کتابخانه روایات شیعه
بحار الأنوار (ط - بيروت) - ج 1تا15
عمل السحر فازداد تعجب الملائكة فأراد الله تعالى أن يبتلي الملائكة فقال لهم اختاروا ملكين من أعظم الملائكة علما و زهدا و ديانة لإنزالهما إلى الأرض فاختبرهما فاختاروا هاروت و ماروت و ركب فيهما شهوة الإنس و أنزلهما و نهاهما عن الشرك و القتل و الزنا و الشرب فنزلا فذهب إليهما امرأة من أحسن النساء و هي الزهرة فراوداها عن نفسها فأبت إلا بعد أن يعبدا الصنم و إلا بعد أن يشربا فامتنعا أولا ثم غلبت الشهوة عليهما فأطاعا في كل ذلك فعند إقدامهما على الشرب و عبادة الصنم دخل سائل عليهم فقالت إن أظهر هذا السائل للناس ما رأى منا فسد أمرنا فإن أردتما الوصول إلي فاقتلا هذا الرجل فامتنعا منه ثم اشتغلا بقتله فلما فرغا من القتل طلبا المرأة فلم يجداها ثم إن الملكين عند ذلك ندما و تحسرا و تضرعا إلى الله تعالى فخيرهما بين عذاب الدنيا و عذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا و هما معذبان ببابل معلقان بين السماء و الأرض يعلمان الناس السحر.
ثم لهم في الزهرة قولان أحدهما أن الله تعالى لما ابتلى الملكين بشهوة بني آدم أمر الله الكوكب الذي يقال له الزهرة و فلكها حتى هبط إلى الأرض إلى أن كان ما كان فحينئذ ارتفعت الزهرة و فلكها إلى موضعها من السماء موبخين لهما على ما شاهداه منهما و القول الثاني أن المرأة كانت فاجرة من أهل الأرض و واقعاها بعد شرب الخمر و قتل النفس و عبادة الصنم ثم علماها الاسم الذي به كانا يعرجان إلى السماء فتكلمت به و عرجت إلى السماء و كان اسمها بيدخت فمسخها الله تعالى و جعلها هي الزهرة.
و اعلم أن هذه الرواية فاسدة مردودة غير مقبولة لأنه ليس في كتاب الله ما يدل عليها بل فيه ما يبطلها من وجوه الأول ما تقدم من الدلائل الدالة على عصمة الملائكة عن كل المعاصي و ثانيها أن قولهم إنهما خيرا بين عذاب الدنيا و عذاب الآخرة فاسد بل كان الأولى أن يخيرا بين التوبة و العذاب لأن الله تعالى خير بينهما من أشرك به طول عمره فكيف يبخل عليهما بذلك و ثالثها أن من أعجب الأمور قولهم إنهما يعلمان الناس السحر في حال كونهما معذبين و يدعوان
إليه و هما يعاقبان.
و لما ظهر فساد هذا القول فنقول السبب في إنزالهما وجوه أحدها أن السحرة كثرت في ذلك الزمان و استنبطت أبوابا غريبة و كانوا يدعون النبوة و يتحدون الناس بها فبعث الله تعالى هذين الملكين لأجل أن يعلما الناس أبواب السحر حتى يتمكنوا من معارضة أولئك الذين كانوا يدعون النبوة كذبا و لا شك أن هذا من أحسن الأغراض و المقاصد.
و ثانيها أن العلم بكون المعجزة مخالفا للسحر متوقف على العلم بماهية المعجزة 9004 و الناس كانوا جاهلين بماهية السحر فلا جرم تعذرت عليهم معرفة حقيقة المعجزة فبعث الله هذين الملكين لتعريف ماهية السحر لأجل هذا الغرض و ثالثها لا يمتنع أن يقال السحر الذي يوقع الفرقة بين أعداء الله و الألفة بين أولياء الله كان مباحا عندهم أو مندوبا فالله تعالى بعث الملكين لتعليم السحر لهذا الغرض ثم إن القوم تعلموا ذلك منهما و استعملوه في الشر و إيقاع الفرقة بين أولياء الله و الألفة بين أعداء الله و رابعها أن تحصيل العلم بكل شيء حسن و لما كان السحر منهيا عنه وجب أن يكون متصورا معلوما لأن الذي لا يكون متصورا امتنع النهي عنه و خامسها لعل الجن كان عندهم أنواع من السحر لم يقدر البشر على الإتيان بمثلها فبعث الله الملائكة ليعلموا البشر أمورا يقدرون بها على معارضة الجن و سادسها يجوز أن يكون ذلك تشديدا في التكليف من حيث إذا علمه ما أمكنه أن يتوصل به إلى اللذات العاجلة ثم منعه من استعمالها كان ذلك في نهاية المشقة فيستوجب به الثواب الزائد كما ابتلى قوم طالوت بالنهر على ما قال فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي فثبت بهذه الوجوه أنه لا يبعد من الله تعالى إنزال الملكين لتعليم السحر.
المسألة الرابعة قال بعضهم هذه الواقعة إنما وقعت في زمان إدريس ع
لأنهما إذا كانا ملكين نزلا بصورة البشر لهذا الغرض فلا بد من رسول في وقتهما ليكون ذلك معجزة له و لا يجوز كونهما رسولين لأنه ثبت أنه تعالى لا يبعث الرسول من الملائكة إلى الإنس و الله أعلم.
المسألة الخامسة هارُوتَ وَ مارُوتَ عطف بيان لملكين
علمان لهما و هما اسمان أعجميان بدليل منع الصرف و لو كانا من الهرت و المرت و هو الكسر كما زعم بعضهم لانصرفا و قرأ الزهري هَارُوتُ وَ مَارُوتُ بالرفع على هما هاروت و ماروت و أما قوله تعالى وَ ما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فاعلم أنه تعالى شرح حالهما فقال و هذان الملكان لا يعلمان السحر إلا بعد التحذير الشديد من العمل به و هو قولهما إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ و المراد هاهنا بالفتنة المحنة التي بها يتميز المطيع عن العاصي كقولهم فتنت الذهب بالنار إذا عرض على النار ليتميز الخالص عن المشوب و قد بينا الوجوه في أنه كيف يحسن بعثة الملكين لتعليم السحر فالمراد أنهما لا يعلمان أحدا السحر و لا يصفانه لأحد و لا يكشفان له وجوه الاحتيال حتى يبذلا له النصيحة فيقولا له إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ أي هذا الذي نصفه لك و إن كان الغرض فيه أن يتميز السحر 9005 من المعجز و لكنه يمكنك أن تتوصل إلى المفاسد و المعاصي فإياك بعد وقوفك عليه أن تستعمله فيما نهيت عنه أو تتوصل به إلى شيء من الأغراض العاجلة ..
أما قوله فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى ذكروا في تفسير هذا التفريق وجهين
الأول أن هذا التفريق إنما يكون بأن يعتقد أن ذلك السحر مؤثر في هذا التفريق فيصير كافرا و إذا صار كافرا بانت منه امرأته فيحصل التفريق بينهما الثاني يفرق بينهما بالتمويه و التخييل 9006 و التضريب و سائر الوجوه المذكورة.
المسألة الثانية أنه تعالى لم يذكر ذلك
لأن الذي يتعلمون منهما ليس
إلا هذا القدر لكن هذه الصورة تنبيها على سائر الصور فإن استنامة المرء 9007 إلى زوجه و ركونه إليها معروف زائد على كل مودة فنبه بذكر ذلك على أن السحر إذا ما أمكن به هذا الأمر على شدته فغيره به أولى.
أما قوله وَ ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ فإنه يدل على ما ذكرناه لأنه أطلق الضرر و لم يقصره على التفريق بين المرء و زوجه فدل ذلك على أنه تعالى إنما ذكره لأنه أعلى مراتبه أما قوله بِإِذْنِ اللَّهِ فاعلم أن الإذن حقيقة في الأمر و الله لا يأمر بالسحر و لأنه تعالى أراد عيبهم و ذمهم و لو كان قد أمرهم به لما جاز أن يذمهم عليه فلا بد من التأويل و فيه وجوه أحدها قال الحسن المراد منه التخلية يعني الساحر إذا سحر إنسانا فإن شاء الله منعه منه و إن شاء خلي بينه و بين ضرر السحر و ثانيها قال الأصم المراد إلا بعلم الله و إنما سمي الأذان أذانا لأنه إعلام الناس وقت 9008 الصلاة و سمي الأُذُن أُذُنا لأن بالحاسة القائمة بذلك يدرك الإِذْن و كذلك قوله وَ أَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ أي إعلام و قوله فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ معناه فاعلموا و قوله فَقُلْ آذَنْتُكُمْ يعني أعلمتكم و ثالثها أن الضرر الحاصل عند فعل السحر إنما يحصل بخلق الله تعالى و إيجاده و إبداعه و ما كان كذلك فإنه يصح أن يضاف إلى إذن الله تعالى كما قال إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ و رابعها أن يكون المراد بالإذن الأمر و هذا الوجه لا يليق إلا بأن يفسر التفريق بين المرء و زوجه بأن يصير كافرا و الكفر يقتضي التفريق فإن هذا حكم شرعي و ذلك لا يكون إلا بأمر الله ..
أما قوله وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ففيه مسائل
المسألة الأولى إنما ذكر لفظ الشراء على سبيل الاستعارة
لوجوه أحدها
أنهم لما نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم و أقبلوا على التمسك بما تتلوا الشياطين فكأنهم قد اشتروا ذلك السحر بكتاب الله و ثانيها أن الملكين إنما قصدا بتعليم السحر الاحتراز عنه ليصل بذلك الاحتراز إلى منافع الآخرة فلما استعمل السحر فكأنه اشترى بمنافع الآخرة منافع الدنيا و ثالثها أنه لما استعمل السحر علمنا أنه إنما تحمل المشقة ليتمكن من ذلك الاستعمال فكأنه اشترى بالمحن التي تحملها قدرته على ذلك الاستعمال.
المسألة الثانية قال الأكثرون الخَلاق النصيب
قال القَفَّال يشبه أن يكون أصل الكلمة من الخلق معناه التقدير و منه خلق الأديم و منه يقال قدر الرجل كذا درهما رزقا على عمل كذا و قال الآخرون الخَلاق الخَلاص قال أُمَية 9009 بن أبي صَلْت
يدعون بالويل فيها لا خلاق لهم
إلا سرابيل قَطران و أغلال .
بقي في الآية سؤال و هو أنه كيف أثبت لهم العلم أولا في قوله وَ لَقَدْ عَلِمُوا ثم نفاه عنهم في قوله لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ و الجواب من وجوه أحدها أن الذين علموا غير الذين لم يعلموا فالذين علموا هم الذين علموا السحر و دعوا الناس إلى تعلمه و هم الذين قال الله في حقهم نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ و أما الجهال الذين يرغبون في تعلم السحر فهم الذين لا يعلمون و هذا جواب الأخفش و قطرب و ثانيها لو سلمنا أن القوم واحد و لكنهم علموا أشياء 9010 و جهلوا أشياء أخر علموا أنه ليس لهم في الآخرة خلاق و لكنهم جهلوا مقدار ما فاتهم من منافع الآخرة و ما حصل لهم من مضارها و عقوباتها و ثالثها لو سلمنا أن القوم واحد و المعلوم واحد و لكنهم لم ينتفعوا بعلمهم بل أعرضوا عنه فصار ذلك العلم كالعدم كما سمى الله تعالى الكفار صما و بكما
و عميا إذ لم ينتفعوا بهذه الحواس و يقال للرجل في شيء يفعله لكنه لا يضعه موضعه صنعت و لم تصنع انتهى 9011 .
و إنما أوردت أكثر كلامهم في هذا المقام مع طوله و اشتماله على الزوائد الكثيرة لمناسبته لما سيأتي في بعض الأبواب الآتية و لتطلع على مذاهبهم الواهية في تلك الأبواب و سأل شيخنا البهائي رحمه الله بعض أخلائه عن قول البيضاوي في تفسير هذه الآية حيث قال و ما روي من أنهما مثلا بشرين و ركبت فيهما الشهوة فتعرضا لامرأة يقال لها الزهرة فحملتهما على المعاصي و الشرك ثم صعدت السماء بما تعلمت منهما فمحكي عن اليهود و لعله من رموز الأوائل و حله لا يخفى على ذوي البصائر بينوا حتى نصير من ذوي البصائر فأجاب الشيخ رحمه الله بعد أن أورد هذه القصة نحوا مما رواه الرازي في هذه القصة هي ما رواه قدماء المفسرين من العامة عن ابن عباس و لم يرتض بهذه الرواية متأخروهم و أطنب الفخر الرازي و غيره في تزييفها و قال إنها فاسدة مردودة غير مقبولة لوجوه ثلاثة إلى آخر ما نقلناه من الوجوه في عرض كلامه ثم قال و في كل من هذه الوجوه نظر أما الأول فلأنه لم يثبت بقاؤهما على العصمة بعد أن مثلهما الله سبحانه بصورة البشر و ركب فيهما قوتي الشهوة و الغضب و جعلهما كسائر بني آدم كما يظهر من القصة و أما الثاني فلأن التخيير بين التوبة و العذاب و إن كان هو الأصلح بحالهما لكن فعل الأصلح مطلقا غير واجب عليه سبحانه على مذهب هذا المفسر بل فعل الأصلح الذي من هذا القبيل غير واجب عندنا أيضا فإنا لا نوجب عليه سبحانه كل ما هو أصلح بحال العبد كما ظنه مخالفونا و شنعوا علينا بما شنعوا بل إنما نوجب عليه سبحانه كل أصلح لو لم يفعله كان مناقضا لغرضه كما ذكرته في الحواشي التي علقتها على تفسير البيضاوي و لعله سبحانه لم يلهمهما التوبة و أغفلهما عنها لمصلحة لا يعلمها إلا هو فلا بخل منه سبحانه على هذا التقدير.
و أما الثالث فلأن التعليم حال التعذيب غير ممتنع و ظني أن تزييف الفخر