کتابخانه روایات شیعه
بحار الأنوار (ط - بيروت) - ج 1تا15
الأولى:
قوله تعالى مخبرا عن زكريّا عليه السلام 27747 : وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا 27748 .
قوله تعالى: «وَلِيًّا» أي ولدا يكون أولى بميراثي، و ليس المراد بالولي من يقوم مقامه، ولدا كان أو غيره، لقوله تعالى حكاية عن زكريّا: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً 27749 . و قوله: رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَ أَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ وَهَبْنا لَهُ يَحْيى 27750 . و القرآن يفسّر بعضه بعضا.
و اختلف المفسّرون في أنّ المراد بالميراث العلم أو المال؟.
فقال ابن عباس و الحسن و الضحّاك أنّ المراد به في قوله تعالى: « يَرِثُنِي .» و قوله سبحانه: وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ 27751 . ميراث المال 27752 ، و قال أبو صالح:
المراد به في الموضعين ميراث النبوّة 27753 . و قال السدّي و مجاهد و الشعبي: المراد به في الأوّل ميراث المال و في الثاني ميراث النبوّة، و حكي هذا القول عن ابن عباس و الحسن و الضحّاك 27754 ، و حكي عن مجاهد أنّه قال: المراد من الأوّل العلم و من الثاني النبوّة 27755 .
و أمّا وجه دلالة الآية على المراد، فهو أنّ لفظ الميراث في اللغة و الشريعة و العرف إذا أطلق و لم يقيّد لا يفهم منه إلّا الأموال و ما في معناها و لا يستعمل في غيرها إلّا مجازا، و كذا لا يفهم من قول القائل لا وارث لفلان إلّا من ينتقل إليه أمواله و ما يضاهيها دون العلوم و ما يشاكلها، و لا يجوز العدول عن ظاهر اللفظ و حقيقته إلّا لدليل، فلو لم يكن في الكلام قرينة توجب حمل اللفظ على أحد المعنيين لكفى في مطلوبنا، كيف و القرائن الدالّة على المقصود موجودة في اللفظ؟!.
أمّا أوّلا: فلأنّ زكريّا عليه السلام اشترط في وارثه أن يكون رضيّا، و إذا حمل الميراث على العلم و النبوّة لم يكن لهذا الاشتراط معنى، بل كان لغوا عبثا، لأنّه إذا سأل من يقوم مقامه في العلم و النبوّة فقد دخل في سؤاله الرضا و ما هو أعظم منه فلا معنى لاشتراطه، أ لا ترى أنّه لا يحسن أن يقول أحد: اللّهمّ ابعث إلينا نبيّا و اجعله مكلّفا عاقلا؟!.
و أمّا ثانيا: فلأنّ الخوف من بني العم و من يحذو حذوهم يناسب المال دون النبوّة و العلم، و كيف يخاف مثل زكريّا عليه السلام من أن يبعث اللّه تعالى إلى خلقه نبيّا يقيمه مقام زكريّا و لم يكن أهلا للنبوّة و العلم، سواء كان من موالي زكريّا أو من غيرهم؟، على أنّ زكريّا عليه السلام كان إنّما بعث لإذاعة العلم و نشره في الناس فلا يجوز أن يخاف من الأمر الذي هو الغرض في 27756 بعثته.
فإن قيل: كيف يجوز على مثل زكريّا عليه السلام الخوف من أن يرث الموالي ماله؟ و هل هذا إلّا الضنّ و البخل؟.
قلنا: لمّا علم زكريّا عليه السلام من حال الموالي أنّهم من أهل الفساد، خاف أن ينفقوا أمواله في المعاصي و يصرفوه في غير الوجوه المحبوبة، مع أنّ في وراثتهم ماله كان يقوّي فسادهم و فجورهم، فكان خوفه خوفا من قوّة الفسّاق
و تمكّنهم في سلوك الطرائق المذمومة، و انتهاك محارم اللّه عزّ و جلّ، و ليس مثل ذلك من الشحّ و البخل.
فإن قيل: كما جاز الخوف على المال من هذا الوجه 27757 جاز الخوف على وراثتهم العلم لئلّا يفسدوا به الناس و يضلّوهم، و لا ريب في أنّ ظهور آثار العلم فيهم كان من دواعي اتّباع الناس إيّاهم و انقيادهم لهم.
قلنا: لا يخلو هذا العلم الذي ذكرتموه من أن يكون هو كتبا علميّة و صحفا حكمية، لأنّ ذلك قد يسمّى علما مجازا، أو يكون هو العلم الذي يملأ القلوب و تعيه الصدور، فإن كان الأوّل، فقد رجع إلى معنى المال و صحّ أنّ الأنبياء عليهم السلام يورثون الأموال، و كان حاصل خوف زكريّا عليه السلام أنّه خاف من أن ينتفعوا ببعض أمواله نوعا خاصّا من الانتفاع، فسأل ربّه أن يرزقه الولد حذرا من ذلك، و إن كان الثاني، فلا يخلو- أيضا- من أن يكون هو العلم الذي بعث النبيّ لنشره و أدائه إلى الخلق، أو أن يكون علما مخصوصا لا يتعلّق لشريعة و لا يجب اطّلاع الأمّة عليه كعلم العواقب و ما يجري في مستقبل الأوقات .. و نحو ذلك.
و القسم الأوّل: لا يجوز أن يخاف النبيّ من وصوله إلى بني عمّه- و هم من جملة أمّته المبعوث إليهم لأن يهديهم و يعلّمهم- و كان خوفه من ذلك خوفا من غرض البعثة.
و القسم الثاني: لا معنى للخوف من أن يرثوه إذ كان أمره بيده، و يقدر على أن يلقيه إليهم، و لو صحّ الخوف على القسم الأوّل لجرى ذلك فيه أيضا، فتأمّل.
هذا خلاصة ما ذكره السيّد المرتضى رضي اللّه عنه في الشافي عند تقرير هذا الدليل 27758 ، و ما أورد عليه من تأخّر عنه يندفع بنفس التقرير، كما لا يخفى على
الناقد البصير، فلذا لا نسوّد بإيرادها الطوامير.
الآية الثانية:
قوله تعالى: وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَ قالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ 27759 .
وجه الدلالة، هو أنّ المتبادر من قوله تعالى- ورثه-، أنّه ورث ماله 27760 كما سبق في الآية المتقدّمة، فلا يعدل عنه إلّا لدليل.
و أجاب قاضي القضاة في المغني 27761 : بأنّ في الآية ما يدلّ على أنّ المراد وراثة العلم دون المال، و هو قوله تعالى: وَ قالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ 27762 فإنّه يدلّ على أنّ الذي ورث هو هذا 27763 العلم و هذا الفضل، و إلّا لم يكن لهذا تعلّق بالأوّل.
و قال الرازي في تفسيره: لو قال تعالى: ورث سليمان داود ماله، لم يكن لقوله تعالى: وَ قالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ 27764 معنى، و إذا قلنا ورث مقامه من النبوّة و الملك حسن ذلك، لأنّ علم منطق الطير يكون داخلا في جملة ما ورثه، و كذلك قوله: وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ 27765 لأنّ وارث العلم يجمع ذلك و وارث المال لا يجمعه، و قوله: إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ 27766 يليق أيضا بما ذكر دون المال الذي يحصل للكامل و الناقص، و ما ذكره اللّه تعالى من جنود سليمان بعده لا يليق إلّا بما ذكرنا، فبطل بما ذكرنا قول من زعم أنّه لا يورث إلّا المال، فأمّا إذا ورث المال و الملك معا فهذا لا يبطل بالوجوه الذي ذكرنا، بل بظاهر
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ 27767 .
و ردّ السيّد المرتضى رضي اللّه عنه في الشافي 27768 كلام المغني بأنّه لا يمتنع أن يريد ميراث المال خاصّة، ثم يقول مع ذلك: إنّا عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ 27769 ، و يشير بالفضل المبين 27770 إلى العلم و المال جميعا، فله في الأمرين جميعا فضل على من لم يكن كذلك، و قوله: وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ 27771 يحتمل المال كما يحتمل العلم فليس بخالص لما ظنّه، و لو سلم دلالة الكلام على العلم لما ذكره، فلا يمتنع أن يريد أنّه ورث المال بالظاهر، و العلم بهذا النوع من الاستدلال فليس يجب إذا دلّت الدلالة في بعض الألفاظ على المجاز أن نقتصر بها عليه، بل يجب أن نحملها على الحقيقة- التي هي الأصل- إذا لم يمنع من ذلك مانع.
و قد ظهر بما ذكره السيّد قدّس سرّه بطلان قول الرازي أيضا 27772 ، و كان القاضي يزعم أنّ العطف لو لم يكن للتفسير لم يكن للمعطوف تعلّق بما عطف عليه و انقطع نظام الكلام.
و ما اشتهر 27773 من أنّ التأسيس أولى من التأكيد من الأغلاط المشهورة، و كأنّ الرازي يذهب إلى أنّه لا معنى للعطف إلّا إذا كان المعطوف داخلا في المعطوف عليه، فعلى أيّ شيء يعطف حينئذ قوله تعالى: وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ 27774 ؟
فتدبّر.
و أمّا قوله: إنّ المال يحصل للكامل و الناقص، فلو حمل الميراث على المال لم يناسبه قوله: إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ 27775 .
فيرد عليه أنّه إنّما يستقيم إذا كانت الإشارة إلى أوّل الكلام فقط- و هو وراثة المال- و بعده ظاهر، و لو كانت الإشارة إلى مجموع الكلام- كما هو الظاهر- أو إلى
أقرب الفقرات- أعني قوله: وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ 27776 - لم يبق لهذا الكلام مجال، و كيف لا يليق دخول المال في جملة المشار إليه، و قد منّ اللّه تعالى على عباده في غير موضع من كلامه المجيد بما أعطاهم في الدنيا من صنوف الأموال، و أوجب على عباده الشكر عليه، فلا دلالة فيه على عدم إرادة وراثة المال سواء كان من كلام سليمان أو كلام الملك المنّان.
و قد ظهر بذلك بطلان قوله أخيرا: إنّ ما ذكره اللّه تعالى من جنود سليمان لا يليق إلّا بما ذكرنا، بل الأظهر أنّ حشر الجنود من الجن و الإنس و الطير قرينة على عدم إرادة الملك من قوله: وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ 27777 ، فإنّ تلك الجنود لم تكن لداود حتى يرثها سليمان، بل كانت عطيّة مبتدأة من اللّه تعالى لسليمان عليه السلام، و قد أجرى اللّه تعالى على لسانه أخيرا الاعتراف بأنّ ما ذكره لا يبطل قوله من حمل الآية على وراثة الملك و المال معا، فإنّه يكفينا في إثبات المدّعى، و سيأتي الكلام في الحديث الذي تمسّك به.
الآية الثالثة:
ما يدلّ على وراثة الأولاد و الأقارب، كقوله تعالى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً 27778 ، و قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ 27779 ، و قد أجمعت الأمّة على عمومها 27780 إلّا من أخرجه الدليل، فيجب أن يتمسّك بعمومها إلّا إذا قامت دلالة قاطعة، و قد قال سبحانه
عقيب آيات الميراث: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَ لَهُ عَذابٌ مُهِينٌ 27781 ، و لم يقم دليل على خروج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن حكم الآية، فمن تعدّى حدود اللّه 27782 في نبيّه يدخله اللّه النار خالدا فيها و له العذاب المهين.
و أجاب المخالفون بأنّ العمومات مخصّصة بما رواه
أَبُو بَكْرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ مِنْ قَوْلِهِ: نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ 27783 .
قال صاحب المغني 27784 : لم يقتصر أبو بكر على رواية حتى استشهد عليه عمر 27785 و عثمان و طلحة و الزبير و سعد أو 27786 عبد الرحمن بن عوف فشهدوا به، فكان لا يحلّ لأبي بكر و قد صار الأمر إليه أن يقسّم التركة ميراثا، و قد أخبر الرسول (ص) بأنّها صدقة و ليس 27787 بميراث، و أقلّ ما في الباب أن يكون الخبر من أخبار الآحاد، فلو أنّ شاهدين شهدا في التركة أنّ فيها حقّا أ ليس كان يجب أن يصرفه عن الإرث؟ فعلمه بما قال الرسول (ص) مع شهادة غيره أقوى، و لسنا نجعله مدّعيا 27788 ، لأنّه لم يدع ذلك لنفسه، و إنّما بيّن أنّه ليس بميراث و أنّه صدقة، و لا يمتنع تخصيص القرآن بذلك كما يخصّ في العبد و القاتل و غيرهما.