کتابخانه روایات شیعه
بحار الأنوار (ط - بيروت) - ج 1تا15
و قال العلامة رحمه الله في شرحه التوبة هي الندم على المعصية لكونها معصية و العزم على ترك المعاودة في المستقبل لأن ترك العزم يكشف عن نفي الندم و هي واجبة بالإجماع لكن اختلفوا فذهب جماعة من المعتزلة إلى أنها تجب من الكبائر المعلوم كونها كبائر أو المظنون فيها ذلك و لا تجب من الصغائر المعلوم أنها صغائر و قال آخرون إنها لا تجب من ذنوب تاب عنها من قبل و قال آخرون إنها تجب من كل صغير و كبير من المعاصي أو الإخلال بالواجب سواء تاب منها قبل أو لم يتب.
و قد استدل المصنف على وجوبها بأمرين الأول أنها دافعة للضرر الذي هو العقاب أو الخوف فيه و دفع الضرر واجب الثاني أنا نعلم قطعا وجوب الندم على فعل القبيح أو الإخلال بالواجب إذا عرفت هذا فنقول إنها تجب من كل ذنب لأنها تجب من المعصية لكونها معصية و من الإخلال بواجب لكونه كذلك و هذا عامّ في كل ذنب و إخلال بواجب انتهى.
أقول ظاهر كلامه وجوب التوبة عن الذنب الذي تاب منه و لعله نظر إلى أن الندم على القبيح واجب في كل حال و كذا ترك العزم على الحرام واجب دائما و فيه أن العزم على الحرام ما لم يأت به لا يترتّب عليه إثم كما دلت عليه الأخبار الكثيرة إلا أن يقول إن العفو عنه تفضّلا لا ينافي كونه منهيا عنه كالصغائر المكفّرة و أما الندم على ما صدر عنه فلا نسلم وجوبه بعد تحقيق الندم سابقا و سقوط العقاب و إن كان القول بوجوبه أقوى.
الثاني اختلف المتكلمون في أنه هل تتبعض التوبة أم لا
و الأول أقوى لعموم النصوص و ضعف المعارض.
قال المحقق في التجريد و يندم على القبيح لقبحه و إلا انتفت و خوف النار إن كان الغاية فكذلك و كذا الإخلال فلا تصح من البعض و لا يتم القياس على الواجب و لو اعتقد فيه الحسن صحت و كذا المستحقر و التحقيق أن ترجيح الداعي إلى الندم عن البعض يبعث عليه و إن اشترك الداعي في الندم على القبيح كما في الداعي إلى الفعل و لو اشترك الترجيح اشترك وقوع الندم و به يتأوّل كلام أمير المؤمنين و أولاده
عليهم السلام و إلا لزم الحكم ببقاء الكفر على التائب منه المقيم على صغيرة.
و قال العلامة اختلف شيوخ المعتزلة هنا فذهب أبو هاشم 3646 إلى أن التوبة لا تصح من قبيح دون قبيح و ذهب أبو علي 3647 إلى جواز ذلك و المصنف رحمه الله استدل على مذهب أبي هاشم بأنا قد بينا بأنه يجب أن يندم على القبيح لقبحه و لو لا ذلك لم تكن مقبولة و القبح حاصل في الجميع فلو تاب من قبيح دون قبيح كشف ذلك عن كونه تائبا عنه لا لقبحه و احتج أبو علي بأنه لو لم تصح التوبة من قبيح دون قبيح لم يصح الإتيان بواجب دون واجب و التالي باطل بيان الشرطية أنه كما يجب عليه ترك القبيح لقبحه كذا بجب عليه فعل الواجب لوجوبه فلو لزم من اشتراك القبائح في القبح عدم صحة التوبة من بعضها لزم من اشتراك الواجبات في الوجوب عدم صحة الإتيان بواجب دون آخر و أما بطلان التالي فبالإجماع إذ لا خلاف في صحة صلاة من أخل بالصوم.
و أجاب أبو هاشم بالفرق بين ترك القبيح لقبحه و فعل الواجب لوجوبه بالتعميم في الأول دون الثاني فإن من قال لا آكل الرمانة لحموضتها فإنه لا يقدم على أكل كل حامض لاتحاد الجهة في المنع و لو أكل الرمانة لحموضتها لم يلزم أن يأكل كل رمانة حامضة فافترقا.
و إليه أشار المصنف رحمه الله و لا يتم القياس على الواجب أي لا يتم قياس ترك القبيح لقبحه على فعل الواجب لوجوبه و قد تصح التوبة من قبيح دون قبيح إذا اعتقد التائب في بعض القبائح أنها حسنة و تاب عما يعتقده قبيحا فإنه تقبل توبته لحصول الشرط فيه و هو ندمه على القبيح لقبحه و إذا كان هناك فعلان أحدهما عظيم القبح و الآخر صغيره و هو مستحقر بالنسبة إليه حتى لا يكون معتدا به و يكون وجوده بالنسبة إلى
العظيم كعدمه حتى تاب فاعل القبيح عن العظيم فإنه تقبل توبته و مثال ذلك أن الإنسان إذا قتل ولد غيره و كسر له قلما ثم تاب و أظهر الندم على قتل الولد دون كسر القلم فإنه تقبل توبته و لا يعتد العقلاء بكسر القلم و إن كان لا بد من أن يندم على جميع إساءته و كما أن كسر القلم حال قتل الولد لا يعد إساءة فكذا العزم.
ثم قال رحمه الله و لما فرغ من تقرير كلام أبي هاشم ذكر التحقيق في هذا المقام و تقريره أن نقول الحق أنه يجوز التوبة عن قبيح دون قبيح لأن الأفعال تقع بحسب الدواعي و تنتفي الصوارف فإذا ترجح الداعي وقع الفعل إذا عرفت هذا فنقول يجوز أن يرجح فاعل القبائح دواعيه إلى الندم على بعض القبائح دون بعض و إن كانت القبائح مشتركة في أن الداعي يدعو إلى الندم عليها و ذلك بأن يقترن ببعض القبائح قرائن زائدة كعظم الذنب أو كثرة الزواجر عنه أو الشناعة عند العقلاء عند فعله و لا تقترن هذه القرائن ببعض القبائح فلا يندم عليها و هذا كما في دواعي الفعل فإن الأفعال الكثيرة قد تشترك في الدواعي ثم يؤثر صاحب الدواعي بعض تلك الأفعال على بعض بأن يترجح دواعيه إلى ذلك الفعل بما يقترن به من زيادة الدواعي فلا استبعاد في كون قبح الفعل داعيا إلى العدم ثم يقترن ببعض القبائح زيادة الدواعي إلى الندم عليه فيرجح لأجلها الداعي إلى الندم على ذلك البعض و لو اشتركت القبائح في قوة الدواعي اشتركت في وقوع الندم عليها و لم يصح الندم على البعض دون الآخر و على هذا ينبغي أن يحمل كلام أمير المؤمنين علي ع و كلام أولاده كالرضا و غيره ع حيث نقل عنهم نفي تصحيح التوبة عن بعض القبائح دون بعض لأنه لو لا ذلك لزم خرق الإجماع و التالي باطل فالمقدم مثله بيان الملازمة أن الكافر إذا تاب عن كفره و أسلم و هو مقيم على الكذب إما أن يحكم بإسلامه و تقبل توبته من الكفر أو لا و الثاني خرق الإجماع لاتفاق المسلمين على إجراء حكم المسلم عليه و الأول هو المطلوب و قد التزم أبو هاشم استحقاقه عقاب الكفر و عدم قبول توبته و إسلامه و لكن لا يمتنع إطلاق اسم الإسلام عليه.
الثالث
اعلم أن العزم على عدم العود إلى الذنب فيما بقي من العمر لا بد منه في التوبة كما عرفت و هل إمكان صدوره منه في بقية العمر شرط حتى لو زنى ثم جب 3648 و عزم على أن يعود إلى الزنا على تقدير قدرته عليه لم تصح توبته أم ليس بشرط فتصح الأكثر على الثاني بل نقل بعض المتكلمين إجماع السلف عليه و أولى من هذا بصحة التوبة من تاب في مرض مخوف غلب على ظنه الموت فيه و أما التوبة عند حضور الموت و تيقن الفوت و هو المعبر عنه بالمعاينة فقد انعقد الإجماع على عدم صحتها و قد مر ما يدل عليه من الآيات و الأخبار.
الرابع في أنواع التوبة
قال العلامة رحمه الله التوبة إما أن تكون من ذنب يتعلق به تعالى خاصة أو يتعلق به حق الآدمي.
و الأول إما أن يكون فعل قبيح كشرب الخمر و الزنا أو إخلالا بواجب كترك الزكاة و الصلاة فالأول يكفي في التوبة منه الندم عليه و العزم على ترك العود إليه و أما الثاني فتختلف أحكامه بحسب القوانين الشرعية فمنه ما لا بد مع التوبة من فعله أداء كالزكاة و منه ما يجب معه القضاء كالصلاة و منه ما يسقطان عنه كالعيدين و هذا الأخير يكفي فيه الندم و العزم على ترك المعاودة كما في فعل القبيح و أما ما يتعلق به حق الآدمي فيجب فيه الخروج إليهم منه فإن كان أخذ مال وجب رده على مالكه أو ورثته إن مات و لو لم يتمكن من ذلك وجب العزم عليه و كذا إن كان حد قذف و إن كان قصاصا وجب الخروج إليهم منه بأن يسلم نفسه إلى أولياء المقتول فإما أن يقتلوه أو يعفوا عنه بالدية أو بدونها و إن كان في بعض الأعضاء وجب تسليم نفسه ليقتص منه في ذلك العضو إلى المستحق من المجني عليه أو الورثة و إن كان إضلالا وجب إرشاد من أضله و رجوعه مما اعتقده بسببه من الباطل إن أمكن ذلك و اعلم أن هذه التوابع ليست أجزاء من التوبة فإن العقاب سقط بالتوبة ثم إن قام المكلف بالتبعات كان ذلك إتماما للتوبة من جهة المعنى لأن ترك التبعات لا يمنع من سقوط العقاب بالتوبة عما تاب منه بل يسقط العقاب و يكون ترك القيام بالتبعات بمنزلة ذنوب مستأنفة يلزمه التوبة منها نعم التائب إذا فعل التبعات بعد إظهار توبته كان ذلك دلالة
على صدق الندم و إن لم يقم بها أمكن جعله دلالة على عدم صحة الندم ثم قال رحمه الله المغتاب إما أن يكون قد بلغه اغتيابه أو لا و يلزم الفاعل للغيبة في الأول الاعتذار عنه إليه لأنه أوصل إليه ضرر الغم فوجب عليه الاعتذار منه و الندم عليه و في الثاني لا يلزمه الاعتذار و لا الاستحلال منه لأنه لم يفعل به ألما و في كلا القسمين يجب الندم لله تعالى لمخالفة النهي و العزم على ترك المعاودة.
و قال المحقق في التجريد و في إيجاب التفصيل مع الذكر إشكال و قال العلامة ذهب قاضي القضاة 3649 إلى أن التائب إن كان عالما بذنوبه على التفصيل وجب عليه التوبة عن كل واحدة منها مفصلا و إن كان يعلمها على الإجمال وجب عليه التوبة كذلك مجملا و إن كان يعلم بعضها على التفصيل و بعضها على الإجمال وجب عليه التوبة عن المفصل بالتفصيل و عن المجمل بالإجمال و استشكل المصنف رحمه الله إيجاب التفصيل مع الذكر لإمكان الاجتزاء بالندم على كل قبيح وقع منه و إن لم يذكره مفصلا.
ثم قال المحقق رحمه الله و في وجوب التجديد إشكال و قال العلامة قدس سره إذا تاب المكلف عن معصية ثم ذكرها هل يجب عليه تجديد التوبة قال أبو علي نعم بناء على أن المكلف القادر بقدرة لا ينفك عن الضدين إما الفعل أو الترك فعند ذكر المعصية إما أن يكون نادما عليها أو مصرا عليها و الثاني قبيح فيجب الأول.
و قال أبو هاشم لا يجب لجواز خلو القادر بقدرة عنهما.
ثم قال المحقق و كذا المعلول مع العلة و قال الشارح إذا فعل المكلف العلة قبل وجود المعلول هل يجب عليه الندم على المعلول أو على العلة أو عليهما مثاله الرامي إذا رمى قبل الإصابة قال الشيوخ عليه الندم على الإصابة لأنها هي القبيح و قد صارت في حكم الموجود لوجوب حصوله عند حصول السبب و قال القاضي يجب عليه ندمان أحدهما على الرمي لأنه قبيح و الثاني على كونه مولدا للقبيح و لا يجوز أن يندم على المعلول لأن الندم على القبيح إنما هو لقبحه و قبل وجوده لا قبح.
الخامس اعلم أنه لا خلاف بين المتكلمين في وجوب التوبة سمعا
و اختلفوا في وجوبها عقلا فأثبته المعتزلة لدفعها ضرر العقاب قال الشيخ البهائي رحمه الله هذا لا يدل على وجوب التوبة عن الصغائر ممن يجتنب الكبائر لكونها مكفرة و لهذا ذهبت البهشمية 3650 إلى وجوبها عن الصغائر سمعا لا عقلا نعم الاستدلال بأن الندم على القبيح من مقتضيات العقل الصحيح يعم القسمين و أما فورية الوجوب فقد صرح بها المعتزلة فقالوا يلزم بتأخيرها ساعة إثم آخر تجب التوبة منه أيضا حتى أن من أخر التوبة عن الكبيرة ساعة واحدة فقد فعل كبيرتين و ساعتين أربع كبائر الأولتان و ترك التوبة عن كل منهما و ثلاث ساعات ثمان كبائر و هكذا و أصحابنا يوافقونهم على الفورية لكنهم لم يذكروا هذا التفصيل فيما رأيته من كتبهم الكلامية.
السادس سقوط العقاب بالتوبة
مما أجمع عليه أهل الإسلام و إنما الخلاف في أنه هل يجب على الله حتى لو عاقب بعد التوبة كان ظلما أو هو تفضل يفعله سبحانه كرما منه و رحمة بعباده فالمعتزلة على الأول و الأشاعرة على الثاني و إلى الثاني ذهب شيخ الطائفة في كتاب الاقتصاد و العلامة الحلي رحمه الله في بعض كتبه الكلامية و توقف المحقق الطوسي طاب ثراه في التجريد و مختار الشيخين هو الظاهر من الأخبار و أدعية الصحيفة الكاملة و غيرها و هو الذي اختاره الشيخ الطبرسي رحمه الله و نسبه إلى أصحابنا كما عرفت و دليل الوجوب ضعيف مدخول كما لا يخفى على من تأمل فيه.
أقول: أثبتنا بعض أخبار التوبة في باب الاستغفار و باب صفات المؤمن و باب صفات خيار العباد و باب جوامع المكارم و سيأتي تحقيق الكبائر و الصغائر و الذنوب و أنواعها و حبط الصغائر بترك الكبائر في أبوابها إن شاء الله تعالى.
باب 21 نفي العبث و ما يوجب النقص من الاستهزاء و السخرية و المكر و الخديعة عنه تعالى و تأويل الآيات فيها