کتابخانه روایات شیعه
بحار الأنوار (ط - بيروت) - ج 1تا15
يكون إمساك الفاعل من إيجاده في بعض الأحوال أولى من إيجاده في بعض و حتى يكون الصدور من الفاعل في بعض الأحوال أولى من صدوره في بعض بل لو كان صدوره واجبا كان في جميع الأحوال أولا صدوره كان في جميع الأحوال فيلزم إما قدم الفعل أو عدمه بالمرة و هذا بالحقيقة رد على من قال إنما حدث في الوقت لأنه كان أصلح لوجوده أو كان ممكنا فيه و تقييد العدم بالصريح احتراز عن العدم الحادث المسبوق بالمادة انتهى كلامه.
و الجواب أنه لا شك أن جميع المعلولات قديمها و حديثها معدوم مطلق في مرتبة وجود العلة فكيف تعلق الجعل بالممكنات دون الممتنعات و كيف تعلق بالقديم و هو معدوم مطلق في هذه المرتبة و كيف تعلق الجعل بالقديم و لم يتعلق بالحوادث إلا بعد مدة غير متناهية فالحق أن التميز العلمي في علمه تعالى كاف في الجميع و إن كانت في الخارج معدومة صرفة فهو سبحانه يعلم في ذاته الجميع ممكنها و ممتنعها مطلقا أو على بعض أنحاء الوجود و يريد ما أراد منها على الوجه الذي تقتضيه الحكمة و المصلحة و تؤثر القدرة على وفق الإرادة فيوجد العالم على النظام الذي وجد بلا تغير في ذاته و صفاته الذاتية و إنما التغير و التفاوت فيما عداه بالإمكان و الامتناع و التقدم و التأخر و الصغر و الكبر إلى غير ذلك من وجوه التفاوت و لا يمكن للعقول إدراك كنه تأثيراته و إيجاداته تعالى شأنه كما يستفاد من الخطب و الأخبار المأثورة عن الأئمة الأطهار ع و السؤال بأنه لم لم يخلق العالم قبل هذا أو بعد ذاك أو فوق الفضاء الذي هو الآن فيه أو تحته أو يمينه أو يساره أو قدامه أو خلفه أو أصغر أو أكبر أو المواد بحيث تقبل الاستعدادات على نحو آخر فهو من هذر السؤال و قد ظهر الفرق بين أزلية الإمكان و إمكان الأزلية و أن الإمكان الذاتي من متممات ذات المعلول المحتاج و من مصححات المعلولية و مكملات الاحتياج إلى العلة على سبيل لوازم الماهية المعلولية و ذاتياتها و ليس ملحوظا في طرف العلة التامة المفتقرة إليها و قد مر ما يمكن استنباط أجوبة أخرى منه لهذه الشبهة فتفطن.
المرصد الرابع دفع شبهة أخرى لهم و هي أن الزمان لو كان حادثا لكان معدوما قبل وجوده قبلية انفكاكية لا يجامع بحسبها القبل البعد في الواقع و هذه القبلية معروضها بالذات أجزاء الزمان بعضها بالنسبة إلى بعض و لا يوصف بها ما عدا الزمان إلا بالعرض من جهة مقارنة الزمان فإذن يلزم وجود الزمان على تقدير عدمه و هذا خلف و يمكن بمثل هذا البيان إثبات امتناع العدم اللاحق على الزمان فثبت سرمديته.
و مما ينبه أن هذا البيان مغالطة هو أن الزمان إما أن يكون مستندا إلى الواجب بلا واسطة فيكون هو الصادر الأول و هو خلاف معتقدهم و إما أن يكون بواسطة علة ممكنة و لا شك أن هذه العلة ممكنة لذاتها و بالنسبة إلى الزمان الذي هو معلولها لأن بالمعلول لا تجب العلة و لا يصير منشأ لوجوب علته فظهر أن علة الزمان ممكنة بالذات و بالنسبة إلى الزمان أيضا و عدم الممكن بالوصف المذكور لا يلزم من فرضه محال أصلا فإذا فرضنا انعدام علة الزمان فإما أن يبقى الزمان موجودا بلا علة مبقية و هو محال لأن علة الحاجة إلى المؤثر عندهم هو إمكان المعلول وحده و إما أن ينعدم الزمان أيضا و هو محال عندهم و اقتضاه هذا الدليل فإن مذهبهم أن العدم بعد الوجود محال بالذات على الزمان و إنما الممكن بالنظر إلى الزمان هو العدم رأسا و ابتداء و أما العدم بعد الوجود فلا يجوزونه و يصرحون بامتناعه بالذات.
و الجواب عن أصل الدليل أنا لا نسلم أن العدم الصرف الذي صورناه قبل العالم يمكن أن يتصف بشيء كيف و هو نفي صرف و لا شيء محض في الواقع نعم بعد وجود العالم و تحقق الموجودات ربما يمكن سريان بعض هذه الأحكام إلى العدم و لو سلم فلا نسلم أن منشأ استحالة اجتماعه مع الوجود اللاحق هو اتصافه بالسبق بل يجوز أن يكون لأنهما متقابلان بالإيجاب و السلب و لأجل هذا التقابل لا يجتمعان و لو سلم فلا نسلم أن مثل هذا السبق لا يعرض إلا للزمان و دون إثباته خرط القتاد و غاية ما لزم من دليلهم على تقدير تسليمه أن هذا النوع
من السبق يعرض للزمان بالذات و أما إثبات أنه لا يعرض لغير الزمان إلا بواسطة فلا سبيل لهم إليه.
و المشهور بين المتكلمين في جواب هذا الدليل إثبات قسم آخر للسبق سموه بالسبق بالذات و هو في مقام المنع حسن و إن أريد إثباته فمشكل قال المحقق الطوسي ره في قواعد العقائد التقدم يكون بالذات كتقدم الموجد على ما يوجد أو بالطبع كتقدم الواحد على الاثنين أو بالزمان كتقدم الماضي على الحاضر أو بالشرف كتقدم العالم 6873 على المتعلم أو بالوضع كتقدم الأقرب إلى مبدإ على الأبعد و المتكلمون يزيدون على ذلك التقدم بالرتبة كتقدم الأمس على اليوم.
و قال الرازي في الأربعين إنا نثبت نوعا آخر من التقدم وراء هذه الأقسام الخمسة و الدليل عليه أنا ببديهة العقل نعلم أن الأمس متقدم على اليوم و ليس تقدما بالعلية و لا بالذات و لا بالشرف و لا بالمكان و لا يمكن أن يكون تقدما بالزمان و إلا لزم أن يكون ذلك الزمان حاصلا في زمان آخر ثم الكلام في الزمان الثاني كما في الأول فيفضي إلى أن تحصل أزمنة لا نهاية لها دفعة واحدة و يكون كل منها ظرفا للآخر و ذلك محال فهو تقدم خارج عن هذه الأقسام فنقول تقدم عدم العالم على وجوده و تقدم وجود الله على وجود العالم يكون على هذا الوجه و يزول الإشكال انتهى.
و أقول لهم شبهة واهية أخرى يظهر جوابها للمتأمل فيما أوردناه و أنت بعد ما أحطت خبرا بما حققناه و تركت تقليد السادة و الكبراء و التمسك بالشكوك و الأهواء لا أظنك تستريب في قوة دلائل الحدوث و ضعف شبه القدم و لو لم تكن أقوى فلا ريب في أنها متعارضة فلو كانت متكافئة أيضا كيف تجترئ على مخالفة الكتب السماوية و الأخبار المتواترة النبوية و الآثار المتظافرة المأثورة عن الأئمة الهادية و العترة الطاهرة الذين هم معادن الحكمة و الوحي
و الإلهام و بعثهم الله لتكميل الأنعام لشبه واهية اعترف مبدؤها بضعفها حيث قال الشيخ و أرسطو إنها مسألة جدلية الطرفين فيا إخوان الدين و خلان اليقين إن لم يغلب على قلوبكم الرين فافتحوا العين و ارفعوا العناد من البين و انظروا بأبصار مكحولة بالإنصاف مشفية من رمد التعصب و الاعتساف فتكونوا في أصول الدين من أصحاب اليقين و تدخلوا في حزب الأنبياء و الأوصياء و الصديقين و لا تعتمدوا على أصولكم و لا تتكلموا على عقولكم لا سيما في المقاصد الدينية و المطالب الإلهية فإن بديهة العقل كثيرا ما تشتبه ببديهة الوهم و المألوفات الطبيعية بالأمور اليقينية و المنطق لا يفي بتصحيح مواد الأقيسة و زن أفكارك بميزان الشرع المبين و مقياس الدين المتين و ما تحقق صدوره عن الأئمة الراسخين صلوات الله عليهم أجمعين لئلا تكون من الهالكين.
تكملة
اعلم أن العلماء اختلفوا في أول المخلوقات و اختلف الأخبار أيضا في ذلك فالحكماء يقولون أول المخلوقات العقل الأول ثم العقل الأول خلق العقل الثاني و الفلك الأول و هكذا إلى أن انتهى إلى العقل العاشر فهو خلق الفلك التاسع و هيولى العناصر و جماعة منهم يقول بأن تلك العقول وسائط لإيجاده تعالى و لا مؤثر في الوجود إلا الله و كل ذلك مخالف لما ظهر و تبين من الآيات و الأخبار و أجمع عليه المليون 6874 .
و أما غيرهم فقيل أولها الماء كما يدل عليه أكثر الأخبار المتقدمة و نقلنا ذلك سابقا عن ثاليس الملطي و رأيت في كتاب علل الأشياء المنسوب إلى بليناس الحكيم أنه قال إن الخالق تبارك و تعالى كان قبل الخلق و أراد أن يخلق الخلق فقال ليكن كذا و كذا فكانت هذه الكلمة علة الخلق و سائر المخلوقات معلول و كلام الله عز و جل أعلى و أعظم و أجل من أن يكون شيئا تدركه الحواس لأنه ليس بطبيعة و لا جوهر و لا حار و لا بارد و لا رطب و لا يابس ثم قال بعده إن أول ما حدث بعد كلام الله تعالى الفعل فدل بالفعل على الحركة و دل بالحركة على الحرارة ثم لما نقصت الحرارة جاء السكون عند فنائها فدل بالسكون على البرد ثم ذكر بعد ذلك أن طبائع العناصر الأربعة أنما كانت من هاتين القوتين أعني الحر و البرد قال و ذلك أن الحرارة حدث منها اللين و من البرودة اليبس فكانت أربع قوى مفردات فامتزج بعضها ببعض فحدث من امتزاجها الطبائع و كانت هذه الكيفيات قائمة
بأنفسها غير مركبة فمن امتزاج الحرارة و اليبس حصلت النار و من الرطوبة و البرد حدث الماء و من الحرارة و الرطوبة حدث الهواء و من امتزاج البرد و اليبس حصلت الأرض ثم قال إن الحرارة لما حركت طبيعة الماء و الأرض تحرك الماء للطفه عن ثقل الأرض و انقلب ما أصابه من الحر فصار بخارا لطيفا هوائيا رقيقا روحانيا و هو أول دخان طلع من أسفل الماء و امتزج بالهواء فسما إلى العلو لخفته و لطافته و بلغ الغاية في صعوده على قدر قوته و نفرته من الحرارة ثم وقف فكان منه الفلك الأعلى و هو فلك زحل ثم حركت النار الماء أيضا فطلع منه دخان هو أقل لطفا مما صعد أولا و أضعف فلما صار بخارا سما إلى العلو بجوهره و لطافته و لم يبلغ فلك زحل لقلة لطافته عما قبله فكان منه الفلك الثاني و هو فلك المشتري و هكذا بين طلوع الدخان مرة مرة و تكون الأفلاك الخمسة الباقية عنه ثم قال و الأفلاك السبعة بعضها في جوف بعض و بين كل فلكين منها هواء واسع مملوء أجزاء لا تتحرك.
و نقل صاحب الملل و النحل عن فلوطرخيس أيضا من الحكماء القدماء أنه قال أصل المركبات هو الماء فإذا تخلخل صافيا وجدت النار و إذا تخلخل و فيه بعض الثقل صار هواء و إذا تكاثف تكاثفا مبسوطا بالغا صار أرضا و قد مر نقلا من التوراة أن مبدأ الخلق جوهر خلقه الله ثم نظر إليه نظر الهيبة فذابت أجزاؤه فصارت ماء إلى آخر ما مر و قريب منه ما رواه العامة عن كعب أنه قال إن الله خلق ياقوتة خضراء ثم نظر إليها بالهيبة فصارت ماء يرتعد ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها ثم وضع العرش على الماء كما قال تعالى وَ كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ و قيل أول المخلوقات الهواء كما دل عليه ما ذكره علي بن إبراهيم في تفسيره و الظاهر أنه أخذ من خبر لكن لا تعارض به الأخبار الكثيرة المسندة و مع صحته يمكن الجمع بحمل أولية الماء على التقدم الإضافي بالنسبة إلى الأجسام المشاهدة المحسوسة التي يدركها جميع الخلق فإن الهواء ليس منها و
لذا أنكر وجوده جماعة.
و قيل أول المخلوقات النار كما مر و قد مر في بعض الأخبار أن أول ما خلق الله النور و في بعضها نور النبي ص و في بعضها نوره مع أنوار الأئمة ع و
فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ الْعَامِّيَّةِ عَنِ النَّبِيِّ ص أَوَلُّ مَا خَلَقَ اللَّهُ رُوحِي.
فيمكن أن يكون المراد بالجميع واحدا و يكون خلق الأرواح قبل خلق الماء و سائر الأجسام و تكون أولية الماء بالنسبة إلى العناصر و الأفلاك فإن بعض الأخبار يدل على تقدم خلق الملائكة على خلق العناصر و الأفلاك كما مر و دلت الأخبار الكثيرة على تقدم خلق أرواحهم و أنوارهم ع على كل شيء.
وَ رَوَى الْكُلَيْنِيُّ وَ غَيْرُهُ بِأَسَانِيدِهِمُ الْكَثِيرَةِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْعَقْلَ وَ هُوَ أَوَّلُ خَلْقٍ مِنَ الرُّوحَانِيِّينَ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ مِنْ نُورِهِ الْخَبَرَ 6875 .
و هذا لا يدل على تقدم العقل على جميع الموجودات بل على خلق الروحانيين و يمكن أن يكون خلقها متأخرا عن خلق الماء و الهواء و أما خبر أول ما خلق الله العقل فلم أجده في طرقنا و إنما هو في طرق العامة و على تقديره يمكن أن يراد به نفس الرسول ص لأنه أحد إطلاقات العقل على أنه يمكن حمل العقل على التقدير في بعض تلك الأخبار كما هو أحد معانيه و كذا حديث أول ما خلق الله القلم يمكن حمله على الأولية الإضافية بالنسبة إلى جنسه من الملائكة أو بعض المخلوقات كما يدل عليه خبر عبد الرحيم القصير الآتي في بابه.
فائدة جليلة