کتابخانه روایات شیعه
بحار الأنوار (ط - بيروت) - ج 1تا15
و لا يخفى أنّ ما جعله ابن أبي الحديد عذرا لعمر- من أنّه ليس فيهم كأبي بكر- باطل على مذهبه، فإنّه يرى 33593 أمير المؤمنين عليه السلام أفضل من أبي بكر 33594 ، على أنّ اشتراط بلوغ الفضل إلى ما بلغه أبو بكر- لو سلّم له فضل- باطل من أصله، إذ لا يشترط في الإمام- على رأي من شرط أفضليّة الإمام- إلّا كونه أفضل أهل زمانه لا كونه مثل من كان إماما في زمان من الأزمان، و بطلان القول بأنّه لم يكن في جملة المخاطبين حينئذ- و إن فرض تخصيص الخطاب بأهل ذلك العصر- من سبق غيره إلى الخيرات، أظهر من أن يخفى على أحد.
و قال في جامع الأصول 33595 - في تفسير الفلتة-: الفجأة، و ذلك أنّهم لم ينتظروا ببيعة أبي بكر عامّة الصحابة، و إنّما ابتدرها عمر و من تابعه.
قال: و قيل الفلتة آخر ليلة من الأشهر الحرم فيختلفون فيها أ من 33596 الحلّ هي أم من الحرام فيسارع الموتور إلى درك الثار فيكثر الفساد و يسفك 33597 الدماء، فشبّه أيّام رسول اللّه (ص) بالأشهر الحرم، و يوم موته بالفلتة في وقوع الشرّ من ارتداد العرب، و تخلّف الأنصار عن الطاعة، و منع من منع الزكاة، و الجري على عادة العرب في أن لا يسود القبيلة إلّا رجل منها.
و يجوز أن يريد بالفلتة: الخلسة، يعني أنّ الإمامة يوم السقيفة مالت إلى تولّيها الأنفس و لذلك كثر فيها التشاجر، فما قلّدها أبو بكر إلّا انتزاعا من الأيدي
و اختلاسا، و مثل هذه البيعة جديرة أن تكون مهيّجة للفتن، فعصم اللّه 33598 من ذلك و وقى شرّها، و ذكر مثل ذلك في النهاية 33599 .
و أقول: إن سلّمنا أنّ لفظة الفلتة لا تدلّ على الذمّ، و أنّه إنّما أراد بها محض حقيقتها في اللغة، و هو الأمر الّذي يعمل فجأة من غير تردّد و لا تدبّر 33600 و كان مظنّة للشرّ و الفساد، ففي قوله: وقى اللّه شرّها، و أمره بقتل من دعا إلى مثلها، دلالة على أنّه زلّة قبيحة و خطيئة فاحشة، فالمستفاد من اللفظة بمجرّدها- و إن كان أعمّ من الزلّة و الخطيئة- إلّا أنّه حمل عليها، بل على أخصّ منها، لما هو في قوّة المخصّصة له، فليس كلّ زلة و خطيئة يستحقّ فاعلها القتل، و من له أدنى معرفة بأساليب الكلام يعلم أنّهم يكتفون في حمل اللفظ على أحد المعاني في صورة الاشتراك بأقلّ ممّا في هذا الكلام، و قول عمر: من دعاكم إلى مثلها فاقتلوه .. و من عاد إلى مثلها فاقتلوه 33601 ... و إن لم يكن موجودا فيما حكاه في جامع الأصول 33602 عن البخاري 33603 إلّا أنّ كونه من تتمّة كلامه من المسلّمات عند الفريقين، و اعترف به ابن أبي الحديد 33604 ، و لا يريب عاقل في أنّه لو وجد المتعصّبون منهم- كقاضي القضاة و الفخر الرازي و صاحب المواقف و شارحه و صاحب المقاصد و شارحه و غيرهم- سبيلا إلى إنكاره لما فاتهم ذلك، و لا احتاجوا إلى التأويلات الركيكة
الباردة.
و من تتبّع كتاب البخاري علم أنّ عادته في الروايات المشتملة على ما ينافي آراءهم الفاسدة إسقاطه من الرواية أو التعبير بلفظ الكناية تلبيسا على الجاهلين، بل يترك الروايات المنافية لعقائدهم رأسا، و قد قال ابن خلكان 33605 في ترجمة البخاري أنّه قال: صنّفت كتابي الصحيح من ستمائة ألف حديث، و نحوه قال في جامع الأصول 33606 ، و روى 33607 عن مسلم أنّه أخرج صحيحه من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة، و عن أبي داود 33608 أنّه انتخب ما أورده في كتابه من خمسمائة ألف حديث.
و من سنّة القوم تسمية ما يخالف عقائدهم بغير الصحيح، و لمّا كان اهتمام البخاري في هذا المعنى أكثر من سائر من زعموا أنّ أخبارهم من صحاح الأخبار، فلذلك رفض المخالفون أكثر كتبهم في الأخبار، و عظّموا كتاب البخاري- مع رداءته في ترتيب الأبواب و ركاكته في عنوانها- غاية التعظيم، و قدّموه على باقي الكتب، و مع ذلك بحمد اللّه لا يشتبه على من أمعن النظر فيه و في غيره من كتبهم أنّها مملوّة من الفضائح، و مشحونة بالاعتراف بالقبائح.
و أمّا ما ذكره في تفسير الفلتة بآخر الأشهر الحرم و توجيهه في ذلك، فقد عرفت ما فيه، و ما ذكره من تفسيره 33609 بالخلسة فهو تفسير صحيح، إلّا أنّ الحقّ أنّها خلسة و سرقة عن ذي الحق لا عن النفوس التي مالت إلى تولّي الإمامة، فإنّهم كانوا- أيضا- من السارقين، و الأخذ من السارق لا يسمّى اختلاسا، و هو واضح.
الخامس
: أَنَّهُ تَرَكَ إِقَامَةَ الْحَدِّ وَ الْقَوَدِ فِي خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَ قَدْ قَتَلَ مَالِكَ بْنَ نُوَيْرَةَ وَ ضَاجَعَ امْرَأَتَهُ مِنْ لَيْلَتِهِ، وَ أَشَارَ إِلَيْهِ عُمَرُ بِقَتْلِهِ وَ عَزْلِهِ، فَقَالَ: إِنَّهُ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ سَلَّهُ اللَّهُ عَلَى أَعْدَائِهِ 33610 . وَ قَالَ عُمَرُ مُخَاطِباً لِخَالِدٍ: لَئِنْ وُلِّيتُ الْأَمْرَ لَأَقِيدَنَّكَ لَهُ.
و قال القاضي في المغني 33611 - ناقلا عن أبي عليّ- إِنّ 33612 الردّة قد ظهرت من مالك، لأنّ في الأخبار أنّه ردّ صدقات قومه عليهم لمّا بلغه موت رسول اللّه صلّى اللّه عليه [و آله] كما فعله سائر أهل الردّة، فاستحقّ القتل 33613 .
قال أبو علي: و 33614 إنّما قتله لأنّه ذكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال:
صاحبك، و أوهم بذلك أنّه ليس بصاحب له، و كان عنده أنّ ذلك ردّة، و علم
عند 33615 المشاهدة المقصد- و هو أمير القوم- فجاز أن يقتله، و إن كان الأولى أن لا يستعجل و أن يكشف الأمر في ردّته حتّى يتّضح، فلهذا لم يقتله 33616 .
و بهذين الوجهين أجاب الفخر الرازي في نهاية العقول 33617 و شارح المواقف 33618 و شارح المقاصد 33619 .
ثم قال قاضي القضاة 33620 : فإن قال قائل: فقد 33621 كان مالك يصلّي؟ قيل له 33622 : و كذلك سائر أهل الردّة، و إنّما كفروا بالامتناع من الزكاة و اعتقادهم إسقاط وجوبها دون غيره.
فإن قيل: فلم أنكر عمر؟.
قيل 33623 : كان الأمر إلى أبي بكر فلا وجه لإنكار عمر، و قد يجوز أن يعلم أبو بكر من الحال ما يخفى على 33624 عمر.
فإن قيل: فما معنى ما روي عن أبي بكر من: أنّ خالدا تأوّل فأخطأ.
قيل: أراد تأوّل في عجلته عليه بالقتل 33625 ، فكان الواجب عنده على خالد
أن يتوقّف للشبهة 33626 .
و استدلّ أبو علي على ردّة مالك بأنّ أخاه متمّم بن نويرة لمّا أنشد عمر مرثية أخيه 33627 قال له عمر: وددت أنّي أقول الشعر فأرثي زيدا كما رثيت أخاك. فقال له متمّم: لو قتل أخي على مثل ما قتل عليه أخوك لما رثيته. فقال له عمر: ما عزّاني أحد كتعزيتك 33628 ، فدلّ هذا على أنّه لم يقتل على الإسلام 33629 .
ثم أجاب عن تزويجه بامرأته بأنّه إذا قتل على الردّة في دار الكفر جاز ذلك عند كثير من أهل العلم و إن كان لا يجوز أن يطأها إلّا بعد الاستبراء، فأمّا وطئه لامرأته 33630 فلم يثبت عنده، و لا يجوز 33631 أن يجعل طعنا في هذا الباب.
و اعترض عليه السيّد المرتضى رضي اللّه عنه في الشافي 33632 بقول: أمّا صنيع 33633 خالد- في قتل مالك بن نويرة و استباحة ماله و زوجته لنسبته إلى الردّة التي لم تظهر، بل كان الظاهر خلافها من الإسلام- فعظيم، و يجري مجراه في العظم تغافل من تغافل عن أمره و لم يقم فيه حكم اللّه تعالى و أقرّه على الخطإ الذي شهد هو به على نفسه، و يجري مجراهما من أمكنه أن يعلم الحال فأهملها و لم يتصفّح ما
روي من الأخبار في هذا الباب، و تعصّب لأسلافه 33634 و مذهبه 33635 ، و كيف يجوز عند خصومنا على مالك و أصحابه جحد الزكاة مع المقام على الصلاة، و هما جميعا في قرن 33636 ؟! لأنّ العلم الضروري بأنّهما من دينه صلّى اللّه عليه و آله و شريعته على حدّ واحد، و هل نسبة مالك إلى الردّة- بعد 33637 ما ذكرناه- إلّا قدح في الأصول و نقض لما تضمّنته من أنّ الزكاة معلومة ضرورة من 33638 دينه صلّى اللّه عليه و آله؟.