کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تيسير الكريم الرحمن

سورة الفاتحة سورة آل عمران سورة المائدة سورة الأنعام تفسير سورة الأعراف تفسير سورة الأنفال تفسير سورة التوبة تفسير سورة يونس تفسير سورة هود تفسير سورة الرعد سورة إبراهيم تفسير سورة الحجر سورة النحل سورة الإسراء سورة الكهف تفسير سورة مريم سورة طه تفسير سورة الأنبياء تفسير سورة الحج تفسير سورة المؤمنون تفسير سورة النور تفسير سورة الفرقان تفسير سورة الشعراء تفسير سورة النمل تفسير سورة العنكبوت تفسير سورة الروم تفسير سورة لقمان تفسير سورة السجدة سورة الأحزاب سورة سبأ تفسير سورة فاطر تفسير سورة يس تفسير سورة الصافات تفسير سورة الزمر تفسير سورة فصلت سورة الشورى سورة الزخرف تفسير سورة الدخان سورة الجاثية سورة الأحقاف سورة محمد تفسير سورة الحجرات تفسير سورة ق سورة الطور تفسير سورة النجم سورة القمر سورة الرحمن سورة الواقعة تفسير سورة الحديد تفسير سورة المجادلة تفسير سورة الحشر تفسير سورة الممتحنة تفسير سورة الصف سورة الجمعة تفسير سورة المنافقون تفسير سورة التغابن تفسير سورة الطلاق تفسير سورة التحريم تفسير سورة الملك تفسير سورة القلم سورة الحاقة سورة المعارج سورة نوح سورة الجن تفسير سورة المزمل سورة المدثر تفسير سورة القيامة سورة الإنسان سورة المرسلات تفسير سورة النبأ سورة النازعات سورة عبس تفسير سورة التكوير سورة الإنفطار سورة المطففين تفسير سورة الإنشقاق سورة البروج سورة الطارق سورة الأعلى تفسير سورة الغاشية تفسير سورة الفجر تفسير سورة البلد سورة الشمس سورة الليل تفسير سورة الضحى سورة الشرح سورة التين تفسير سورة العلق سورة القدر تفسير سورة البينة تفسير سورة الزلزلة تفسير سورة العاديات تفسير سورة القارعة سورة التكاثر سورة العصر تفسير سورة الهمزة سورة الفيل تفسير سورة قريش سورة الماعون سورة الكوثر تفسير سورة الكافرون سورة النصر تفسير سورة المسد تفسير سورة الإخلاص سورة الفلق تفسير سورة الناس محتوى تفسير الإمام السعدي

تيسير الكريم الرحمن


صفحه قبل

تيسير الكريم الرحمن، ص: 166

دينكم، و كتابكم، و رسولكم. و في إخباره لعباده المؤمنين بذلك، عدة فوائد: منها: أن حكمته تعالى، تقتضي ذلك، ليتميز المؤمن الصادق من غيره. و منها: أنه تعالى، يقدر عليهم هذه الأمور، لما يريده بهم من الخير ليعلي درجاتهم، و يتم به إيقانهم، فإنه إذا أخبرهم بذلك و وقع كما أخبر قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ صَدَقَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ ما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَ تَسْلِيماً . و منها: أنه أخبرهم بذلك لتتوطن نفوسهم على وقوع ذلك، و الصبر عليه إذا وقع؛ لأنهم قد استعدوا لوقوعه، فيهون عليهم حمله، و تخف عليهم مؤنته، و يلجأون إلى الصبر و التقوى، و لهذا قال: وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا ، أي: إن تصبروا على ما نالكم في أموالكم و أنفسكم، من الابتلاء، و الامتحان، و على أذية الظالمين، و تتقوا اللّه في ذلك الصبر بأن تنووا به وجه اللّه، و التقرب إليه، و لم تتعدوا في صبركم، الحد الشرعي من الصبر في موضع لا يحل لكم فيه الاحتمال، بل وظيفتكم فيه الانتقام من أعداء اللّه. فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ، أي: من الأمور التي يعزم عليها، و ينافس فيها، و لا يوفق لها إلا أهل العزائم و الهمم العالية كما قال تعالى: وَ ما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَ ما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ‏ .

[187] الميثاق هو العهد الثقيل المؤكد، و هذا الميثاق أخذه اللّه تعالى، على كل من أعطاه اللّه الكتب، و علمه العلم، أن يبين للناس ما يحتاجون إليه مما علمه اللّه، و لا يكتمهم ذلك، و يبخل عليهم به، خصوصا إذا سألوه، أو وقع ما يوجب ذلك، فإن كل من عنده علم، يجب عليه في تلك الحال، أن يبينه، و يوضح الحق من الباطل. فأما الموفقون، فقاموا بهذا أتم القيام، و علموا الناس مما علمهم اللّه، ابتغاء مرضاة ربهم، و شفقة على الخلق، و خوفا من إثم الكتمان. و أما الذين أوتو الكتاب، من اليهود و النصارى، و من شابههم، فنبذوا هذه العهود و المواثيق، وراء ظهورهم، فلم يعبأوا بها، فكتموا الحق، و أظهروا الباطل، و تجرؤوا على محارم اللّه، و تهاونوا بحقوقه تعالى، و حقوق الخلق، و اشتروا بذلك الكتمان، ثمنا قليلا. و هو ما يحصل لهم إن حصل، من بعض الرياسات، و الأموال الحقيرة، من سفلتهم المتبعين أهواءهم، المقدمين شهواتهم على الحق. فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ‏ ، لأنه أخس العوض، و الذي رغبوا عنه- و هو بيان الحق، الذي فيه السعادة الأبدية، و المصالح الدينية و الدنيوية- أعظم المطالب و أجلها. فلم يختاروا الدين الخسيس و يتركوا العالي النفيس، إلا لسوء حظهم، و هوانهم، و كونهم لا يصلحون لغير ما خلقوا له.

[188] ثم قال تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا ، أي: من القبائح، و الباطل القولي و الفعلي. وَ يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا ، أي: بالخير الذي لم يفعلوه، و الحق الذي لم يقولوه، فجمعوا بين فعل الشر و قوله، و الفرح بذلك، و محبة أن يحمدوا على فعل الخير الذي ما فعلوه. فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ‏ ، أي: بمحل نجوة منه و سلامة، بل قد استحقوه، و سيصيرون إليه، و لهذا قال: وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ‏ . و يدخل في هذه الآية الكريمة، أهل الكتاب الذين فرحوا بما عندهم من العلم، و لم ينقادوا للرسول، و زعموا أنهم المحقون في حالهم و مقالهم، و كذلك كل من ابتدع بدعة قولية أو فعلية، و فرح بها، و دعا إليها، و زعم أنه محق و غيره مبطل، كما هو الواقع من‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 167

أهل البدع. و دلت الآية بمفهومها، على أن من أحب أن يحمد و يثنى عليه بما فعله من الخير، و اتباع الحق، إذا لم يكن قصده بذلك الرياء و السمعة، أنه غير مذموم. بل هذا من الأمور المطلوبة، التي أخبر اللّه أنه يجزي بها المحسنين، في الأعمال و الأقوال، و أنه جازى بها خواص خلقه، و سألوها منه. كما قال إبراهيم عليه السلام: وَ اجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ‏ (84). و قال: سَلامٌ عَلى‏ نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ‏ (80)، و قد قال عباد الرحمن: وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً ، و هي من نعم الباري على عبده، و مننه التي تحتاج إلى الشكر.

[189] أي: هو المالك للسماوات و الأرض و ما فيهما، من سائر أصناف الخلق، المتصرف فيهم، بكمال القدرة، و بديع الصنعة، فلا يمتنع عليه منهم أحد، و لا يعجزه أحد.

[190] يخبر تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ‏ (190)، و في ضمن ذلك، حث العباد على التفكر فيها، و التبصر بآياتها، و تدبر خلقها. و أبهم قوله: لَآياتٍ‏ ، و لم يقل: «على المطلب الفلاني» إشارة لكثرتها و عمومها. و ذلك لأن فيها من الآيات العجيبة، ما يبهر الناظرين، و يقنع المتفكرين، و يجذب أفئدة الصادقين، و ينبه العقول النيرة على جميع المطالب الإلهية. فأما تفصيل ما اشتملت عليه، فلا يمكن مخلوقا أن يحصره، و يحيط ببعضه، و في الجملة، فما فيها من العظمة و السعة، و انتظام السير و الحركة، يدل على عظمة خالقها، و عظمة سلطانه و شمول قدرته، و ما فيها من الإحكام و الإتقان، و بديع الصنع، و لطائف الفعل، يدل على حكمة اللّه، و وضعه الأشياء مواضعها، و سعة علمه، و ما فيها من المنافع للخلق، يدل على سعة رحمة اللّه، و عموم فضله، و شمول بره، و وجوب شكره. و كل ذلك يدل على تعلق القلب بخالقها و مبدعها، و بذل الجهد في مرضاته، و أن لا يشرك به سواه، ممن لا يملك لنفسه و لا لغيره، مثقال ذرة في الأرض و لا في السماء. و خص اللّه بالآيات، أولي الألباب، و هم أهل العقول؛ لأنهم هم المنتفعون بها، الناظرون إليها بعقولهم لا بأبصارهم.

[191] ثم وصف أولي الألباب بأنهم‏ يَذْكُرُونَ اللَّهَ‏ في جميع أحوالهم. قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى‏ جُنُوبِهِمْ‏ ، و هذا يشمل جميع أنواع الذكر بالقول و القلب، و يدخل في ذلك الصلاة قائما، فإن لم يستطع فقاعدا، فإن لم يستطع فعلى جنب. و أنهم‏ وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ‏ ، أي: ليستدلوا بها على المقصود منها، و دل هذا على أن التفكر عبادة من صفات أولياء اللّه العارفين، فإذا تفكروا بها، عرفوا أن اللّه لم يخلقها عبثا فيقولون: رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ‏ ، عن كل ما لا يليق بجلالك، بالحق و للحق، بل خلقتها مشتملة على الحق. فَقِنا عَذابَ النَّارِ ، بأن تعصمنا من السيئات، و توفقنا للأعمال الصالحات، لننال بذلك النجاة من النار. و يتضمن ذلك سؤال الجنة، لأنهم- إذا وقاهم اللّه عذاب النار- حصلت لهم الجنة. و لكن لما قام الخوف بقلوبهم، دعوا اللّه بأهم الأمور عندهم.

[192] رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ‏ ، أي: لحصوله على السخط من اللّه، و من ملائكته، و أوليائه، و وقوع الفضيحة، التي لا نجاة منها، و لا منقذ منها. و لهذا قال: وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ ينقذونهم من عذابه،

تيسير الكريم الرحمن، ص: 168

و فيه دلالة على أنهم دخلوها بظلمهم.

[193] رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ‏ ، و هو محمد صلى اللّه عليه و سلم، يدعو الناس إليه، و يرغبهم فيه، في أصوله و فروعه. فَآمَنَّا ، أي: أجبناه مبادرة، و سارعنا إليه، و في هذا إخبار منهم بمنة اللّه عليهم، و تبجح بنعمته، و توسل إليه بذلك، أن يغفر ذنوبهم و يكفر سيئاتهم، لأن الحسنات يذهبن السيئات، و الذي منّ عليهم بالإيمان، يمن عليهم بالأمان التام. وَ تَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ ، يتضمن هذا الدعاء، التوفيق لفعل الخير، و ترك الشر، الذي به يكون العبد من الأبرار، و الاستمرار عليه، و الثبات إلى الممات.

[194] و لما ذكروا توفيق اللّه إياهم للإيمان، و توسلهم به إلى تمام النعمة، سألوه الثواب على ذلك، و أن ينجز لهم ما وعدهم به على ألسنة رسله من النصر، و الظهور في الدنيا، و من الفوز برضوان اللّه و جنته في الآخرة، فإنه تعالى، لا يخلف الميعاد، فأجاب اللّه دعاءهم، و قبل تضرعهم.

[195] فلهذا قال: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ‏ ، الآية، أي: أجاب اللّه دعاءهم، دعاء العبادة، و دعاء الطلب، و قال: أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ ، فالجميع سيلقون ثواب أعمالهم كاملا موفّرا، أي: كلكم على حد سواء في الثواب و العقاب. فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أُوذُوا فِي سَبِيلِي وَ قاتَلُوا وَ قُتِلُوا ، فجمعوا بين الإيمان و الهجرة، و مفارقة المحبوبات، من الأوطان، و الأموال طلبا لمرضاة ربهم، و جاهدوا في سبيل اللّه. لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ‏ ، الذي يعطي عبده الثواب الجزيل، على العمل القليل. وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ‏ ، مما لا عين رأت، و لا أذن سمعت، و لا خطر على قلب بشر، فمن أراد ذلك، فليطلبه من اللّه بطاعته، و التقرب إليه، بما يقدر عليه العبد.

[196- 197] و هذه الآية المقصود منها التسلية عما يحصل للذين كفروا، من متاع الدنيا، و تنعمهم فيها، و تقلبهم في البلاد، بأنواع التجارات، و المكاسب، و اللذات، و أنواع العز، و الغلبة في بعض الأوقات، فإن هذا كله‏ مَتاعٌ قَلِيلٌ‏ ، ليس له ثبوت و لا بقاء، بل يتمتعون به قليلا، و يعذبون عليه طويلا، هذه أعلى حالة تكون للكافر، و قد رأيت ما تؤول إليه.

[198] و أما المتقون لربهم، المؤمنون به- فمع ما يحصل لهم من عز الدنيا و نعيمها لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها . فلو قدر أنهم في دار الدنيا، قد حصل لهم كل بؤس، و شدة، و عناد، و مشقة- لكان هذا- بالنسبة إلى النعيم المقيم و العيش السليم، و السرور و الحبور، و البهجة نزرا يسيرا، و منحة في صورة محنة، و لهذا قال تعالى: وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ ، و هم الذين برت قلوبهم، فبرت أقوالهم و أفعالهم. فأثابهم البر الرحيم من بره، أجرا عظيما، و عطاء جسيما، و فوزا دائما.

[199- 200] أي: و إن من أهل الكتاب، طائفة موفقة للخير، يؤمنون باللّه، و يؤمنون بما أنزل إليكم، و ما أنزل إليهم، و هذا هو الإيمان النافع، لا كمن يؤمن ببعض الرسل و الكتب، و يكفر ببعض. و لهذا- لما كان إيمانهم‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 169

عاما حقيقيا- صار نافعا، فأحدث لهم خشية اللّه، و خضوعهم لجلاله، الموجب للانقياد لأوامره و نواهيه، و الوقوف عند حدوده. و هؤلاء أهل الكتاب و العلم على الحقيقة، كما قال تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ، و من تمام خشيتهم للّه، أنهم‏ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا . [فلا يقدمون الدنيا على الدين، كما فعل أهل الانحراف الذين يكتمون ما أنزل اللّه و يشترون به ثمنا قليلا] «1» . و أما هؤلاء، فعرفوا الأمر على الحقيقة، و علموا أن من أعظم الخسران، الرضا بالدون عن الدين، و الوقوف مع بعض حظوظ النفس السفلية، و ترك الحق، الذي هو: أكبر حظ و فوز، من الدنيا و الآخرة، فآثروا الحق، و بينوه، و دعوا إليه، و حذروا عن الباطل. فأثابهم اللّه على ذلك، بأن وعدهم الأجر الجزيل، و الثواب الجميل، و أخبرهم بقربه، و أنه سريع الحساب، فلا يستبطئوا ما وعدهم اللّه، لأن ما هو آت، محقق حصوله، فهو قريب. ثم حض المؤمنين، على ما يوصلهم إلى الفلاح- و هو: الفوز بالسعادة و النجاح، و أن الطريق الموصل إلى ذلك، لزوم الصبر، الذي هو حبس النفس على ما تكرهه، من ترك المعاصي، و من الصبر على المصائب، و على الأوامر الثقيلة على النفوس، فأمرهم بالصبر على جميع ذلك. و المصابرة هي: الملازمة و الاستمرار على ذلك، على الدوام، و مقاومة الأعداء في جميع الأحوال، و المرابطة و هي: لزوم المحل الذي يخاف من وصول العدو منه، و أن يراقبوا أعداءهم، و يمنعوهم من الوصول إلى مقاصدهم، لعلهم يفلحون: يفوزون بالمحبوب الديني و الدنيوي و الأخروي، و ينجون من المكروه كذلك. فعلم من هذا أنه لا سبيل إلى الفلاح بدون الصبر و المصابرة و المرابطة المذكورات، فلم يفلح من أفلح، إلا بها، و لم يفت أحد، الفلاح إلا بالإخلال بها أو ببعضها. و اللّه الموفق و لا حول و لا قوة إلا به. تم تفسير «سورة آل عمران» و الحمد للّه على نعمته، و نسأله تمام النعمة.

تفسير سورة النساء

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

[1] افتتح تعالى هذه السورة، بالأمر بتقواه، و الحث على عبادته، و الأمر بصلة الأرحام، و الحث على ذلك.

و بيّن السبب الداعي، الموجب لكل من ذلك، و أن الموجب لتقواه أنه‏ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ‏ و رزقكم، و رباكم بنعمه العظيمة، التي من جملتها خلقكم‏ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها ليناسبها، فيسكن إليها، و تتم بذلك النعمة،

(1) سقط من المطبوعة التي بين أيدينا، و هو موافق للسياق.

تيسير الكريم الرحمن، ص: 170

و يحصل به السرور. و كذلك، من الموجب الداعي لتقواه، تساؤلكم به، و تعظيمكم. حتى إنكم إذا أردتم قضاء حاجاتكم و مآربكم، توسلتم به، بالسؤال. فيقول من يريد ذلك لغيره: أسألك باللّه، أن تفعل الأمر الفلاني؛ لعلمه بما قام في قلبه، من تعظيم اللّه الداعي، أن لا يرد من سأله باللّه. فكما عظمتموه بذلك، فلتعظموه بعبادته و تقواه.

و كذلك الإخبار بأنه رقيب، أي: مطلع على العباد، في حال حركاتهم و سكونهم، و سرهم و علنهم، و جميع الأحوال، مراقبا لهم فيها، مما يوجب مراقبته، و شدة الحياء منه، بلزوم تقواه. و في الإخبار بأنه خلقهم من نفس واحدة، و أنه بثهم في أقطار الأرض، مع رجوعهم إلى أصل واحد- ليعطف بعضهم على بعض، و يرقق بعضهم على بعض. و قرن الأمر بتقواه، بالأمر ببر الأرحام، و النهي عن قطيعتها، ليؤكد هذا الحق. و إنه كما يلزم القيام بحق اللّه، كذلك يجب القيام بحقوق الخلق، خصوصا الأقربين منهم، بل القيام بحقوقهم، هو من حق اللّه الذي أمر به.

و تأمل كيف افتتح هذه السورة، بالأمر بالتقوى، و صلة الأرحام و الأزواج عموما. ثم بعد ذلك، فصل هذه الأمور أتم تفصيل، من أول السورة إلى آخرها. فكأنها مبنية على هذه الأمور المذكورة، مفصلة لما أجمل منها، موضحة لما أبهم. و في قوله: وَ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها تنبيه على مراعاة حق الأزواج و الزوجات و القيام به، لكون الزوجات مخلوقات من الأزواج [فبينهم و بينهن أقرب نسب، و أشد اتصال، و أوثق علاقة] «1» .

[2] و قوله تعالى: وَ آتُوا الْيَتامى‏ أَمْوالَهُمْ‏ الآية. هذا أول ما أوصى به من حقوق الخلق في هذه السورة. و هم اليتامى، الذين فقدوا آباءهم، الكافلين لهم، و هم صغار ضعاف، لا يقومون بمصالحهم. فأمر الرؤوف الرحيم عباده، أن يحسنوا إليهم، و أن لا يقربوا أموالهم إلا بالتي هي أحسن، و أن يؤتوهم أموالهم، إذا بلغوا، و رشدوا، كاملة موفرة. و أن لا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ‏ الذي هو أكل مال اليتيم بغير حق. بِالطَّيِّبِ‏ و هو الحلال، الذي ما فيه حرج و لا تبعة. وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى‏ أَمْوالِكُمْ‏ أي: مع أموالكم. ففيه تنبيه لقبح أكل مالهم، بهذه الحالة، التي هي قد استغنى بها الإنسان، بما جعل اللّه له، من الرزق في ماله. فمن تجرأ على هذه الحالة، فقد أتى‏ حُوباً كَبِيراً أي:

إثما عظيما، و وزرا جسيما. و من استبدال الخبيث بالطيب، أن يأخذ الولي، من مال اليتيم، النفيس، و يجعل بدله من ماله، الخسيس. و فيه الولاية على اليتيم، لأن من لازم إيتاء اليتيم ماله، ثبوت ولاية المؤتي على ماله. و فيه الأمر بإصلاح مال اليتيم، لأن تمام إيتائه ماله، حفظه، و القيام به بما يصلحه و ينميه، و عدم تعريضه للمخاوف و الأخطار.

[3] أي: و إن خفتم ألا تعدلوا في يتامى النساء، التي تحت حجوركم و ولايتكم، و خفتم أن لا تقوموا بحقهن، لعدم محبتكم إياهن- فاعدلوا إلى غيرهن، و انكحوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ أي: ما وقع عليهن اختياركم، من ذوات الدين، و المال، و الجمال، و الحسب، و النسب، و غير ذلك من الصفات الداعية لنكاحهن، فاختاروا على نظركم. و من أحسن ما يختار من ذلك، صفة الدين كما قال النبي صلى اللّه عليه و سلم: «تنكح المرأة لأربع: لمالها، و لجمالها، و لحسبها، و لدينها، فاظفر بذات الدين تربت يمينك». و في هذه الآية- أنه ينبغي للإنسان، أن يختار قبل النكاح. بل قد أباح له الشارع، النظر إلى من يريد تزوجها، ليكون على بصيرة من أمره. ثم ذكر العدد الذي أباحه من النساء فقال: مَثْنى‏ وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ‏ أي: من أحب أن يأخذ اثنتين فليفعل، أو ثلاثا، فليفعل، أو أربعا فليفعل، و لا يزيد عليها، لأن الآية سيقت لبيان الامتنان، فلا يجوز الزيادة على غير ما سمى اللّه تعالى إجماعا. و ذلك لأن الرجل قد لا تندفع شهوته بالواحدة، فأبيح له واحدة بعد واحدة، حتى تبلغ أربعا، لأن في الأربع، غنية لكل أحد، إلا ما ندر.

و مع هذا، فإنما يباح له ذلك إذا أمن على نفسه الجور و الظلم، و وثق بالقيام بحقوقهن. فإن خاف شيئا من هذا،

(1) سقط من المطبوعة التي بين أيدينا، و هو موافق للسياق.

تيسير الكريم الرحمن، ص: 171

فليقتصر على واحدة، أو على ملك يمينه. فإنه لا يجب عليه القسم، في ملك اليمين: ذلِكَ‏ أي: الاقتصار على واحدة، أو ما ملكت اليمين‏ أَدْنى‏ أَلَّا تَعُولُوا أي: تظلموا. و في هذا، إن تعرض العبد للأمر الذي يخاف منه الجور و الظلم، و عدم القيام بالواجب- و لو كان مباحا- أنه لا ينبغي له أن يتعرض له، بل يلزم السعة و العافية، فإن العافية خير ما أعطي العبد.

[4] و لما كان كثير من الناس، يظلمون النساء، و يهضمونهن حقوقهن- خصوصا الصداق، الذي يكون شيئا كثيرا، و دفعة واحدة، يشق دفعه للزوجة- أمرهم و حثهم على إيتاء النساء صَدُقاتِهِنَ‏ أي: مهورهن‏ نِحْلَةً أي:

عن طيب نفس، و حال طمأنينة، فلا تمطلوهن، أو تبخسوا منه شيئا. و فيه: أن المهر يدفع إلى المرأة، إذا كانت مكلفة، و أنها تملكه، بالعقد، لأنه أضافه إليها، و الإضافة تقتضي التمليك. فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ‏ءٍ مِنْهُ‏ أي: من الصداق‏ نَفْساً بأن سمحن لكم عن رضا و اختيار، بإسقاط شي‏ء منه، أو تأخيره أو المعاوضة عنه. فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً أي: لا حرج عليكم في ذلك و لا تبعة. و فيه دليل على أن للمرأة، التصرف في مالها- و لو بالتبرع- إذا كانت رشيدة، فإن لم تكن كذلك، فليس لعطيتها حكم. و أنه ليس لوليها من الصداق شي‏ء، غير ما طابت به. و في قوله:

فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ دليل على أن نكاح الخبيثة، غير مأمور به، بل منهي عنه، كالمشركة، و كالفاجرة، كما قال تعالى: وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ‏ و قال: الزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ‏ .

[5] السفهاء، جمع «سفيه» و هو: من لا يحسن التصرف في المال. إما لعدم عقله، كالمجنون و المعتوه، و نحوهما. و إما لعدم رشده، كالصغير و غير الرشيد. فنهى اللّه الأولياء، أن يؤتوا هؤلاء أموالهم، خشية إفسادها و إتلافها. لأن اللّه جعل الأموال، قياما لعباده، في مصالح دينهم و دنياهم. و هؤلاء لا يحسنون القيام عليها و حفظها. فأمر اللّه الولي أن لا يؤتيهم إياها بل يرزقهم منها، و يكسوهم، و يبذل منها، ما يتعلق بضروراتهم و حاجاتهم الدينية و الدنيوية، و أن يقولوا لهم قولا معروفا، بأن يعدوهم- إذا طلبوها- أنهم سيدفعونها لهم بعد رشدهم، و نحو ذلك، و يلطفوا لهم في الأقوال، جبرا لخواطرهم. و في إضافته تعالى، الأموال إلى الأولياء، إشارة إلى أنه يجب عليهم أن يعملوا في أموال السفهاء، ما يفعلونه في أموالهم، من الحفظ، و التصرف، و عدم التعرض للأخطار. و في الآية دليل على أن نفقة المجنون و الصغير و السفيه، في مالهم، إذا كان لهم مال، لقوله: وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها وَ اكْسُوهُمْ‏ . و فيه دليل على أن قول الولي مقبول فيما يدعيه، في النفقة الممكنة، و الكسوة؛ لأن اللّه جعله مؤتمنا على مالهم، فلزم قبول قول الأمين.

[6] الابتلاء هو: الاختبار و الامتحان. و ذلك بأن يدفع لليتيم المقارب للرشد، الممكن رشده، شيئا، من ماله، و يتصرف فيه التصرف اللائق بحاله، فيتبين بذلك رشده من سفهه. فإن استمر غير محسن للتصرف، لم يدفع إليه ماله، بل هو باق على سفهه، و لو بلغ عمرا كثيرا. فإن تبين رشده و صلاحه في ماله و بلغ النكاح‏ فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ‏ كاملة موفرة. وَ لا تَأْكُلُوها إِسْرافاً أي: مجاوزة للحد الحلال الذي أباحه اللّه لكم، من أموالكم إلى الحرام الذي حرمه اللّه عليكم من أموالهم. وَ بِداراً أَنْ يَكْبَرُوا أي: و لا تأكلوها، في حال صغرهم، التي لا يمكنهم فيها أخذها منكم، و لا منعكم من أكلها، تبادرون بذلك أن يكبروا، فيأخذوها منكم و يمنعوكم منها. و هذا من الأمور الواقعة، من كثير من الأولياء، الذين ليس عندهم خوف من اللّه، و لا رحمة و محبة للمولى عليهم. يرون هذه الحال، حال فرصة، فيغتنمونها، و يتعجلون ما حرّم اللّه عليهم. فنهى اللّه تعالى، عن هذه الحالة بخصوصها.

[7] كان العرب في الجاهلية- من جبروتهم و قسوتهم، لا يورثون الضعفاء، كالنساء و الصبيان، و يجعلون الميراث للرجال الأقوياء. لأنهم- بزعمهم- أهل الحرب و القتال، و النهب و السلب. فأراد الرب الرحيم الحكيم، أن يشرع لعباده شرعا، يستوي فيه رجالهم و نساؤهم، و أقوياؤهم و ضعفاؤهم. و قدّم بين يدي ذلك، أمرا مجملا،

تيسير الكريم الرحمن، ص: 172

لتتوطن على ذلك النفوس. فيأتي التفصيل بعد الإجمال، قد تشوفت له النفوس، و زالت الوحشة، التي منشؤها، العادات القبيحة فقال: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ‏ أي: قسط و حصة مِمَّا تَرَكَ‏ أي: خلف‏ الْوالِدانِ‏ أي: الأب و الأم‏ وَ الْأَقْرَبُونَ‏ عموما بعد خصوص‏ وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ‏ . فكأنه قيل: هل ذلك النصيب، راجع إلى العرف و العادة، و أن يرضخوا لهم ما يشاؤون؟ أو شيئا مقدرا؟ فقال تعالى: نَصِيباً مَفْرُوضاً أي: قدره العليم الحكيم. و سيأتي- إن شاء اللّه- تقدير ذلك. و أيضا، فهنا توهم آخر، لعل أحدا يتوهم أن النساء و الوالدين، ليس لهم نصيب، إلا من المال الكثير، فأزال ذلك بقوله: مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ فتبارك اللّه أحسن الحاكمين.

[8] و هذا من أحكام اللّه الحسنة الجليلة، الجابرة للقلوب فقال: وَ إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أي: قسمة المواريث‏ أُولُوا الْقُرْبى‏ أي: الأقارب غير الوارثين، بقرينة قوله:

الْقِسْمَةَ لأن الوارثين من المقسوم عليهم. وَ الْيَتامى‏ وَ الْمَساكِينُ‏ أي: المستحقون من الفقراء. فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ‏ أي: أعطوهم ما تيسر من هذا المال، الذي جاءكم بغير كد و لا تعب، و لا عناء، و لا نصب، فإن نفوسهم متشوفة إليه، و قلوبهم متطلعة. فاجبروا خواطرهم، بما لا يضركم، و هو نافعهم. و يؤخذ من المعنى، أن كل من له تطلع و تشوف إلى ما حضر بين يدي الإنسان، ينبغي له أن يعطيه منه، ما تيسر كما كان النبي صلى اللّه عليه و سلم يقول: «إذا جاء أحدكم خادمه بطعامه، فليجلسه معه، فإن لم يجلسه معه، فليناوله لقمة أو لقمتين» أو كما قال. و كان الصحابة رضي اللّه عنهم- إذا بدأت باكورة أشجارهم- أتوا بها رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، فبرّك عليها، و نظر إلى أصغر وليد عنده، فأعطاه ذلك، علما منه بشدة تشوقه إلى ذلك، و هذا كله، مع إمكان الإعطاء. فإن لم يمكن ذلك- لكونه حق سفهاء، أو ثم أهم من ذلك- فليقولوا لهم‏ قَوْلًا مَعْرُوفاً يردونهم ردا جميلا، بقول حسن، غير فاحش، و لا قبيح.

[9] قيل: إن هذا خطاب لمن يحضر، من حضره الموت و أجنف في وصيته، أن يأمره بالعدل في وصيته، و المساواة فيها بدليل قوله: وَ لْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً أي: سدادا، موافقا للقسط و المعروف. و أنهم يأمرون من يريد الوصية على أولاده، بما يحبون معاملة أولادهم بعدهم. و قيل: إن المراد بذلك، أولياء السفهاء، من المجانين، و الصغار، و الضعاف، أن يعاملوهم في مصالحهم الدينية و الدنيوية، بما يحبون أن يعامل به من بعدهم، من ذريتهم الضعاف. فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ‏ في ولايتهم لغيرهم، أي: يعاملونهم بما فيه تقوى اللّه، من عدم إهانتهم، و القيام عليهم، و إلزامهم لتقوى اللّه.

صفحه بعد