کتابخانه روایات شیعه
بحار الأنوار (ط - بيروت) - ج 1تا15
السبب في تقيّة من اتّقى ممّن ذكرناه بعينه حتى يقع الإشارة إليه على سبيل التفصيل، و حتى يجري مجرى العرض على السيف في الملإ من الناس، بل ربّما كان ظاهرا كذلك، و ربّما كان خافيا 28060 .
فإن قيل: مع تجويز التقيّة على الإمام كيف السبيل إلى العلم بمذاهبه و اعتقاده؟ و كيف يتخلّص 28061 لنا ما يفتي به على سبيل التقيّة من غيره؟.
قلنا: أوّل ما نقوله في ذلك أنّ الإمام لا يجوز أن يتّقي فيما لا يعلم إلّا من جهته، و الطريق إليه إلّا من ناحيته، و قوله 28062 و إنّما يجوز التقيّة عليه فيما قد بان بالحجج و البيّنات و نصبت عليه الدلالات حتى لا يكون تقيّته 28063 فيه مزيلة لطريق إصابة الحقّ و موقعة للشبهة، ثم لا تبقى 28064 في شيء إلّا و يدلّ على خروجه منه مخرج التقيّة، إمّا لما يصاحب كلامه أو يتقدّمه أو يتأخّر عنه، و من اعتبر جميع ما روي عن أئمّتنا عليهم السلام على سبيل التقيّة وجده لا يعرى ممّا ذكرناه.
ثم إنّ التقيّة إنّما تكون من العدوّ دون الوليّ، و من المتّهم دون الموثوق به، فما يصدر منهم إلى أوليائهم و شيعتهم و نصحائهم في غير مجالس الخوف يرتفع الشكّ في أنّه على غير جهة التقيّة، و ما يفتون به العدوّ أو يمتحنون به في مجالس الجور 28065 يجوز أن يكون على سبيل التقيّة كما يجوز أن يكون على غيرها، ثم يقلب 28066 هذا السؤال على المخالف فيقال له: إذا أجزت على جميع الناس التقيّة عند الخوف الشديد و ما يجري مجراه، فمن أين تعرف مذاهبهم و اعتقادهم؟! و كيف تفصل
بين ما يفتي به المفتي منهم على سبيل التقيّة و بين ما يفتي به و هو مذهب له يعتقد بصحّته؟! فلا بدّ من 28067 الرجوع إلى ما ذكرناه.
فإن قال: أعرف مذهب غيري و إن أجزت عليه التقيّة بأن يضطرّني إلى اعتقاده، و عند التقيّة لا يكون ذلك.
قلنا: و ما المانع لنا من أن نقول هذا بعينه فيما سألت عنه، فأمّا ما تلا كلامه 28068 الذي حكيناه عنه من الكلام في التقيّة، و قوله: إنّ ذلك يوجب أن لا يوثق بنصّه على أمير المؤمنين عليه السلام، فإنّما بناه على أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يجوز عليه التقيّة في كلّ حال، و قد بيّنا ما في ذلك و استقصيناه.
و قوله: أ لا جاز أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام نبيّا، و عدل عن ادّعاء ذلك تقيّة .. فيبطله ما ذكرنا من أنّ التقيّة لا يجوز على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و الإمام عليه السلام فيما لا يعلم 28069 إلّا من جهته، و يبطله زائدا على ذلك ما نعلمه نحن و كلّ عاقل ضرورة من نفي 28070 النبوّة بعده على كلّ حال من دين الرسول صلّى اللّه عليه و آله.
و قوله: إن عوّلوا على علم الاضطرار فعندهم أنّ الضرورة في النصّ على الإمام قائمة، فمعاذ اللّه أن ندّعي الضرورة في العلم بالنصّ على من غاب عنه فلم يسمعه، و الذي نذهب إليه أنّ كل من لم يشهده لا يعلمه إلّا باستدلال 28071 و ليس كذلك نفي النبوّة، لأنّه معلوم من دينه صلّى اللّه عليه و آله ضرورة، و لو لم يشهد بالفرق بين الأمرين إلّا اختلاف العقلاء في النصّ مع تصديقهم بالرسول
صلّى اللّه عليه و آله و أنّهم لم يختلفوا في نفي النبوّة لكفى 28072 ، و لا اعتبار بقوله في ذلك خلاف ما قد ذكر 28073 كما ذكر في أنّه عليه السلام إله، لأنّه 28074 هذا الخلاف لا يعتدّ به، و المخالف فيه خارج عن الإسلام فلا يعتبر في إجماع المسلمين بقوله، كما لا يعتبر في إجماع المسلمين 28075 بقول من خالف في أنّه إله، على أنّ من خالف و ادّعى نبوّته لا يكون مصدّقا للرسول صلّى اللّه عليه و آله و لا عالما بنبوّته، و لا يدّعي علم الاضطرار في أنّه لا نبيّ بعده و إنّما يعلم ضرورة من دينه صلّى اللّه عليه و آله نفي النبوّة بعده من أقرّ بنبوّته 28076 .
فأمّا قوله: إنّ الإجماع لا يوثق به عندهم، فمعاذ اللّه أن نطعن في الإجماع و كونه حجّة، فإن أراد أنّ الإجماع الذي لا يكون فيه قول إمام ليس بحجّة فذلك ليس بإجماع عندنا و عندهم، و ما ليس بإجماع فلا حجّة فيه، و قد تقدّم عند كلامنا في الإجماع من هذا الكتاب ما فيه كفاية.
و قوله: يجوز أنّ 28077 يقع الإجماع على طريق التقيّة لا يكون 28078 أوكد من قول الرسول صلّى اللّه عليه و آله أو قول الإمام عليه السلام عندهم، باطل 28079 ، لأنّا قد بيّنا أنّ التقيّة لا تجوز على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و الإمام عليه السلام على كلّ حال، و إنّما تجوز على حال دون أخرى، على أنّ القول بأنّ الأمّة بأسرها مجتمع 28080
على طريق التقيّة طريف 28081 ، لأنّ التقيّة سببها الخوف من الضرر العظيم، و إنّما يتّقي بعض الأمّة من بعض لغلبته عليه و قهره له، و جميع الأمّة لا تقيّة عليها من أحد.
فإن قيل: يتّقي من مخالفيها في الشرائع.
قلنا: الأمر بالضدّ من ذلك، لأنّ من خالطهم و صاحبهم من مخالفيهم في الحال 28082 أقلّ عددا و أضعف بطشا منهم، فالتقيّة لمخالفيهم منهم أولى، و هذا أظهر من أن يحتاج فيه إلى الإطالة و الاستقصاء. انتهى كلامه رفع اللّه مقامه.
و لنذكر بعض ما يدلّ على جواز التقيّة
لكثرة تشنيع المخالفين في ذلك علينا مع كثرة الدلائل القاطعة عليها 28083 ..
فمنها:
قوله تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ 28084 .
و منها:
قوله تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً 28085 .
و منها:
ما رواه الْفَخْرُ الرَّازِيُ 28086 وَ غَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ 28087 عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: أَخَذَ مُسَيْلَمَةُ الْكَذَّابُ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فَقَالَ لِأَحَدِهِمَا: أَ تَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَ فَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟
قَالَ: نَعَمْ، وَ كَانَ مُسَيْلَمَةُ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ بَنِي حَنِيفَةَ، وَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ رَسُولُ قُرَيْشٍ، فَتَرَكَهُ، وَ دَعَا الْآخَرَ فَقَالَ: أَ تَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ نَعَمْ نَعَمْ! قَالَ: أَ فَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: إِنِّي أَصَمُّ .. ثَلَاثاً. فَقَدَّمَهُ وَ قَتَلَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فَقَالَ: أَمَّا هَذَا الْمَقْتُولُ فَمَضَى عَلَى صِدْقِهِ وَ يَقِينِهِ فَهَنِيئاً لَهُ، وَ أَمَّا الْآخَرُ فَقَبِلَ رُخْصَةَ اللَّهِ فَلَا تَبِعَةَ عَلَيْهِ.
و منها:
مَا رَوَاهُ الْخَاصَّةُ وَ الْعَامَّةُ أَنَّ أُنَاساً مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فُتِنُوا فَارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ دُخُولِهِمْ فِيهِ، وَ كَانَ فِيهِمْ مَنْ أُكْرِهَ فَأَجْرَى كَلِمَةَ الْكُفْرِ عَلَى لِسَانِهِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ بِقَلْبِهِ مُصِرّاً عَلَى الْإِيمَانِ مِنْهُمْ عَمَّارٌ وَ أَبَوَاهُ: يَاسِرٌ وَ سُمَيَّةُ، وَ صُهَيْبٌ وَ بِلَالٌ وَ خَبَّابٌ وَ سَالِمٌ عُذِّبُوا، وَ أَمَّا سُمَيَّةُ فَقَدْ رُبِطَتْ بَيْنَ بَعِيرَيْنِ 28088 وَ وُجِئَتْ 28089 فِي قُبُلِهَا بِحَرْبَةٍ، وَ قَالُوا: إِنَّكِ أَسْلَمْتِ مِنْ أَجْلِ الرِّجَالِ فَقُتِلَتْ، وَ قُتِلَ يَاسِرٌ، وَ هُمَا أَوَّلُ قَتِيلَيْنِ 28090 فِي الْإِسْلَامِ، وَ أَمَّا عَمَّارٌ فَقَدْ أَعْطَاهُمْ مَا أَرَادُوا بِلِسَانِهِ مُكْرَهاً، فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ عَمَّاراً كَفَرَ. فَقَالَ: كَلَّا، إِنَّ عَمَّاراً مُلِئَ إِيمَاناً مِنْ قَرْنِهِ إِلَى قَدَمِهِ، وَ اخْتَلَطَ الْإِيمَانُ بِلَحْمِهِ وَ دَمِهِ، فَأَتَى عَمَّارٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ هُوَ يَبْكِي، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يَمْسَحُ عَيْنَيْهِ يَقُولُ: مَا لَكَ! إِنْ عَادُوا لَكَ فَعُدْ لَهُمْ بِمَا قُلْتَ 28091 .
و منها:
خَبَرُ 28092 مَوْلَى الْحَضْرَمِيِّ أَكْرَهَهُ سَيِّدُهُ فَكَفَرَ ثُمَّ أَسْلَمَ مَوْلَاهُ فَأَسْلَمَ وَ حَسُنَ إِسْلَامُهُمَا وَ هَاجَرَا 28093 .
و قال ابن عبد البرّ في الإستيعاب 28094 في ترجمة عمّار: إنّ نزول الآية فيهم ممّا أجمع أهل التفسير عليه.
و يدل عليها أيضا ما يدلّ على نفي الحرج نحو قوله تعالى: ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ 28095 و لزوم الحرج في مواضع التقيّة- سيّما إذا انتهت الحال إلى القتل و هتك العرض- واضح ..
و يدلّ عليها عموم قوله تعالى 28096
: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ 28097 .
و قد فسّر مجاهد الاضطرار في آية الأنعام 28098 باضطرار الإكراه خاصّة 28099 .
و يدلّ عليه قوله تعالى: وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ 28100 على بعض
التفاسير 28101 . و لا خلاف في شرعيّتها مع الخوف على النفس من الكفّار الغالبين.
و قال الشافعي- من العامّة- بأنّ الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحال بين المسلمين و المشركين حلّت التقيّة 28102 ، ذكر ذلك الفخر الرازي في تفسير الآية الثانية، و قال: التقيّة جائزة لصون النفس، و هل هي جائزة لصون المال، يحتمل أن يحكم فيها بالجواز،
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ: حُرْمَةُ مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ،.
وَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ: مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ.
، و لأنّ الحاجة إلى المال شديدة، و الماء إذا بيع بالغبن سقط فرض الوضوء و جاز الاقتصار على التيمّم دفعا لذلك القدر من نقصان المال، فكيف لا يجوز هاهنا 28103 ؟.
و قال في تفسير الآية الأولى.:
اعلم أنّ للإكراه مراتب:
أحدها 28104 : أن يجب فعل المكره عليه،
مثل ما إذا أكرهه على شرب الخمر و أكل الخنزير و أكل الميتة، فإذا أكرهه عليه بالسيف فهاهنا يجب الأكل، و ذلك لأنّ صون الروح عن الفوات واجب و لا سبيل إليه في هذه الصورة إلّا بهذا الأكل، و ليس في هذا الأكل ضرر على حيوان و لا إهانة بحقّ اللّه 28105 ، فوجب أن يجب، لقوله تعالى: وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ 28106 .
المرتبة الثانية: