کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تيسير الكريم الرحمن

سورة الفاتحة سورة آل عمران سورة المائدة سورة الأنعام تفسير سورة الأعراف تفسير سورة الأنفال تفسير سورة التوبة تفسير سورة يونس تفسير سورة هود تفسير سورة الرعد سورة إبراهيم تفسير سورة الحجر سورة النحل سورة الإسراء سورة الكهف تفسير سورة مريم سورة طه تفسير سورة الأنبياء تفسير سورة الحج تفسير سورة المؤمنون تفسير سورة النور تفسير سورة الفرقان تفسير سورة الشعراء تفسير سورة النمل تفسير سورة العنكبوت تفسير سورة الروم تفسير سورة لقمان تفسير سورة السجدة سورة الأحزاب سورة سبأ تفسير سورة فاطر تفسير سورة يس تفسير سورة الصافات تفسير سورة الزمر تفسير سورة فصلت سورة الشورى سورة الزخرف تفسير سورة الدخان سورة الجاثية سورة الأحقاف سورة محمد تفسير سورة الحجرات تفسير سورة ق سورة الطور تفسير سورة النجم سورة القمر سورة الرحمن سورة الواقعة تفسير سورة الحديد تفسير سورة المجادلة تفسير سورة الحشر تفسير سورة الممتحنة تفسير سورة الصف سورة الجمعة تفسير سورة المنافقون تفسير سورة التغابن تفسير سورة الطلاق تفسير سورة التحريم تفسير سورة الملك تفسير سورة القلم سورة الحاقة سورة المعارج سورة نوح سورة الجن تفسير سورة المزمل سورة المدثر تفسير سورة القيامة سورة الإنسان سورة المرسلات تفسير سورة النبأ سورة النازعات سورة عبس تفسير سورة التكوير سورة الإنفطار سورة المطففين تفسير سورة الإنشقاق سورة البروج سورة الطارق سورة الأعلى تفسير سورة الغاشية تفسير سورة الفجر تفسير سورة البلد سورة الشمس سورة الليل تفسير سورة الضحى سورة الشرح سورة التين تفسير سورة العلق سورة القدر تفسير سورة البينة تفسير سورة الزلزلة تفسير سورة العاديات تفسير سورة القارعة سورة التكاثر سورة العصر تفسير سورة الهمزة سورة الفيل تفسير سورة قريش سورة الماعون سورة الكوثر تفسير سورة الكافرون سورة النصر تفسير سورة المسد تفسير سورة الإخلاص سورة الفلق تفسير سورة الناس محتوى تفسير الإمام السعدي

تيسير الكريم الرحمن


صفحه قبل

تيسير الكريم الرحمن، ص: 624

و يتعوذون بنا، من الأمور المرهوب منها، من مضار الدارين، و هم راغبون لا غافلون، لاهون و لا مدلون.

وَ كانُوا لَنا خاشِعِينَ‏ أي: خاضعين متذللين متضرعين، و هذا لكمال معرفتهم بربهم.

[91] أي: و اذكر مريم، عليها السلام، مثنيا عليها مبينا لقدرها، شاهرا لشرفها، فقال: وَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها أي: حفظته من الحرام و قربانه، بل و من الحلال، فلم تتزوج لاشتغالها بالعبادة، و استغراق وقتها بالخدمة لربها. و حين جاءها جبريل في صورة بشر سويّ تامّ الخلق و الحسن‏ قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) فجازاها اللّه من جنس عملها، و رزقها ولدا من غير أب، بل نفخ فيها جبريل عليه السلام، فحملت بإذن اللّه.

وَ جَعَلْناها وَ ابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ‏ حيث حملت به، و وضعته من دون مسيس أحد، و حيث تكلم في المهد، و برّأها مما ظن بها المتهمون و أخبر عن نفسه في تلك الحالة، و أجرى اللّه على يديه من الخوارق و المعجزات، ما هو معلوم، فكانت و ابنها آية للعالمين، يتحدث بها، جيلا بعد جيل، و يعتبر بها المعتبرون.

[92] و لما ذكر الأنبياء عليهم السلام، قال مخاطبا للناس: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً أي: هؤلاء الرسل المذكورون، هم أمتكم و أئمتكم الذين بهم تأتمون، و بهديهم تقتدون، كلهم على دين واحد، و صراط واحد، و الرب أيضا واحد. و لهذا قال: وَ أَنَا رَبُّكُمْ‏ الذي خلقتكم، و ربيتكم بنعمتي، في الدين و الدنيا، فإذا كان الرب واحدا، و النبي واحدا، و الدين واحدا، و هو: عبادة اللّه، وحده لا شريك له، بجميع أنواع العبادة- كان وظيفتكم، و الواجب عليكم، القيام بها. و لهذا قال: فَاعْبُدُونِ‏ فرتب العبادة على ما سبق بالفاء، ترتيب المسبب على سببه.

[93] و كان اللائق، الاجتماع على هذا الأمر، و عدم التفرق فيه، و لكن البغي و الاعتداء، أبيا إلا الافتراق و التقطع. و لهذا قال: وَ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ‏ أي: تفرق الأحزاب المنتسبون لاتباع الأنبياء فرقا، و تشتتوا، كلّ يدّعي أن الحق معه، و الباطل مع الفريق الآخر و كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ* . و قد علم أن المصيب منهم، من كان سالكا للدين القويم، و الصراط المستقيم، مؤتما بالأنبياء، و سيظهر هذا، إذا انكشف الغطاء، و برح الخفاء، و حشر اللّه الناس لفصل القضاء. فحينئذ يتبين الصادق من الكاذب، و لهذا قال: كُلٌ‏ من الفرق المتفرقة و غيرهم‏ إِلَيْنا راجِعُونَ‏ أي: فنجازيهم أتم الجزاء.

[94] ثم فصل جزاءه فيهم، منطوقا و مفهوما، فقال: فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ‏ أي: الأعمال التي شرعتها الرسل، و حثت عليها الكتب‏ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ‏ باللّه و برسله، و ما جاؤوا به‏ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ‏ أي: لا نضيع سعيه و لا نبطله، بل نضاعفه له، أضعافا كثيرة. وَ إِنَّا لَهُ كاتِبُونَ‏ أي: مثبتون له في اللوح المحفوظ، و في الصحف التي مع الحفظة. أي: و من يعمل من الصالحات، أو عملها و هو ليس بمؤمن، فإنه محروم، خاسر في دينه، و دنياه.

[95] أي: يمتنع على القرى المهلكة المعذبة، الرجوع إلى الدنيا، ليستدركوا ما فرطوا فيه فلا سبيل إلى الرجوع لمن أهلك و عذب. فليحذر المخاطبون، أن يستمروا على ما يوجب الإهلاك فيقع بهم، فلا يمكن رفعه، و ليقلعوا وقت الإمكان و الإدراك.

[96] هذا تحذير من اللّه للناس، أن يقيموا على الكفر و المعاصي، و أنه قد قرب انفتاح يأجوج و مأجوج، و هما قبيلتان من بني آدم، و قد سد عليهم ذو القرنين، لما شكي إليه إفسادهم في الأرض. و في آخر الزمان، ينفتح السد عنهم، فيخرجون إلى الناس و في هذه الحالة و الوصف، الذي ذكره اللّه من كل مكان مرتفع، و هو الحدب ينسلون أي: يسرعون. في هذا، دلالة على كثرتهم الباهرة، و إسراعهم في الأرض، إما بذواتهم، و إما بما خلق اللّه لهم من الأسباب التي تقرب لهم البعيد، و تسهل عليهم الصعب، و أنهم يقهرون الناس، و يعلون عليهم في الدنيا، و أنه لا يد لأحد بقتالهم.

تيسير الكريم الرحمن، ص: 625

[97] وَ اقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُ‏ أي: يوم القيامة الذي وعد اللّه بإتيانه، و وعده حق و صدق، ففي ذلك اليوم ترى أبصار الكفار شاخصة، من شدة الأفزاع و الأهوال المزعجة، و القلاقل المفظعة، و ما كانوا يعرفون من جناياتهم و ذنوبهم، و أنهم يدعون بالويل و الثبور، و الندم و الحسرة، على ما فات و يقولون: قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا اليوم العظيم، فلم نزل فيها مستغرقين، و في لهو الدنيا متمتعين، حتى أتانا اليقين، و وردنا القيامة، فلو كان يموت أحد من الندم و الحسرة، لماتوا. بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ‏ اعترفوا بظلمهم، و عدل اللّه فيهم، فحينئذ يؤمر بهم إلى النار، هم و ما كانوا يعبدون.

[98] و لهذا قال: إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ‏ إلى‏ تُوعَدُونَ‏ . أي: و إنكم، أيها العابدون مع اللّه آلهة غيره‏ حَصَبُ جَهَنَّمَ‏ ، أي: وقودها و حطبها أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ‏ و أصنامكم. و الحكمة في دخول الأصنام، النار، و هي جماد، لا تعقل، و ليس عليها ذنب- بيان كذب من اتخذها آلهة، و ليزداد عذابهم.

[99] فلهذا قال: لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها هذا كقوله تعالى: لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ‏ (39). و كل من العابدين و المعبودين فيها، خالدون، لا يخرجون منها، و لا ينقلون عنها.

[100] لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ من شدة العذاب‏ وَ هُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ‏ صم بكم عمي، أو لا يسمعون من الأصوات غير صوتها، لشدة غليانها، و اشتداد زفيرها و تغيظها. و دخول آلهة المشركين النار، إنما هو الأصنام، أو من عبد، و هو راض بعبادته.

[101- 102] و أما المسيح، و عزير، و الملائكة و نحوهم، ممن عبد من الأولياء، فإنهم لا يعذبون فيها، و يدخلون في قوله: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى‏ أي: سبقت لهم سابقة السعادة في علم اللّه، و في اللوح المحفوظ و في تيسيرهم في الدنيا لليسرى و الأعمال الصالحة. أُولئِكَ عَنْها أي: عن النار مُبْعَدُونَ‏ فلا يدخلونها، و لا يكونون قريبا منها، بل يبعدون عنها، غاية البعد، حتى لا يسمعوا حسيسها، و لا يروا شخصها.

وَ هُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ‏ من المآكل، و المشارب، و المناكح و المناظر، مما لا عين رأت، و لا أذن سمعت، و لا خطر على قلب بشر، مستمر لهم ذلك، يزداد حسنه على الأحقاب.

[103] لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ أي: لا يقلقهم إذا فزع الناس أكبر فزع، و ذلك يوم القيامة، حين تقرب النار، تتغيظ على الكافرين و العاصين فيفزع الناس لذلك الأمر و هؤلاء لا يحزنهم، لعلمهم بما يقدمون عليه، و أن اللّه قد أمنهم مما يخافون. وَ تَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ إذا بعثوا من قبورهم، و أتوا على النجائب وفدا، لنشورهم، مهنئين لهم قائلين: هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ‏ فليهنكم ما وعدكم اللّه، و ليعظم استبشاركم، بما أمامكم من الكرامة، و ليكثر فرحكم و سروركم، بما أمنكم اللّه من المخاوف و المكاره.

تيسير الكريم الرحمن، ص: 626

[104] يخبر تعالى أنه يوم القيامة يطوي السماوات- على عظمها و اتساعها- كما يطوي الكاتب للسجل أي: الورقة المكتوب فيها، فتنتشر نجومها، و تكور شمسها و قمرها، و تزول عن أماكنها كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ‏ أي:

إعادتنا للخلق، مثل ابتدائنا لخلقهم، فكما ابتدأنا خلقهم، و لم يكونوا شيئا، كذلك نعيدهم بعد موتهم. وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ‏ ننفذ ما وعدنا، لكمال قدرته، و أنه لا تمتنع منه الأشياء.

[105] وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ و هو الكتاب المزبور، و المراد: الكتب المنزلة، كالتوراة و نحوها مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أي: كتبناه في الكتب المنزلة، بعد ما كتبنا في الكتاب السابق، الذي هو اللوح المحفوظ، و أم الكتاب الذي توافقه جميع التقادير المتأخرة عنه و المكتوب في ذلك.

أَنَّ الْأَرْضَ‏ أي: أرض الجنة يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ‏ الذين قاموا بالمأمورات، و اجتنبوا المنهيات، فهم الذين يورثهم اللّه الجنات، كقول أهل الجنة: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَ أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ . و يحتمل أن المراد: الاستخلاف في الأرض، و أن الصالحين يمكن اللّه لهم في الأرض، و يوليهم عليها كقوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ‏ .

[106] يثني اللّه تعالى على كتابه العزيز «القرآن» و يبين كفايته التامة عن كل شي‏ء، و أنه لا يستغنى عنه فقال:

إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ‏ (106) أي: يتبلغون به، في الوصول إلى ربهم، و إلى دار كرامته، فيوصلهم إلى أجل المطالب، و أفضل الرغائب، و ليس للعابدين، الّذين هم أشرف الخلق، وراءه غاية، لأنه الكفيل بمعرفة ربهم، بأسمائه، و صفاته، و أفعاله، و بالإخبار بالغيوب الصادقة، و بالدعوة لحقائق الإيمان، و شواهد الإيقان، المبين للمأمورات كلها، و المنهيات جميعا، المعرف بعيوب النفس و العمل، و الطرق التي ينبغي سلوكها في دقيق الدين و جليله، و التحذير من طرق الشيطان، و بيان مداخله على الإنسان. فمن لم يغنه القرآن، فلا أغناه اللّه، و من لا يكفيه، فلا كفاه اللّه.

[107] ثم أثنى على رسوله، الذي جاء بالقرآن فقال: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ‏ (107)، فهو رحمته المهداة لعباده، فالمؤمنون به، قبلوا هذه الرحمة، و شكروها، و قاموا بها، و غيرهم كفروها، و بدلوا نعمة اللّه كفرا، و أبوا رحمة اللّه و نعمته.

[108] قُلْ‏ يا محمد إِنَّما يُوحى‏ إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ الذي لا يستحق العبادة إلا هو، و لهذا قال: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ‏ أي: منقادون لعبوديته مستسلمون لألوهيته، فإن فعلوا فليحمدوا ربهم على ما منّ عليهم، بهذه النعمة، التي فاقت المنن.

[109- 110] فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الانقياد لعبودية ربهم، فحذرهم حلول المثلات، و نزول العقوبة. فَقُلْ آذَنْتُكُمْ‏ أي: أعلمتكم بالعقوبة عَلى‏ سَواءٍ أي: علمي و علمكم بذلك مستو فلا تقولوا- إذا نزل بكم العذاب‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 627

- ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَ لا نَذِيرٍ . بل الآن، استوى علمي و علمكم، لما أنذرتكم، و حذرتكم، و أعلمتكم بمآل الكفر، و لم أكتم عنكم شيئا. وَ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ‏ أي: من العذاب لأن علمه عند اللّه، و هو بيده، ليس لي من الأمر شي‏ء.

[111] وَ إِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَ مَتاعٌ إِلى‏ حِينٍ‏ (111) أي: لعل تأخير العذاب الذي استعجلتموه، شر لكم، و إن تتمتعوا في الدنيا إلى حين، ثم يكون أعظم لعقوبتكم.

[112] قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ‏ أي: بيننا و بين القوم الكافرين، فاستجاب اللّه هذا الدعاء، و حكم بينهم في الدنيا قبل الآخرة، بما عاقب اللّه به الكافرين من وقعة «بدر» و غيرها. وَ رَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى‏ ما تَصِفُونَ‏ أي: نسأل ربنا الرحمن، و نستعين به على ما تصفون، من قولكم؛ سنظهر عليكم، و سيضمحل دينكم، فنحن في هذا، لا نعجب بأنفسنا، و لا نتكل على حولنا و قوتنا، و إنما نستعين بالرحمن، الذي ناصية كل مخلوق بيده، و نرجوه أن يتم ما استعنا به، من رحمته، و قد فعل، و للّه الحمد.

تم تفسير سورة الأنبياء، و للّه الحمد و المنة.

تفسير سورة الحج‏

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

[1] يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ‏ يخاطب اللّه الناس كافة، بأن يتقوا ربهم، الذي رباهم بالنعم الظاهرة و الباطنة، فحقيق بهم، أن يتقوه، بترك الشرك، و الفسوق، و العصيان و يمتثلوا أوامره، مهما استطاعوا. ثم ذكر ما يعينهم على التقوى، و يحذرهم من تركها، و هو: الإخبار بأهوال القيامة، فقال: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْ‏ءٌ عَظِيمٌ‏ لا يقدر قدره، و لا يبلغ كنهه، ذلك بأنها إذا وقعت الساعة، رجفت الأرض، و زلزلت زلزالها، و تصدعت الجبال، و اندكت، و كانت كثيبا مهيلا، ثم كانت هباء منبثا، ثم انقسم الناس ثلاثة أزواج. فهناك تنفطر السماء، و تكور الشمس و القمر، و تنتثر النجوم، و يكون من القلاقل و البلابل، ما تنصدع له القلوب، و توجل منه الأفئدة، و تشيب منه الولدان، و تذوب له الصم الصلاب.

[2] و لهذا قال: يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ‏ مع أنها مجبولة على شدة محبتها لولدها، خصوصا في هذه الحال، التي لا يعيش إلا بها. وَ تَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها من شدة الفزع و الهول. وَ تَرَى النَّاسَ سُكارى‏ وَ ما هُمْ بِسُكارى‏ أي: تحسبهم- أيها الرائي لهم- سكارى من الخمر، و ليسوا سكارى. وَ لكِنَ‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 628

عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ : فلذلك أذهب عقولهم، و فرغ قلوبهم، و ملأها من الفزع، و بلغت القلوب الحناجر، و شخصت الأبصار، و في ذلك اليوم، لا يجزي والد عن ولده، و لا مولود هو جاز عن والده شيئا. و يوم‏ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ (35) وَ صاحِبَتِهِ وَ بَنِيهِ‏ ... (36) وَ فَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ‏ ... (13) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ‏ (37). و هناك يعض الظالم على يديه، يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا، يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا، و تسود حينئذ وجوه و تبيض وجوه. و تنصب الموازين، التي يوزن بها مثاقيل الذر، من الخير و الشر، و تنشر صحائف الأعمال، و ما فيها من جميع الأعمال و الأقوال، و النيات، من صغير و كبير، و ينصب الصراط على متن جهنم، و تزلف الجنة للمتقين، و برزت الجحيم للغاوين. إذا رأتهم من مكان بعيد، سمعوا لها تغيظا و زفيرا، و إذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين، دعوا هنالك ثبورا، و يقال لهم: لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَ ادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14)، و إذا نادوا ربهم، ليخرجهم منها، قالَ اخْسَؤُا فِيها وَ لا تُكَلِّمُونِ‏ (108). قد غضب عليهم الرب الرحيم و حضرهم العذاب الأليم، و أيسوا من كل خير، و وجدوا أعمالهم كلها، لم يفقدوا منها نقيرا و لا قطميرا. هذا، و المتقون في روضات الجنات يحبرون، و في أنواع اللذات يتفكهون، و فيما اشتهت أنفسهم خالدون. فحقيق بالعاقل، الذي يعرف أن كل هذا أمامه، أن يعدّ له عدّته، و أن لا يلهيه الأمل، فيترك العمل، و أن تكون تقوى اللّه شعاره، و خوفه دثاره، و محبة اللّه، و ذكره، روح أعماله.

[3] أي: و من الناس طائفة و فرقة، سلكوا طريق الضلال، و جعلوا يجادلون بالباطل الحقّ. يريدون إحقاق الباطل، و إبطال الحقّ، و الحال، أنهم في غاية الجهل ما عندهم من العلم شي‏ء، و غاية ما عندهم، تقليد أئمة الضلال، من كل شيطان مريد، متمرد على اللّه و على رسله، معاند لهم، قد شاقّ اللّه و رسوله، و صار من الأئمة الّذين يدعون إلى النار.

[4] كُتِبَ عَلَيْهِ‏ أي: قدر على هذا الشيطان المريد أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ‏ أي: اتبعه‏ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ‏ عن الحقّ، و يجنبه الصراط المستقيم‏ وَ يَهْدِيهِ إِلى‏ عَذابِ السَّعِيرِ . و هذا نائب إبليس حقا، فإن اللّه قال عنه: إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ . فهذا الذي يجادل في اللّه، قد جمع بين ضلاله بنفسه، و تصديه إلى إضلال الناس، و هو متبع، و مقلد لكل شيطان مريد، ظلمات بعضها فوق بعض، و يدخل في هذا، جمهور أهل الكفر و البدع، فإن أكثرهم مقلدة، يجادلون بغير علم.

[5] يقول تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ‏ أي: شك و اشتباه، و عدم علم بوقوعه، مع أن الواجب عليكم، أن تصدقوا ربّكم، و تصدقوا رسله في ذلك، و لكن إذا أبيتم إلّا الريب، فهاكم دليلين عقليين، تشاهدونهما، كل واحد منهما، يدل دلالة قطعية على ما شككتم فيه، و يزيل عن قلوبكم الريب. أحدهما:

الاستدلال بابتداء خلق الإنسان، و أن الذي ابتدأه، سيعيده فقال فيه: فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ‏ و ذلك بخلق أبي‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 629

البشر، آدم عليه السّلام. ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ أي: مني، و هذا ابتداء أول التخليق. ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ أي: تنقلب تلك النطفة، بإذن اللّه، دما أحمر. ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ أي: ينتقل الدم مضغة، أي: قطعة لحم، بقدر ما يمضغ. و تلك المضغة تارة تكون‏ مُخَلَّقَةٍ أي: مصور منها خلق الآدمي. وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ تارة، بأن تقذفها الأرحام، قبل تخليقها. لِنُبَيِّنَ لَكُمْ‏ أصل نشأتكم، مع قدرته تعالى، على تكميل خلقه في لحظة واحدة، و لكن ليبين لنا، كمال حكمته، و عظيم قدرته، و سعة رحمته. وَ نُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى‏ ، و نقر. أي: نبقي في الأرحام من الحمل، الذي لم تقذفه الأرحام، ما نشاء إبقاءه إلى أجل مسمى و هو مدة الحمل. ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ‏ من بطون أمهاتكم‏ طِفْلًا لا تعلمون شيئا، و ليس لكم قدرة. و سخرنا لكم الأمهات، و أجرينا لكم في ثديها، الرزق، ثمّ تنقلون، طورا بعد طور، حتى تبلغوا أشدكم، و هو كمال القوة و العقل. وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى‏ من قبل أن يبلغ سن الرشد، و منكم من يتجاوزه فيرد إلى أرذل العمر، أي: أخسه و أرذله، و هو: سن الهرم و التخريف، الذي به يزول العقل، و يضمحل، كما زالت باقي القوة، و ضعفت. لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً أي: لأجل أن لا يعلم هذا المعمر شيئا، مما كان يعلمه قبل ذلك، و ذلك لضعف عقله. فقوة الآدمي محفوفة بضعفين، ضعف الطفولية و نقصها، و ضعف الهرم و نقصه، كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَ شَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ هُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ . و الدليل الثاني، إحياء الأرض بعد موتها، فقال اللّه فيه:

وَ تَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً أي: خاشعة مغبرة لا نبات فيها، و لا خضرة. فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ‏ أي:

تحركت بالنبات‏ وَ رَبَتْ‏ أي: ارتفعت بعد خشوعها و ذلك لزيادة نباتها. وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ‏ أي: صنف من أصناف النبات‏ بَهِيجٍ‏ أي: يبهج الناظرين، و يسر المتأملين، فهذان الدليلان القاطعان، يدلان على هذه المطالب الخمسة، و هي هذه.

[6] ذلِكَ‏ الذي أنشأ الآدمي من ما وصف لكم، و أحيا الأرض بعد موتها. بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُ‏ أي: الرب المعبود، الذي لا تنبغي العبادة إلّا له، و عبادته هي الحقّ، و عبادة غيره باطلة. وَ أَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى‏ كما ابتدأ الخلق، و كما أحيا الأرض بعد موتها. وَ أَنَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ كما أشهدكم من بديع قدرته، و عظيم صنعته، ما أشهدكم.

[7] وَ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها فلا وجه لاستبعادها. وَ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ فيجازيكم بأعمالكم حسنها و سيئها.

[8] المجادلة المتقدمة للمقلد، و هذه المجادلة للشيطان المريد، الداعي إلى البدع. فأخبر أنه‏ يُجادِلُ فِي اللَّهِ‏ أي:

يجادل رسل اللّه و أتباعهم بالباطل ليدحض به الحقّ. بِغَيْرِ عِلْمٍ‏ صحيح‏ وَ لا هُدىً‏ أي: غير متبع في جداله هذا من يهديه، لا عقل مرشد، و لا متبوع مهتد. وَ لا كِتابٍ مُنِيرٍ أي: واضح بين، فلا له حجة عقلية و لا نقلية.

[9] إن هي إلّا شبهات، يوحيها إليه الشيطان‏ وَ إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى‏ أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ‏ . مع هذا ثانِيَ عِطْفِهِ‏ أي: لاوي جانبه، و عنقه، و هذا كناية عن كبره عن الحقّ، و احتقاره للخلق. فقد فرح بما معه من العلم الغير النافع، و احتقر أهل الحقّ، و ما معهم من الحقّ. لِيُضِلَ‏ الناس أي: ليكون من دعاة الضلال، و يدخل تحت هذا جميع أئمة الكفر و الضلال. ثمّ ذكر عقوبتهم الدنيوية و الأخروية فقال: لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ‏ أي: يفتضح هذا في الدنيا قبل الآخرة، و هذا من آيات اللّه العجيبة، فإنك لا تجد داعيا من دعاة الكفر و الضلال، إلّا و له من المقت بين العالمين، و اللعنة، و البغض، و الذم، ما هو حقيق به، و كلّ بحسب حاله. وَ نُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ‏ أي:

نذيقه حرّها الشديد، و سعيرها البليغ، و ذلك بما قدمت يداه.

[10] ذلِكَ‏ ما ذكر من العذاب الدنيوي و الأخروي، و ما فيه من معنى البعد (و هو معنى اللام في «ذلك» الموضوعة للدلالة على البعد) للدلالة على كون الكافر في الغاية القصوى من الهول و الفظاعة. بِما قَدَّمَتْ يَداكَ‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 630

أي: بسبب ما اقترفته من الكفر و المعاصي. وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أي: و الأمر أنه تعالى ليس بمعذب عبيده بغير ذنب من قبلهم. و المعنى الإجمالي: أنه يقال للكافر الموصوف بتلك الأوصاف في الآيتين السابقتين: ذلك الذي تلقاه من خزي و عذاب إنّما كان بسبب افترائك، و تكبرك لأن اللّه عادل لا يظلم، و لا يسوي بين المؤمن و الكافر، و الصالح و الفاجر، بل يجازي كلا منهم بعمله.

[11] أي: وَ مِنَ النَّاسِ‏ من هو ضعيف الإيمان، لم يدخل الإيمان قلبه، و لم تخالطه بشاشته، بل دخل فيه، إما خوفا، و إما عادة على وجه لا يثبت عند المحن. فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ‏ أي: إن استمر رزقه رغدا، و لم يحصل له من المكاره شي‏ء، اطمأن بذلك الخير، لا إيمانه. فهذا، ربما أن اللّه يعافيه، و لا يقيض له من الفتن، ما ينصرف به عن دينه.

وَ إِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ من حصول مكروه، أو زوال محبوب‏ انْقَلَبَ عَلى‏ وَجْهِهِ‏ أي: ارتد عن دينه. خَسِرَ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةَ أما في الدنيا، فإنه يحصل له بالردة ما أمله الذي جعل الردة رأسا لماله، و عوضا عما يظن إدراكه فخاب سعيه، و لم يحصل له، إلّا ما قسم له. و أما الآخرة، فظاهر، حرم الجنة التي عرضها السموات و الأرض، و استحق النار. ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ‏ أي: الواضح البيّن.

[12] يَدْعُوا هذا الراجع على وجهه‏ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَ ما لا يَنْفَعُهُ‏ . و هذا صفة كلّ مدعو و معبود، من دون اللّه، فإنه لا يملك لنفسه و لا لغيره، نفعا و لا ضرا. ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ الذي بلغ في البعد إلى حد النهاية، حيث أعرض عن عبادة النافع الضار، الغني المغني.

[13] و أقبل على عبادة مخلوق مثله أو دونه، ليس بيده من الأمر شي‏ء، بل هو إلى حصول ضد مقصوده أقرب.

و لهذا قال: يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ‏ فإن ضرره في العقل و البدن، و الدنيا و الآخرة، معلوم‏ لَبِئْسَ الْمَوْلى‏ أي: هذا المعبود وَ لَبِئْسَ الْعَشِيرُ أي: القرين الملازم على صحبته، فإن المقصود من المولى و العشير، حصول النفع، و دفع الضرر، فإذا لم يحصل شي‏ء من هذا، فإنه مذموم ملوم.

[14] لما ذكر تعالى المجادل بالباطل، و أنه على قسمين، مقلد، وداع، ذكر أن المتسمي بالإيمان أيضا على قسمين، قسم لم يدخل الإيمان قلبه كما تقدم. و القسم الثاني: المؤمن حقيقة، صدق ما معه من الإيمان بالأعمال الصالحة فأخبر تعالى أنه يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار. و سميت الجنة جنة، لاشتمالها على المنازل و القصور و الأشجار و النباتات التي تجنّ من فيها، و يستتر بها، من كثرتها. إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ فمهما أراده تعالى، فعله من غير ممانع و لا معارض، و من ذلك، إيصال أهل الجنة إليها، جعلنا اللّه منهم بمنه و كرمه.

صفحه بعد