کتابخانه تفاسیر
تيسير الكريم الرحمن، ص: 353
الجماع، النسل، و حينئذ حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً و ذلك في ابتداء الحمل، لا تحس به الأنثى، و لا يثقلها. فَلَمَّا استمرت و أَثْقَلَتْ به حين كبر في بطنها، فحينئذ صار في قلوبهما الشفقة على الولد، و على خروجه حيا، صحيحا، سالما لا آفة فيه. لذلك دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا ولدا صالِحاً أي: صالح الخلقة تامها، لا نقص فيه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ . فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً على وفق ما طلبا، و تمت عليهما النعمة فيه جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما أي:
جعلا للّه شركاء في ذلك الولد، الذي انفرد اللّه بإيجاده، و النعمة به، و أقرّ به أعين والديه، فعبّداه لغير اللّه. إما أن يسمياه بعبد غير اللّه ك «عبد الحارث» و «عبد العزى» و «عبد الكعبة» و نحو ذلك، أو يشركا في اللّه في العبادة، بعد ما منّ اللّه عليهما بما منّ به، من النعم التي لا يحصيها أحد من العباد. و هذا انتقال من النوع إلى الجنس، فإن أول الكلام في آدم و حواء، ثمّ انتقل الكلام في الجنس، و لا شك أن هذا موجود في الذرية كثيرا، فلذلك قررهم اللّه على بطلان الشرك، و أنهم في ذلك ظالمون أشد الظلم، سواء كان الشرك في الأقوال، أم في الأفعال. فإن اللّه هو الخالق لهم، من نفس واحدة، الذي خلق منها زوجها و جعل لهم من أنفسهم أزواجا، ثمّ جعل بينهم من المودة و الرحمة، ما يسكن بعضهم إلى بعض، و يألفه، و يلتذ به، ثمّ هداهم إلى ما به تحصل الشهوة و اللذة، و الأولاد و النسل. ثمّ أوجد الذرية في بطون الأمهات، وقتا موقوتا، تتشوف إليه نفوسهم و يدعون اللّه أن يخرجه سويا صحيحا، فأتم اللّه عليهم النعمة و أنالهم مطلوبهم. أفلا يستحق أن يعبدوه، و لا يشركوا في عبادته أحدا، و يخلصوا له الدين. و لكن الأمر جاء على العكس، فأشركوا باللّه ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ وَ لا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ أي: لعابديها نَصْراً وَ لا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ . فإذا كانت لا تخلق شيئا، و لا مثقال ذرة، بل هي مخلوقة، و لا تستطيع أن تدفع المكروه عن من يعبدها، و لا عن أنفسها فكيف تتخذ مع اللّه آلهة؟ إن هذا إلا أظلم الظلم، و أسفه السفه.
[193] وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ أي: و إن تدعو، أيها المشركون هذه الأصنام، التي عبدتموها من دون اللّه إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَ دَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ ، فصار الإنسان أحسن حالة منها، لأنها لا تسمع، و لا تبصر، و لا تهدي و لا تهدى، و كل هذا، إذا تصوره اللبيب العاقل تصورا مجردا، جزم ببطلان إلهيتها و سفاهة من عبدها. و هذا من نوع التحدي للمشركين العابدين للأوثان.
[194- 196] يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ أي: لا فرق بينكم و بينهم، فكلكم عبيد للّه مملوكون، فإن كنتم كما تزعمون صادقين، في أنها تستحق من العبادة شيئا فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فإن استجابوا لكم، و حصلوا مطلوبكم و إلا تبين أنكم كاذبون في هذه الدعوى، مفترون على اللّه أعظم الفرية.
و هذا لا يحتاج إلى تبيين فيه، فإنكم إذا نظرتم إليها وجدتم صورتها دالة على أنه ليس لديها من النفع شيء، فليس لها أرجل تمشي بها، و لا أيد تبطش بها، و لا أعين تبصر بها، و لا آذان تسمع بها، فهي عادمة لجميع الآلات و القوى، الموجودة في الإنسان. فإذا كانت لا تجيبكم إذا دعوتموها، فهي عباد أمثالكم، بل أنتم أكمل منها، و أقوى على كثير
تيسير الكريم الرحمن، ص: 354
من الأشياء، فلأي شيء عبدتموها. قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ أي: اجتمعوا أنتم و شركاؤكم، على إيقاع السوء و المكروه بي، من غير إمهال و لا إنظار، فإنكم غير بالغين لشيء من المكروه بي. إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الذي يتولاني فيجلب لي المنافع و يدفع عني المضار. الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ الذي فيه الهدى، و الشفاء، و النور، و هو من توليه و تربيته لعباده الخاصة الدينية. وَ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ الّذين صلحت نياتهم و أعمالهم، و أقوالهم، كما قال تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ . فالمؤمنون الصالحون- لما تولوا ربهم بالإيمان و التقوى، و لم يتولوا غيره، ممن لا ينفع، و لا يضر- تولاهم اللّه، و لطف بهم، و أعانهم على ما فيه الخير و المصلحة، في دينهم و دنياهم، و دفع عنهم- بإيمانهم- كل مكروه، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا .
[197- 198] و هذا أيضا في بيان عدم استحقاق هذه الأصنام، التي يعبدونها، من دون اللّه شيئا من العبادة، لأنها ليس لها استطاعة و لا اقتدار، في نصر أنفسها، و لا في نصر عابديها، و ليس لها قوة العقل و الاستجابة، فلو دعوتها إلى الهدى، لم تهتد، و هي صور لا حياة فيها. فتراهم ينظرون إليك، و هم لا يبصرون حقيقة، لأنهم صوروها على صورة الحيوانات، من الآدميين أو غيرهم، و جعلوا لها أبصارا و أعضاء، فإذا رأيتها قلت: هذه حية، فإذا تأملتها عرفت أنها جمادات، لا حراك بها، و لا حياة، فبأي رأي اتخذها المشركون آلهة مع اللّه؟ و لأي مصلحة أو نفع عكفوا عندها، و تقربوا لها بأنواع العبادات؟ فإذا عرف هذا، عرف أن المشركين و آلهتهم التي عبدوها، لو اجتمعوا و أرادوا أن يكيدوا من تولاه فاطر السموات و الأرض، متولي أحوال عباده الصالحين، لم يقدروا على كيده، بمثقال ذرة من الشر، لكمال عجزهم و عجزها، و كمال قوة اللّه و اقتداره، و قوة من احتمى بجلاله، و توكل عليه.
و قيل: إن معنى قوله: وَ تَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَ هُمْ لا يُبْصِرُونَ أن الضمير يعود إلى المشركين المكذبين لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، فتحسبهم ينظرون إليك يا رسول اللّه، نظر اعتبار، يتبين به الصادق من الكاذب، و لكنهم لا يبصرون حقيقتك، و ما يتوسمه المتوسمون فيك من الجمال و الكمال و الصدق.
[199] هذه الآية جامعة لحسن الخلق مع الناس، و ما ينبغي في معاملتهم. فالذي ينبغي أن يعامل به الناس، أن يأخذ العفو، أي: ما سمحت به أنفسهم، و ما سهل عليهم من الأعمال و الأخلاق، فلا يكلفهم ما لا تسمح به طبائعهم، بل يشكر من كل أحد، ما قابله به، من قول و فعل جميل، أو ما هو دون ذلك، و يتجاوز عند تقصيرهم و يغض طرفه عن نقصهم، و لا يتكبر على الصغير لصغره، و لا ناقص العقل لنقصه، و لا الفقير لفقره، بل يعامل الجميع باللطف و المقابلة بما تقتضيه الحال، و تنشرح له صدورهم. وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ أي: بكل قول حسن، و فعل جميل، و خلق كامل للقريب و البعيد. فاجعل ما يأتي إلى الناس منك، إما تعليم علم، أو حثا على خير، من صلة رحم، أو برّ و الدين، أو إصلاح بين الناس، أو نصيحة نافعة، أو رأي مصيب، أو معاونة على بر و تقوى، أو زجر عن قبيح، أو إرشاد إلى تحصيل مصلحة دينية، أو دنيوية. و لما كان لا بد من أذية الجاهل، أمر اللّه تعالى أن يقابل الجاهل، بالإعراض عنه، و عدم مقابلته بجهله. فمن آذاك، بقوله أو فعله لا تؤذه، و من حرمك، لا تحرمه، و من قطعك، فصله، و من ظلمك فاعدل فيه.
[200- 202] و أما ما ينبغي أن يعامل به العبد شياطين الجن، فقال تعالى: وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ إلى ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ . أي: أي وقت، و في أي حال يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ أي: تحس منه بوسوسة، و تثبيط عن الخير، أو حث على الشر، و إيعاز به. فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ أي: التجئ و اعتصم باللّه، و احتم بحماه إِنَّهُ سَمِيعٌ لما تقول. عَلِيمٌ بنيتك و ضعفك، و قوة التجائك له، فسيحميك من فتنته، و يقيك من وسوسته، كما قال تعالى:
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) إلى السورة. و لما كان العبد لا بد أن يغفل و ينال منه الشيطان، الذي لا يزال مرابطا، ينتظر غرته و غفلته، ذكر تعالى علامة المتقين من الغاوين، و أن المتقي إذا أحس بذنب، و مسه طائف من الشيطان،
تيسير الكريم الرحمن، ص: 355
فأذنب بفعل محرم أو ترك واجب- تذكر من أي باب أتي، و من أي مدخل دخل الشيطان عليه، و تذكر ما أوجب اللّه عليه، و ما عليه من لوازم الإيمان، فأبصر و استغفر اللّه تعالى، و استدرك ما فرط منه بالتوبة النصوح، و الحسنات الكثيرة، فرد شيطانه خاسئا حسيرا، و قد أفسد عليه كل ما أدركه منه.
و أما إخوان الشياطين، و أولياؤهم، فإنهم إذا وقعوا في الذنوب، لا يزالون يمدونهم في الغي، ذنبا بعد ذنب، و لا يقصرون عن ذلك.
فالشياطين لا تقتصر عنهم بالإغواء، لأنها طمعت فيهم، حين رأتهم سلسي القياد لها، و هم لا يقصرون عن فعل الشر.
[203] أي لا يزال هؤلاء المكذبون لك في تعنت و عناد، و لو جاءتهم الآيات الدالة على الهدى و الرشاد.
فإذا جئتهم بشيء من الآيات الدالة على صدقك، لم ينقادوا.
وَ إِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ من آيات الاقتراح، التي يعينونها قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها أي: هلا اخترت الآية، فصارت الآية الفلانية، و المعجزة الفلانية كأنك أنت المنزل للآيات، المدبر لجميع المخلوقات، و لم يعلموا أنه ليس لك من الأمر شيء، أو لو لا اخترعتها من نفسك.
قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي فأنا عبد متبع، مدبر، و اللّه تعالى هو الذي ينزل الآيات و يرسلها على حسب ما اقتضاه حمده و طلبته حكمته البالغة، فإن أردتم آية، لا تضمحل على تعاقب الأوقات، و حجة لا تبطل في جميع الآنات.
فإن هذا القرآن العظيم، و الذكر الحكيم بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ يستبصر به في جميع المطالب الإلهية، و المقاصد الإنسانية، و هو الدليل و المدلول، فمن تفكر و تدبره، علم أنه تنزيل من حكيم حميد لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، و به قامت الحجة، على كل من بلغه، و لكن أكثر الناس لا يؤمنون.
و إلا فمن آمن، فهو هُدىً له من الضلال وَ رَحْمَةٌ له من الشقاء، فالمؤمن، مهتد بالقرآن، متبع له، سعيد في دنياه و أخراه. و أما من لم يؤمن به، فإنه ضال شقي، في الدنيا و الآخرة.
[204] هذا الأمر عام في كل من سمع كتاب اللّه يتلى، فإنه مأمور بالاستماع له و الإنصات.
و الفرق بين الاستماع و الإنصات، أن الإنصات في الظاهر بترك التحدث أو الاشتغال بما يشغل عن استماعه.
و أما الاستماع له، فهو أن يلقي سمعه، و يحضر قلبه و يتدبر ما يستمع. فإن من لازم على هذين الأمرين، حين يتلى كتاب اللّه، فإنه ينال خيرا كثيرا، و علما غزيرا، و إيمانا مستمرا متجددا، و هدى متزايدا، و بصيرة في دينه.
و لهذا رتب اللّه حصول الرحمة عليهما، فدل ذلك على أن من تلي عليه الكتاب، فلم يستمع له و لم ينصت، أنه محروم الحظ، من الرحمة، قد فاته خير كثير.
و من أوكد ما يؤمر مستمع القرآن، أنه يستمع له و ينصت في الصلاة الجهرية إذا قرأ إمامه، فإنه مأمور بالإنصات، حتى إن أكثر العلماء يقولون: إن اشتغاله بالإنصات، أولى من قراءته الفاتحة و غيرها.
[205- 206] الذكر للّه تعالى، يكون بالقلب، و يكون باللسان، و يكون بهما، و هو أكمل أنواع الذكر و أحواله.
فأمر اللّه، عبده و رسوله محمدا أصلا، و غيره تبعا، بذكر ربه في نفسه أي: مخلصا خاليا. تَضَرُّعاً بلسانك، مكررا لأنواع الذكر، وَ خِيفَةً في قلبك بأن تكون خائفا من اللّه، وجل القلب منه، خوفا أن يكون عملك غير مقبول. و علامة الخوف أن يسعى و يجتهد، في تكميل العمل و إصلاحه، و النصح به.
وَ دُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ أي: كن متوسطا، لا تجهر بصلاتك، و لا تخافت بها، و ابتغ بين ذلك سبيلا.
تيسير الكريم الرحمن، ص: 356
بِالْغُدُوِّ أول النهار وَ الْآصالِ آخره، و هذان الوقتان، فيهما مزية و فضيلة على غيرهما وَ لا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ الّذين نسوا اللّه فأنساهم أنفسهم، فإنهم حرموا خير الدنيا و الآخرة، و أعرضوا عمن كل السعادة و الفوز، في ذكره و عبوديته، و أقبلوا على من كل الشقاوة و الخيبة، في الاشتغال به.
و هذه من الآداب التي ينبغي للعبد أن يراعيها حق رعايتها، و هي الإكثار من ذكر اللّه آناء الليل و النهار، خصوصا، طرفي النهار، مخلصا خاشعا متضرعا، متذللا، ساكنا متواطئا عليه قلبه و لسانه بأدب و وقار، و إقبال على الدعاء و الذكر، و إحضار له بقلبه، و عدم غفلة، فإن اللّه لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه.
ثمّ ذكر تعالى أن له عبادا مستديمين لعبادته، ملازمين لخدمته و هم الملائكة، لتعلموا أن اللّه لا يريد أن يستكثر بعبادتكم من قلة، و لا يتعزز بها من ذلة، و إنّما يريد نفع أنفسكم، و أن تربحوا عليه، أضعاف أضعاف، ما عملتم، فقال: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ من الملائكة المقربين، و حملة العرش و الكروبيين لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ بل يذعنون لها، و ينقادون لأوامر ربهم وَ يُسَبِّحُونَهُ الليل و النهار، لا يفترون.
وَ لَهُ وحده لا شريك له يَسْجُدُونَ ، فليقتد العباد، بهؤلاء الملائكة الكرام، و ليداوموا على عبادة الملك العلام. تم تفسير سورة الأعراف و للّه الحمد و الشكر و الثناء. و صلّى اللّه على محمد و آله و صحبه و سلم.
تفسير سورة الأنفال
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] الأنفال، هي: الغنائم، التي ينفلها اللّه لهذه الأمة، من أموال الكفار. و كانت هذه الآيات في هذه السورة، قد نزلت في قصة «بدر» أول غنيمة كبيرة غنمها المسلمون من المشركين، فحصل بين بعض المسلمين فيها نزاع، فسألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم عنها، فأنزل اللّه يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ كيف تقسم و على من تقسم؟. قُلِ لهم الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ يضعانها حيث شاءا، فلا اعتراض لكم على حكم اللّه و رسوله، بل عليكم إذا حكم اللّه و رسوله، أن ترضوا بحكمهما، و تسلموا الأمر لهما، و ذلك داخل في قوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ بامتثال أوامره، و اجتناب نواهيه. وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ أي: أصلحوا ما بينكم من التشاحن، و التقاطع، و التدابر، بالتوادد،
تيسير الكريم الرحمن، ص: 357
و التحاب، و التواصل. فبذلك تجتمع كلمتكم، و يزول ما يحصل- بسبب التقاطع- من التخاصم، و التشاجر و التنازع. و يدخل في إصلاح ذات البين، تحسين الخلق لهم، و العفو عن المسيئين منهم فإنه- بذلك- يزول كثير مما يكون في القلوب من البغضاء، و التدابر. و الأمر الجامع لذلك كله قوله: وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ، فإن الإيمان يدعو إلى طاعة اللّه و رسوله، كما أن من لم يطع اللّه و رسوله، فليس بمؤمن. و من نقصت طاعته للّه و رسوله، فذلك لنقص إيمانه.
[2] و لما كان الإيمان قسمين: إيمانا كاملا يترتب عليه المدح و الثناء، و الفوز التام، و إيمانا دون ذلك، ذكر الإيمان الكامل فقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الألف و اللام للاستغراق لشرائع الإيمان. الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ أي: خافت و رهبت، فأوجبت لهم خشية اللّه تعالى، الانكفاف عن المحارم، فإن خوف اللّه تعالى، أكبر علاماته أن يحجز صاحبه عن الذنوب. وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً ، و وجه ذلك أنهم يلقون له السمع و يحضرون قلوبهم لتدبره فعند ذلك يزيد إيمانهم، لأن التدبر من أعمال القلوب، و لأنه لا بد أن يبين لهم معنى، كانوا يجهلونه، و يتذكرون ما كانوا نسوه، أو يحدث في قلوبهم رغبة في الخير، و اشتياقا إلى كرامة ربهم، أو وجلا من العقوبات، و ازدجارا عن المعاصي، و كل هذا مما يزداد به الإيمان. وَ عَلى رَبِّهِمْ وحده، لا شريك له يَتَوَكَّلُونَ أي: يعتمدون في قلوبهم على ربهم، في جلب مصالحهم، و دفع مضارهم الدينية، و الدنيوية، و يثقون بأن اللّه تعالى سيفعل ذلك. و التوكل هو الحامل للأعمال كلها، فلا توجد و لا تكمل إلا به.
[3] الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ من فرائض، و نوافل، بأعمالها الظاهرة و الباطنة، كحضور القلب فيها، الذي هو روح الصلاة و لبها. وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ النفقات الواجبة، كالزكوات، و الكفارات، و النفقة على الزوجات و الأقارب، و ما ملكت أيمانهم، و المستحبة كالصدقة في جميع طرق الخير.
[4] أُولئِكَ الّذين اتصفوا بتلك الصفات هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لأنهم جمعوا بين الإسلام و الإيمان، بين الأعمال الباطنة، و الأعمال الظاهرة، بين العلم و العمل، بين أداء حقوق اللّه، و حقوق عباده. و قدم تعالى أعمال القلوب، لأنها أصل لأعمال الجوارح، و أفضل منها، و فيها دليل على أن الإيمان، يزيد و ينقص، فيزيد بفعل الطاعة، و ينقص بضدها. و أنه ينبغي للعبد أن يتعاهد إيمانه و ينميه، و أن أولى ما يحصل به ذلك تدبر كتاب اللّه تعالى، و التأمل لمعانيه. ثمّ ذكر ثواب المؤمنين حقا فقال: لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي: عالية بحسب علو أعمالهم، وَ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ و هو ما أعد اللّه لهم في دار كرامته، مما لا عين رأت، و لا أذن سمعت، و لا خطر على قلب بشر. و دل هذا، على أن من لم يصل إلى درجتهم في الإيمان- و إن دخل الجنة- فلن ينال ما نالوا، من كرامة اللّه التامة.
[5- 7] قدم تعالى- أمام هذه الغزوة الكبرى المباركة- الصفات التي على المؤمنين أن يقوموا بها، لأن من قام بها، استقامت أحواله، و صلحت أعماله، التي من أكبرها الجهاد في سبيله. فكما أن إيمانهم، هو الإيمان الحقيقي، و جزاءهم هو الحقّ الذي وعدهم اللّه به، كذلك أخرج اللّه رسوله صلّى اللّه عليه و سلم من بيته إلى لقاء المشركين في «بدر» بالحق الذي يحبه اللّه تعالى، و قد قدره و قضاه. و إن كان المؤمنون لم يخطر ببالهم في ذلك الخروج، أن يكون بينهم و بين عدوهم قتال. فحين تبين لهم أن ذلك واقع، جعل فريق من المؤمنين يجادلون النبي صلّى اللّه عليه و سلم في ذلك، و يكرهون لقاء عدوهم، كأنما يساقون إلى الموت، و هم ينظرون. و الحال أن هذا، لا ينبغي منهم، خصوصا بعد ما تبين لهم أن خروجهم بالحق، و مما أمر اللّه به، و رضيه، فهذه الحال، ليس للجدال فيها محل، لأن الجدال محله و فائدته عند اشتباه الحقّ، و التباس الأمر، فأما إذا وضح و بان، فليس إلا الانقياد و الإذعان. هذا و كثير من المؤمنين، لم يجر منهم من هذه المجادلة شيء، و لا كرهوا لقاء عدوهم، و كذلك الّذين عاتبهم اللّه، انقادوا للجهاد أشد الانقياد، و ثبتهم اللّه،
تيسير الكريم الرحمن، ص: 358
و قيض لهم من الأسباب، ما تطمئن به قلوبهم كما سيأتي ذكر بعضها. و كان أصل خروجهم ليتعرضوا لعير خرجت مع أبي سفيان بن حرب لقريش إلى الشام، قافلة كبيرة. فلما سمعوا برجوعها من الشام، ندب النبي صلى اللّه عليه و سلم الناس، فخرج معه ثلاث مئة، و بضعة عشر رجلا، معهم سبعون بعيرا، يعتقبون عليها، و يحملون عليها متاعهم. فسمعت بخبرهم قريش، فخرجوا لمنع عيرهم، في عدد كثير و عدد وافرة من السلاح، و الخيل و الرجال، يبلغ عددهم قريبا من الألف.
فوعد اللّه المؤمنين، إحدى الطائفتين، إما أن يظفروا بالعير، أو بالنفير، فأحبوا العير لقلة ذات يد المسلمين، و لأنها غير ذات الشوكة، و لكن اللّه تعالى، أحب لهم، و أراد أمرا أعلى مما أحبوا. أراد أن يظفروا بالنفير، الذي خرج فيه كبراء المشركين و صناديدهم، وَ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ فينصر أهله وَ يَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ ، أي يستأصل أهل الباطل، و يري عباده من نصره للحق أمرا لم يكن يخطر ببالهم.
[8] لِيُحِقَّ الْحَقَ بما يظهر من الشواهد و البراهين على صحته و صدقه، وَ يُبْطِلَ الْباطِلَ بما يقيم من الأدلة و الشواهد على بطلانه وَ لَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ فلا يبالي اللّه بهم.
[9] أي: اذكروا نعمة اللّه عليكم لما قارب التقاؤكم بعدوكم، استغثتم بربكم، و طلبتم منه أن يعينكم و ينصركم فَاسْتَجابَ لَكُمْ و أغاثكم بعدة أمور: منها: أن اللّه أمدكم بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ أي: يردف بعضهم بعضا.
[10] وَ ما جَعَلَهُ اللَّهُ أي إنزال الملائكة إِلَّا بُشْرى أي: لتستبشر بذلك نفوسكم، وَ لِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ و إلا فالنصر بيد اللّه، ليس بكثرة عدد و لا عدد. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يغالبه مغالب، بل هو القهار، الذي يخذل من بلغوا من الكثرة، و من العدد و الآلات، ما بلغوا. حَكِيمٌ حيث قدر الأمور بأسبابها، و وضع الأشياء مواضعها.
[11] و من نصره و استجابته لدعائكم أن أنزل عليكم نعاسا يُغَشِّيكُمُ أي: فيذهب ما في قلوبكم من الخوف و الوجل، و يكون أَمَنَةً لكم، و علامة على النصر و الطمأنينة. و من ذلك أنه أنزل عليكم من السماء مطرا ليطهركم به من الحدث و الخبث، و ليطهركم من وساوس الشيطان و رجزه. وَ لِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ أي: يثبتها فإن ثبات القلب، أصل ثبات البدن، وَ يُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ فإن الأرض كانت سهلة دهسة فلما نزل عليها المطر، تلبدت، و ثبتت به الأقدام.
[12] و من ذلك أن اللّه أوحى إلى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ بالعون و النصر و التأييد. فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا أي:
ألقوا في قلوبهم، و ألهموهم الجراءة على عدوهم، و رغبوهم في الجهاد و فضله. سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ الذي هو أعظم جند لكم عليهم. فإن اللّه إذا ثبت المؤمنين، و ألقى الرعب في قلوب الكافرين، لم يقدر الكافرون على الثبات لهم، و منحهم اللّه أكتافهم. فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ أي: على الرقاب وَ اضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَ
تيسير الكريم الرحمن، ص: 359
بَنانٍ أي: مفصل. و هذا خطاب، إما للملائكة الّذين أوحى إليهم أن يثبتوا الّذين آمنوا، فيكون في ذلك دليل، أنهم باشروا القتال يوم بدر، أو للمؤمنين يشجعهم اللّه، و يعلمهم كيف يقتلون المشركين، و أنهم لا يرحمونهم.
[13] ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أي: حاربوهما، و بارزوهما بالعداوة. وَ مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ و من عقابه تسليط أوليائه على أعدائه، و تقتيلهم.
[14] ذلِكُمْ العذاب المذكور فَذُوقُوهُ أيها المشاققون للّه و رسوله عذابا معجلا، وَ أَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ . و في هذه القصة من آيات اللّه العظيمة، ما يدل على أن ما جاء به محمد صلّى اللّه عليه و سلّم رسول اللّه حق. منها: أن اللّه وعدهم وعدا، فأنجزهموه. و منها: ما قال اللّه تعالى: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ أُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ الآية. و منها: إجابة دعوة اللّه للمؤمنين، لما استغاثوه، بما ذكره من الأسباب، و فيها الاعتناء العظيم بحال عباده المؤمنين، و تقييض الأسباب، التي بها ثبت إيمانهم، و ثبتت أقدامهم، و زال عنهم المكروه و الوساوس الشيطانية. و منها: أن من لطف اللّه بعبده، أن يسهل عليه طاعته، و ييسرها بأسباب داخلية و خارجية.
[15- 16] أمر اللّه تعالى عباده المؤمنين بالشجاعة الإيمانية، و القوة في أمره، و السعي في جلب الأسباب المقوية للقلوب و الأبدان. و نهاهم عن الفرار، إذا التقى الزحفان فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً أي: صف القتال، و تزاحف الرجال، و اقتراب بعضهم من بعض، فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ ، بل اثبتوا لقتالهم، و اصبروا على جلاذهم، فإن في ذلك نصرة لدين اللّه، و قوة لقلوب المؤمنين، و إرهابا للكافرين. وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ أي: رجع بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَ مَأْواهُ أي: مقره جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ . و هذا يدل على أن الفرار من الزحف، من غير عذر، من أكبر الكبائر، كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة و كما نص هنا على وعيده بهذا الوعيد الشديد. و مفهوم الآية: أن المتحرف للقتال، و هو الذي ينحرف من جهة إلى أخرى، ليكون أمكن له في القتال، و أنكى لعدوه، فإنه لا بأس بذلك، لأنه لم يول دبره فارا، و إنّما ولى دبره، ليستعلي على عدوه، أو يأتيه من محل يصيب فيه غرته، أو ليخدعه بذلك، أو غير ذلك من مقاصد المحاربين. و أن المتحيز إلى فئة تمنعه و تعينه على قتال الكفار، فإن ذلك جائز، فإن كانت الفئة في العسكر، فالأمر في هذا واضح. و إن كانت الفئة في غير محل المعركة كانهزام المسلمين بين يدي الكافرين و التجائهم إلى بلد من بلدان المسلمين أو إلى عسكر آخر من عسكر المسلمين، فقد ورد من آثار الصحابة ما يدل على أن هذا جائز، و لعل هذا يقيد بما إذا ظن المسلمون، أن الانهزام أحمد عاقبة، و أبقى عليهم. أما إذا ظنوا غلبتهم للكفار في ثباتهم لقتالهم، فيبعد- في هذه الحال- أن تكون من الأحوال المرخص فيها، لأنه- على هذا- لا يتصور الفرار المنهي عنه، و هذه الآية مطلقة، و سيأتي في آخر السورة تقييدها بالعدد.