کتابخانه روایات شیعه
بحار الأنوار (ط - بيروت) - ج 1تا15
فَنَزَلُوا عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، فَكَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ خَاصَّةً، لِأَنَّهُ لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهَا بِ خَيْلٍ وَ لا رِكابٍ قَالَ 27735 : وَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لَمَّا فَرَغَ مِنْ خَيْبَرَ قَذَفَ اللَّهُ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِ أَهْلِ فَدَكَ فَبَعَثُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يُصَالِحُونَهُ 27736 عَلَى النِّصْفِ مِنْ فَدَكَ، فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ رُسُلُهُمْ بِخَيْبَرَ أَوْ بِالطَّرِيقِ أَوْ بَعْدَ مَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ 27737 فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَكَانَتْ فَدَكُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ خَاصَّةً 27738 لِأَنَّهُ لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهَا بِ خَيْلٍ وَ لا رِكابٍ قَالَ: وَ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ صَالَحَهُمْ عَلَيْهَا كُلِّهَا، وَ اللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ الْأَمْرَيْنِ كَانَ، انتهى.
و سيأتي اعتراف عمر بذلك في تنازع عليّ عليه السلام و العباس.
و أمّا أنّه وهبها لفاطمة عليها السلام، فلأنّه لا خلاف في أنّها صلوات اللّه عليها ادّعت النحلة مع عصمتها الثابتة بالأدلّة المتقدّمة، و شهد له 27739 من ثبتت عصمته بالأدلّة الماضية و الآتية، و المعصوم لا يدّعي إلّا الحقّ، و لا يشهد إلّا بالحقّ، و يدور الحقّ معه حيثما دار.
و أمّا أنّها كانت في يدها صلوات اللّه عليها فلأنّها ادّعتها بعد وفاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على وجه الاستحقاق، و شهد المعصوم بذلك لها، فإن كانت الهبة قبل الموت تبطل بموت الواهب- كما هو المشهور- ثبت القبض، و إلّا فلا حاجة إليه في إثبات المدّعى، و قد مرّ من الأخبار الدالّة على نحلتها، و أنّها كانت في يدها عليها السلام ما يزيد على كفاية المصنف، بل يسدّ طريق إنكار
المتعسّف.
و يدلّ على أنّها كانت في يدها صلوات اللّه عليها
ما ذكر أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي كِتَابِهِ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ 27740 حَيْثُ قَالَ: بَلَى كَانَتْ فِي أَيْدِينَا فَدَكٌ، مِنْ كُلِّ مَا أَظَلَّتْهُ السَّمَاءُ، فَشَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ وَ سَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ آخَرِينَ 27741 ، وَ نِعْمَ الْحَكَمُ اللَّهُ.
و أمّا أنّ أبا بكر و عمر أغضبا فاطمة عليها السلام، فقد اتّضح بالأخبار المتقدّمة.
ثم اعلم أنّا لم نجد أحدا من المخالفين أنكر كون فدك خالصة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في حياته، و لا أحدا من الأصحاب طعن على أبي بكر بإنكاره ذلك، إلّا ما تفطّن به بعض الأفاضل من الأشارف، مع أنّه يظهر من كثير من أخبار المؤالف و المخالف ذلك، و قد تقدّم ما رواه ابن أبي الحديد في ذلك عن أحمد ابن عبد العزيز الجوهري و غيرها من الأخبار، و لا يخفى أنّ ذلك يتضمّن إنكار الآية و إجماع المسلمين، إذ القائل بأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يصرف شيئا من غلّة فدك و غيرها من الصفايا في بعض مصالح المسلمين لم يقل بأنّها لم تكن لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، بل قال: بأنّه فعل ذلك على وجه التفضّل و ابتغاء مرضاة اللّه تعالى، و ظاهر الحال أنّه أنكر ذلك دفعا لصحّة النحلة، فكيف كان يسمع الشهود على النحلة مع ادّعائه أنّها كانت من أموال المسلمين.
و اعتذر المخالفون من قبل أبي بكر بوجوه سخيفة ...
الأوّل: منع عصمتها صلوات اللّه عليها، و قد تقدّمت الدلائل المثبتة لها.
الثاني: أنّه 27742 لو سلّم عصمتها فليس للحاكم أن يحكم بمجرّد دعواها و إن
تيقّن صدقها.
و أجاب أصحابنا بالأدلّة الدالّة على أنّ الحاكم يحكم بعلمه.
و أيضا اتّفقت الخاصّة و العامّة على رواية قصّة خزيمة بن ثابت و تسميته بذي الشهادتين لما شهد للنبيّ 27743 صلّى اللّه عليه و آله بدعواه 27744 ، و لو كان المعصوم كغيره لما جاز للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله قبول شاهد واحد و الحكم لنفسه، بل كان يجب عليه الترافع إلى غيره.
وَ قَدْ رَوَى 27745 أَصْحَابُنَا أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَطَّأَ شُرَيْحاً فِي طَلَبِ الْبَيِّنَةِ مِنْهُ 27746 ، وَ قَالَ: إِنَّ إِمَامَ الْمُسْلِمِينَ يُؤْتَمَنُ مِنْ أُمُورِهِمْ عَلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، وَ أَخَذَ مَا ادَّعَاهُ مِنْ دِرْعِ طَلْحَةَ بِغَيْرِ حُكْمِ شُرَيْحٍ،.
و المخالفون حرّفوا هذا الخبر و جعلوه حجّة لهم.
و اعتذروا بوجوه أخرى سخيفة لا يخفى على عاقل- بعد ما أوردنا في تلك الفصول- ضعفها و وهنها، فلا نطيل الكلام بذكرها.
الرابعة:
في توضيح بطلان ما ادّعاه أبو بكر من عدم توريث الأنبياء عليهم السلام:.
استدلّ أصحابنا على بطلان ذلك بآي من القرآن:
الأولى:
قوله تعالى مخبرا عن زكريّا عليه السلام 27747 : وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا 27748 .
قوله تعالى: «وَلِيًّا» أي ولدا يكون أولى بميراثي، و ليس المراد بالولي من يقوم مقامه، ولدا كان أو غيره، لقوله تعالى حكاية عن زكريّا: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً 27749 . و قوله: رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَ أَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ وَهَبْنا لَهُ يَحْيى 27750 . و القرآن يفسّر بعضه بعضا.
و اختلف المفسّرون في أنّ المراد بالميراث العلم أو المال؟.
فقال ابن عباس و الحسن و الضحّاك أنّ المراد به في قوله تعالى: « يَرِثُنِي .» و قوله سبحانه: وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ 27751 . ميراث المال 27752 ، و قال أبو صالح:
المراد به في الموضعين ميراث النبوّة 27753 . و قال السدّي و مجاهد و الشعبي: المراد به في الأوّل ميراث المال و في الثاني ميراث النبوّة، و حكي هذا القول عن ابن عباس و الحسن و الضحّاك 27754 ، و حكي عن مجاهد أنّه قال: المراد من الأوّل العلم و من الثاني النبوّة 27755 .
و أمّا وجه دلالة الآية على المراد، فهو أنّ لفظ الميراث في اللغة و الشريعة و العرف إذا أطلق و لم يقيّد لا يفهم منه إلّا الأموال و ما في معناها و لا يستعمل في غيرها إلّا مجازا، و كذا لا يفهم من قول القائل لا وارث لفلان إلّا من ينتقل إليه أمواله و ما يضاهيها دون العلوم و ما يشاكلها، و لا يجوز العدول عن ظاهر اللفظ و حقيقته إلّا لدليل، فلو لم يكن في الكلام قرينة توجب حمل اللفظ على أحد المعنيين لكفى في مطلوبنا، كيف و القرائن الدالّة على المقصود موجودة في اللفظ؟!.
أمّا أوّلا: فلأنّ زكريّا عليه السلام اشترط في وارثه أن يكون رضيّا، و إذا حمل الميراث على العلم و النبوّة لم يكن لهذا الاشتراط معنى، بل كان لغوا عبثا، لأنّه إذا سأل من يقوم مقامه في العلم و النبوّة فقد دخل في سؤاله الرضا و ما هو أعظم منه فلا معنى لاشتراطه، أ لا ترى أنّه لا يحسن أن يقول أحد: اللّهمّ ابعث إلينا نبيّا و اجعله مكلّفا عاقلا؟!.
و أمّا ثانيا: فلأنّ الخوف من بني العم و من يحذو حذوهم يناسب المال دون النبوّة و العلم، و كيف يخاف مثل زكريّا عليه السلام من أن يبعث اللّه تعالى إلى خلقه نبيّا يقيمه مقام زكريّا و لم يكن أهلا للنبوّة و العلم، سواء كان من موالي زكريّا أو من غيرهم؟، على أنّ زكريّا عليه السلام كان إنّما بعث لإذاعة العلم و نشره في الناس فلا يجوز أن يخاف من الأمر الذي هو الغرض في 27756 بعثته.
فإن قيل: كيف يجوز على مثل زكريّا عليه السلام الخوف من أن يرث الموالي ماله؟ و هل هذا إلّا الضنّ و البخل؟.
قلنا: لمّا علم زكريّا عليه السلام من حال الموالي أنّهم من أهل الفساد، خاف أن ينفقوا أمواله في المعاصي و يصرفوه في غير الوجوه المحبوبة، مع أنّ في وراثتهم ماله كان يقوّي فسادهم و فجورهم، فكان خوفه خوفا من قوّة الفسّاق
و تمكّنهم في سلوك الطرائق المذمومة، و انتهاك محارم اللّه عزّ و جلّ، و ليس مثل ذلك من الشحّ و البخل.
فإن قيل: كما جاز الخوف على المال من هذا الوجه 27757 جاز الخوف على وراثتهم العلم لئلّا يفسدوا به الناس و يضلّوهم، و لا ريب في أنّ ظهور آثار العلم فيهم كان من دواعي اتّباع الناس إيّاهم و انقيادهم لهم.
قلنا: لا يخلو هذا العلم الذي ذكرتموه من أن يكون هو كتبا علميّة و صحفا حكمية، لأنّ ذلك قد يسمّى علما مجازا، أو يكون هو العلم الذي يملأ القلوب و تعيه الصدور، فإن كان الأوّل، فقد رجع إلى معنى المال و صحّ أنّ الأنبياء عليهم السلام يورثون الأموال، و كان حاصل خوف زكريّا عليه السلام أنّه خاف من أن ينتفعوا ببعض أمواله نوعا خاصّا من الانتفاع، فسأل ربّه أن يرزقه الولد حذرا من ذلك، و إن كان الثاني، فلا يخلو- أيضا- من أن يكون هو العلم الذي بعث النبيّ لنشره و أدائه إلى الخلق، أو أن يكون علما مخصوصا لا يتعلّق لشريعة و لا يجب اطّلاع الأمّة عليه كعلم العواقب و ما يجري في مستقبل الأوقات .. و نحو ذلك.
و القسم الأوّل: لا يجوز أن يخاف النبيّ من وصوله إلى بني عمّه- و هم من جملة أمّته المبعوث إليهم لأن يهديهم و يعلّمهم- و كان خوفه من ذلك خوفا من غرض البعثة.
و القسم الثاني: لا معنى للخوف من أن يرثوه إذ كان أمره بيده، و يقدر على أن يلقيه إليهم، و لو صحّ الخوف على القسم الأوّل لجرى ذلك فيه أيضا، فتأمّل.
هذا خلاصة ما ذكره السيّد المرتضى رضي اللّه عنه في الشافي عند تقرير هذا الدليل 27758 ، و ما أورد عليه من تأخّر عنه يندفع بنفس التقرير، كما لا يخفى على
الناقد البصير، فلذا لا نسوّد بإيرادها الطوامير.
الآية الثانية:
قوله تعالى: وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَ قالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ 27759 .
وجه الدلالة، هو أنّ المتبادر من قوله تعالى- ورثه-، أنّه ورث ماله 27760 كما سبق في الآية المتقدّمة، فلا يعدل عنه إلّا لدليل.
و أجاب قاضي القضاة في المغني 27761 : بأنّ في الآية ما يدلّ على أنّ المراد وراثة العلم دون المال، و هو قوله تعالى: وَ قالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ 27762 فإنّه يدلّ على أنّ الذي ورث هو هذا 27763 العلم و هذا الفضل، و إلّا لم يكن لهذا تعلّق بالأوّل.
و قال الرازي في تفسيره: لو قال تعالى: ورث سليمان داود ماله، لم يكن لقوله تعالى: وَ قالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ 27764 معنى، و إذا قلنا ورث مقامه من النبوّة و الملك حسن ذلك، لأنّ علم منطق الطير يكون داخلا في جملة ما ورثه، و كذلك قوله: وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ 27765 لأنّ وارث العلم يجمع ذلك و وارث المال لا يجمعه، و قوله: إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ 27766 يليق أيضا بما ذكر دون المال الذي يحصل للكامل و الناقص، و ما ذكره اللّه تعالى من جنود سليمان بعده لا يليق إلّا بما ذكرنا، فبطل بما ذكرنا قول من زعم أنّه لا يورث إلّا المال، فأمّا إذا ورث المال و الملك معا فهذا لا يبطل بالوجوه الذي ذكرنا، بل بظاهر