کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تيسير الكريم الرحمن

سورة الفاتحة سورة آل عمران سورة المائدة سورة الأنعام تفسير سورة الأعراف تفسير سورة الأنفال تفسير سورة التوبة تفسير سورة يونس تفسير سورة هود تفسير سورة الرعد سورة إبراهيم تفسير سورة الحجر سورة النحل سورة الإسراء سورة الكهف تفسير سورة مريم سورة طه تفسير سورة الأنبياء تفسير سورة الحج تفسير سورة المؤمنون تفسير سورة النور تفسير سورة الفرقان تفسير سورة الشعراء تفسير سورة النمل تفسير سورة العنكبوت تفسير سورة الروم تفسير سورة لقمان تفسير سورة السجدة سورة الأحزاب سورة سبأ تفسير سورة فاطر تفسير سورة يس تفسير سورة الصافات تفسير سورة الزمر تفسير سورة فصلت سورة الشورى سورة الزخرف تفسير سورة الدخان سورة الجاثية سورة الأحقاف سورة محمد تفسير سورة الحجرات تفسير سورة ق سورة الطور تفسير سورة النجم سورة القمر سورة الرحمن سورة الواقعة تفسير سورة الحديد تفسير سورة المجادلة تفسير سورة الحشر تفسير سورة الممتحنة تفسير سورة الصف سورة الجمعة تفسير سورة المنافقون تفسير سورة التغابن تفسير سورة الطلاق تفسير سورة التحريم تفسير سورة الملك تفسير سورة القلم سورة الحاقة سورة المعارج سورة نوح سورة الجن تفسير سورة المزمل سورة المدثر تفسير سورة القيامة سورة الإنسان سورة المرسلات تفسير سورة النبأ سورة النازعات سورة عبس تفسير سورة التكوير سورة الإنفطار سورة المطففين تفسير سورة الإنشقاق سورة البروج سورة الطارق سورة الأعلى تفسير سورة الغاشية تفسير سورة الفجر تفسير سورة البلد سورة الشمس سورة الليل تفسير سورة الضحى سورة الشرح سورة التين تفسير سورة العلق سورة القدر تفسير سورة البينة تفسير سورة الزلزلة تفسير سورة العاديات تفسير سورة القارعة سورة التكاثر سورة العصر تفسير سورة الهمزة سورة الفيل تفسير سورة قريش سورة الماعون سورة الكوثر تفسير سورة الكافرون سورة النصر تفسير سورة المسد تفسير سورة الإخلاص سورة الفلق تفسير سورة الناس محتوى تفسير الإمام السعدي

تيسير الكريم الرحمن


صفحه قبل

تيسير الكريم الرحمن، ص: 1038

يلحقهم فيها أحد. و هم الأمة الأمية الّذين فاقوا الأولين و الآخرين، حتى أهل الكتاب، الّذين يزعمون أنهم العلماء الربانيون، و الأحبار المتقدمون، ذكر أن الّذين حملهم اللّه التوراة من اليهود و النصارى، و أمرهم أن يتعلموها، و يعملوا بها فلم يحملوها و لم يقوموا بما حملوا به أنهم لا فضيلة لهم، و أن مثلهم كمثل الحمار الذي يحمل فوق ظهره أسفارا من كتب العلم، فهل يستفيد الحمار من تلك الكتب الّتي فوق ظهره؟ و هل تلحقه فضيلة بسبب ذلك؟ أم حظه منها حملها فقط؟ فهذا مثل علماء أهل الكتاب، الّذين لم يعملوا بما في التوراة، الذي من أجله و أعظمه الأمر باتباع محمد صلّى اللّه عليه و سلّم، و البشارة به، و الإيمان بما جاء به من القرآن، فهل استفاد من هذا وصفه، من التوراة إلّا الخيبة و الخسران، و إقامة الحجة عليه؟ فهذا المثل مطابق لأحوالهم. بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ‏ الدالة على صدق رسولنا و صحة ما جاء به. وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏ ، أي: لا يرشدهم إلى مصالحهم، ما دام الظلم لهم وصفا، و العناد لهم نعتا.

[6] و من ظلم اليهود و عنادهم، أنهم يعلمون أنهم على باطل، و يزعمون أنهم على حق، و أنهم أولياء اللّه من دون الناس. و لهذا أمر اللّه رسوله أن يقول لهم: إن كنتم صادقين في زعمكم، أنكم على الحقّ، و أولياء اللّه:

فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ‏ و هذا أمر خفيف، فإنهم لو علموا أنهم على حق لما توقفوا عن هذا التحدي الذي جعله اللّه دليلا على صدقهم إن تمنوه، و كذبهم إن لم يتمنوه.

[7] و لما لم يقع منهم، مع الإعلان لهم بذلك، علم أنهم عالمون ببطلان ما هم عليه و فساده، و لهذا قال: وَ لا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ‏ ، أي: من الذنوب و المعاصي، الّتي يستوحشون من الموت من أجلها. وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ‏ فلا يمكن أن يخفى عليه من ظلمهم شي‏ء.

[8] هذا و إن كانوا لا يتمنون الموت بما قدمت أيديهم، بل يفرون منه غاية الفرار، فإن ذلك لا ينجيهم، بل لا بد أن يلاقيهم الموت الذي قد حتمه اللّه على العباد. ثمّ بعد الموت و استكمال الآجال، يرد الخلق كلهم يوم القيامة، إلى عالم الغيب و الشهادة، فينبئهم بما كانوا يعملون، من خير و شر، قليل و كثير.

[9] يأمر تعالى عباده المؤمنين بالحضور لصلاة الجمعة، و المبادرة إليها من حين ينادى إليها و السعي إليها، و المراد بالسعي هنا: المبادرة و الاهتمام، و جعلها أهم الأشغال: لا البيع الذي قد نهى عنه عند المضي إلى الصلاة. و قوله:

وَ ذَرُوا الْبَيْعَ‏ ، أي: اتركوا البيع، إذا نودي للصلاة و امضوا إليها. فإن‏ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ‏ من اشتغالكم بالبيع، أو تفويتكم لصلاة الفريضة، الّتي هي من آكد الفروض. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏ ، أي: ما عند اللّه خير و أبقى، و أن من آثر الدنيا على الدين، فقد خسر الخسارة الحقيقية، من حيث يظن أنه يربح، و هذا الأمر بترك البيع، مؤقت مدة الصلاة.

[10] فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ‏ لطلب المكاسب و التجارات، و لما كان الاشتغال بالتجارة، مظنة الغفلة عن ذكر اللّه، أمر اللّه بالإكثار من ذكره، لينجبر بهذا، فقال: وَ اذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً ، أي: في حال قيامكم و قعودكم، و على جنوبكم. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏ ، فإن الإكثار من ذكر اللّه أكبر أسباب الفلاح.

تيسير الكريم الرحمن، ص: 1039

[11] وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها ، أي:

خرجوا من المسجد، حرصا على ذلك اللهو، و تلك التجارة، و تركوا الخير وَ تَرَكُوكَ قائِماً تخطب الناس، و ذلك في يوم الجمعة بينما النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يخطب الناس، إذ قدم المدينة، غير تحمل تجارة، فلما سمع الناس بها، و هم في المسجد، انفضوا من المسجد، و تركوا النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يخطب استعجالا لما لا ينبغي أن يستعجل له، و ترك أدب. قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ‏ من الأجر و الثواب، لمن لازم الخير، و صبر نفسه على عبادة اللّه.

خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَ مِنَ التِّجارَةِ الّتي، و إن حصل منها بعض المقاصد، فإن ذلك قليل منقض، مفوت لخير الآخرة، و ليس الصبر على طاعة اللّه مفوتا للرزق. وَ اللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ‏ فمن اتقى اللّه رزقه من حيث لا يحتسب. و في هذه الآيات فوائد عديدة: منها: أن الجمعة فريضة على المؤمنين، يجب عليهم السعي إليها، و المبادرة و الاهتمام بشأنها.

و منها: أن الخطبتين يوم الجمعة، فريضة يجب حضورهما، لأنه فسر الذكر هنا بالخطبتين، فأمر اللّه بالمضي إليه و السعي له. و منها: مشروعية النداء للجمعة و الأمر به. و منها: النهي عن البيع و الشراء بعد نداء الجمعة، و تحريم ذلك، و ما ذاك إلّا أن يفوت الواجب و يشغل عنه. فدل ذلك على أن كلّ أمر، و إن كان مباحا في الأصل، إذا كان ينشأ عنه تفويت واجب، فإنه لا يجوز في تلك الحال. و منها: الأمر بحضور الخطبتين يوم الجمعة، و ذم من لم يحضرهما، و من لازم ذلك الإنصات لهما. و منها: أنه ينبغي للعبد المقبل على عبادة اللّه، وقت دواعي النفس لحضور اللهو و التجارات و الشهوات أن يذكرها، بما عند اللّه من الخيرات، و ما لمؤثر رضاه على هواه. تم تفسير سورة الجمعة، بمنى اللّه و عونه- و الحمد للّه رب العالمين.

تفسير سورة المنافقون‏

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

[1] لما قدم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم المدينة، و كثر الإسلام فيها و عز، صار أناس من أهلها، من الأوس و الخزرج، يظهرون الإيمان، و يبطنون الكفر، ليبقى جاههم، و تحقن دماؤهم، و تسلم أموالهم. فذكر اللّه من أوصافهم ما به يعرفون، لكي يحذرهم العباد، و يكونوا منهم على بصيرة، فقال: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا على وجه الكذب: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ‏ ، و هذه الشهادة من المنافقين على وجه الكذب و النفاق، مع أنه لا حاجة لشهادتهم في تأييد رسوله.

وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ‏ في قولهم و دعواهم، و أن ذلك ليس بحقيقة منهم.

[2] اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً ، أي: ترسا يتترسون بها، من نسبتهم إلى النفاق. فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 1040

بأنفسهم، و صدوا غيرهم ممن يخفى عليه حالهم. إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ‏ حيث أظهروا الإيمان، و أبطنوا الكفر، و أقسموا على ذلك، و أوهموا صدقهم.

[3] ذلِكَ‏ الذي زين لهم النفاق (ب) سبب (أنهم) لا يثبتون على الإيمان. بل‏ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ‏ بحيث لا يدخلها الخير أبدا. فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ‏ ما ينفعهم، و لا يعون ما يعود بمصالحهم.

[4] وَ إِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ‏ من روائها، و نضارتها. وَ إِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ‏ ، أي: من حسن منطقهم، تستلذ لاستماعه. فأجسامهم و أقوالهم معجبة، و لكن ليس وراء ذلك من الأخلاق الفاضلة، و الهدى الصالح، شي‏ء، و لهذا قال: كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ لا منفعة فيها، و لا ينال منها إلا الضرر المحض. يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ‏ و ذلك لجبنهم و فزعهم، و ضعف قلوبهم و ريبها، يخافون أن يطلع عليها. فهؤلاء هُمُ الْعَدُوُّ على الحقيقة، لأن العدو البارز المتميز، أهون من العدو، الذي لا يشعر به، و هو مخادع ماكر، يزعم أنه وليّ، و هو العدو المبين. فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ‏ ، أي: كيف يصرفون عن الدين الإسلامي بعد ما تبينت أدلته، و اتضحت معالمه، إلى الكفر الذي لا يفيدهم، إلّا الخسار و الشقاء.

[5] وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ‏ ، أي: لهؤلاء المنافقين‏ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ‏ عما صدر منكم، لتحسن أحوالكم، و تقبل أعمالكم، امتنعوا من ذلك أشد الامتناع. لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ‏ امتناعا من طلب الدعاء من الرسول.

وَ رَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ‏ عن الحقّ، بغضا له‏ وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ‏ عن اتباعه بغيا و عنادا. فهذه حالهم، عند ما يدعون إلى طلب الدعاء من الرسول، و هذا من لطف اللّه و كرامته لرسوله، حيث لم يأتوا إليه، فيستغفر لهم.

[6] فإنه‏ سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ‏ و ذلك لأنهم قوم فاسقون، خارجون عن طاعة اللّه، مؤثرون للكفر على الإيمان، فلذلك لا ينفع فيهم استغفار الرسول، لو استغفر لهم كما قال تعالى:

اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ‏ ، ... إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ‏ .

[7] و هذا من شدة عداوتهم للنبي صلّى اللّه عليه و سلم، و المسلمين، لما رأوا اجتماع أصحابه، و ائتلافهم، و مسارعتهم في مرضاة الرسول صلّى اللّه عليه و سلم، قالوا بزعمهم الفاسد: لا تُنْفِقُوا عَلى‏ مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا فإنهم- على زعمهم- لو لا أموال المنافقين و نفقاتهم عليهم، لما اجتمعوا في نصرة دين اللّه. و هذا من أعجب العجب، أن يدعي هؤلاء المنافقون، الّذين هم أحرص الناس على خذلان الدين، و أذية المسلمين، مثل هذه الدعوى، الّتي لا تروج إلّا على من لا علم له بالحقائق. و لهذا قال تعالى، ردا لقولهم: وَ لِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ‏ ، فيؤتي الرزق من يشاء، و يمنعه من يشاء، و ييسر الأسباب لمن يشاء، و يعسرها على من يشاء. وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ‏ فلذلك قالوا تلك المقالة، الّتي مضمونها أن خزائن الرزق في أيديهم، و تحت مشيئتهم.

[8] يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ‏ و ذلك في غزوة المريسيع، حين صار بين بعض المهاجرين و الأنصار بعض كلام، كدر الخواطر، ظهر حينئذ نفاق المنافقين، و تبين ما في قلوبهم. و قال كبيرهم، عبد اللّه بن أبيّ ابن سلول: ما مثلنا، و مثل‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 1041

هؤلاء- يعني المهاجرين- إلّا كما قال القائل: (سمّن كلبك يأكلك). و قال: لئن رجعنا إلى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ‏ بزعمه أنه هو و إخوانه المنافقين، الأعزون، و أن رسول اللّه، و من اتبعه هم الأذلون، و الأمر بعكس ما قال هذا المنافق. فلهذا قال تعالى: وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ‏ فهم الأعزاء، و المنافقون و إخوانهم من الكفار، هم الأذلاء. وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ‏ ذلك، فلذلك زعموا أنهم الأعزاء، اغترارا بما هم عليه من الباطل.

[9] ثمّ قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلى: بِما تَعْمَلُونَ‏ . يأمر تعالى عباده المؤمنين بالإكثار من ذكره، فإن في ذلك، الربح و الفلاح، و الخيرات الكثيرة، و ينهاهم أن تشغلهم أموالهم و أولادهم عن ذكره، فإن محبة المال و الأولاد مجبولة عليها أكثر النفوس، فتقدمها على محبة اللّه، و في ذلك الخسارة العظيمة، و لهذا قال تعالى: وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ‏ ، أي: يلهه ماله و ولده، عن ذكر اللّه‏ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ‏ للسعادة الأبدية، و النعيم المقيم، لأنهم آثروا ما يفنى على ما يبقى. قال تعالى: إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَ اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ‏ (15).

[10] و قوله: وَ أَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ‏ يدخل في هذا، النفقات الواجبة، من الزكاة و الكفارات، و نفقة الزوجات، و المماليك، و نحو ذلك، و النفقات المستحبة كبذل المال في جميع المصالح. و قال: مِمَّا رَزَقْناكُمْ‏ ليدل ذلك على أنه تعالى، لم يكلف العباد من النفقة ما يعنتهم و يشق عليهم، بل أمرهم بإخراج جزء مما رزقهم، و يسره، و يسر أسبابه. فليشكروا الذي أعطاهم، بمواساة إخوانهم المحتاجين، و ليبادروا بذلك الموت الذي إذا جاء، لم يمكّن العبد أن يأتي بمثقال ذرة من الخير، و لهذا قال: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ‏ متحسرا على ما فرّط في وقت الإمكان، سائلا الرجعة الّتي هي محال: رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى‏ أَجَلٍ قَرِيبٍ‏ ، أي: لأتدارك ما فرّطت فيه.

فَأَصَّدَّقَ‏ من مالي، ما به أنجو من العذاب، و أستحق جزيل الثواب. وَ أَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ‏ بأداء المأمورات كلها، و اجتناب المنهيات، و يدخل في هذا، الحج و غيره.

[11] و هذا السؤال و التمني، قد فات وقته، و لا يمكن تداركه، و لهذا قال: وَ لَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها المحتوم لها وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ‏ من خير و شر، فيجازيكم على ما علمه، من النيات و الأعمال.

تفسير سورة التغابن‏

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

[1] هذه الآيات الكريمات، مشتملات على جملة كثيرة واسعة، من أوصاف الباري العظيمة، فذكر كمال‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 1042

ألوهيته سبحانه، و سعة غناه، و افتقار جميع الخلائق إليه، و تسبيح من في السماوات و الأرض بحمد ربها، و أن الملك كله للّه، فلا يخرج عن ملكه مخلوق. و الحمد كله له، حمد على ما له من صفات الكمال، و حمد على ما أوجده من الأشياء، و حمد على ما شرعه من الأحكام، و أسداه من النعم. و قدرته شاملة، لا يخرج عنها موجود، فلا يعجزه شي‏ء يريده.

[2] و ذكر أنه خلق العباد، و جعل منهم المؤمن و الكافر، فإيمانهم و كفرهم كله، بقضاء اللّه و قدره، و هو الذي شاء ذلك منهم، بأن جعل لهم قدرة و إرادة، بها يتمكنون من كلّ ما يريدون، من الأمر و النهي، وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ .

[3] فلما ذكر خلق الإنسان المأمور المنهي، ذكر خلق باقي المخلوقات، فقال: خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ‏ ، أي:

أجرامهما، و جميع ما فيهما، فأحسن خلقهما. بِالْحَقِ‏ ، أي: بالحكمة، و الغاية المقصودة له تعالى. وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ‏ كما قال تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ‏ (4). فالإنسان، أحسن المخلوقات صورة، و أبهاها منظرا. وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ، أي: المرجع يوم القيامة، فيجازيكم على إيمانكم و كفركم، و يسألكم عن النعم و النعيم الذي أولاكم، هل قمتم بشكره أم لم تقوموا به؟ ثمّ ذكر عموم علمه، فقال:

[4] يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ‏ ، أي: في السرائر و الظواهر، و الغيب و الشهادة. وَ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَ ما تُعْلِنُونَ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ، أي: بما فيها من الأسرار الطيبة، و الخبايا الخبيثة، و النيات الصالحة، و المقاصد الفاسدة. فإذا كان عليما بذات الصدور، تعين على العاقل البصير، أن يحرص و يجتهد في حفظ باطنه، من الأخلاق الرذيلة، و اتصافه بالأخلاق الجميلة.

[5] لما ذكر تعالى من أوصافه الكاملة العظيمة، ما به يعرف و يعبد، و يبذل الجهد في مرضاته، و تجتنب مساخطه، أخبر بما فعل بالأمم السابقين، و القرون الماضين، الّذين لم تزل أنباؤهم، يتحدث بها المتأخرون، و يخبر بها الصادقون، و أنهم حين جاءتهم رسلهم بالحق، كذبوهم و عاندوهم. فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ‏ في الدنيا، و أخزاهم اللّه فيها وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ‏ في الدار الآخرة، و لهذا ذكر السبب في هذه العقوبة، فقال:

[6] ذلِكَ‏ النكال و الوبال، الذي أحللناه بهم‏ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ‏ ، أي: بالآيات الواضحات، الدالة على الحقّ و الباطل، فاشمأزوا، و استكبروا على رسلهم، فقالوا: أَ بَشَرٌ يَهْدُونَنا ، أي: ليس لهم فضل علينا، و لأي شي‏ء خصهم اللّه دوننا. كما قال في الآية الأخرى: قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى‏ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ‏ فهم حجروا فضل اللّه و منته على أنبيائه أن يكونوا رسلا للخلق، و استكبروا عن الانقياد لهم. فابتلوا بعبادة الأشجار، و الأحجار و نحوها فَكَفَرُوا باللّه‏ وَ تَوَلَّوْا عن طاعته. وَ اسْتَغْنَى اللَّهُ‏ عنهم، فلا يبالي بهم، و لا يضره ضلالهم شيئا. وَ اللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ، أي: هو الغني، الذي له الغني التام المطلق، من جميع الوجوه. الحميد، في أقواله و أفعاله و أوصافه.

تيسير الكريم الرحمن، ص: 1043

[7] يخبر تعالى عن عناد الكافرين، و زعمهم الباطل، و تكذيبهم بالبعث بغير علم، و لا هدى و لا كتاب منير.

فأمر أشرف خلقه، أن يقسم بربه على بعثهم، و جزائهم بأعمالهم الخبيثة، و تكذيبهم بالحق. وَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ فإنه، و إن كان عسيرا بل متعذرا، بالنسبة إلى الخلق، فإن قواهم كلهم، لو اجتمعت على إحياء ميت واحد، ما قدروا على ذلك. و أما اللّه تعالى، فإنه إذا أراد شيئا، قال له كن فيكون. قال تعالى: وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى‏ فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ‏ (68).

[8] لما ذكر تعالى إنكار من أنكر البعث، و أن ذلك منهم موجب كفرهم باللّه و آياته، أمر بما يعصم من الهلكة و الشقاء، و هو الإيمان به، و برسوله، و بكتابه. و سماه اللّه نورا، لأن النور ضد الظلمة، فما في الكتاب الذي أنزله اللّه من الأحكام و الشرائع و الأخبار، أنوار يهتدى بها في ظلمات الجهل المدلهمة، و يمشى بها في حندس الليل البهيم. و ما سوى الاهتداء بكتاب اللّه، فهي علوم، ضررها أكثر من نفعها، و شرها أكثر من خيرها. بل لا خير فيها و لا نفع، إلّا ما وافق ما جاءت به الرسل. و الإيمان باللّه و رسوله و كتابه، يقتضي الجزم التام، و اليقين الصادق بها، و العمل بمقتضى ذلك التصديق، من امتثال الأوامر، و اجتناب النواهي. وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فيجازيكم بأعمالكم، الصالحة و السيئة.

[9] يعني: اذكروا يوم الجمع الذي يجمع اللّه به الأولين و الآخرين، و يقفهم موقفا هائلا عظيما، و ينبئهم بما عملوا. فحينئذ يظهر الفرق و التغابن بين الخلائق، و يرفع أقوام إلى أعلى عليين، في الغرف العاليات، و المنازل المرتفعات، المشتملة على جميع اللذات و الشهوات. و يخفض أقوام إلى أسفل سافلين، محل الهم و الغم، و الحزن و العذاب الشديد، و ذلك نتيجة ما قدموه لأنفسهم، و أسلفوه أيام حياتهم، و لهذا قال: ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ‏ . أي:

يظهر فيه التغابن، و التفاوت بين الخلائق، و يغبن المؤمنون الفاسقين، و يعرف المجرمون، أنهم على غير شي‏ء، و أنهم هم الخاسرون، فكأنه قيل: بأي شي‏ء يحصل الفلاح و الشقاء و النعيم و العذاب؟ فذكر أسباب ذلك بقوله: وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ‏ إيمانا تاما، شاملا لجميع ما أمر اللّه بالإيمان به. وَ يَعْمَلْ صالِحاً من الفرائض و النوافل، من أداء حقوق اللّه و حقوق عباده. يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، فيها ما تشتهيه الأنفس، و تلذ الأعين، و تختاره الأرواح، و تحن إليه القلوب، و يكون نهاية كلّ مرغوب. خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏ .

[10] وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا ، أي: كفروا بها، من غير مستند شرعي و لا عقلي. بل جاءتهم الأدلة و البينات، فكذبوا بها و عاندوا، ما دلت عليه. أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ لأنها جمعت كلّ بؤس و شدة، و شقاء و عذاب.

[11] يقول تعالى: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ‏ هذا عام لجميع المصائب، في النفس، و المال، و الولد، و الأحباب، و نحوهم. فجميع ما أصاب العباد، بقضاء اللّه و قدره، قد سبق بذلك، علم اللّه، و جرى به قلمه، و نفذت مشيئته، و اقتضته حكمته، و لكن الشأن كلّ الشأن، هل يقوم العبد بالوظيفة، الّتي عليه في هذا المقام، أم لا يقوم بها؟ فإن قام بها، فله الثواب الجزيل، و الأجر الجميل، في الدنيا و الآخرة. فإذا آمن أنها من عند اللّه، فرضي بذلك، و سلّم لأمره، هدى اللّه قلبه، فاطمأن و لم ينزعج عند المصائب، كما يجري ممن لم يهد اللّه قلبه، بل يرزقه الثبات عند ورودها و القيام بموجب الصبر فيحصل له بذلك ثواب عاجل، مع ما يدخر له يوم الجزاء من الأجر العظيم، كما قال تعالى: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ‏ . و علم من ذلك، أن من لم يؤمن باللّه عند ورود المصائب، بأن لم يلحظ قضاء اللّه و قدره، بل وقف مع مجرد الأسباب، أنه يخذل، و يكله اللّه إلى نفسه. و إذا و كلّ العبد إلى نفسه، فالنفس ليس عندها إلّا الهلع و الجزع، الذي هو عقوبة عاجلة على العبد، قبل عقوبة الآخرة، على ما فرط في واجب الصبر. هذا ما يتعلق بقوله: وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ‏ ، في مقام المصائب الخاص. و أما ما يتعلق بها من حيث العموم اللفظي، فإن اللّه أخبر أن كلّ من آمن، أي: الإيمان المأمور به،

تيسير الكريم الرحمن، ص: 1044

و هو الإيمان باللّه و ملائكته، و كتبه، و رسله، و اليوم الآخر، و القدر خيره و شره. و صدق إيمانه، بما يقتضيه الإيمان من لوازمه و واجباته، أن هذا السبب الذي قام به العبد، أكبر سبب لهداية اللّه له في أقواله و أفعاله، و جميع أحواله و في علمه و عمله. و هذا أفضل جزاء، يعطيه اللّه لأهل الإيمان، كما قال تعالى- مخبرا- أنه يثبت المؤمنين في الحياة الدنيا، و في الآخرة. و أصل الثبات: ثبات القلب و صبره، و يقينه عند ورود كلّ فتنة، فقال: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ ، فأهل الإيمان، أهدى الناس قلوبا، و أثبتهم عند المزعجات و المقلقات، و ذلك لما معهم من الإيمان.

[12] و قوله: وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ‏ ، أي: في امتثال أمرهما، و اجتناب نهيهما، فإن طاعة اللّه، و طاعة رسوله، مدار السعادة، و عنوان الفلاح. فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ‏ ، أي: عن طاعة اللّه و طاعة رسوله، فَإِنَّما عَلى‏ رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ‏ ، أي: يبلغكم ما أرسل به إليكم، بلاغا بينا واضحا، فتقوم عليكم به الحجة، و ليس بيده من هدايتكم، و لا من حسابكم شي‏ء. و إنّما يحاسبكم على القيام بطاعة اللّه و طاعة رسوله، أو عدم ذلك، عالم الغيب و الشهادة.

[13] اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، أي: هو المستحق للعبادة و الألوهية، فكل معبود سواه باطل. وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ‏ ، أي: فليعتمدوا عليه في كلّ أمر نابهم، و فيما يريدون القيام به. فإنه لا يتيسر أمر من الأمور إلّا باللّه، و لا سبيل إلى ذلك إلّا بالاعتماد على اللّه، و لا يتم الاعتماد على اللّه، حتى يحسن العبد ظنه بربه، و يثق به في كفايته الأمر، الذي يعتمد عليه به، و بحسب إيمان العبد يكون توكله، قوة و ضعفا.

[14- 15] هذا تحذير من اللّه للمؤمنين، عن الاغترار بالأزواج و الأولاد، فإن بعضهم عدو لكم، و العدو هو الذي يريد لك الشر، فوظيفتك الحذر ممن هذه صفته، و النفس مجبولة على محبة الأزواج و الأولاد. فنصح تعالى عباده، أن توجب لهم هذه المحبة، الانقياد لمطالب الأزواج و الأولاد، الّتي فيها محذور شرعي، و رغبهم في امتثال أوامره، و تقديم مرضاته بما عنده، من الأجر العظيم المشتمل على المطالب العالية، و المحاب الغالية، و أن يؤثروا الآخرة على الدنيا الفانية المنقضية. و لما كان النهي عن طاعة الأزواج و الأولاد، فيما هو ضرر على العبد، و التحذير من ذلك، قد يوهم الغلظة عليهم و عقابهم، أمر تعالى بالحذر منهم، و الصفح عنهم و العفو، فإن في ذلك من المصالح ما لا يمكن حصره، فقال: وَ إِنْ تَعْفُوا وَ تَصْفَحُوا وَ تَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏ لأن الجزاء من جنس العمل. فمن عفا، عفا اللّه عنه، و من صفح، صفح عنه، و من عامل اللّه فيما يحب، و عامل عباده بما يحبون، و ينفعهم، نال محبة اللّه، و محبة عباده، و استوثق له أمره.

صفحه بعد