کتابخانه روایات شیعه
بحار الأنوار (ط - بيروت) - ج 1تا15
تكميل النفس من جهة أن البدن آلة لها في تحصيل العلم و العمل يسمى عقلا عمليا و المشهور أن مراتب النفس أربع لأنه إما كمال و إما استعداد نحو الكمال قوي أو متوسط أو ضعيف فالضعيف و هو محض قابلية النفس للإدراكات يسمى عقلا هيولانيا تشبيها بالهيولى الأولى الخالية في نفسها عن جميع الصور القابلة لها بمنزلة قوة الطفل للكتابة و المتوسط و هو استعدادها لتحصيل النظريات بعد حصول الضروريات تسمى عقلا بالملكة لما حصل لها من ملكة الانتقال إلى النظريات بمنزلة الشخص المستعد لتعلم الكتابة و تختلف مراتب الناس في ذلك اختلافا عظيما بحسب اختلاف درجات الاستعدادات و القوى و هو الاقتدار على استحضار النظريات متى شاءت من غير افتقار إلى كسب جديد لكونها مكتسبة مخزونة تحضر بمجرد الالتفات بمنزلة القادر على الكتابة حين لا يكتب و له أن يكتب متى شاء و يسمى عقلا بالفعل لشدة قربه من الفعل و أما الكمال فهو أن يحصل النظريات مشاهدة بمنزلة الكاتب حين يكتب و يسمى عقلا مستفادا أي من خارج هو العقل الفعال الذي يخرج نفوسنا من القوة إلى الفعل فيما له من الكمالات و نسبته إلينا نسبة الشمس إلى أبصارنا و تختلف عبارات القوم في أن المذكورات أسام لهذه الاستعدادات و الكمال أو للنفس باعتبار اتصافها بها أو لقوى في النفس هي مبادئها مثلا يقال تارة إن العقل الهيولاني هو استعداد النفس لقبول العلوم الضرورية و تارة إنها قوة استعدادية أو قوة من شأنها الاستعداد المحض و تارة إنه النفس في مبدإ الفطرة من حيث قابليتها للعلوم و كذا في البواقي و ربما يقال إن العقل بالملكة هو حصول الضروريات من حيث يتأدى إلى النظريات.
و قال ابن سينا هو صورة المعقولات الأولى و تتبعها القوة على كسب غيرها بمنزلة الضوء للإبصار و المستفاد هو المعقولات المكتسبة عند حصولها بالفعل.
و قال في كتاب المبدإ و المعاد إن العقل بالفعل و العقل المستفاد واحد بالذات مختلف بالاعتبار فإنه من جهة تحصيله للنظريات عقل بالفعل و من جهة حصولها
فيه بالفعل عقل مستفاد و ربما قيل هو عقل بالفعل بالقياس إلى ذاته و مستفاد بالقياس إلى فاعله.
و اختلفوا أيضا في أن المعتبر في المستفاد هو حصول النظريات الممكنة للنفس بحيث لا يغيب أصلا حتى قالوا إنه آخر المراتب البشرية و أول منازل الملكية و أنه يمتنع أو يستبعد جدا ما دامت النفس متعلقة بالبدن أو مجرد الحضور حتى يكون قبل العقل بالفعل بحسب الوجود على ما صرح به الإمام و إن كان بحسب الشرف هو الغاية و الرئيس المطلق الذي يخدمه سائر القوى الإنسانية و الحيوانية و النباتية و لا يخفى أن هذا أشبه بما اتفقوا عليه من حصر المراتب في الأربع نعم حضور الكل بحيث لا يغيب أصلا هو كمال مرتبة المستفاد.
ثم قال أما العملي فهو قوة بها يتمكن الإنسان من استنباط الصناعات و التصرفات في موضوعاتها التي هي بمنزلة المواد كالخشب للنجار و تميز مصالحه التي يجب الإتيان بها من المفاسد التي يجب الاجتناب عنها لينتظم بذلك أمر معاشه و معاده و بالجملة هي مبدأ حركة بدن الإنسان إلى الأفاعيل الجزئية الخاصة بالرؤية على مقتضى آراء تخصها صلاحيته و لها نسبة إلى القوة النزوعية و منها يتولد الضحك و الخجل و البكاء و نحوها و نسبة إلى الحواس الباطنة و هي استعمالها في استخراج أمور مصلحة و صناعات و غيرها و نسبة إلى القوة النظرية و هي أن أفاعيله أعني أعماله الاختيارية تنبعث عن آراء جزئية تستند إلى آراء كلية تستنبط من مقدمات أولية أو تجربية أو ذائعة أو ظنية تحكم بها القوة النظرية مثلا يستنبط من قولنا بذل الدرهم جميل و الفعل الجميل ينبغي أن يصدر عنا ينتج أن بذل الدرهم ينبغي أن يصدر عنا ثم يحكم بأن هذا الدرهم ينبغي أن أبذله لهذا المستحق فينبعث من ذلك شوق و إرادة إلى بذله فتقدم القوة المحركة على دفعه إلى المستحق.
ثم قال و كمال القوة النظرية معرفة أعيان الموجودات و أحوالها و أحكامها كما هي أي على الوجه الذي هي عليه في نفس الأمر بقدر الطاقة البشرية و سمي حكمة نظرية و كمال القوة العملية القيام بالأمور على ما ينبغي أي على الوجه الذي
يرتضيه العقل الصحيح بقدر الطاقة البشرية و سمي حكمة عملية و فسروا الحكمة على ما يشمل القسمين بأنها خروج النفس من القوة إلى الفعل في كمالها الممكن علما و عملا إلا أنه لما كثر الخلاف و فشا الباطل و الضلال في شأن الكمال و في كون الأشياء كما هي و الأمور على ما ينبغي لزم الاقتداء في ذلك بمن ثبت بالمعجزات الباهرة أنهم على هدى من الله تعالى و كانت الحكمة الحقيقية هي الشريعة لكن لا بمعنى مجرد الأحكام العملية بل بمعنى معرفة النفس ما لها و ما عليها و العمل بها على ما ذهب إليه أهل التحقيق من أن المشار إليها في قوله وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً 10675 هو الفقه و أنه اسم للعلم و العمل جميعا.
و قد تقسم الحكمة المفسرة بمعرفة الأشياء كما هي إلى النظرية العملية لأنها إن كانت علما بالأصول المتعلقة بقدرتنا و اختيارنا فعملية و غايتها العمل و تحصيل الخير و إلا فنظرية و غايتها إدراك الحق و كل منهما ينقسم بالقسمة الأولية إلى ثلاثة أقسام فالنظرية إلى الإلهي و الرياضي و الطبيعي و العملية إلى علم الأخلاق و علم تدبير المنزل و علم سياسة المدينة لأن النظرية إن كان علما بأحوال الموجودات من حيث يتعلق بالمادة تصورا و قواما فهي العلم الطبيعي و إن كان من حيث يتعلق بها قواما لا تصورا فالرياضي كالبحث عن الخطوط و السطوح و غيرهما مما يفتقر إلى المادة في الوجود لا في التصور و إن كان من حيث لا يتعلق بها لا قواما و لا تصورا فالإلهي و يسمى العلم الأعلى و علم ما بعد الطبيعة كالبحث عن الواجب و المجردات و ما يتعلق بذلك.
و الحكمة العملية إن تعلقت بآراء ينتظم بها حال الشخص و ذكاء نفسه فالحكمة الخلقية و إلا فإن تعلقت بانتظام المشاركة الإنسانية الخاصة فالحكمة المنزلية و العامة فالحكمة المدنية و السياسة.
ثم قال للإنسان قوة شهوية هي مبدأ جذب المنافع و دفع المضار من المآكل و المشارب و غيرها و تسمى القوة البهيمية و النفس الأمارة و قوة غضبية هي
مبدأ الإقدام على الأهوال و الشوق إلى التسلط و الترفع و تسمى السبعية و النفس اللوامة و قوة نطقية هي مبدأ إدراك الحقائق و الشوق إلى النظر في العواقب ليتميز بين المصالح و المفاسد و يحدث من اعتدال حركة الأولى العفة و هي أن تكون تصرفات البهيمية على وفق اقتضاء النطقية ليسلم عن أن تستعبدها الهوى و تستخدمها اللذات و لها طرف إفراط هي الخلاعة و الفجور أي الوقوع في ازدياد اللذات على ما لا ينبغي و طرف تفريط هي الخمود أي السكون عن طلب ما رخص فيه العقل و الشرع من اللذات إيثارا لا خلقة و من اعتدال حركة السبعية الشجاعة و هي انقيادها للنطقية ليكون إقدامها على حسب الروية من غير اضطراب في الأمور الهائلة و لها طرف إفراط هو التهور أي الإقدام على ما لا ينبغي و تفريط و هو الجبن أي الحذر عما لا ينبغي و من اعتدال حركة النطقية و هي معرفة الحقائق على ما هي عليه بقدر الاستطاعة و طرف إفراطها الجربزة و هي استعمال الفكر فيما لا ينبغي و طرف تفريطها الغباوة و هي تعطيل الفكر بالإرادة و الوقوف على اكتساب العلوم فالأوساط فضائل و الأطراف رذائل و إذا امتزجت الفضائل حصل من اجتماعها حالة متشابهة هي العدالة فأصول الفضائل العفة و الشجاعة و الحكمة و العدالة و لكل منها شعب و فروع مذكورة في كتب الأخلاق و كذا الرذائل الستة انتهى.
تتميم
قال الرازي في المطالب العالية في تعديد خواص النفس الإنسانية و نحن نذكر منها عشرة القسم الأول من الخواص النطق و فيه أبحاث.
الأول أن الإنسان الواحد لو لم يكن في الوجود إلا هو و إلا الأمور الموجودة في الطبيعة لهلك أو ساءت معيشته بل الإنسان محتاج إلى أمور أزيد مما في الطبيعة مثل الغذاء المعمول فإن الأغذية الطبيعية لا يلائم الإنسان و الملابس أيضا لا يصلح للإنسان إلا بعد صيرورتها صناعية فكذلك يحتاج الإنسان إلى جملة من الصناعات حتى تنتظم أسباب معيشته و الإنسان الواحد لا يمكنه القيام بمجموع تلك الصناعات
بل لا بد من المشاركة حتى يخبز هذا لذاك و ينسج ذاك لهذا فلهذه الأسباب احتاج الإنسان إلى أن تكون له قدرة على أن يعرف الآخر الذي هو شريكه ما في نفسه بعلامة وضعية و هي أقسام فالأول أصلحها و أشرفها الأصوات المركبة و السبب في شرفها أن بدن الإنسان لا يتم و لا يكمل إلا بالقلب الذي هو معدن الحرارة الغريزية و لا بد من وصول النسيم البارد إليه ساعة فساعة حتى يبقى على اعتداله و لا يحترق فخلقت آلات في بدنه بحيث يقدر الإنسان على استدخال النسيم البارد في قلبه فإذا مكث ذلك النسيم لحظة تسخن و فسد فوجب إخراجه فالصانع الحكيم جعل النفس الخارج سببا لحدوث الصوت فلا جرم سهل تحصيل الصوت بهذا الطريق ثم إن ذلك الصوت سهل تقطيعه في المحابس المختلفة فحصلت هيئات مخصوصة بسبب تقطيع ذلك الصوت في تلك المحابس و تلك الهيئات المخصوصة هي الحروف فحصلت الحروف و الأصوات بهذا الطريق ثم تركب الحروف فحصلت الكلمات بهذا الطريق ثم جعلوا كل كلمة مخصوصة معرفة لمعنى مخصوص فلا جرم صار تعريف المعاني المخصوصة بهذا الطريق في غاية السهولة من وجوه الأول أن إدخالها في الوجود في غاية السهولة و الثاني أن تكون الكلمات الكثيرة الواقعة في مقابلة المعلومات الكثيرة في غاية السهولة و الثالث أن عند الحاجة إلى التعريف تدخل في الوجود و عند الاستغناء عن ذكرها تعدم لأن الأصوات لا تبقى.
و القسم الثاني من طرق التعريف الإشارة و النطق أفضل بوجوه الأول أن الإشارة إنما تكون إلى موجود حاضر عند المشير محسوس و أما النطق فإنه يتناول المعدوم و يتناول ما لا يصح الإشارة إليه و يتناول ما يصح الإشارة إليه أيضا و الثاني أن الإشارة عبارة عن تحريك الحدقة إلى جانب معين فالإشارة نوع واحد أو نوعان فلا يصح لتعريف الأشياء المختلفة بخلاف النطق فإن الأصوات و الحروف البسيطة و المركبة كثيرة و الثالث أنه إذا أشار إلى شيء فذلك الشيء ذات قامت به صفات كثيرة فلا يعرف بسبب تلك الإشارة أن المراد تعريف الذات وحدها أو الصفة الفلانية
أو الصفة الثانية أو الثالثة أو الرابعة أو المجموع و أما النطق فإنه واف بتعرف كل واحدة من هذه الأحوال بعينها.
و القسم الثالث الكتابة و ظاهر أن المئونة في إدخالها في الوجود صعبة و مع ذلك فإنها مفرعة على النطق و ذلك لأنا لو افتقرنا إلى أن نضع لتعريف كل معنى من المعاني البسيطة و المركبة نقشا لافتقرنا إلى حفظ نقوش غير متناهية و ذلك غير ممكن فدبروا فيه طريقا لطيفا و هو أنهم وضعوا بإزاء كل واحد من الحروف النطقية البسيطة نقشا خاصا ثم جعلوا النقوش المركبة في مقابلة الحروف المركبة فسهلت المئونة في الكتابة بهذا الطريق إلا أن على هذا التقدير صارت الكتابة مفرعة على النطق إلا أنه حصل في الكتابة منفعة عظيمة و هي أن عقل الإنسان الواحد لا يفي باستنباط العلوم الكثيرة فالإنسان الواحد إذا استنبط مقدارا من العلم و أثبته في الكتاب بواسطة الكتابة فإذا جاء بعده إنسان آخر و وقف عليه قدر على استنباط أشياء أخر زائدة على ذلك الأول فظهر أن العلوم إنما كثرت بإعانة الكتابة
فَلِهَذَا قَالَ ع قَيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابَةِ.
فهذا بيان حقيقة النطق و الإشارة و الكتابة.
البحث الثاني مما يتعلق بهذا الباب أن المشهور أنه يقال في حد الإنسان إنه حيوان ناطق فقال بعضهم إن هذا التعريف باطل طردا و عكسا أما الطرد فلأن بعض الحيوانات قد تنطق و أما العكس فهو بعض الناس لا ينطق فأجيب عنه بأن المراد منه النطق العقلي و لم يذكروا لهذا النطق العقلي تفسيرا ملخصا فنقول الحيوان نوعان منه ما إذا عرف شيئا فإنه لا يقدر على أن يعرف غيره حال نفسه مثل البهائم و غيرها فإنها إذا وجدت من نفسها أحوالا مخصوصة لا تقدر على أن تعرف غيرها تلك الأحوال و أما الإنسان فإذا وجد من نفسه حالة مخصوصة قدر على أن يعرف غيره تلك الحالة الموجودة في نفسه فالناطق الذي جعل فصلا مقوما هو هذا المعنى و السبب فيه أن أكمل طرق التعريف هو النطق فعبر عن هذه القدرة بأكمل الطرق الدالة عليها و بهذا التقرير فإن تلك السؤال لا يتوجه و الله أعلم بالصواب.
البحث الثالث أن هذه الألفاظ و الكلمات لها أسماء كثيرة فالأول اللفظ و فيه وجهان أحدهما أن هذه الألفاظ إنما تولد بسبب أن ذلك الإنسان لفظ ذلك الهواء من حلقه فلما كان سبب حدوث هذه الأصوات هو لفظ ذلك الهواء لا جرم سميت باللفظ و الثاني أن تلك المعاني كانت كامنة في قلب ذلك الإنسان فلما ذكر هذه الألفاظ صارت تلك المعاني الكامنة معلومة فكأن ذلك الإنسان لفظها من الداخل إلى الخارج.
و الاسم الثاني الكلام و اشتقاق هذه اللفظة من الكلم و هو الجرح و السبب أن الإنسان إذا سمع تلك اللفظة تأثر جسمه بسماعها و تأثر عقله بفهم معناها فلهذا السبب سمي بالكلمة.
و الاسم الثالث العبارة و هي مأخوذة من العبور و المجاوزة و فيه وجهان الأول أن ذلك النفس لما خرج منه فكأن جاوزه و عبر عليه الثاني أن ذلك المعنى عبر من القائل إلى فهم المستمع.
الاسم الرابع القول و هذا التركيب يفيد الشدة و القوة و لا شك أن تلك اللفظة لها قوة إما لسبب خروجها إلى الخارج و إما لسبب أنها تقوى على التأثر في السمع و على التأثير في العقل و الله أعلم.
النوع الثاني من خواص الإنسان قدرته على استنباط الصنائع العجيبة و لهذه القدرة مبدأ و آلة أما المبدأ فهو الخيال القادر على تركيب الصور بعضها ببعض و أما الآلة فهي اليدان و قد سماهما الحكيم أرسطاطاليس الآلة المباحة و سنذكر هذه اللفظة في علم التشريح إن شاء الله و قد يحصل ما يشبه هذه الحالة للحيوانات الأخر كالنحل في بناء البيوت المسدسة إلا أن ذلك لا يصدر من استنباط و قياس بل إلهام و تسخير و لذلك لا يختلف و لا يتنوع هكذا قاله الشيخ و هو منقوض بالحركة الفلكية و سنفرد لهذا البحث فصلا على الاستقصاء.