقوى و أقدر؟ فهذه حالة الناهي، و ما توعد به من العقوبة. و أما حالة المنهي، فأمره اللّه أن لا يصغي إلى هذا الناهي، و لا ينقاد لنهيه، فقال:
[19] كَلَّا لا تُطِعْهُ ، أي: فإنه لا يأمر إلا بما فيه الخسار. وَ اسْجُدْ لربك وَ اقْتَرِبْ منه في السجود و غيره من أنواع الطاعات و القربات، فإنها كلها تدني من رضاه، و تقرب منه. و هذا عام لكل ناه عن الخير، و لكل منهي عنه. و إن كانت نازلة في شأن أبي جهل، حين نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عن الصلاة، و عذبه و آذاه. تم تفسير سورة العلق- و الحمد للّه رب العالمين.
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1121
سورة القدر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] يقول تعالى مبينا لفضل القرآن و علو قدره: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) و ذلك أن اللّه تعالى، ابتدأ بإنزال القرآن في رمضان في ليلة القدر، و رحم اللّه بها العباد رحمة عامة، لا يقدر العباد لها شكرا. و سميت ليلة القدر، لعظم قدرها، و فضلها عند اللّه، و لأنه يقدر فيها ما يكون في العام من الأجل و الأرزاق، و المقادير القدرية.
[2] ثم فخّم شأنها، و عظّم مقدارها، فقال: وَ ما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2)، أي: فإن شأنها جليل، و خطرها عظيم.
[3] لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)، أي: تعادل في فضلها ألف شهر، فالعمل الذي يقع فيها، خير من العمل في ألف شهر، خالية منها. و هذا مما تتحير فيه الألباب، و تندهش له العقول، حيث منّ تعالى على هذه الأمة الضعيفة القوة و القوى، بليلة يكون العمل فيها يقابل و يزيد على ألف شهر، عمر رجل معمر عمرا طويلا، نيفا و ثمانين سنة.
[4- 5] تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها ، أي: يكثر نزولهم فيها مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (5) سَلامٌ هِيَ ، أي: سالمة من كل آفة و شر، و ذلك لكثرة خيرها. حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ، أي: مبتداها من غروب الشمس، و منتهاها طلوع الفجر. و قد تواترت الأحاديث في فضلها، و أنها في رمضان، و في العشر الأواخر منه، خصوصا في أوتاره، و هي باقية في كل سنة إلى قيام الساعة. و لهذا كان النبي صلّى اللّه عليه و سلم يعتكف، و يكثر من التعبد في العشر الأواخر من رمضان، رجاء ليلة القدر، و اللّه أعلم. تم تفسير سورة القدر- بعون اللّه تعالى.
تفسير سورة البينة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] يقول تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ، أي: من اليهود و النصارى وَ الْمُشْرِكِينَ من سائر أصناف الأمم. مُنْفَكِّينَ عن كفرهم و ضلالهم، الذي هم عليه، أي: لا يزالون في غيهم و ضلالهم، لا يزيدهم مرور الأوقات إلا كفرا. حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ الواضحة، و البرهان الساطع، ثم فسر تلك البينة فقال:
[2] رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ ، أي: أرسله اللّه، يدعو الناس إلى الحق، و أنزل عليه كتابا يتلوه، ليعلم الناس الحكمة، و يزكيهم، و يخرجهم من
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1122
الظلمات إلى النور، و لهذا قال: يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً ، أي:
محفوظة من قربان الشياطين، لا يمسها إلا المطهرون، لأنها أعلى ما يكون من الكلام.
[3- 4] و لهذا قال عنها:
فِيها ، أي: في تلك الصحف كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ، أي: أخبار صادقة، و أوامر عادلة تهدي إلى الحق، و إلى صراط مستقيم.
فإذا جاءتهم هذه البينة، فحينئذ يتبين طالب الحق، ممن ليس له مقصد في طلبه، فيهلك من هلك عن بينة، و يحيا من حي عن بينة. و إذا لم يؤمن أهل الكتاب بهذا الرسول، و ينقادوا له، فليس ذلك ببدع من ضلالهم و عنادهم، فإنهم ما تفرّقوا و اختلفوا، و صاروا أحزابا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ، التي توجب لأهلها الاجتماع و الاتفاق. و لكنهم لرداءتهم و نذالتهم، لم يزدهم الهدى إلّا ضلالا، و لا البصيرة إلّا عمى، مع أن الكتب كلها، جاءت بأصل واحد، و دين واحد.
[5] وَ ما أُمِرُوا في سائر الشرائع إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ، أي: قاصدين بجميع عباداتهم، الظاهرة و الباطنة، وجه اللّه، و طلب الزلفى لديه. حُنَفاءَ ، أي:
معرضين مائلين عن سائر الأديان، المخالفين لدين التوحيد. و خصّ الصلاة و الزكاة بالذكر، مع أنهما داخلان في قوله: لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لفضلهما و شرفهما، و كونهما العبادتين اللتين من قام بهما، قام بجميع شرائع الدين. وَ ذلِكَ أن التوحيد و الإخلاص في الدين، هما دِينُ الْقَيِّمَةِ ، أي: الدين المستقيم، الموصل إلى جنات النعيم، و ما سواه فطرق موصلة إلى الجحيم.
[6] ثمّ ذكر جزاء الكافرين، بعد ما جاءتهم البينة، فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ الْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ قد أحاط بهم عذابها، و اشتد عليهم عقابها. خالِدِينَ فِيها لا يفتّر عنهم العذاب، و هم فيها مبلسون. أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ لأنهم عرفوا الحقّ و تركوه، و خسروا الدنيا و الآخرة.
[7] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) لأنهم عبدوا اللّه و عرفوه، و فازوا بنعيم الدنيا و الآخرة.
[8] جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ ، أي: جنات إقامة، لا ظعن فيها و لا رحيل، و لا طلب لغاية فوقها.
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ فرضي عنهم بما قاموا به من مراضيه، و رضوا عنه، بما أعد لهم من أنواع الكرامات. ذلِكَ الجزاء الحسن لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ، أي: لمن خاف اللّه فأحجم عن معاصيه، و قام بما أوجب عليه. تم تفسير سورة البينة- بفضل اللّه و توفيقه.
تفسير سورة الزلزلة