کتابخانه روایات شیعه
بحار الأنوار (ط - بيروت) - ج 1تا15
88- نهج، نهج البلاغة قَالَ ع وَ قَدْ تُوُفِّيَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ الْأَنْصَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِالْكُوفَةِ مَرْجِعَهُ مَعَهُ مِنْ صِفِّينَ وَ كَانَ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيْهِ لَوْ أَحَبَّنِي جَبَلٌ لَتَهَافَتَ.
قال السيد رضي الله عنه و معنى ذلك أن المحبة تغلظ عليه فتسرع المصائب إليه و لا يفعل ذلك إلا بالأتقياء الأبرار و المصطفين الأخيار
وَ هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ ع مَنْ أَحَبَّنَا أَهْلَ الْبَيْتِ فَلْيَسْتَعِدَّ لِلْفَقْرِ جِلْبَاباً.
و قد تؤول ذلك على معنى آخر ليس هذا موضع ذكره 5593 .
تبيان مرجعه منصوب على الظرفية و التهافت التساقط قطعة قطعة من هفت كضرب إذا سقط كذلك و قيل هفت أي تطاير لخفته و المراد تلاشي الأجزاء و تفرقها لعدم الطاقة و تغلظ في بعض النسخ على صيغة المجهول من باب التفعيل و في بعضها على صيغة المجرد المعلوم يقال غلظ الشيء ككرم ضد رق كما في النسخة و جاء كضرب و الاستعداد للشيء التهيؤ له.
و لفظ الرواية على ما ذكره ابن الأثير في النهاية أظهر
قَالَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ ع مَنْ أَحَبَّنَا أَهْلَ الْبَيْتِ فَلْيُعِدَّ لِلْفَقْرِ جِلْبَاباً 5594 .
أي ليزهد في الدنيا و ليصبر على الفقر و العلة و الجلباب الإزار و الرداء و قيل هو كالمقنعة تغطي به المرأة رأسها و ظهرها و صدرها و جمعه جلابيب كني به عن الصبر لأنه يستر الفقر كما يستر الجلباب البدن.
و قيل إنما كني بالجلباب عن اشتماله بالفقر أي فليلبس إزار الفقر و يكون منه على حالة تعمه و تشمله لأن الغنى من أحوال أهل الدنيا و لا يتهيأ الجمع بين حب الدنيا و حب أهل البيت انتهى.
وَ قَالَ ابْنُ أَبِي الْحَدِيدِ 5595 قَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ ص قَالَ: لَا يُحِبُّكَ إِلَّا مُؤْمِنٌ
وَ لَا يُبْغِضُكَ إِلَّا مُنَافِقٌ.
وَ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ ص قَالَ: إِنَّ الْبَلْوَى أَسْرَعُ إِلَى الْمُؤْمِنِ مِنَ الْمَاءِ إِلَى الْحَدُورِ.
هاتان المقدمتان يلزمهما نتيجة صادقة هي أنه ع لو أحبه جبل لتهافت و لعل هذا هو مراد الرضي رضي الله عنه بقوله معنى آخر ليس هذا موضع ذكره انتهى و فيه تأمل.
و قال ابن ميثم 5596 الجلباب مستعار لتوطين النفس على الفقر و الصبر عليه و وجه الاستعارة كونهما ساترين للمستعد بهما من عوارض الفقر و ظهوره في سوء الخلق و ضيق الصدر و التحير الذي ربما أدى إلى الكفر كما يستر بالملحفة و لما كانت محبتهم ع بصدق يستلزم متابعتهم و الاستشعار بشعارهم و من شعارهم الفقر و رفض الدنيا و الصبر على ذلك وجب أن يكون كل محب مستشعرا للفقر و مستعدا له جلبابا من توطين النفس عليه و الصبر.
و قد ذكر ابن قتيبة هذا المعنى بعبارة أخرى فقال من أحبنا فليقتصر على التقلل من الدنيا و التقنع فيها قال و شبه الصبر على الفقر بالجلباب لأنه يستر الفقر كما يستر الجلباب البدن قال و يشهد بصحة هذا التأويل
مَا رُوِيَ أَنَّهُ رَأَى قَوْماً عَلَى بَابِهِ فَقَالَ يَا قَنْبَرُ مَنْ هَؤُلَاءِ فَقَالَ شِيعَتُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ مَا لِي لَا أَرَى فِيهِمْ سِيمَاءَ الشِّيعَةِ قَالَ وَ مَا سِيمَاءُ الشِّيعَةِ قَالَ خُمْصُ الْبُطُونِ مِنَ الطَّوَى يُبْسُ الشِّفَاهِ مِنَ الظَّمَاءِ عُمْشُ الْعُيُونِ مِنَ الْبُكَاءِ.
و قال أبو عبيد إنه لم يرد الفقر في الدنيا أ لا ترى أن فيمن يحبهم مثل ما في سائر الناس من الغنى و إنما أراد الفقر يوم القيامة و أخرج الكلام مخرج الوعظ و النصيحة و الحث على الطاعات فكأنه أراد من أحبنا فليعد لفقره يوم القيامة ما يحسره من الثواب و التقرب إلى الله تعالى و الزلفة عنده.
قال و قال السيد المرتضى ره و الوجهان جميعا حسنان و إن كان قول ابن قتيبة أحسن فذلك معنى قول السيد رضي الله عنه و قد تؤول ذلك على معنى آخر انتهى كلام ابن ميثم.
و قال القطب الراوندي رحمه الله بعد ذكر المعنيين المحكيين عن ابن قتيبة و أبي عبيد و قال المرتضى فيه وجها ثالثا أي من أحبنا فليزم نفسه و ليقدها إلى الطاعات و ليذللها على الصبر عما كره منها فالفقر أن يحز أنف البعير فيلوى عليه حبل يذلل به الصعب يقال فقره إذا فعل به ذلك انتهى.
و لا يخفى أنه لو كان المراد الصبر على الفقر و ستره و الكف عن إظهار الحاجة إلى الناس و ذلك هو المعبر عنه بالجلباب كما أشير إليه أولا لا يقدح فيه ما ذكره أبو عبيد من أن فيمن يحبهم مثل ما في سائر الناس من الغنى لأن الأمر بالصبر و الستر حينئذ يتوجه إلى من ابتلاه الله بالفقر فالمراد أن من ابتلي من محبينا بالفقر فليصبر عليه و لا يكشفها و لا يستفاد منه فقد الغنى من الشيعة.
و أما الخبر الأول فقد قيل يحتمل أن تكون مفاده صعوبة حمل محبتهم الكاملة
فَيَكُونُ قَرِيباً مِنْ قَوْلِهِ ع إِنَّ أَمْرَنَا صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ لَا يَحْتَمِلُهُ إِلَّا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ أَوْ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ أَوْ عَبْدٌ امْتَحَنَ اللَّهُ قَلْبَهُ لِلْإِيمَانِ 5597 .
فتهافت الجبل حينئذ لثقل هذا الحمل و شدة المهابة كقوله تعالى لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ 5598 و قوله تعالى إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها 5599 و الظاهر من المقام أنه ليس المراد بالمحبة ما في العوام و الأوساط بل ما يستلزم التشبه به ع على وجه كامل و الاقتداء التام به ع في الفضائل و محاسن الأعمال على قدر الطاقة و إن كانت درجته الرفيعة فوق إدراك الأفهام و أعلى من أن تناله الأوهام و حق للجبل أن يتهافت عن حمل مثل ذلك الحمل.
تتميم
في هذه الأحاديث الواردة من طرق الخاصة و العامة دلالة واضحة على أن الأنبياء و الأوصياء ع في الأمراض الحسية و البلايا الجسمية كغيرهم بل هم أولى بها من الغير تعظيما لأجرهم الذي يوجب التفاضل في الدرجات و لا يقدح ذلك في رتبتهم بل هو تثبيت لأمرهم و أنهم بشر إذ لو لم يصبهم ما أصاب سائر البشر مع ما يظهر في أيديهم من خرق العادة لقيل فيهم ما قالت النصارى في نبيهم.
و قد ورد هذا التأويل في الخبر و ابتلاؤهم تحفة لهم لرفع الدرجات التي لا يمكن الوصول إليها بشيء من العمل إلا ببلية كما أن بعض الدرجات لا يمكن الوصول إليها إلا بالشهادة فيمن الله سبحانه على من أحب من عباده بها تعظيما و تكريما له
كَمَا وَرَدَ فِي خَبَرِ شَهَادَةِ سَيِّدِ الشُّهَدَاءِ ع أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ ص فِي الْمَنَامِ فَقَالَ لَهُ يَا حُسَيْنُ لَكَ دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَصِلُ إِلَيْهَا إِلَّا بِالشَّهَادَةِ.
و استثنى أكثر العلماء ما هو نقص و منفر للخلق عنهم كالجنون و الجذام و البرص و حمل استعاذة النبي ص عنها على أنها تعليم للخلق.
و قال المحقق الطوسي قدس سره في التجريد فيما يجب كونه في كل نبي العصمة و كمال العقل و الذكاء و الفطنة و قوة الرأي و عدم السهو و كلما ينفر عنه الخلق من دناءة الآباء و عهر الأمهات و الفظاظة و الغلظة و الأبنة و شبهها و الأكل على الطريق و شبهه.
و قال العلامة في شرحه و أن يكون منزها عن الأمراض المنفرة نحو الأبنة و سلس الريح و الجذام و البرص لأن ذلك كله مما ينفر عنه فيكون منافيا للغرض من البعثة و ضم القوشجي سلس البول أيضا.
و قال القاضي عياض من علماء المخالفين في كتاب الشفاء قال الله تعالى
وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ 5600 و قال مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ 5601 و قال وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَ يَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ 5602 و قال قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَ 5603 فمحمد ص و سائر الأنبياء من البشر أرسلوا إلى البشر و لو لا ذلك لما أطاق الناس مقاومتهم و القبول عنهم و مخاطبتهم قال الله تعالى وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا 5604 أي لما كان إلا في صورة البشر الذين يمكنكم مخالطتهم إذ لا تطيقون مقاومة الملك و مخاطبته و رؤيته إذا كان على صورته و قال لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا 5605 أي لا يمكن في سنة الله إرسال الملك إلا لمن هو من جنسه أو من خص الله تعالى و اصطفاه و قواه على مقاومته كالأنبياء و الرسل.
فالأنبياء و الرسل وسائط بين الله و خلقه يبلغونهم أوامره و نواهيه و وعده و وعيده و يعرفونهم بما لم يعلموه من أمره و خلقه و جلاله و سلطانه و جبروته و ملكوته فظواهرهم و أجسادهم و بنيتهم متصفة بأوصاف البشر طارئ عليها ما يطرأ على البشر من الأعراض و الأسقام و الموت و الفناء و نعوت الإنسانية و أرواحهم و بواطنهم متصفة بأعلى من أوصاف البشر متعلقة بالملإ الأعلى متشبهة بصفات الملائكة سليمة من التغيير و الآفات و لا يلحقها غالبا عجز البشرية و لا ضعف الإنسانية.
إذ لو كانت بواطنهم خالصة للبشرية كظواهرهم لما أطاقوا الأخذ عن الملائكة و رؤيتهم و مخاطبتهم كما لا يطيقه غيرهم من البشر و لو كانت أجسامهم و ظواهرهم متسمة بنعوت الملائكة و بخلاف صفات البشر لما أطاق البشر و من أرسلوا إليه مخاطبتهم كما تقدم من قول الله تعالى.
فجعلوا من جهة الأجسام و الظواهر مع البشر و من جهة الأرواح و البواطن مع الملائكة
كَمَا قَالَ ص تَنَامُ عَيْنَايَ وَ لَا يَنَامُ قَلْبِي.
وَ قَالَ: إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ إِنِّي أَظَلُّ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَ يَسْقِينِي.
فبواطنهم منزهة عن الآفات مطهرة من النقائص و الاعتلالات.
و قال في موضع آخر قد قدمنا أنه ص و سائر الأنبياء و الرسل من البشر و أن جسمه و ظاهره خالص للبشر يجوز عليه من الآفات و التغييرات و الآلام و الأسقام و تجرع كأس الحمام ما يجوز على البشر هذا كله ليس بنقيصة فيه لأن الشيء إنما يسمى ناقصا بالإضافة إلى ما هو أتم منه و أكمل من نوعه و قد كتب الله على أهل هذه الدار فِيها تَحْيَوْنَ وَ فِيها تَمُوتُونَ وَ مِنْها تُخْرَجُونَ 5606 و خلق جميع البشر بمدرجة الغير فقد مرض ص و اشتكى و أصابه الحر و القر و أدركه الجوع و العطش و لحقه الغضب و الضجر و ناله الإعياء و التعب و مسه الضعف و الكبر و سقط فجحش شقه و شجه الكفار و كسروا رباعيته و سقي السم و سحر و تداوى و احتجم و تعوذ ثم قضى نحبه فتوفي ص و لحق بالرفيق الأعلى و تخلص من دار الامتحان و البلوى.
و هذه سمات البشر التي لا محيص عنها و أصاب غيره من الأنبياء ما هو أعظم منها و قتلوا قتلا و رموا في النار و وشروا بالمياشير 5607 و منهم من وقاه الله
ذلك في بعض الأوقات و منهم من عصمه كما عصم نبينا ص بعد من الناس.
فلئن لم يكف عن نبينا ربه تعالى يد ابن قميئة يوم أحد و لا حجبه عن عيون عداه عند دعوة أهل الطائف فلقد أخذ على عيون قريش عند خروجه إلى ثور و أمسك عنه سيف غورث و حجر أبي جهل و فرس سراقة و لئن لم يقه من سحر ابن الأعصم فلقد وقاه ما هو أعظم من سم اليهودية و كذا سائر أنبيائه مبتلى و معافى.
و ذلك من تمام حكمته ليظهر شرفهم في هذه المقامات و يبين أمرهم و يتم كلمته فيهم و ليحقق بامتحانهم بشريتهم و يرتفع الالتباس عن أهل الضعف فيهم لئلا يضلوا بما يظهر من العجائب على أيديهم ضلال النصارى بعيسى ابن مريم و ليكون في محنهم تسلية لأممهم و وفور لأجورهم عند ربهم تماما على الذي أحسن إليهم.
قال بعض المحققين و هذه الطواري و التغييرات المذكورة إنما يختص بأجسامهم البشرية المقصود بها مقاومة البشر و معاناة بني آدم لمشاكلة الجسم و أما بواطنهم فمنزهة غالبا عن ذلك معصومة منه متعلقة بالملإ الأعلى و الملائكة لأخذها عنهم تلقيها الوحي منهم
وَ قَدْ قَالَ ص إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَ لَا يَنَامُ قَلْبِي.
وَ قَالَ: إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ إِنِّي أَبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَ يَسْقِينِي.
وَ قَالَ: إِنِّي لَسْتُ أَنْسَى وَ لَكِنْ أَنْسَى لِيُسْتَنَّ بِي.